وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ وَتَكَلَّمَ دَائِنًا بِخِلَافِهِ كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي نُصْحِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ رُسُلَهُ بِأَنَّهُمْ أَنْصَحُ الْخَلْقِ لِأُمَمِهِمْ، فَمَعَ النُّصْحِ وَالْبَيَانِ وَالْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ كَيْفَ يَكُونُ مَذْهَبُ النُّفَاةِ الْمُعَطِّلَةِ أَصْحَابِ التَّحْرِيفِ هُوَ الصَّوَابَ، وَقَوْلُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَتْبَاعُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بَاطِلًا؟
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ مَا جَرَى لِي مَعَ بَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَفْضَى بِنَا الْكَلَامُ إِلَى مِسَبَّةِ النَّصَارَى لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مَسَبَّةً مَا سَبَّهُ إِيَّاهَا أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَأَنْتُمْ بِإِنْكَارِكُمْ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ قَدْ سَبَبْتُمُ الرَّبَّ تَعَالَى أَعْظَمَ مَسَبَّةٍ، قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ قُلْتُ: لِأَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا مَلِكٌ ظَالِمٌ لَيْسَ بِرَسُولٍ صَادِقٍ، وَأَنَّهُ خَرَجَ يَسْتَعْرِضُ النَّاسُ بِسَيْفِهِ فَيَسْتَبِيحُ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَيَقُولَ: اللَّهُ أَمَرَنِي بِهَذَا وَأَبَاحَهُ لِي، وَلَمْ يَأْمُرْهُ اللَّهُ وَلَا أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحِ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَيَنْسَخُ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عِنْدِهِ، وَيُبْطِلُ مِنْهَا مَا شَاءَ وَيُبْقِي مِنْهَا مَا شَاءَ، وَيَنْسُبُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَى اللَّهِ، وَيَقْتُلُ أَوْلِيَاءَهُ وَأَتْبَاعَ رُسُلِهِ، وَيَسْتَرِقُّ نِسَاءَهُمْ وَذُرِّيَّتَهُمْ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى رَائِيًا لِذَلِكَ كُلِّهِ عَالِمًا بِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَاطِّلَاعِهِ نَسَبْتُمُوهُ إِلَى الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَقْبَحِ السَّبِّ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَخْذِ عَلَى يَدَيْهِ وَمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَا، فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى مَنْعِهِ نَسَبْتُمُوهُ إِلَى الْعَجْزِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ نَسَبْتُمُوهُ إِلَى السَّفَهِ وَالظُّلْمِ، هَذَا هُوَ أَمْرُهُ مِنْ حِينِ ظَهَرَ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ رَبُّهُ يُجِيبُ دُعَاءَهُ وَيَقْضِي حَوَائِجَهُ، وَلَا يَقُومُ لَهُ عَدُوٌّ إِلَّا أَظْفَرَهُ بِهِ، وَأَمْرُهُ مِنْ حِينِ ظَهَرَ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَزْدَادُ عَلَى اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ ظُهُورُةً وَعُلُوًّا وَرِفْعَةً، وَأَمْرُ مُخَالِفِيهِ لَا يَزْدَادُ إِلَّا سُفُولًا وَاضْمِحْلَالًا، وَمَحَبَّتُهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ تَزِيدُ عَلَى مَمَرِّ الْأَوْقَاتِ، وَرَبُّهُ تَعَالَى يُؤَيِّدُهُ بِأَنْوَاعِ التَّأْيِيدَاتِ، هَذَا هُوَ عِنْدَكُمْ مِنْ أَعْظَمِ أَعْدَائِهِ وَأَشَدِّهِمْ ضَرَرًا عَلَى النَّاسِ، فَأَيُّ قَدْحٍ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَيُّ مَسَبَّةٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَأَخَذَ الْكَلَامُ مِنْهُ مَا أَخَذَ، وَقَالَ: حَاشَا لِلَّهِ أَنْ نَقُولَ فِيهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَلْ هُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، كُلُّ مَنِ اتَّبَعَهُ فَهُوَ سَعِيدٌ، وَكُلُّ مُنْصِفٍ مِنَّا يُقِرُّ بِذَلِكَ وَيَقُولُ: أَتْبَاعُهُ سُعَدَاءُ فِي الدَّارَيْنِ، قُلْتُ: فَمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الظَّفَرِ بِهَذِهِ السَّعَادَةِ؟ فَقَالَ: وَأَتْبَاعُ كُلِّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَتْبَاعُ مُوسَى أَيْضًا سُعَدَاءُ، قُلْتُ: فَإِذَا أَقْرَرْتَ أَنَّهُ نَبِيٌّ صَادِقٌ، وَقَدْ كَفَرَ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ، فَإِنْ صَدَّقْتَهُ فِي هَذَا وَجَبَ عَلَيْكَ اتِّبَاعُهُ، وَإِنْ كَذَّبْتَهُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، فَكَيْفَ يَكُونُ أَتْبَاعُهُ سُعَدَاءَ فَلَمْ يُحِرْ جَوَابًا، وَقَالَ: حَدِّثْنَا فِي غَيْرِ هَذَا.
1 / 56