لم يعن لي أن يترك شعري أشعث، أو يفتح أزرار قميصي العلوية ليظهر وشم صدري، وإصراره أن أرتدي اللون الأحمر؛ هذا اللون هو دم المسيح الذي يخلصنا من الخطايا. في أغلب المشاهد في الرواية يضع كئوسا فارغة فوق الطاولة مكسوة بقماش أزرق، ويعلق على الحائط صورا طويلة لقديسين في معظم المشاهد. (الكاتب يعتبر أن كل شخصية تضع طربوشا أحمر مميزا، وترتدي ثيابا تزهو باللون البني، ولها ذقن طويل وتحمل كتابا مخملي الغلاف، والسيف لا يكاد يظهر في اللوحة؛ يقول هذا قديس، وهو معجب بالقديس جاورجيوس الذي ولد سنة 280م في مدينة اللد في فلسطين لأبوين مسيحيين من النبلاء.
جاورجيوس توفي والده؛ فاعتنت به والدته وأنشأته في جو عائلي مسيحي، ولما بلغ السابعة عشرة دخل في سلك الجندية وترقى إلى رتبة قائد في حرس الإمبراطور الروماني دقلديانوس.
كان الرومان يضطهدون المسيحيين في تلك الفترة، لكن جرجس لم يخف عقيدته المسيحية رغم انضمامه للجيش الروماني، مما أغضب الإمبراطور دقلديانوس؛ فأخضع القديس لجميع أنواع التعذيب لرده عن دينه، لكن دون جدوى. العديد ممن شاهدوه معذبا تحولوا إلى المسيحية، حتى الإمبراطورة ألكساندرا زوجة الإمبراطور. بعد وفاته أعادت رفاته ليدفن في مسقط رأسه بمدينة اللد بفلسطين.)
في بعض الأحيان كان يطلق علي «القديس جرجس»؛ لأنه فلسطيني قاوم وظل في الوطن، وحتى إن الله اختار جسده أن يدفن في فلسطين (اللد)؛ لأن هذا القديس دافع عن بقائه.
وأنا بنظره روح جرجس التي نزلت بجسد نضال الرجعي؛ ليظل ثابتا. وكان يفجر رأسي بترديد كلمة الثبات، وكأنه طائر نقار الخشب يحطم ساق الشجرة ليبني عشا، أو يصطاد دودة. لا أعلم لماذا يردد كلمة الثبات؛ ليبني في رأسي فكرة، أو يخلص رأسي من شيء يراه خطأ في حياتي في غزة؟
ردد على مسمعي جملة «من يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة.» وبعد ذلك سألته: من قال هذه الجملة؟ قال: «رسالة يوحنا.» «الرسالة التي اتفقنا أن تصل لكل العالم من هذا العمل، أنا بطل الرواية والكاتب؛ لا بد من المسيحي في غزة مقاومة الهجرة، مقاومة الاندثار، وليس تفضيل المسيحي في غزة عن غيره.» «بكل صدق إن أعداد المسيحيين في غزة تتناقص، وخاصة في أعياد رأس السنة؛ حيث يقدم الكثير للهجرة من غزة بحجة المشاركة في الاحتفال خارج غزة.»
وحين انتهت هذه الرواية، ودخن الكاتب سيجارة الانتصار على التفاصيل والقلق والقرف الذي لازمه عامين من الكتابة، وصارت المخطوطة بطريقها إلى النشر، بعد أن اتفق مع الناشر حول الغلاف وحجم الخطوط وشكل الرواية، وبعد تحول الكتابة من الورق الأبيض واللون الأزرق إلى نسخة إلكترونية؛ كنت أخرج من جهاز الحاسوب على هيئة الكاتب، وأفتح النسخة وأعدل بعض الأحكام والأحداث.
والسر الذي لا يعرفه الكاتب أني مسحت الجمل الطويلة، والجمل التي تحمل تفسيرين ؛ أنا لا أريد أن أقول بأن المسيحي في غزة مسكين أو ظالم، محظوظ أو شقي. «أعتقد يا كاتبنا العزيز، أن أصل الأشياء الروح؛ الأرواح تتقابل قبل الأجساد. أقصد بأنك تصر أنك قد رأيتني قبل أن نتقابل في هذا المكان.»
أنا أؤكد لك أننا في غزة لم نتقابل دونها. غزة «غزة رغم تفاصيلها؛ اكتظاظ الشعراء، انتشار المقاهي، حركة السيارات، انتشار الموضة، تزايد أعداد المدخنين، عشرات الملتحين، تجد نساء باللون الأسود وغيرهن يعتري قلوبهن السواد في شارع الجندي المجهول.
أسلاك الكهرباء المبعثرة في السماء، عدم التزام إشارات المرور بالإضاءة، بحر واحد ومئات القصص، بيوت رمادية اللون كأذرع الأخطبوط تمتص الأكسجين من رئة المارين؛ رغم هذا تبقى غزة صغيرة جدا، وأي شيء وارد فيها.»
Unknown page