79

Mukhtarat

مختارات من مقالات أمرسن

Genres

إن الآداب تهدف إلى تيسير الحياة، وإلى الخلاص من العقبات، وإلى تمهيد السبيل أمام المرء لكي يبذل نشاطه خالصا من كل شائبة. إنها تعين على ما بيننا من تعامل وحديث، كما تعين السكك الحديدية على السفر، وذلك بالتخلص من كل عقبات الطريق التي يمكن تفاديها، بحيث لا تترك لنا شيئا نتغلب عليه سوى الفضاء المطلق. وسرعان ما تثبت هذه الصيغ، ويزداد الناس اهتماما بالتعود على دقة الإحساس بالصواب، حتى تصبح هذه الدقة وساما مميزا اجتماعيا وقوميا. وهكذا ينشأ «الطراز الجديد»، صورة مبهمة، قوية التأثير، عجيبة، لا تأبه بشيء، يخشاها الناس ويتبعونها، وعبثا ما تحاول الأخلاق أو العنف أن تهاجمها.

وهناك علاقة وطيدة بين طبقة المقتدرين، والفئة المصقولة المنتقاة من الناس، هذه الفئة التي تستمد من تلك الطبقة دائما أو تمدها. إن أقوياء الرجال عادة يتسامحون بعض الشيء حتى فيما يجدونه في الطراز الجديد من نزق، نظرا لهذه العلاقة التي يلمسونها فيها. إن نابليون، ابن الثورة، ومحطم طبقة النبلاء القديمة، لم يكف قط عن التودد إلى فوبور سنت جرمان، وهو يحس من غير شك أن الرجال العصريين مدينون لأمثاله من الرجال. إن طراز العصر يمثل كل فضائل الرجولة، ولو بطريقة عجيبة، وهو ثمار الفضيلة، أو هو شرف يناله صاحبه بعد الموت. إنه في كثير من الأحيان ليس من صفات العظماء، ولكنه من صفات أبنائهم، هو موئل للماضي، وهو عادة يعترض عظماء هذه الساعة. ولا يرود عظماء الرجال عادة قاعاته، بل يتخلفون في الميدان؛ فهم ما زالوا يعملون ولم يجنوا بعد ثمار أعمالهم. الطراز الجديد يتألف من أبنائهم، من أولئك الذين يحصلون - عن طريق ما لشخص آخر من قيمة أو فضيلة - على بريق لأسمائهم، وعلى شارات مميزة، ووسائل للتهذيب والكرم، وعلى شيء من الصحة والوجاهة في تكوينهم الجثماني، مما يكفل لهم نفوذا كبيرا يستمتعون به، إن لم يكن أعظم نفوذ يعملون به. أما طبقة الأقوياء، أما الأبطال العاملون من أمثال كورتز ونلسن ونابليون، فإنهم يرون أن هذا هو الابتهاج أو الاحتفال الدائم بما هم عليه من صفات، ويرون أن الطراز الجديد هو ثمار المواهب، هو المكسيك ومارنجو والطرف الأغر مهزومة هزيمة منكرة، وأن الأسماء العصرية اللامعة إنما ترجع إلى أسماء عامة كأسمائهم، ظهرت منذ خمسين أو ستين عاما. هم الزارعون، وأبناؤهم الحاصدون، وأبناؤهم - كما هو معهود - لا بد أن يسلموا ما يملكون من محصول لمنافسين جدد ذوي أعين أشد حدة وأجسام أقوى بناء.

إن المدينة تستمد أبناءها من الريف. ويقال إن كل ملك شرعي في أوروبا في عام 1805م كان معتوها، ولولا أن المدينة كانت تتلقى المدد من الحقول لفنيت من عهد بعيد وفسدت وتفجرت. إنما هو الريف الذي قصد الحضر أول من أمس، فأصبح اليوم المدينة والبلاط.

إن الأرستقراطية والعصرية نتائج معينة لا مفر منها. وهاتان الفئتان المتبادلتان لا ينهدمان. إذا أثارا الغضب بين أفراد أقل الطبقات امتيازا، وانتقمت الأكثرية المبعدة لنفسها من الأقلية المستبدة، بقوة اليد، ثم قتلتها، صعدت فوق القمة في الحال طبقة جديدة، كما يطفو الزبد في إناء اللبن. وإذا هدم الناس طبقة بعد طبقة، حتى يبقى رجلان اثنان، أمسى أحدهما زعيما، وقام الآخر بخدمته ومحاكاته على غير إرادته. وقد تبعد هذه الأقلية عن الأنظار وعن العقل، ولكنها تمسك بزمام الحياة، وهي إحدى ضياع المملكة. وأنا أشد ما أكون دهشة لإمساكها بالزمام عندما أرى عملها. إنها تقدر إدارة صغائر الأمور حتى أنا لا نتوقع لحكمها بقاء ونحن أحيانا نقابل رجالا متأثرين بفكرة معنوية قوية، كحركة وطنية، أو أدبية، أو دينية، ونحس أن الإحساس الخلقي يتحكم في الإنسان والطبيعة. ونحسب أن كل ميزة وكل رابطة أخرى تافهة عرضية، كالطبقة الممتازة أو الطراز الجديد مثلا. ولكن تعال من عام إلى آخر ، وانظر إلى ثبات ذلك في حياة المرء في بوسطن أو نيويورك، حيث لا يكون له، كذلك، أدنى طابع من قانون البلاد. إنك لن تجد في مصر أو في الهند خطا أثبت منه أو أشد مناعة. هنا تجد جماعات تنعقد أواصرها فوق هذا الحاجز أو تحته أو خلاله، كجمعية من التجار، أو فرقة حربية، أو فصل في الجامعة، أو معسكر حول النار، أو جماعة مهنية، أو حزب سياسي أو ديني. الأشخاص هنا يبدو كأنهم يقتربون بعضهم من بعض اقترابا لا ينفصم. ولكن إذ ما انفض هذا الجمع، فإن أعضاءه لن يتقابلوا أثناء العام مرة أخرى. ويرجع كل منهم إلى درجته في سلم المجتمع الصحيح، فيبقى الخزف خزفا والفخار فخارا. إن أهداف العصرية قد تكون تافهة، أو قد تكون العصرية بغير هدف، ولكن طبيعة هذا الاتحاد وهذا الامتياز لا يمكن أن تكون تافهة أو عارضة. إن مرتبة كل فرد في ذلك التدريج الكامل تتوقف على شيء من التوازن في بنائه، أو على شيء من الاتفاق بين بنائه وتوازن المجتمع. وإن أبواب المرتبة العليا لتفض قضبانها لتوها إذا أقبل عليها طالب طبيعي من نوع أبنائها. يجد الجنتلمان الطبيعي طريقه إلى الداخل، ويترك وراءه أقدم النبلاء في الخارج، ما دام قد فقد مرتبته الذاتية. إن الرجال العصريين يعرف بعضهم بعضا. وكرام الأصل وأصحاب التفوق الشخصي من أي بلد سرعان ما يتآخون مع أمثالهم في أي بلد آخر. وقد ميز زعماء القبائل المتوحشة أنفسهم في لندن وباريس بطهارة أذيالهم.

وإذا ذكرنا محاسن العصرية بقدر ما نستطيع قلنا إنها تقوم على الحقائق ولا تمقت شيئا مثلما تمقت الأدعياء. إنها تبتهج لإبعاد المدعين ونعتهم بالإبهام وتفادي الاختلاط بهم إلى الأبد. ونحن بدورنا نزدري كل موهبة أخرى من مواهب رجال الدنيا هؤلاء، ولكن عادة الاعتماد في كل شيء - حتى في أصغر الأمور وأقلها شأنا - على إحساسنا بصحة نفوسنا وحده، هو أساس الفروسية كلها. لا يكاد يكون هناك ضرب من ضروب الاعتماد على النفس، ما دام معقولا متناسبا، لا تتخذه العصرية من حين إلى حين، وتعطيه حرية صالوناتها.

إن الروح المقدسة رشيقة دائما، وإن شاءت، انضمت دون احتكاك إلى أقوى الحلقات سياجا. ولكن جوك راعي الماشية كذلك يمكن أن ينضم، في أزمة تأتي به إلى هذا المكان، فيلقى قبولا حسنا، ما دام رأسه لا يصاب بالدوار ومن الظروف الجديدة. ولا يميل الحذاء الحديدي إلى رقص الوالتز والكوتلون؛ لأن الآداب ليس فيها شيء ثابت، وإنما يخضع قانون السلوك لنشاط الفرد. وتعتقد الفتاة عند أول ظهورها في قاعات الرقص، والفلاح عندما يتناول الغداء في المدينة، أن هناك طقوسا ينبغي أن تراعى عند أداء كل عمل أو النطق بأية عبارة من عبارات الثناء، وإلا أبعد الفاشل عن مكان الاجتماع. ولكنهما يتعلمان فيما بعد أن الشخصية، وحسن الإدراك، تتخذ صورتها الخاصة في كل لحظة، فتتكلم أو تكف عن الكلام، وتتناول النبيذ أو ترفضه، وتلبث أو تنصرف، وتجلس فوق المقعد أو تتمرغ مع الأطفال فوق الأرض، أو تقف على رأسها، أو تفعل شيئا آخر، بطريقة جديدة أصيلة، وتلك الإرادة القوية هي الطراز الجديد دائما، وليكن من شاء غير عصري. كل ما تتطلبه العصرية رباطة الجأش، ورضى النفس. إن جماعة من الرجال كاملة التربية تكون جماعة من الأشخاص العاقلين، تظهر فيها شخصية كل فرد وآدابه الطبيعية. وإذا كان العصري يعدم هذه الصفة فإنه لا يساوي شيئا. إننا نحب الاعتماد على النفس إلى حد يجعلنا نتسامح في كثير من الخطايا عند الفرد إذا أظهر لنا رضاه التام عن موقفه، فلا يطلب حسن ظني أو ظن أي إنسان آخر فيه. في حين أن أي انقياد لرجل بارز أو امرأة نابهة في هذه الدنيا يضيع كل ميزة من مزايا النبل. إن المرء يكون حينئذ تابعا، ليس لي به شأن، فسوف أتحدث إلى سيده. لا ينبغي للمرء أن يذهب إلى حيث لا يستطيع أن يصطحب دائرته أو جماعته كلها معه، يصطحب جماعة أصدقائه كلها، لا بأجسادهم ولكن بجوهم. يجب أن يحتفظ في الجماعة الجديدة بحالته العقلية وحقيقة صلاته عينها التي يعرضها عليه رفاقه كل يوم، وإلا حرم خير ما لديه من دعائم، وبدا يتيما في أشد المجتمعات مرحا. «لو استطعت أن ترى فش إيان فوهر بذيله!» ولكن فش إيان فوهر لا بد أن يحمل خصائصه على صورة ما، فإذا لم تكن شرفا يكسبه، فهي عار يتخلص منه.

في المجتمع دائما أشخاص معينون هم كالكواكب المرموقة، تحدد لفتاتهم في كل لحظة لكل متطلع مراكزهم في الدنيا. هؤلاء هم أتباع صغار الآلهة. وعليك أن تقبل برودتهم دليلا على قربهم من عظماء الآلهة، واعترف لهم بكل مزاياهم. إنهم واضحو الأهداف، ولا يمكن أن يكونوا على هذه الرهبة دون أن تكون لهم مزاياهم الخاصة. ولكن لا تقس أهمية هذه الفئة بما تزعم لنفسها، أو تتوهم أن المتحذلق يمكن أن يتصرف في الشرف والعار. إنما هؤلاء يقدرون قدرهم الصحيح. وهل يمكن أن يكونوا غير ذلك في جماعات كأنها مكاتب أقيمت لفحص الشخصيات فحصا دقيقا؟

وبما أن أول ما يتطلبه المرء من الإنسان هو الحقيقة، فإنها تظهر في كل صورة من صور المجتمع. إننا نقدم أحد الفريقين إلى الآخر في دقة وبالاسم. وكأننا نقول: اعلم أمام الأرض والسماء جميعا أن هذا هو أندرو وذاك هو جريجوري. إن كلا منهما ينظر إلى أخيه في عينيه، ويقبض على يديه، كي يعرف كل منهما الآخر ويميزه. وإن ذلك لرضى عظيم. والرجل المهذب لا يتنصل أبدا. إن عينيه تنظران أمامهما على خط مستقيم، وهو يؤكد للجانب الآخر - قبل كل شيء - أنه قد يستقبله؛ إذ ما الذي نبحث عنه في كثير من الزيارات وحسن الضيافة؟ هل نسأل عن ملبسك، أو صورك، أو زينتك؟ ألسنا نسأل أولا: هل كان في البيت إنسان؟ قد أستطيع أن ألج بسهولة بيتا فخما، فيه كثير من المواد، ومدد فاخر للراحة والترف وحسن الذوق، ولكني برغم ذلك لا ألاقي هناك أي مضيف يجعل هذه النوافل أمورا ثانوية. وقد ألج كوخا وأجد فلاحا يحس أنه الرجل الذي أتيت لأراه، ويجابهني طبقا لذلك. ومن ثم كان من الطبيعي جدا في المجاملات الإقطاعية العتيقة أن الرجل المهذب الذي يستقبل زائرا - حتى إن كان مليكه - لا يترك مسكنه، بل ينتظر ضيفه عند باب بيته . إن البيت - حتى إن كان التويلري أو الأسكوريال - لا يساوي شيئا إن خلا من سيده. ولكنا مع ذلك كثيرا ما لا نقنع بهذه الضيافة. إن كل من نعرف يحيط نفسه ببيت جميل، وكتب قيمة، وبيوت من الزجاج للنبات، وحدائق، ومعدات، وبكل صنوف اللعب، وكلها حجب تحول بينه وبين ضيفه. ألا يبدو ذلك كأن المرء ذو طبيعة ماكرة مراوغة، ولا يخشى شيئا مثلما يخشى لقاء تاما لزميله وجها لوجه؟ وأنا أعلم أنه من القسوة الشديدة أن يزيل المرء بتاتا استخدام هذه الحجب، التي تمد صاحبها بالراحة القصوى، سواء كان الضيف عظيما جدا أو حقيرا جدا. إننا ندعو كثيرا من الأصدقاء الذين يشغل أحدهم الآخر باللعب، أو نعمد إلى تسلية الشباب بأسباب الترف والزينة، ونحافظ على الاعتزال. إذا أتى إلى بابنا مصادفة رجل واقعي باحث، لا يهمنا أن يرمقنا بنظراته، اندفعنا ثانية إلى الاحتجاب، وأخفينا أنفسنا كما فعل آدم عندما سمع صوت ربه في الفردوس.

كان الكردنال كابرارا، مبعوث البابا في باريس، يحمي نفسه من نظرات نابليون بنظارة ضخمة خضراء. وقد التفت إليها نابليون، وسرعان ما استطاع أن يعمل على إزالتها، ومع ذلك فإن نابليون بدوره لم تبلغ عظمته - برغم ثمانمائة ألف جندي وراءه - حدا يمكنه من مجابهة عينين متحررتين منذ ولدتا، بل كان يقي نفسه بالمجاملات، وفي حواجز مثلثة من التحفظ، وقد تعود - كما يعرف العالم كله من مدام دي ستيل - حينما كان يجد نفسه ملحوظا أن يعفي وجهه من كل تعبير. غير أن الأباطرة والأثرياء ليسوا بأية حالة أمهر أساتذة الآداب الطيبة.

إن قوائم الإيجار ومراتب الجيش لا تبعث الكرامة في رجل يواري ويتوارى. وأهم وجه من وجوه المجاملة يجب أن يكون الصدق دائما كما تشير إلى ذلك حقا كل صورة من صور التربية الصحيحة.

Unknown page