Mukhtarat Min Qisas Qasira
مختارات من القصص القصيرة
Genres
لكن تلك الفتاة النائمة لم تكن كريستينا، هكذا حدث نيكولاس نفسه. إذ إن وجه كريستينا كان يكسوه تعبير يذكر المرء بأرنب مذعور؛ لطالما أثار ذاك التعبير ضيقه. بيد أن تلك الفتاة، حتى في نومها، كان يعلو وجهها تعبير وقح؛ تعبير وقح بيد أنه محبب إلى النفس. وعلاوة على ذلك، تلك الفتاة كانت جميلة؛ رائعة الجمال. وقطعا لم ير نيكولاس فتاة جميلة هكذا طيلة حياته. عجبا، كانت الفتيات مختلفات تماما عندما كان نيكولاس شابا! وفجأة استحوذ على نيكولاس شعور شديد بالمرارة؛ كأنما أدرك لتوه أنه سلب شيئا منذ زمن بعيد دون أن يعي ذلك حينها.
تلك الطفلة لا بد أنها كانت تشعر بالبرد. جلب نيكولاس عباءته المبطنة بالفراء ولفها حولها.
ثمة شيء آخر كان عليه فعله. خطرت له تلك الفكرة بينما يبسط عباءته حول كتفيها، برفق شديد كي لا يقلق منامها؛ ثمة شيء رغب في فعله ، ليته يتذكر ما هو. كانت شفتا الفتاة منفرجتين. وبدت كأنما تحدثه، تطلب منه فعل ذاك الشيء؛ أو تخبره بألا يفعله. لم يكن نيكولاس متأكدا أي الأمرين صحيح. مرة تلو الأخرى، كان يغادر المطبخ، ثم يتسلل عائدا إلى حيثما جلست غافية بينما يعلو وجهها ذاك التعبير الوقح المحبب إلى النفس، وشفتاها منفرجتان. لكن نيكولاس ظل لا يعرف ماذا تريد، أو ماذا يريد هو.
ربما كانت كريستينا تعلم. ربما كانت كريستينا تعلم من هذه الفتاة وكيف جاءت إلى هناك. صعد نيكولاس السلالم، لاعنا إياها لما تصدره من صرير.
كان باب غرفة كريستينا مفتوحا. لكن الغرفة كانت خالية، وكان السرير مرتبا لأن أحدا لم ينم عليه. هبط نيكولاس السلالم التي تحدث صريرا.
كانت الفتاة لا تزال نائمة. أتكون هي كريستينا؟ تفحص نيكولاس ملامحها الفاتنة، ملمحا تلو الآخر. لم يسبق له قط، قدر ما تسعفه ذاكرته، أن رأى تلك الفتاة؛ رغم ذلك كانت قلادة كريستينا، التي لم يلحظها نيكولاس قبلا، تطوق عنقها، وتعلو وتهبط مع حركة أنفاسها. كان نيكولاس يعرفها جيدا؛ فقد كانت هي الشيء الوحيد الذي أصرت كريستينا على الاحتفاظ به من مقتنيات أمها. لقد كانت الشيء الوحيد الذي تحدت إرادته كي تحتفظ به. إن كريستينا لم تكن لتدع تلك القلادة تفارقها قط. لا بد أن هذه الفتاة هي كريستينا نفسها. لكن ماذا حدث لها؟ أو ماذا حدث له؟ فجأة تداعت عليه الذكريات. البائع الغريب! ولقاؤه مع يان! لكن كل ذلك كان حلما قطعا، أليس كذلك؟ بيد أن القنينة الفضية الخاصة بالبائع كانت لا تزال هناك على سطح المكتب الفوضوي، وبجانبها كأسا النبيذ المتماثلتان المتسختان.
حاول نيكولاس أن يفكر، لكن عقله كان يلف ويدور. مر شعاع من ضوء الشمس عبر النافذة وسقط على أرضية الغرفة المتربة. لم يكن قد رأى نيكولاس الشمس قط قبلا؛ تلك حقيقة كان بإمكانه أن يتذكرها جيدا. مد يديه لا إراديا ناحية الضوء، وشعر بحزن مفاجئ عندما تلاشى، مخلفا وراءه الضوء الرمادي فحسب. حل نيكولاس مزاليج الباب الكبير الصدئة ثم فتحه على مصراعيه. أمام ناظريه تبدى عالم غريب، عالم جديد مليء بأضواء وظلال، تغازله بجمالها؛ عالم مليء بأصوات خفيضة ناعمة تناديه. ومجددا راوده ذاك الإحساس المرير بأن شيئا قد سلب منه.
غمغم نيكولاس العجوز إلى نفسه: «كانت السعادة في متناول يدي طوال تلك السنوات.» ثم أضاف: «هذه المدينة الصغيرة كان بوسعي أن أحبها، تلك المدينة القديمة الهادئة، ذات الطابع المحبب إلى النفس، طابع الوطن. كان من الممكن أن أحظى بأصدقاء، برفاق حميمين قدامى، بل أن أنجب أبناء من صلبي ...»
ثم تراءت لعينيه صورة كريستينا الغافية. كانت قد قدمت إلى بيته وهي لا تزال طفلة، لا تحمل له سوى مشاعر الشكر والعرفان. لو كانت لديه عينان تستطيعان رؤيتها، لربما تغير كل شيء.
هل فات الأوان؟ إنه ليس عجوزا جدا؛ لا يعتبر رجلا هرما بأي حال. بل إن دماء جديدة تسري في شرايينه. هي لا تزال تحب يان، لكنها تحب يان الذي كان بالأمس. في المستقبل، ستتحكم الروح الشريرة، التي كانت يوما ما روح نيكولاس سنايدرز، في كل كلمة سينطقها يان، وكل فعل ستقترفه يداه؛ يتذكر نيكولاس هذا جيدا. أيمكن أن تحب امرأة روحا كتلك، حتى وإن كانت تسكن جسدا ذا وسامة لا تضاهى؟
Unknown page