وفي هذه الفترة هاجم القاضي بجيشه الذي جرت العادة بأن يقوده ابنه إسماعيل، خصمه محمدا أمير قرمونة، فانتصر انتصارا باهرا واضطرت مدينتا «إشبونة» و«أستيجة» إلى التسليم، وحوصرت قرمونة نفسها.
ولما اشتد الضيق بمحمد أمير قرمونة، طلب المدد والعون من إدريس أمير مالقة، ومن باديس كذلك، فلبيا طلبه. ولما كان إدريس مريضا، أرسل جنوده - بقيادة وزيره ابن بقية - وقاد باديس جيشه بنفسه وتلاحق الجيشان، وانضما إلى بعضهما.
وكان إسماعيل واثقا كل الثقة من بسالة جنده، ووفرة عددهم، فوطن نفسه على منازلة خصومه. ولكن باديس، وابن بقية
4
حين حسبا أن خصمهما يفوقهما، أو يدانيهما عددا، أبيا أن يشتبكا معه في القتال، وآثرا أن ينسحبا ، ويتركا أمير قرمونة برهة، فعاد أولهما أدراجه إلى مالقة.
ووصل الآخر بجنوده إلى غرناطة، واقتفى إسماعيل في الحال أثر الغرناطيين. وكان من حسن حظ باديس، أنه بعد أن فارقه ابن بقية بنحو ساعة، أرسل إليه رسولا على جناح السرعة يستنجده وإلا سحق جيشه في لمحة بجنود إشبيلية، فطار إليه باديس ووقف الجيشان على مقربة من «أستيجة»، على تمام الأهبة والاستعداد للقاء عدوهما، بثبات ورباطة جأش.
وقد وهم الإشبيليون، إذ حسبوا أنهم إنما يتعقبون جيشا منهزما، فإذا بهم أمام جيش كامل العدة والعدد، فأفقدتهم تلك المفاجأة قوتهم المعنوية.
ووقع في صفوفهم الاضطراب عند الصدمة الاولى، وعبثا حاول إسماعيل تعبئة الجيش للقتال، وبرز أمام الصفوف فكان أول الذاهبين ضحية المعركة، فلم يسع الإشبيليين إلا الفرار طلبا للنجاة.
وملك باديس ناصية الحال بعد هذا الانتصار البسيط المفاجئ، وبينما هو في معسكره قرب «أستيجة» عرته دهشة إذ وجد أبا الفتوح قد انحنى أمامه متراميا على أقدامه. وكان الذي حدا هذا الرجل إلى تلك المحاولة الخطرة، أنه حين عجل بمغادرة غرناطة - خوفا على نفسه من باديس - ترك للقضاء أمر زوجه وولده الصغير وبنتيه، وكان قد وصل إلى علمه أن باديس أرسل إلى «قوادم» الزنجي، فألقى القبض على زوجه وأولاده بوساطة خواصه المقربين إليه، وأودعهم السجن. وكان معروفا بأنه شديد الشغف بزوجه الغادة الأندلسية الفتية، كثير الحنو على ابنه الصغير وبنتيه، بحيث لا تطيب له الحياة دونهم. •••
وقد خشي أن ينتقم باديس منهم في شخصه، فجاء يلتمس الصفح عن زلته، وهو يعلم ما ركب في طبع عدوه من حب الانتقام، وما جبل عليه من الظلم والجبروت. جاء على أمل أن يرق له، ويعطفه عليه ما عطفه على عمه والد الزعيم الفار الذي كان رأس شركائه في المؤامرة.
Unknown page