خطْبَة الْكتاب
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على أشرف الْمُرْسلين سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي الْأمين وعَلى آله الطيبين الطاهرين وَأَصْحَابه نُجُوم الدّين
وَبعد
١ - فَهَذَا مُخْتَصر من كتاب المؤمل للرَّدّ إِلَى الْأَمر الأول تصنيف الإِمَام الْعَلامَة مُحي السّنة شهَاب الدّين أبي الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِأبي شامة قدس الله روحه قَالَ
أما بعد
٢ - فَإِن الْعلم قد درست أَعْلَامه وَقل فِي هَذَا الزَّمَان إتقانه وإحكامه وَأدّى بِهِ الاهمال إِلَى أَن عدم احترامه وَقل إجلاله وإعظامه وَكَاد يجهل حَلَاله وَحَرَامه
هَذَا مَعَ حث الشَّارِع عَلَيْهِ وَوصف الْعلمَاء القائمين بخشيتهم إِيَّاه وَرَفعه درجاتهم وضمه لَهُم مَعَ اللائكة فِي شهاداتهم
قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء﴾
وَقَالَ تَعَالَى ﴿شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم﴾
وَقَالَ تَعَالَى ﴿يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات﴾ إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات الْكَثِيرَة ولأحاديث المستنيرة
٣ - وَقد كَانَ من مضى من الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين قَائِمين بنشر عُلُوم الِاجْتِهَاد فِي جَمِيع الْآفَاق وهم فِي ذَلِك متفاضلون
فَمنهمْ الْمُحكم لأمر الْكتاب
وَمِنْهُم الْقَائِم بِأَمْر السّنة
وَمِنْهُم الممعن فِي استنباط الْأَحْكَام
وَقل من اجْتمع فِيهِ الْقيام بِجَمِيعِ ذَلِك
1 / 27
فصل فِي مَنَاقِب الإِمَام الشَّافِعِي
٤ - وَكَانَ من أجعهم وأقومهم بِهِ إمامنا أَبُو عبد الله الْقرشِي المطلبي الشَّافِعِي ﵁ جمع النّسَب الطَّاهِر وَالْعلم الباهر وَكَثْرَة المآثر وَجل المفاخر كَانَ فِيهِ من المناقب والفضائل مَا فرق فِي كثير من الْأَئِمَّة الأفاضل وَيشْهد لَهُ بذلك من كل فِئَة سادة أفاضل
٥ - قَالَ الْمُزنِيّ سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول حفظت الْقُرْآن وَأَنا ابْن سبع سِنِين وحفظت الْمُوَطَّأ وَأَنا ابْن عشر
٦ - وَقَالَ يُونُس بن عبد الْأَعْلَى كَانَ الشَّافِعِي إِذا أَخذ فِي التَّفْسِير كَأَنَّهُ شهد التَّنْزِيل
٧ - وَقَالَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن بنت الشَّافِعِي سَمِعت أبي وَعمي يَقُولَانِ كَانَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِذا جَاءَهُ شَيْء من التَّفْسِير والفتيا يسئل عَنْهَا الْتفت إِلَى الشَّافِعِي وَقَالَ يَقُول سلوا هَذَا الْغُلَام
٨ - وَقَالَ لَهُ شَيْخه مُسلم بن خَالِد وَهُوَ مفتي مَكَّة يَا أَبَا عبد الله أفت فقد آن لَك أَن تُفْتِي وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة
1 / 28
٩ - وَقَالَ الرّبيع كَانَ الشَّافِعِي يُفْتِي وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة وَكَانَ يحي اللَّيْل إِلَى أَن مَاتَ
١٠ - وَقَالَ أَبُو نعيم الْحَافِظ سَمِعت أَحْمد بن مُحَمَّد بنت الشَّافِعِي يَقُول كَانَت الْحلقَة فِي الْفتيا بِمَكَّة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام لِابْنِ عَبَّاس وَبعده لعطاء بن أبي رَبَاح وَبعده لعبد الْملك بن جريج وَبعده لمُسلم بن خَالِد وَبعده لسَعِيد بن سَالم
وَبعده لمُحَمد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي وَهُوَ شَاب
١١ - قَالَ ابْن مهْدي سَمِعت مَالِكًا يَقُول مَا يأتيني قُرَيْش أفهم من هَذَا الْفَتى يَعْنِي الشَّافِعِي
١٢ - قَالَ أَبُو عبيد بن سَلام مَا رَأَيْت قطّ أَعقل وَلَا أورع وَلَا أفْصح من
1 / 29
الشَّافِعِي
١٣ - قَالَ هِلَال بن الْعَلَاء الرقي أَصْحَاب الحَدِيث عِيَال على الشَّافِعِي فتح لَهُم الأقفال
١٤ - قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه لَقِيَنِي أَحْمد بن حَنْبَل بِمَكَّة فَقَالَ تعال أريك رجلا لم تَرَ عَيْنَاك مثله فَأرَانِي الشَّافِعِي
قَالَ فتناظرنا فِي الحَدِيث فَلم أر أعلم مِنْهُ
ثمَّ تناظرنا فِي الْفِقْه فَلم أر أفقه مِنْهُ
ثمَّ تناظرنا فِي الْقُرْآن فَلم أر أَقرَأ مِنْهُ
ثمَّ تناظرنا فِي اللُّغَة فَوَجَدته بَيت اللُّغَة وَمَا رَأَتْ عَيْنَايَ مثله قطّ قَالَ فَلَمَّا فارقناه أَخْبرنِي جمَاعَة من أهل الْفَهم بِالْقُرْآنِ أَنه كَانَ أعلم النَّاس فِي زَمَانه وَأَنه كَانَ قد أُوتِيَ فهما فِي الْقُرْآن
١٥ - قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل كَانَ الْفُقَهَاء والمحدثون صيادلة فجَاء الشَّافِعِي طَبِيبا صيدلانيا مَا رَأَتْ الْعُيُون مِثَاله
١٦ - وَقَالَ يرْوى فِي الحَدِيث إِن الله يقيض للنَّاس فِي رَأس كل مائَة سنة من يعلمهُمْ السّنَن وينفي عَن رَسُول الله ﷺ الْكَذِب فَنَظَرْنَا فَإِذا فِي
1 / 30
رَأس الْمِائَة عمر بن عبد الْعَزِيز وَفِي رَأس الْمِائَتَيْنِ الشَّافِعِي
١٧ - وَقَالَ إِذا سُئِلت عَن مَسْأَلَة لَا أعرف فِيهَا خَبرا قلت فِيهَا بقول الشَّافِعِي لِأَنَّهُ إِمَام عَالم من قُرَيْش
وَرُوِيَ عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ عَالم قُرَيْش يمْلَأ الأَرْض علما
١٨ - وَقَالَ كَلَام الشَّافِعِي فِي اللُّغَة حجَّة
١٩ - وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الْمَازِني الشَّافِعِي عندنَا حجَّة فِي النَّحْو
٢٠ - وَقَالَ أَبُو ثَوْر إِبْرَاهِيم بن خَالِد كَانَ الشَّافِعِي من معادن الْفِقْه
1 / 31
وجهابذة الْأَلْفَاظ ونقاد الْمعَانِي
٢١ - قَالَ الْحسن بن مُحَمَّد بن صباح الزَّعْفَرَانِي كَانَ أَصْحَاب الحَدِيث رقودا حَتَّى جَاءَ الشَّافِعِي فأيقظهم فتيقظوا
ومناقبه كَثِيرَة قد ألفت فِيهَا المؤلفات العديدة
فصل فِي صفة أهل الْعلم
٢٢ - قَالَ عبد الله بن مَسْعُود لَيْسَ الْعلم بِكَثْرَة الحَدِيث وَلَكِن الْعلم خشيَة الله
٢٣ - قَالَ مَالك بن أنس لَيْسَ الْعلم بِكَثْرَة الرِّوَايَة وَلكنه نور يَجعله الله فِي قلب من يَشَاء من خلقه
٢٤ - وَفِي رِوَايَة الْعلم وَالْحكمَة نور يهدي بِهِ الله من يَشَاء وَلَيْسَ بِكَثْرَة الْمسَائِل
1 / 32
٢٥ - قَالَ الْأَوْزَاعِيّ كَانَ هَذَا الْعلم كَرِيمًا يتلقاه الرجل بَينهم فَلَمَّا كتب ذهب نوره وَصَارَ إِلَى غير أَهله
٢٦ - وَفِي رِوَايَة كَانَ هَذَا الْعلم سنيا شريفا إِذْ كَانَ النَّاس يتلقونه بَينهم الخ
٢٧ - قَالَ إِذا أَرَادَ الله بِقوم شرا فتح عَلَيْهِم الجدل ومنعهم الْعَمَل
٢٨ - وَقَالَ مَالك لَيْسَ الجدل من الدّين فِي شَيْء
٢٩ - وَقَالَ أَيْضا المراء فِي الْعلم يقسي الْقُلُوب وَيُورث الضغائن
٣٠ - وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ عَن أبي أُمَامَة قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ مَا ضل قوم بعد هدى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجدل ثمَّ تَلا رَسُول الله ﷺ هَذِه الْآيَة ﴿مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا بل هم قوم خصمون﴾
قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح
٣١ - قَالَ بل كَانَ الْعلمَاء من السّلف الصَّالح أهل نسك وَعبادَة وورع وزهادة أرضوا الله تَعَالَى بعلمهم وصانوا الْعلم فصانهم وتدرعوا من الْأَعْمَال الصَّالِحَة بِمَا زانهم وَلم يشنهم الْحِرْص على الدُّنْيَا وخدمة أَهلهَا بل أَقبلُوا على طَاعَة
1 / 33
الله الَّتِي خلقُوا لأَجلهَا
٣٢ - فَأُولَئِك هم الَّذين عناهم الشَّافِعِي بقوله مَا أحد أولى بخلقه من الْفُقَهَاء وَفِي رِوَايَة إِن لم يكن الْفُقَهَاء الْعَامِلُونَ أَوْلِيَاء الله فَمَا لله ولي
٣٣ - قَالَ ابْن عَبَّاس لَو أَن الْعلمَاء أخذُوا الْعلم بِحقِّهِ لأحبهم الله وَالْمَلَائِكَة والصالحون من عباده ولهابهم النَّاس لفضل الْعلم وشرفه
٣٤ - قَالَ وهب بن مُنَبّه إِن الْفُقَهَاء فِيمَا خلا حملُوا الْعلم فَأحْسنُوا حمله فاحتاجت إِلَيْهِم الْمُلُوك وَأهل الدُّنْيَا وَرَغبُوا فِي عَمَلهم فَلَمَّا كَانَ بِأُجْرَة فَشَتْ عُلَمَاء فحملوا الْعلم فَلم يحسنوا حمله فطرحوا علمهمْ على الْمُلُوك وَأهل الدُّنْيَا فاهتضموهم واحتقروهم
٣٥ - وَقَالَ أَيْضا كَانَ الْعلمَاء قبلنَا قد استغنوا بعلمهم عَن دنيا غَيرهم فَكَانُوا لَا يلتفتون إِلَى دنياهم وَكَانَ أهل الدُّنْيَا يبذلون دنياهم فِي علمهمْ فَأصْبح أهل الْعلم منا الْيَوْم يبذلون لأهل الدُّنْيَا علمهمْ رَغْبَة فِي دنياهم وَأصْبح أهل الدُّنْيَا قد زهدوا فِي علمهمْ لما رَأَوْا من سوء مَوْضِعه عِنْدهم
٣٦ - اللَّهُمَّ فجنبنا طَريقَة قوم لم يقومُوا بِحَق الْعلم وَأَرَادُوا بِهِ الدُّنْيَا وأعرضوا عَمَّا لَهُم بِهِ فِي الْآخِرَة من الدرجَة الْعليا فَلم يهنئوا بحلاوته وَلم يتمتعوا بنضارته بل خلقت عِنْدهم ديباجته ورثت حَاله
٣٧ - وَعرف مِقْدَاره جمَاعَة من السَّادة فعظموه وبجلوه ووقروه واستغنوا بِهِ ورأوه بعد الْمعرفَة أفضل مَا أعطي الْبشر واحتقروا فِي جنبه كل مفتخر وتلو ﴿فَمَا آتَانِي الله خير مِمَّا آتَاكُم﴾
1 / 34
٣٨ - وَكَيف لَا يكون الْأَمر كَذَلِك وَالْعلم حَيَاة وَالْجهل موت فبينهما كَمَا بَين الْحَيَاة وَالْمَوْت وَلَقَد أحسن من قَالَ
وَفِي الْجَهْل قبل الْمَوْت موت لأَهله
وأجسامهم قبل الْقُبُور قُبُور ... وَإِن امْرَءًا لم يحيى بِالْعلمِ ميت
وَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النشور نشور
٣٩ - وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن عبد الله عَن عبد الله بن عمر من قَرَأَ الْقُرْآن فَكَأَنَّمَا أدرجت النُّبُوَّة بَين جَنْبَيْهِ إِلَّا أَنه لَا يُوحى إِلَيْهِ وَمن قَرَأَ الْقُرْآن فَرَأى أَن أحدا من الْخلق أعطي أفضل مِمَّا أعطي فقد حقر مَا عظم الله وَعظم مَا حقر الله
فصل فِي قبض الْعلمَاء وفشو الْجَهْل
٤٠ - وَصَحَّ من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا ينتزعه من النَّاس وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يبْق عَالما اتخذ النَّاس رؤوسا جُهَّالًا فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا
٤١ - وَمَا أعظم حَظّ من بذل نَفسه وجهدها فِي تَحْصِيل الْعلم حفظا على النَّاس لما بقى فِي أَيْديهم مِنْهُ
٤٢ - فَإِنَّهُ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة قد غلب على أَهلهَا الكسل والملل وَحب الدُّنْيَا وَقد قنع الْحَرِيص مِنْهُم من عُلُوم الْقُرْآن بِحِفْظ سوره وَنقل بعض قراءاته وغفل عَن علم تَفْسِيره ومعانيه واستنباط أَحْكَامه الشَّرِيفَة من مَعَانِيه
وَاقْتصر من علم الحَدِيث على سَماع من بعض الْكتب على شُيُوخ أَكْثَرهم
1 / 35
أَجْهَل مِنْهُ بِعلم الرِّوَايَة فضلا عَن الدِّرَايَة
وَمِنْهُم من قنع بزبالة أذهان الرِّجَال وكناسة أفكارهم وبالنقل عَن أهل مذْهبه
وَقد سُئِلَ بعض العارفين عَن معنى الْمَذْهَب فَأجَاب أَن مَعْنَاهُ دين مبدل قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين من الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ﴾
٤٤ - أَلا وَمَعَ هَذَا يخيل إِلَيْهِ أَنه من رُؤُوس الْعلمَاء وَهُوَ عِنْد الله وَعند عُلَمَاء الدّين من أَجْهَل الْجُهَّال بل بِمَنْزِلَة قسيس النَّصَارَى أَو حبر الْيَهُود لِأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى مَا كفرُوا إِلَّا بابداعهم فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع
٤٥ - وَقد صَحَّ عَن النَّبِي ﷺ (لتركبن سنَن من كَانَ قبلكُمْ) الحَدِيث
فصل فِي حَالَة السّلف الصَّالح فِي تدافع الْفَتْوَى عِنْد حُدُوث الْحَادِثَة
٤٦ - وَالْعلم بِالْأَحْكَامِ واستنباطها كَانَ أَولا حَاصِلا للصحابة ﵃ فَمن بعدهمْ فَكَانُوا إِذا نزلت بهم النَّازِلَة بحثوا عَن حكم الله تَعَالَى فِيهَا من كتاب الله وَسنة نبيه وَكَانُوا يتدافعون الْفَتْوَى وَيَوَد كل مِنْهُم لَو كَفاهُ إِيَّاهَا غَيره
1 / 36
فصل فِي السُّؤَال عَن الْحَادِثَة وَالْكَلَام فِيهَا قبل وُقُوعهَا
٤٧ - وَكَانَ جمَاعَة مِنْهُم يكْرهُونَ الْكَلَام فِي مَسْأَلَة لم تقع وَيَقُولُونَ للسَّائِل عَنْهَا أَكَانَ ذَلِك فَإِن قَالَ لَا قَالُوا دَعه حَتَّى يَقع ثمَّ نجتهد فِيهِ
٤٨ - كل ذَلِك يَفْعَلُونَهُ خوفًا من الهجوم على مَا لَا علم لَهُم بِهِ واشتغالا بِمَا هُوَ الأهم من الْعِبَادَة وَالْجهَاد فَإِذا وَقعت الْمَسْأَلَة لم يكن بُد من النّظر فِيهَا
٤٩ - وَقَالَ الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ وَقد كره بعض السّلف للعوام الْمَسْأَلَة عَمَّا لم يكن وَلم يمض كتاب وَلَا سنة
وكرهوا للمسئول الِاجْتِهَاد فِيهِ قبل أَن يَقع لِأَن الِاجْتِهَاد إِنَّمَا أُبِيح للضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة قبل الْوَاقِعَة فَلَا يغنيهم مَا مضى من الِاجْتِهَاد
وَاحْتج فِي ذَلِك بِمَا روى عَن النَّبِي ﷺ من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه
1 / 37
٥٠ - وَعَن طَاوُوس قَالَ قَالَ عمر بن الْخطاب ﵁ وَهُوَ على الْمِنْبَر أحرج الله على كل امْرِئ مُسلم سَأَلَ عَن شَيْء لم يكن فَإِنَّهُ قد بَين مَا هُوَ كَائِن
٥١ - وَفِي رِوَايَة لَا يحل لكم أَن تسألوا عَمَّا لم يكن فَإِن الله ﵎ قد قضى فِيمَا هُوَ كَائِن
٥٢ - قلت هَذَا معنى قَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ﴾
٥٣ - وَعَن عبد الرَّحْمَن بن شُرَيْح أَن عمر بن الْخطاب كَانَ يَقُول إيَّاكُمْ وَهَذِه العضل فَإِنَّهَا إِذا نزلت بعث الله لَهَا من يقيمها ويفسرها
٥٤ - قلت إِنَّمَا يضْطَر إِلَى الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام الْحُكَّام وَلم يَأْتِ الِاجْتِهَاد لغير الْحُكَّام لحَدِيث معَاذ (إِن لم أجد فِي كتاب الله تَعَالَى فبسنة رَسُول
1 / 38
الله وَإِن لم أجد فِي سنة رَسُول الله أجتهد برأيي) لِأَنَّهُ كَانَ حَاكما
٥٥ - وَقَوله ﷺ (أَقْْضِي بَيْنكُم برأيي فِيمَا لم ينزل عَليّ فِيهِ شَيْء) وَهُوَ حَاكم
٥٦ - وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث﴾ وَكَانَا حاكمين
٥٧ - فالاجتهاد بِمَنْزِلَة الْميتَة قَالَ الثَّعْلَبِيّ وَالشَّافِعِيّ وَلَا يحل تناولهما إِلَّا عِنْد المخمصة
وَالَّذِي لَيْسَ بحاكم ويجتهد بِرَأْيهِ فَمثله كَمثل رجل قعد فِي بَيته وَيَقُول إِنَّمَا جَازَ أكل الْميتَة لفُلَان وَيجوز أكلهَا لي أَيْضا
٥٨ - فَكَذَلِك لَا يجوز لأحد أَن يحْتَج بقول الْمُجْتَهد لِأَن الْمُجْتَهد يُخطئ ويصيب فَإِذا كَانَ شَيْء يحْتَمل أَن يكون صَوَابا وَخطأ فَتَركه أولى مثل الشُّبُهَات من الطَّعَام تَركه لَهَا أولى من تنَاوله
٥٩ - وَعَن الصَّلْت بن رشد قَالَ سَأَلت طاوسا عَن شَيْء فَانْتَهرنِي فَقَالَ أَكَانَ هَذَا قلت نعم قَالَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ قلت الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ قَالَ إِن أَصْحَابنَا حدثونا عَن معَاذ بن جبل ﵁ قَالَ يَا أَيهَا النَّاس لَا تعجلوا بالبلاء قبل نُزُوله فَيذْهب بكم هَهُنَا وَهَهُنَا وَإِن لم تعجلوا قبل نُزُوله لم يَنْفَكّ الْمُسلمُونَ أَن يكون فيهم من إِذا سُئِلَ سدد
٦٠ - وَعَن النَّبِي ﷺ لَا تستعجلوا بالبلية قبل نُزُولهَا فَإِنَّكُم إِذا فَعلْتُمْ ذَلِك لَا يزَال مِنْكُم من يوفق ويسدد وَإِنَّكُمْ إِن استعجلتم بهَا قبل نُزُولهَا تفرقتم
1 / 39
٦١ - وَكَانَ ابْن عمر إِذا سُئِلَ عَن الْفَتْوَى يَقُول إذهب إِلَى هَذَا الْأَمِير الَّذِي تقلد أُمُور النَّاس ووضعها فِي عُنُقه إِشَارَة إِلَى أَن الْفَتْوَى والقضايا وَالْأَحْكَام من تَوَابِع الْولَايَة والسلطنة
٦٢ - قلت بِهَذَا السَّبَب أخذُوا سنَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَزَادُوا عَلَيْهِم حَتَّى صَارُوا اثْنَتَيْنِ وَسبعين فرقة وَحكم عَلَيْهِم رَسُول الله ﷺ أَنهم من أَصْحَاب النَّار كَمَا شهد للعشرة أَنهم من أَصْحَاب الْجنَّة
٦٣ - وَقَالَ مَسْرُوق سَأَلت أبي بن كَعْب عَن شَيْء قَالَ أَكَانَ بعد قلت لَا قَالَ فاصبر حَتَّى يكون فَإِن كَانَ اجتهدنا لَك رَأينَا
٦٤ - وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى أدْركْت مائَة وَعشْرين من الْأَنْصَار من أَصْحَاب مُحَمَّد ﷺ مَا مِنْهُم أحد يحدث بِحَدِيث إِلَّا ود أَن أَخَاهُ كَفاهُ إِيَّاه وَلَا
1 / 40
يستفتى عَن شَيْء إِلَّا ود أَن أَخَاهُ كَفاهُ إِيَّاه وَفِي رِوَايَة يسْأَل أحدهم الْمَسْأَلَة فيردها هَذَا إِلَّا هَذَا حَتَّى ترجع إِلَى الأول
فصل فِي التنفير من القَوْل بِالرَّأْيِ
٦٥ - ثمَّ بعد الصَّحَابَة أَرَادَ الله أَن يصدق نبيه فِي قَوْله تفترق أمتِي على بضع وَسبعين فرقة أعظمها فرقة على أمتِي قوم يقيسون الْأُمُور برأيهم فيحللون الْحَرَام ويحرمون الْحَلَال وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده عَن جُبَير بن نفير عَن عَوْف بن مَالك عَنهُ ﷺ
٦٦ - فكثرت الوقائع والنوازل فِي التَّابِعين وَمن بعدهمْ واجتهدوا بآرائهم لمن اضْطر وَمن لم يضْطَر ووصلت إِلَى من بعدهمْ من الْفُقَهَاء ففرعوا عَلَيْهَا وقاسوا واجتهدوا فِي إِلْحَاق غَيرهَا بهَا فتضاعفت مسَائِل الْفِقْه وشككهم إِبْلِيس ووسوس فِي صُدُورهمْ
٦٧ - وَاخْتلفُوا اخْتِلَافا كثيرا من غير تَقْلِيد فقد نهى إمامنا الشَّافِعِي عَن تَقْلِيده وتقليد غَيره كَمَا سَنذكرُهُ فِي فصل
٦٨ - وَكَانَت تِلْكَ الْأَزْمِنَة مَمْلُوءَة بالمجتهدين فَكل صنف على مَا رأى وَتعقب بَعضهم بَعْضًا مستمدين من الْأَصْلَيْنِ الْكتاب وَالسّنة وترجيح الرَّاجِح من أَقْوَال السّلف الْمُخْتَلفَة بِغَيْر هوى وَلم يزل الْأَمر على مَا وصفت إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ الْمذَاهب الْمُدَوَّنَة
٦٩ - ثمَّ اشتهرت الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وهجر غَيرهَا فقصرت همم أتباعهم إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم فقلدوا بَعْدَمَا كَانَ التَّقْلِيد لغير الرُّسُل حَرَامًا بل صَارَت أَقْوَال أئمتهم عِنْدهم بِمَنْزِلَة الْأَصْلَيْنِ وَذَلِكَ معنى قَوْله تَعَالَى ﴿اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله﴾
1 / 41
٧٠ - فَعدم المجتهدون وَغلب المقلدون وَكثر التعصب وَكفر بالرسول حَيْثُ قَالَ يبْعَث الله فِي كل مائَة سنة من يَنْفِي تَحْرِيف الغالين وانتحال المبطلين
٧١ - وحجروا على رب الْعَالمين مثل الْيَهُود أَن لَا يبْعَث بعد أئمتهم وليا مُجْتَهدا حَتَّى آل بهم التعصب إِلَى أَن أحدهم إِذا أورد عَلَيْهِ شَيْء من الْكتاب وَالسّنة الثَّابِتَة على خِلَافه يجْتَهد فِي دَفعه بِكُل سَبِيل من التآويل الْبَعِيدَة نصْرَة لمذهبه وَلقَوْله وَلَو وصل ذَلِك إِلَى إِمَامه الَّذِي يقلده لقابله ذَلِك الإِمَام بالتعظيم وَصَارَ إِلَيْهِ وتبرأ من رَأْيه مستعيذا بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم وَحمد الله على ذَلِك
٧٢ - ثمَّ تفاقم الْأَمر حَتَّى صَار كثير مِنْهُم لَا يرَوْنَ الِاشْتِغَال بعلوم الْقُرْآن والْحَدِيث ويرون أَن مَا هم عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الْمُوَاظبَة عَلَيْهِ فبدلوا بالطيب خبيثا
1 / 42
وبالحق بَاطِلا ﴿اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى فَمَا ربحت تِجَارَتهمْ وَمَا كَانُوا مهتدين﴾
فصل فِي كَلَام الْعلمَاء فِي الرَّأْي وَالْقِيَاس
٧٣ - ثمَّ نبغ قوم آخَرُونَ صَارَت عقيدتهم فِي الِاشْتِغَال بعلوم الْأَصْلَيْنِ يرَوْنَ أَن الأولى مِنْهُ الِاقْتِصَار على نكت خلافية وضعوها وأشكال منطقية ألفوها
٧٤ - وَقد قَالَ عمر بن الْخطاب اتهموا الرَّأْي على الدّين
٧٥ - وَقَالَ سهل بن حنيف اتَّقوا الرَّأْي فِي دينكُمْ
٧٦ - وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود يحدث قوم يقيسون الْأَمر برأيهم فيهدم الْإِسْلَام ويثلم
٧٧ - مَا عبدت الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَّا بِالرَّأْيِ وَلَا قَالَت النَّصَارَى وَلَا أَن الله هُوَ الْمَسِيح بن مَرْيَم وَلَا اتخذ الله ولدا أَلا بِالرَّأْيِ وَكَذَلِكَ كل من عبد شَيْئا من دون الله إِنَّمَا عَبده بِرَأْيهِ فَانْظُر إِلَى قَول السامري ﴿وَكَذَلِكَ سَوَّلت لي نَفسِي﴾
٧٨ - وَقَالَ عبد الله بن عمر لَا يزَال النَّاس على الطَّرِيق مَا اتبعُوا الْأَثر
1 / 43
٧٩ - روى الشّعبِيّ عَن عبد الله بن عمر إيَّاكُمْ وَأَصْحَاب الرَّأْي فَإِنَّهُم أَعدَاء السّنَن أعيتهم الْأَحَادِيث أَن يحفظوها فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فضلوا وأضلوا
٨٠ - وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ عَلَيْك بآثار من سلف وَإِن رفضك النَّاس وَإِيَّاك ورأي الرِّجَال وَإِن زخرفوه لَك بالْقَوْل
٨١ - وَقَالَ أَيْضا إِذا بلغك عَن رَسُول الله حَدِيثا فإياك أَن تَقول بِغَيْرِهِ فَإِن رَسُول الله ﷺ كَانَ مبلغا عَن الله ﵎
٨٢ - وَقَالَ أَيْضا الْعلم مَا جَاءَ عَن أَصْحَاب مُحَمَّد وَمَا لم يَجِيء عَن أَصْحَاب مُحَمَّد فَلَيْسَ بِعلم يَعْنِي مَا لم يَجِيء أَصله مِنْهُم
٨٣ - قَالَ الشّعبِيّ إِذا جَاءَك الْخَبَر عَن أَصْحَاب مُحَمَّد فضعه على رَأسك وَإِذا جَاءَك عَن التَّابِعين فَاضْرب بِهِ أقفيتهم
٨٤ - وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ الْعلم كُله بالآثار
٨٥ - وَقَالَ ابْن مبارك ليكن الَّذِي تعتمد عَلَيْهِ الْأَثر وَخذ من الرَّأْي مَا يُفَسر لَك الحَدِيث
٨٦ - وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل سَأَلت الشَّافِعِي عَن الْقيَاس فَقَالَ عِنْد
1 / 44
الضرورات وَكَانَ أحسن أَمر الشَّافِعِي عِنْدِي أَنه إِذا سمع الْخَبَر لم يكن عِنْده قَالَ بِهِ وَترك قَوْله
٨٧ - وَقَالَ الشّعبِيّ الْقيَاس كالميتة إِذا احتجت إِلَيْهَا فشأنك بهَا
٨٨ - قلت مَا احسن قَول الْقَائِل
تجنب ركُوب الرَّأْي فَالرَّأْي رِيبَة
عَلَيْك بآثار النَّبِي مُحَمَّد ... فَمن يركب الآراء يعم عَن الْهدى
وَمن يتبع الْآثَار يهدي ويحمد
٨٩ - وَقَول بعض المغاربة
لَا ترغبن عَن الحَدِيث وَأَهله
فَالرَّأْي ليل والْحَدِيث نَهَار
٩٠ - وَقَول الْقَائِل
انْظُر بِعَين الْهدى إِن كنت ذَا نظر
فَإِنَّمَا الْعلم مَبْنِيّ على الْأَثر ... لَا ترْضى غير رَسُول الله مُتبعا
مَا دمت تقدر فِي حكم على خبر
فصل فِي وجوب الرُّجُوع إِلَى الْكتاب وَالسّنة
٩١ - وَلم يخْتَلف الْمُفَسِّرُونَ فِيمَا وقفت عَلَيْهِ من كتبهمْ فِي أَن قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول﴾ تَقْدِيره إِلَى قَول الله وَقَول الرَّسُول
٩٢ - فَيجب رد جَمِيع مَا اخْتلف فِيهِ إِلَى ذَلِك فَمَا كَانَ أقرب إِلَيْهِ اعْتمد صِحَّته
1 / 45
وَأخذ بِهِ
٩٣ - وَلذَلِك قَالَ عمر بن الْخطاب ﵁ ردوا الجهالات إِلَى السّنة وَفِي رِوَايَة يرد النَّاس من الجهالات إِلَى النَّاس
٩٤ - وَهَذِه كَانَت طَريقَة الْعلمَاء الْأَعْلَام أَئِمَّة الدّين وَهِي طَريقَة إمامنا أبي عبد الله الشَّافِعِي
٩٥ - وَلِهَذَا قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل
مَا من أحد وضع الْكتاب حَتَّى ظهر خطأه أتبع للسّنة من الشَّافِعِي
٩٦ - ثمَّ ان الشَّافِعِي ﵀ احتاط لنَفسِهِ وَعلم أَن الْبشر لَا يَخْلُو من السَّهْو والغفلة وَعدم الِاحْتِيَاط فصح عَنهُ من غير وَجه أَنه أَمر إِذا وجد قَوْله على مُخَالفَة الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ أَن يتْرك قَوْله وَيُؤْخَذ بِالْحَدِيثِ
٩٧ - أَنبأَنَا الْفَاضِل أَبُو الْقَاسِم عَمَّن أخبرهُ الْحَافِظ أَبُو بكر أَحْمد بن الْحُسَيْن
1 / 46