228

Mukhtaṣar Tafsīr Ibn Kathīr

مختصر تفسير ابن كثير

Publisher

دار القرآن الكريم

Edition Number

السابعة

Publication Year

1402 AH

Publisher Location

بيروت

Genres

Tafsīr
كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
يَقُولُ ﵎ نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْمُنَافِقِينَ بِطَانَةً، أَيْ يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَمَا يُضْمِرُونَهُ لِأَعْدَائِهِمْ، وَالْمُنَافِقُونَ بِجُهْدِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ لَا يَأْلُونَ الْمُؤْمِنِينَ خَبَالًا، أَيْ يَسْعَوْنَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعون مِنَ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ؛ وَيَوَدُّونَ مَا يُعْنِتُ الْمُؤْمِنِينَ ويحرجهم ويشق عليهم، وقوله تعالى: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ﴾ أَيْ مِنْ غَيْرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ هُمْ خَاصَّةُ أَهْلِهِ الَّذِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى دَاخِلِ أَمْرِهِ، وقد روى البخاري والنسائي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وتحضُّه عَلَيْهِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله ".
وقال ابن أبي حاتم: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁: أن ههنا غُلَامًا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ حَافِظٌ كَاتِبٌ، فَلَوِ اتَّخَذْتَهُ كَاتِبًا! فَقَالَ: قَدِ اتَّخَذْتُ إِذًا بِطَانَةً مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. فَفِي هَذَا الْأَثَرِ مَعَ هذه الآية دليل عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمْ فِي الْكِتَابَةِ الَّتِي فِيهَا اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاطِّلَاعٌ عَلَى دَوَاخِلِ أُمُورِهِمُ الَّتِي يُخْشَى أَنْ يُفْشُوهَا إِلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ﴾ أي تمنوا وقوعكم في المشقة.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ أَيْ قَدْ لاح عل صَفَحَاتِ وُجُوهِهِمْ وَفَلَتَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ، مَعَ مَا هُمْ مُشْتَمِلُونَ عَلَيْهِ فِي صُدُورِهِم مِّنْ الْبَغْضَاءِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، مَا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ على لبيب عاقل، ولهذا قال تعالى: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿هَا أنتم أولاء تحبوهم وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ أي أنتم أيها المؤمنون تحبون المنافقين بما يُظْهِرُونَ لَكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ فَتُحِبُّونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهُمْ لَا يُحِبُّونَكُمْ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، ﴿وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ﴾ أي ليس عندكم من شَيْءٍ مِنْهُ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ، وَهُمْ عِنْدَهُمُ الشك والريب والحيرة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ أَيْ بِكِتَابِكُمْ وَكِتَابِهِمْ وَبِمَا مَضَى مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكِتَابِكُمْ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِالْبَغْضَاءِ لهم منهم لكم، ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ وَالْأَنَامِلُ أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ قاله قتادة.
وقال الشاعر: «وَمَا حَمَلَتْ كَفَّايَ أَنْمُلِي الْعَشْرَا».
وَقَالَ ابْنُ مسعود والسدي: الْأَنَامِلُ الْأَصَابِعُ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ يُظْهِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ وَالْمَوَدَّةَ، وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ وَذَلِكَ أَشَدُّ الْغَيْظِ وَالْحَنَقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أَيْ مَهْمَا كُنْتُمْ تَحْسُدُونَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَغِيظُكُمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مُتِمٌّ نِعْمَتَهُ على عباده المؤمنين ومكمل دينه، ومعلي كَلِمَتَهُ وَمُظْهِرٌ دِينَهُ، فَمُوتُوا أَنْتُمْ بِغَيْظِكُمْ، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ ضَمَائِرُكُمْ، وَتُكِنُّهُ سَرَائِرُكُمْ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالْحَسَدِ وَالْغِلِّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تأملون، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ فِي النَّارِ الَّتِي أنتم خالدون فيها، لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها.

1 / 313