9
بتأثير وزيره ابن عباس حين اجتمع بباديس، تظاهر أمامه بعظمة تركت في نفسه أثرا سيئا، وجعلته يبيت النية على الإيقاع بأمير المرية، وتأديبه أدبا يكون كفاء لقحته وجفائه، وصمم على الإيقاع بوزيره أيضا لما بدا منه من عناد وفظاظة حين عول أخوه بلقين، وأحد قواده، أن يبذل آخر محاولة للتوفيق بينهما.
وتفصيل الخبر أن بلقين ذهب حين أقبل الليل إلى حيث مجلس ابن عباس وخاطبه بقوله: «اتق الله - أيها الوزير - واخش عقابه، فأنت الذي يحول دون اتفاق أميره، وقد رأيناه أطوع لك من بنانك، لا يصدر إلا عن رأيك، ولا يعمل إلا بمشورتك، ولعلك تدرك أكثر مما ندرك مبلغ ما وصلنا إليه من السعادة، ومواتاة الحظ، في الوقت الذي كنا نعمل فيه متفقين، حتى لقد حسدنا جميع أعدائنا. وإذن فواجبنا جميعا أن نعود إلى ما كنا عليه من الاتفاق والمحالفة. والشرط الذي لم يتم عليه الاتفاق بيننا، هو مبلغ المعونة التي تمدون بها محمدا أمير قرمونة. فلندع هذا الأمير وما يخبؤه له القدر من حظ - وذلك ما يريده أميرك - ثم لنتفق بعد هذا على تسوية جميع الشروط، فإن كل شيء - بعد نقطة الخلاف هذه - ميسور وسهل.» •••
فرد عليه ابن عباس بلهجة قاسية، تشف عن نفوذ وسلطان قاهر من جهة، وعن امتهان لمحدثه وزراية عليه من جهة أخرى. ولما حاول أخو أمير البربر وسفيره أن يعالجه من ناحية العاطفة، قام إليه معانقا باكيا، فلم يؤثر فيه بمعانقته ودموعه، بل قال له: «وفر عليك هذه المظاهر الكاذبة، والعبارات الفارغة، فإنها لا تترك أي أثر في نفسي، وإن ما قلته لك آنفا، هو ما أعيده على مسامعك اليوم، فإذا لم تعمل أنت وأصحابك على تنفيذ ما نريد، فسأعمل بعد على ما يدعوكم إلى الحسرة والندم.»
فأحرج بلقين هذا الرد وأجابه بقوله: «هل هذا هو جوابك الذي أحمله إلى المجلس؟»
فقال ابن عباس: «هو هذا بدون شك. ولك أن تبالغ في قولي ما شئت، وتزيد في لهجته شدة ما استطعت.» •••
فبكى بلقين حمية وغضبا لما لحقه من الإهانة والازدراء، وعاد إلى باديس، ومجلسه منعقد، فأفضى إليه بكل ما دار بينه وبين ابن عباس من حديث، وأصابه من عنت. فامتعض باديس صنهاجة امتعاضا شديدا وقال: «إن وقاحة هذا الرجل لا تحتمل. فقوموا جميعا، قومة رجل واحد للدفاع عن كرامة المملكة، وإلا فإنكم - وما تملكون - تصيرون ملكا لغيركم.»
وقد شاطره الغرناطيون هذا الغضب، وظهر بلقين، أشد من أخيه باديس حماسة وغضبا، وطلب إليه - في عنف - أن يتخذ أهل المرية في الحال، ما يلزم من التدابير نحو هذا الطاغية وملكه، فقطع على نفسه عهدا بذلك.
وكان لا بد لزهير في العودة، من اجتياز قنطرة لا محيد له عنها.
فأمر باديس بقطع هذه القنطرة، وأرسل جنوده فاحتلوا تلك المضايق والأوعار، ولم يكن حنقه على زهير شديدا كأخيه، ولم ييئس من عود صديق والده القديم إلى ما كان عليه من عواطف سامية، وميول شريفة، ولهذا عول على أن ينبهه في الخفاء إلى الخطر المحدق به، فعمد إلى حرسي من البربر من جند المرية، وبعثه إلى زهير رسولا، فوافاه ليلا وأسر إليه بما يلي : «أخبرك يا مولاي - وأنا صادق فيما أقول - أنك ملاق غدا من المخاوف والمصاعب، إذا أنت اجتزت القنطرة في طريق عودتك، ما تتعرض معه لأشد أنواع الخطر والهلاك. فأنصحك أن تخف للرحيل - منذ الليلة - قبل أن يتسع الوقت لجند غرناطة فيحتلوها ويضيقوا عليك الخناق. وإذا نجوت سريعا، وحدث أنهم تتبعوك، كان في استطاعتك أن تدبر معهم معركة في براح من الأرض بعيدا عن تلك المضايق، أو تلحق بإحدى قلاعك فتكون في مأمن من غائلتهم.» •••
Unknown page