Mukhtasar Tafsir Ibn Kathir
مختصر تفسير ابن كثير
Publisher
دار القرآن الكريم
Edition Number
السابعة
Publication Year
١٤٠٢ هـ - ١٩٨١ م
Publisher Location
بيروت - لبنان
Genres
جَازَيْنَاهُمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَإِحْلَالِ الْغَضَبِ بِهِمْ من الذلة، بِسَبَبِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَإِهَانَتِهِمْ حَمَلة الشَّرْعِ وَهُمُ (الْأَنْبِيَاءُ) وَأَتْبَاعُهُمْ، فَانْتَقَصُوهُمْ إِلَى أَنْ أَفْضَى بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أن قتلوهم فلا كفر أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «الْكِبْرُ بطرُ الحق وغَمْطُ الناسِ» (هذا جزء من حديث شريف وأوله «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مثقال ذرة من كِبْر ..» الحديث) يَعْنِي رَدَّ الْحَقِّ وَانْتِقَاصَ النَّاسِ وَالِازْدِرَاءَ بِهِمْ والتعاظم عليهم. ولهذا لما ارتكب بنوا إِسْرَائِيلَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ وقتلهم أنبياءه، أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرد، وَكَسَاهُمْ ذُلًّا فِي الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ جزاءً وفاقًا. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَتْ بنوا إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار» (رواه أبو داود الطيالسي) وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أشدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رجلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ أَوْ قَتَل نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ» (رواه الإمام أحمد في مسنده) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ وَهَذِهِ عِلَّةٌ أُخرى فِي مُجَازَاتِهِمْ بِمَا جُوزُوا بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْصُونَ وَيَعْتَدُونَ، فَالْعِصْيَانُ فِعْلُ الْمَنَاهِي، والاعتداءُ الْمُجَاوَزَةُ فِي حَدِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ والمأمور بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
- ٦٢ - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
لما بين تَعَالَى حَالَ مَنْ خَالَفَ أَوَامِرَهُ، وَارْتَكَبَ زَوَاجِرَهُ، وَتَعَدَّى فِي فِعْلِ مَا لَا إِذْنَ فِيهِ وَانْتَهَكَ الْمَحَارِمَ، وَمَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّكَالِ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ مِنَ الأُمم السَّالِفَةِ وَأَطَاعَ فَإِنَّ لَهُ جَزَاءَ الْحُسْنَى، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كلُّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمّي فَلَهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يَتْرُكُونَهُ وَيُخَلِّفُونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ عن مجاهد قال: قال سلمان ﵁: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ أَهْلِ دِينٍ كنتُ مَعَهُمْ فَذَكَرْتُ مِنْ صَلاتهم وَعِبَادَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إلى آخر الآية. وقال السُّدي: نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ (سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ) بَيْنَا هُوَ يحدِّث النَّبِيُّ ﷺ إِذَا ذَكَرَ أصحابه فأخبروه خبرهم فقال: كانوا يصلون، ويصومون، وَيُؤْمِنُونَ بِكَ، وَيَشْهَدُونَ أَنَّكَ سَتُبْعَثُ نَبِيًّا، فَلَّمَا فَرَغَ سَلْمَانُ مِنْ ثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: يَا سَلْمَانُ هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ" فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى سَلْمَانَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَكَانَ إِيمَانُ الْيَهُودِ أَنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَسُنَّةِ مُوسَى ﵇ حَتَّى جَاءَ عِيسَى، فَلَمَّا جَاءَ عِيسَى كَانَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَأَخَذَ بسُنَّة مُوسَى فَلَمْ يَدَعْهَا وَلَمْ يَتْبَعْ عِيسَى كَانَ هَالِكًا، وَإِيمَانُ النَّصَارَى أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِنْجِيلِ مِنْهُمْ وَشَرَائِعِ عِيسَى كَانَ مُؤْمِنًا مَقْبُولًا مِنْهُ حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ فَمَنْ لَمْ يَتْبَعْ مُحَمَّدًا ﷺ مِنْهُمْ وَيَدَعْ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ سُنَّةِ عيسى والإنجيل كان هالكًا.
(قلت) وهذا لا ينافي ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ﴾ الآية قال: فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة من الخاسرين﴾ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إِخْبَارٌ ⦗٧٢⦘ عَنْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ طَرِيقَةً وَلَا عَمَلًا إِلَّا مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَ أَنْ بعثه بِمَا بَعَثَهُ بِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فِي زَمَانِهِ فَهُوَ عَلَى هُدًى وَسَبِيلٍ وَنَجَاةٍ، فَالْيَهُودُ أَتْبَاعُ مُوسَى ﵇ الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَى التَّوْرَاةِ فِي زَمَانِهِمْ، وَالْيَهُودُ مِنَ الْهَوَادَةِ وَهِيَ الْمَوَدَّةُ أَوِ التَّهَوُّدُ وَهِيَ التَّوْبَةُ كَقَوْلِ مُوسَى ﵇: ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ أَيْ تُبْنَا فكأنَّهم سُمُّوا بِذَلِكَ فِي الْأَصْلِ لِتَوْبَتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ فِي بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَقِيلَ: لِنِسْبَتِهِمْ إلى (يهودا) أكبر أولاد يعقوب، فَلَمَّا بُعِثَ عِيسَى ﷺ وَجَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ اتِّبَاعُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ، فَأَصْحَابُهُ وَأَهْلُ دِينِهِ هُمُ النَّصَارَى وَسُمُّوا بِذَلِكَ لِتَنَاصُرِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَدْ يُقَالُ لَهُمْ أَنْصَارٌ أَيْضًا كَمَا قَالَ عِيسَى ﵇: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله؟ قال الحوارين نَحْنُ أَنْصَارُ الله﴾ وَقِيلَ إِنَّهُمْ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ نَزَلُوا أَرْضًا يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةٌ، قَالَهُ قتادة وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ خَاتَمًا لِلنَّبِيِّينَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي آدَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَالِانْكِفَافُ عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ، وهؤلاء هم المؤمنون حقا وسمِّيت أُمّة محمدا ﷺ مُؤْمِنِينَ لِكَثْرَةِ إِيمَانِهِمْ، وَشِدَّةِ إِيقَانِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِيَةِ وَالْغُيُوبِ الْآتِيَةِ.
وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِمْ فقال مجاهد: الصَّابِئُونَ قَوْمٌ بَيْنَ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيْسَ لهم دين، وقال أبو العالية والضحّاك: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزَّبُورَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ: لَا بأس بذبائحهم ومناكحتهم، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ الصَّابِئِينَ قوم يعبدون الملائكة ويقرأون الزبور ويصلُّون للقبلة، وَسُئِلَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنِ الصَّابِئِينَ فَقَالَ: الَّذِي يَعْرِفُ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلَيْسَتْ لَهُ شَرِيعَةٌ يَعْمَلُ بِهَا، وَلَمْ يُحْدث كُفْرًا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: الصَّابِئُونَ أَهْلُ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ، كَانُوا بِجَزِيرَةِ الْمَوْصِلِ يَقُولُونَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلَا كتابٌ وَلاَ نبيٌّ إِلاَّ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، قال: ولم يمنوا بِرَسُولٍ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ: هَؤُلَاءِ الصَّابِئُونَ يشبِّهونهم بِهِمْ يَعْنِي فِي قَوْلِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُمْ قَوْمٌ يُشْبِهُ دِينُهُمْ دِينَ النَّصَارَى إِلَّا أَنَّ قِبْلَتَهُمْ نَحْوَ مَهَبِّ الْجَنُوبِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ نوح ﵇، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالَّذِي تحصَّل مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَيَعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ وَأَنَّهَا فَاعِلَةٌ، وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ بِكُفْرِهِمْ لِلْقَادِرِ بِاللَّهِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ واختار الرَّازِيُّ أَنَّ الصَّابِئِينَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ بِمَعْنَى أن الله جعلها قبلة للعباد وَالدُّعَاءِ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فَوَّضَ تَدْبِيرَ أمر هذا العالم إليها. وأظهرُ الْأَقْوَالِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُتَابِعِيهِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَيْسُوا عَلَى دِينِ الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى وَلَا الْمَجُوسِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ بَاقُونَ عَلَى فِطْرَتِهِمْ وَلَا دِينٌ مُقَرَّرٌ لَهُمْ يَتْبَعُونَهُ وَيَقْتَفُونَهُ، وَلِهَذَا كان المشركون ينبذون من أسلم بالصابىء، أَيْ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ سَائِرِ أَدْيَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ إِذْ ذَاكَ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الصابئون الذي لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ نَبِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1 / 71