جاء رجل يرتدي معطفا أسود طويلا، وحذاء عسكريا، مبتسما. لم يعره اهتماما. جان هزته: هذا الرجل كأنه يريدك، أو يريد أن ينقل لك شيئا، قد تكون الحقيقة عنده.
وقف ميشيل وتقدم خطوات ناحية الرجل، قال له: هل عندك حقيقة ما حدث لنا؟ لماذا هذا الانفجار في بيتنا بالذات؟
رد الرجل: الحقيقة موجودة؛ أبوك كان مساعدا لنا، كان عونا لنا بالمال وبالمكان. حين تضيق علينا السماء بطائراتها وقذائفها كنا نحتمي عنده، وحده في العالم المخيف يحافظ علينا، وحين يدب الخوف في قلوبنا ولا نجد أحدا يطعمنا ويغير على جروحنا كان أبوك سباقا لذلك.
رد ميشيل: وما الذي حدث ليكشف أمركم؟ وبناء على كلامك كان عمل أبي معكم سرا. أبي كان لكم البيت الأخير، لم لم تحافظوا على هذا البيت؟ - السر كقطعة ثلج يذوب إذا خرج من الثلاجة. أصبحنا لا نميز الجيد من غير الجيد، الكل يشارك، الكل يحمل راية، لا أحد عنده صبر ولا تخطيط، الكل يدق طبلة الحرب متى يشاء . - هل تعلم أن هذا البيت يحمل أسرارا وذكريات عائلة كبيرة مرت على غزة، وعاشت في غزة. إن الانفجار لم يأخذ أبي فقط، لكن أخذ كل جميل تعلمناه في غزة. - أبوك يا ميشيل كان كل ليلة يخبرنا كيف حافظوا على غزة. التاريخ طويل. كان دائما يحكي لنا قصة صديقه الذي حارب مع المسلمين ضد الغزاة، وأجمل القصص أن مسيحيا هناك كان يربي غزالة، وحين دخل نابليون وجيشه إلى غزة كممر إلى يافا، ترك الغزالة تركض أمام نابليون؛ فأعجب بها، فركض خلفها. كان الرجل يتربص به، لكن نابليون تعب من الركض خلفها وخاف أن يتأخر على جيشه، فتركها وعاد. الرجل أطلق عليه رصاصة لكن لم تصبه.
كان أبوك وقتها يقول: لو أصابته الرصاصة لكان تعدل تاريخ القتل إلى تاريخ سلام. - وإلى أي مدى أستطيع سداد دين الوفاء لأبي، وأصنع له ما يستحق الامتنان من بعده؟ - هذا هو أنت، بكل متناقضاتك وجنونك ونسكك، ولو كنت غريبا أكثر غرابة. ذلك الجنون الذي يحركك في هذه الحياة! هذا أنت، لا يشبهك أحد. دائما تريد أن تقدم شيئا للثبات، للبقاء. جميعنا ننتظرك. (في لحظة شعر ميشيل أن حديث الرجل ليس غريبا عليه، تذكر وقتها تفاصيل الكاتب، وتذكر أنه في عالم الرواية، وأن هذه الأحداث مرتب لها، وهذا الركام جزء مهم في نهاية المشوار.)
همس ميشيل للرجل: متى نهايتي؟ أشعر أني أجهز لأكون مثل هذا البيت؛ متناثرا، لا يمكن إصلاحه إلا بالإزالة الكلية. - بصراحة يا ميشيل كان أبوك يحضر لمثل هذا اليوم، وترك لك صندوقا لم يحتفظ به في البيت. أبلغنا أن نخبرك عن مكانه؛ الصندوق موجود في كنيسة المعمداني. حيث قال: الوحيد الذي يعرف مكانه هو ميشيل.
سؤال هادئ
ما ينتظرني لحظات كاملة ستهزني بعنف، لألتفت لكل ما تركته خلفي وأطرح سؤالا هادئا: أهذا ما كنت أنتظره فقط؟ كنت سأجيب بنعم قبل ذلك من الآن، أو لو أني ما زلت أحمل الأفكار ذاتها، إلا أني أدركت أمرا مختلفا تماما عن ذلك قبل سنوات؛ ما كنت أنتظره وأبحث عنه هو وجهتي في هذه الحياة، أهدافي، مسار أفكاري، هو لغتي، ونكهتي، وبصمة مرور تحمل هويتي. وعندما وجدتها، كفتني تعليق الآمال على مجرد حلم.
هذه اللحظة التي سوف أقرأ فيها وصية أبي كأنها شمعة صغيرة جديدة تحترق لأجل الحلوى، ويتهافت الجميع على وأدها، إطفائها. وأنا أنظر بعطف ورفق نحو آخر خيط مرهف يخبو من ضوئها لأجلي في شبه اعتذار. لحياتها الوحيدة الراحلة في سبيل أن تمنحني أنا مجرد كلمة بطل في غزة!
قبل أن أصل إلى الصندوق، أعلم أنه ميلاد جديد يعني لي الكثير، عندما يأتي أفكر بأشياء غريبة لا تتكرر مرة أخرى ببال أحد كما لا يتكرر الميلاد، وأشياء تتوازى تماما مع غرابتي. أحيانا ينتابني شك رهيب بأنني لا أشارك البعض نفس الكون؛ أنا خلقت لأحمل ما تبقى من سلالة عائلتي، بكل ما تحمله في طياتها، في غرابتها واختلافها. عائلتي بقشرتها الصلبة الحامية، إلى تقلبات مزاجها، وتناقضاتها، إلى اختلاف ردود فعلها باختلاف السياق الذي توضع فيه والبيئة التي تداخلها.
Unknown page