Mukhtarat Min Qasas Injlizi
مختارات من القصص الإنجليزي
Genres
فقال الفتى بصوت مخنوق: «كانت يداي كليلتين ضعيفتين ولكني فعلت ما وسعني. وهناك حجر عال يشرف عليه. ولشد ما أتمنى لو أنني كنت ساكنا كسكونه.»
وأحست دوركاس من عباراته الأخيرة ثورة النفس، فأمسكت في يومها عن الاستفسار، ولكنها وجدت روحا وراحة إذ علمت أن روجر مالفن لم يعدم ما تيسر من مراسم الدفن، وقصت على الأصحاب ما كان من شجاعة روبن ووفائه، ولم تنتقص الإعادة من حسن الرأي فيه شيئا، وكابد الشاب المسكين بعد أن تطرح من فراش المرض إلى الهواء والشمس، ذل الثناء الذي لا يستحقه وعذابه وألمه، وقال الناس جميعا إنه حقيق بأن يطلب يد الغادة الحسناء التي وفى لأبيها «حتى الموت.» ولكن قصتي ليست عن الحب، فحسبي أن أقول إن روبن صار زوجا لدوركاس بعد بضعة شهور، وكانت العروس في حفلة الزواج مضطرمة الوجه من الخفر والحياء، أما روبن فكان ممتقع اللون.
وصار في قلب روبن بورن خاطر لا سبيل إلى الإفضاء به - خاطر ينبغي أن يخفيه بعناية وحرص عمن لها حبه، وبها ثقته. وكان أسفه عميقا على جبنه الذي أغراه بكبح لسانه عن الإفضاء إلى دوركاس بالحقيقة التي كان يهم بأن يبوح لها بها، ولكن الكبرياء والخوف من فقدان حبها له، والإشفاق من الاحتقار العام - كل أولئك منعه أن يصدقها بعد أن كذب عليها. وكان يشعر أنه لا يستحق لوما من أجل أنه ترك روجر مالفن، فما كان بقاؤه والتبرع ببذل حياته إلا ليزيدا آلام الرجل بلا موجب في ساعاته الأخيرة. ولكن كتمانه الحقيقة أفاض على هذا العمل السائغ كثيرا من صفات الإثم وآثاره الخفية، فكان روبن على اقتناعه بأنه ما فعل إلا الصواب، يقاسي إلى حد كبير الآلام النفسية التي تعذب مجترح جريمة مستورة. وكانت خواطره تتداعى أحيانا على نحو يجعله يتصور أنه قاتل. وظل سنوات يعاوده خاطر لا تخفى عليه سخافته وشططه، ولكنه لا يستطيع أن ينفيه ويستريح منه. وكان ذهنه لا يبرح يعذبه بصورة مخامرة - صورة صهره جالسا - إلى الآن - عند الصخرة على أوراق الشجر الذاوية - حيا ينتظر منه الوفاء بالمعونة الموعودة. على أن هذه الخدع العقلية كانت تروح وتجيء، وكان هو لا يغالط نفسه فيها فيخلطها بالحقائق، غير أنه في أصفى حالات عقله وأهدئها كان يشعر بأن في ذمته عهدا لم يف به ولم ينجزه، وأن هناك جثة لم تدفن تصيح به من جوف الفلاة، ولكنه كان من نتائج مغالطته ولفه، أن عجز عن تلبية النداء وإجابة الدعوة. وكان قد مضى الوقت الذي يجوز فيه أن يطلب معونة أصدقاء مالفن للقيام بدفنه الذي طال إرجاؤه. وحالت الأوهام والمخاوف الخرافية التي كان أهل الحدود أحس بها من سواهم دون ذهاب روبن وحده لهذه الغاية. ثم إنه لم يكن يدري أين في هذه الغابة المضلة المترامية الأطراف ينشد تلك الصخرة الملساء المعرقة التي يرقد عند سفحها صاحبه. وكان تذكره لرحلته فيها غامضا، ولم يكن في ذهنه أي أثر للشطر الأخير من هذه الرحلة. على أنه كان لا يفتأ يحس دافعا ملحا، ويسمع صوتا من ذات نفسه يناديه أن يخرج لإنجاز وعده، وكان يخيل إليه أنه لو هم بذلك لقادته رجلاه إلى رفات مالفن مباشرة. ولكن العام كان يمضي تلو العام، وهذا الصوت الذي يحسه ولا يسمعه سواه لا يجد منه مجيبا. وصار هذا الخاطر المكتوم كالقيد، ولكن نفسه هي الموثقة العانية، أو كالحية، يعض وينفض في قلبه، فانقلب رجلا ساهما كاسف البال ولكنه ضجور سيئ الخلق.
وفي خلال سنوات قليلة بعد الزواج بدأت حالة الرخاء في حياة روبن ودوركاس تحول، وكانت ثروة روبن قلبه القوي وساعده المفتول، ولكن دوركاس - وارثة أبيها الوحيدة - جاءت زوجها بضيعة أكبر وأحفل بالأدوات والمواشي من مثيلاتها على الحدود، ولكن روبن بورن كان فلاحا مهملا فكانت أرض سواه تزداد كل عام زكاء وثمرة، وأرضه تزداد على النقيض كدورا وتأخرا، وكانت متاعب الزراعة وأسباب التثبيط عنها قد قلت قلة شديدة بانقطاع الحروب مع الهنود، ولم يعد الناس يتناولون المحراث بيد والبندقية باليد الأخرى ويحمدون حسن حظهم إذا سلمت محاصيلهم من التلف في الأهراء، أو في ميادين القتال حين يغير العدو المتوحش، غير أن روبن لم ينتفع بما صار إليه الأمر من السكينة والأمان وإن كان لا نكران أن الفترات التي كان ينشط فيها للعناية بأموره لم تكن تجزيه إلا نجاحا ضئيلا. وكان فساد أعصابه من الأسباب التي أفضت به إلى الإكداء، وذهاب الخير لأن سوء خلقه كان كثيرا ما يؤدي إلى الشجار والخلاف مع جيرانه في المعاملات التي لا بد منها معهم، فانتهى الأمر بقضايا لا عداد لها، إذ كان أهل «إنجلترا الجديدة» - ولاية بهذا الاسم - في العهد الأول من حياتهم المضطربة بهذه الولاية يؤثرون الوسيلة القضائية لفض منازعاتهم كلما تيسر ذلك. ونقول بإيجاز إن الأمور لم تستقم لروبن بورن فحل به الخراب، وإن كان هذا لم يصبه إلا بعد سنوات عديدة من زواجه، ولم يبق له إلا سبيل واحد ومخرج فرد من النحس الذي لحقه، وذلك أن يفيض نور الشمس على رقعة مظلمة في جوف الصحراء، وأن ينشد العيش والقوت من ثدي هذا المجهل البكر.
وكان الابن الوحيد الذي رزقه روبن ودوركاس قد بلغ الخامسة عشر، وكان شبابه الريان يبشر برجولة بارعة، وكان على استعداد قوي لما تقتضيه الحياة على الحدود من الكفايات، بل لقد بدأ يظهر في ذلك حذقا عظيما، فكان خفيفا مشتد الذراع في الرماية، سريع الإدراك والفطنة، وندبا شديد القلب، وكان كل الذين يتوقعون أن تستأنف الحرب مع الهنود، يقولون عن «سيراس بورن» إنه الزعيم الذي يدخره المستقبل للبلاد، وكان أبوه يحبه حبا عميقا صامتا، كأنما كان كل ما فيه، هو، من الخير والسماحة قد انتقل إلى غلامه ومعه ما يقوى عليه القلب من الحب، حتى دوركاس - وإن كانت محبة محبوبة - صار ابنها أعز على أبيه منها، ذلك أن خواطر روبن المحجوبة، وعواطفه المعزولة جعلته على الأيام رجلا أنانيا، فلم يستطع أن يحب حبا عميقا، إلا ما كان يرى أو يتخيل فيه مشابها من نفسه. وقد طالعته من سيراس صورة مما كان هو في الأيام الماضية، وكان ربما شاطر غلامه نفسيته، فتهب على حياته نفحة منعشة من السعادة. وقد استصحب روبن غلامه في رحلته لانتقاء رقعة من الأرض للإقامة، ولقطع الشجر وحرق الخشب، وهو ما لا بد منه تمهيدا لنقل البيت. وسلخا في هذا شهرين من الخريف عادا بعدهما ليقضيا آخر شتاء في الحلة. •••
وفي أوليات مايو/أيار بتت الأسرة الصغيرة ما كانت تتعلق به، وودعت القليلين الذين كانوا في أيام نحسها يحفظون لها عهد الصداقة. وكان أسى الفراق يخففه عند كل واحد من الثلاثة مخفف، فأما روبن فكان رجلا طويل الوجوم كارها لبني الإنسان لأنه شقي في حياته، فلما آن الرحيل مضى وهو مقطب، مطرق لا يكاد يأسف على شيء، ويأنف أن يعترف بأسف أو ندم. وأما دوركاس فبكت بأربع على الوشائج المبتوتة التي كانت توثق ما بين نفسها الطيبة العطوف وبين كل ما هنالك، ولكنها كانت تحس أن ما حل في السواد من حبة قلبها يسير معها، وأن كل ما خلا ذلك لا تعدم عنه عوضا في حيثما تكون. وأما الغلام فكفكف دمعة واحدة وراح يتصور متع الخطار في الغابة التي لم تطأها قدم أبيه، ومن ذا الذي لم تغره الأحلام في عنفوان نشوتها، بأن يشتهي أن يطوف في عالم من المجاهل المشمسة وإلى جانبه رفيق جميل يعتمد على ذراعه في رفق؟ في الشباب لا تعرف خطواته الحرة الجذلة عائقا سوى عباب اليم المتحدر ورءوس الجبال التي يكسوها الثلج. ثم تجيء الرجولة الساكنة فتؤثر بيتا في واد سخت عليه الطبيعة بالزخرف، وأجرت فيه غديرا رائقا شفافا. حتى إذا دلفت إليه الشيخوخة بعد سنوات طويلات المدد من تلك الحياة النقية إذا به قد صار أبا لقبيل، ورأسا لشعب، ومؤسس أمة عظيمة تتمخض عنها الأيام. ثم يوافيه الحين فيستسلم إليه ويرحب به، كما نرحب بالنوم العذب بعد يوم سعيد، فيبكي ولده رفاته الجليل. ويحيطه كر الأيام بهالة، ويكسبه مناقب وخصائص عجيبة ترفعه في أعين الأجيال التالية إلى قريب من مراتب الأرباب. وترجع الإنسانية بصرها من وراء قرن فتلمح مجده الخافت.
على أن الغابة المظلمة المعقدة المسالك التي كان يضرب فيها من أروي قصتهم، لم تكن تشبه في شيء تلك الأرض التي تصورها الأحلام. ولكنه كان في أسلوب حياتهم ما يجري على نسق الطبيعة، وكانت الهموم المخامرة التي رافقتهم من الدنيا التي خرجوا منها، هي كل ما يعكر الآن صفو حياتهم ويحول دون استفاضة الشعور بالسعادة. وكان معهم جواد أشعث متين الأسر، يحمل كل ما يملكون ولا يجزع أن تضاف دوركاس إلى ما يحمل، وإن كانت نشأتها تعينها على السير إلى جانب زوجها في آخر كل مرحلة يومية. وكان روبن وابنه يمشيان بخطى ثابتة قوية وعلى كتف كل منهما بندقيته، وعلى ظهره فأسه، وعينه تدور باحثة عن قنيصة للطعام. وكلما جاعوا وقفوا وأعدوا طعامهم على شاطئ غدير صاف، فإذا ظمئوا انحنوا بشفاههم على مائه السلسال ليرشفوا من نميره، وهو يترقرق عنهم في مثل دلال الغادة إذ تتلقى القبلة الأولى من فم حبيبها. وكانوا ينامون في كوخ يصنعونه من الأغصان ويستيقظون مع أول خيط من النور، وقد انتعشوا وتهيئوا لمتاعب اليوم التالي. وكانت دوركاس وابنها يمشيان مرحا، حتى روبن كان أحيانا يشرق وجهه ويلمع فيه نور البشر، ولكنه كان يطوي بين أضلاعه كمدا باطنا يقرص قلبه ويتركه فيما يرى كمجرى الغدير جمد فيه ماؤه وغطته أوراق الشجر الخضراء النضيرة.
وكان سيراس بورن أعرف بمسالك الغابات وأخبر بالسير فيها من أن يخفى عليه أن أباه لا يلتزم الجادة التي ساروا فيها الخريف الماضي، فقد كان ينتحي ناحية الشمال وينأى عن الأرض المأهولة ويضرب إلى حيث لا توجد إلا الوحوش وأمثالها من الآدميين. وكان الغلام ينبهه إلى ذلك أحيانا فيصغي له روبن، ويعدل عن الطريق الذي كان آخذا فيه، عملا منه بنصيحة ابنه، ولكنه كان كلما فعل ذلك بدا كالمضطرب، فكان يمد لحظه ويجيله كأنما يتوقع أن يرى أعداء مختبئين وراء جذوع الشجر. وكان سيراس يرى أن أباه يرتد شيئا فشيئا إلى اتجاهه الأول الذي كان قد صرفه عنه، فيحجم عن معاودة الاعتراض، وكان يشعر أن شيئا غامض الكنه قد بدأ يجثم على صدره، ولكن جرأته الفطرية على الخطار أبت له أن يأسف من أجل أن الطريق زاد طولا وغموضا.
وفي عصر اليوم الخامس وقفوا وهيئوا لأنفسهم مكانا قبل الغروب بساعة، وكان وجه الأرض فيما قطعوا من الأميال الأخيرة يعلو ويهبط كأنه أمواج تحجرت. وقد أقاموا في منخفض منها كوخهم وأوقدوا نارهم. وكان في مقامهم هناك - وقد نأوا عن كل حي ووثق ما بينهم الحب - ما يشجو ويملأ القلب حرارة. وكانت أشجار الصنوبر تشرف عليهم وتتخلل الريح أغصانها العالية، فتتجاوب الغابة بمثل أصوات الوله والأسى، أم ترى هذه الأشجار العتيقة تتوجع مخافة أن يكون الإنسان قد أقبل ليضرب في جذورها بفأسه ...؟
ورأى روبن وابنه أن يدعا دوركاس تهيئ الطعام وأن يتجولا في الغابة عسى أن يقعا على فريسة فقد أخطأهما الصيد في نهارهما. ووعد الغلام ألا يبعد وذهب يعدو خفيفا كالظبي الذي يرجو أن يصيد. وشعر أبوه بنفحة عارضة من السعادة وهو يتبعه بعينه. وهم بأن يمضي هو في اتجاه آخر. وجلست دوركاس فوق جذع شجرة قديمة مقتلعة على كثب من العيدان التي أضرمت فيها النار. وكانت تلقي نظرها من حين إلى حين على القدر التي بدأت تفور وتغلي ثم ترد عينها إلى «تقويم ولاية ماساشوستس» وكان هذا التقويم ونسخة قديمة من الإنجيل كل مكتبة الأسرة. وليس أشد عناية بحساب الأيام ممن نأوا عن المجتمع الإنساني، فلا عجب إذا كانت دوركاس قد قالت لزوجها إن اليوم هو الثاني عشر من شهر مايو/أيار كأنما هذا على أعظم جانب من الأهمية. فاضطرب روبن وتمتم: «الثاني عشر من شهر مايو ...؟ إني لحقيق بأن أذكره» وتزاحمت الخواطر في رأسه فأحدثت له اختلاطا يسيرا وراح يسأل نفسه: «أين أنا ...؟ وإلى أين أنا ماض؟ وأين تركته ...؟»
Unknown page