ولو قد تهيأت لنا معرفة حدهما والاتفاق على تعريفهما، لما تعذر علينا حسم النزاع في هذا الموضوع الذي نعالجه اليوم.
ولا أزعم أني وقفت للأدب أو للشعر على تعريف وقع عليه اتفاق الأدباء كلهم أو أكثرهم في أي عصر من العصور، ولا أزعم أني أستطيع أن أحد كلا منهما بالتعريف الجامع المانع؛ فذلك مني فوق الغرور، ولو قد تقدمت له لصادرت أحد الفريقين على المطلوب، لأن القضاء في هذا تسلف للقضاء في ذاك.
ولكن هذا كله لا يعني أننا لا نلمح وجه الخلاف، ولو بصفة عامة، بين أنصار القديم وأشياع الجديد، فلقد نلمحه على الأقل من الخلاف بين من قالوا إن المتنبي أكبر شاعر، وبين من ذهبوا إلى أن المتنبي ليس بشاعر ألبتة.
ولقد نستطيع أن نصور هذا الخلاف ولا نحدده، ولقد نصوره بأن الشعر عند قوم لا ينبغي أن يتجاوز لهجة العرب وما كانت تستريح إليه أذواقهم، وبحيث لا يعدو لغتهم وقوانين بلاغاتهم، ويرى الآخرون أن الشعر كما هو مظهر الشعور ينبغي أن يكون مظهر حاجات العقل والفكر معا، فليس من حق الديباجة ولا من حق الأسلوب المتخير ولا من حق الذوق العربي أن تعترضها في هذا السبيل.
وكذلك حدث في الأدب عندنا: أهو مسألة عربية لغوية؟ أم هو المسألة الجامعة لكل مطالب العقل والتصور والخيال؟ مهما تنحرف عبارتنا في تصوير هذه المطالب عن أسلوب اللغة ولهجاتها وديباجتها المرتضاة؟
والذي يعظم في أثر هذا الخلاف أن اللغة العربية قد ركدت قرونا عدة انقبض فيها أهلها عن تقليبها وإجالتها فيما تجد الأيام من فنون المعاني ، وفي هذه المدة لقد انبعث الغرب وتحركت فيه علوم كثيرة وفنون، وسطعت من أفقه في العالم مدنية جليلة تناولت كل أسباب الحياة، ثم هببنا نحن الآخرين من نومتنا الطويلة، ونحن في تثاؤبنا وفرك عيوننا، نبعث أيماننا فإذا لغة عظيمة راكدة في الشرق من عدة قرون، ونبعث شمائلنا فإذا حضارة هائلة شبت في الغرب من بضعة قرون، ولا بد لنا لنأخذ في أسباب العلم والفن والقوة، ولنجاري هذا العالم في حضارته، من أن نطابق بين قديم الشرق وجديد الغرب، ونعمل على الملاءمة بينهما، وما كان ليتسق لنا هذا، إذا هو اتسق، بمثل هذه السرعة التي يقدرها منا كثير، فالمطلب، في الواقع، حق عسير.
ولقد بدأ اتصالنا الحديث بالغرب في عهد محمد علي، إذ أراد أن يبعث العلم الحديث في هذه البلاد، فجاء له إلى مصر بمعلمين، وأشخص إليه من مصر متعلمين، ومن ثم ترجمت عن لغاته كتب في مختلف العلوم والفنون لتدرس في معاهد مصر بلغة البلاد، فجاءت مزجا من العامية والعربية والتركية والإفرنجية المعربة، ولم يكن إلى غير هذا من سبيل.
ثم جاء إسماعيل وبعثت الحركة العلمية فترجمت كذلك كتب لم تواتها اللغة العربية، ولم يكن من سبيل إلى أن تواتيها بكل ما عرضت له من أسباب هذه الحضارة.
وأنشئت لعهده مدرسة دار العلوم، وقام على تعهدها المرحوم علي مبارك باشا، وأتى لها بالأفذاذ من أقطاب اللغة العربية، مثل الشيخ حسين المرصفي، فرووا طلبتها أدب العرب، ولقنوهم متخير شعرهم وفنون بلاغاتهم، فخرج منهم ناظورة العلماء في اللغة والأدب العربي في هذه البلاد؛ وكانوا مثار نهضتها الجديدة في هذا الباب.
إلا أن هذه النهضة، مع شيء من الأسف كثير، كانت عربية خالصة، فلم تتصل بالعلم الغربي الذي هو ينبوع حضارتنا الجديدة، ولم تلائم بينه وبين اللغة العربية في كثير.
Unknown page