لقد أخرج الأولون «الموازين» ليقدروا خفيف الأجرام وثقيلها، وصنعوا «المكاييل» ليعرفوا كثير الحبوب وقليلها، وضبطوا «المقاييس» ليحددوا قصير الأمدية وطويلها، ونحن إلى الآن لم نوفق إلى ذلك «الميزان» الذي يضبط لنا المقال، إذا تصدينا يوما لقدر أقدار الرجال!
سنطوى نحن وسيطوى من بعدنا، وسيخلف من بعد أولئك خلف لم يتصلوا بمجالسنا، ولم يترووا شيئا مما يجري على ألسنتنا، فإذا أحب هؤلاء أن يعرفوا مقدار حكمنا على كل رجل من رجالنا، صاروا ولا محالة إلى ما نحن مثبتوه في صحائفنا، ولكأني أنظر إلى هؤلاء الخلف وقد شاع فيهم العجب، وملك الدهش عليهم كل مذهب، لأن وصفنا لكل علمائنا واحد، ونعتنا لكل أدبائنا واحد، وقدرنا لكل شعرائنا واحد؛ حتى لأحسبهم يحسبون أنه كانت لدينا مطبعة لكبار الرجال، فمهما تتكرر نسخها فإن صورتها كلها واحدة!
لقد يطمع الرجل الحسان في ثواب التاريخ أكثر مما يطمع في ثواب دنياه، فيا ويح «العبقرية» ويا ويح الإحسان من حكم التاريخ، إذا كان الناس جميعا سيجلون غدا في صورة سواء!
الأدب الحاد
من الواقع الذي لا يتطاول إليه الشك أن مصر تنبعث الآن في نهضة قوية في كثير من أسباب الحياة، وفي صدرها الثقافة بوجه عام، والأدب على وجه خاص.
لم يصبح الأدب مجرد فضل من الكلام لا يكاد يطلب به شيء، ولم يبق للأدب مضطرب في تلك الأغراض الهزيلة التي كان يضطرب فيها الأجيال التي تقدمتنا من العصر التركي إلى خمسين سنة خلت، ولم يمس جهد الأديب متجردا في طلب المحسنات البديعية واستكراهها على الكلام، بله تسوية الكلام لمجرد إصابة تلك المحسنات فحسب، لا! لا! لقد عز الأدب في هذا العصر، واستحصد ملكه، وعظم شأنه، بما ارتصد لتجلية الفكر، وأداء مطالب العقل، والتسلية عن النفس وتلذيذها بكل جميل وبكل بديع.
وفي الغاية، لقد جعل الأدب يتبسط من يمينه ومن شماله حتى كاد يستغرق، بجهد أعلام البيان، جميع الأسباب الدائرة بين الناس، فإذا تقاصر الأدب العربي اليوم عن توفي شيء من الأشياء، فإنه لبالغه في القريب بعون من الله وبتظاهر جهود الأدباء.
على أن ما من حقه أن يلفت النظر في هذه النهضة البيانية - ولا أحسب ذلك مما دق على أفهام الكثير من جمهرة المتأدبين في مصر - أن الأدب العربي في جميع ألوانه وصوره، قد أصيب في هذه السنين بنوبة عصبية قبل أن تفارقه أو ترق عليه، وإن كانت هذه النوبة أثقل على أقلام الكتاب منها على أقلام الشعراء.
وبعد، فأنت خبير بأن لكل مقام من مقامات الكلام بيانا يحسن به ولا يحسن بغيره ولا يحسن هو في غيره، فهذا الباب لا يصلح إلا بسطوة القول وحدة القلم، وهذا الباب لا يجوز أداؤه إلا في لين لفظ ورفق تعبير، وهذا الباب لا يحمد الكلام فيه إلا بالاجتماع لتجويد الصياغة وإحكام النسج، والإصابة من فنون البديع بما لا يستهلك الغرض أو يسيء إلى المعاني، وهذا الباب لقد يرذل فيه مثل هذا ويعاب كل العيب، فإن من يستنفر قومه للجهاد ذيادا عن شرفهم ودفاعا عن حريمهم، لا كمن يصف مجلس لهو في روضة معطار، قد لعب النسيم بأغصانها، وغرد الهزار على أفنانها، وإن مثل ذلك اللعب باللفظ واعتماد نكات البديع لسمج كل السمج بالمرء يرثي ولده ويصف ما أجد له الأسى من ألوان البرح، وما أحدث الثكل في كبده من صدوع ومن قرح.
هذا إلى أنك في الباب الواحد قد تقول في هذا الموضع كلاما لا يجمل بك أن تقوله في موضع آخر منه، فإن من يزل لسانه بالكلمة العوراء في صديقه، ليس كمن يسعى في إردائه أو الإصابة من شرفه مثلا، فهذا يقال في عتابه أو هجائه كلام، وهذا يوجه عليه كلام آخر.
Unknown page