أما ماسحو الأحذية هناك، فهم أشره وأطبع، وهم أنكى وأوجع، لقد تضع رجلك اليمنى على سلم القطار، والقطار على جناح السير، وتتعلق يداك بمقابض الباب، وتتهيأ لرفع رجلك اليسرى، وفي هذه اللحظة يلكز المساح ساقك اليمنى بصندوقه، ويهيب بك «بويه»!
فإذا جرى عليك القدر بالجلوس إلى المقهى القائم بإزاء المحطة في انتظار صديق مواعدك أو مركبة توافيك، فاللهم اشهد قسوة الإنسان على الإنسان: يثب إليك «البويجي» إذ أنت لم تأخذ بعد قرارك، فيطوح في وجهك بصندوقه حتى يمس أحيانا أرنبة أنفك، فتعتذر إليه فلا يسيغ لك عذرا، وتتشفع إليه فلا يقبل في نعلك شفاعة، بل إنه ليجلس على الأرض ويجذب - برغمك - رجلك فإذا ركلته بها جذب الثانية، فإذا أنت بين اثنتين لا ثالثة لهما: إما الرضا بهذه «المسحة»، وإما الانتهاء إلى «المركز» في جناية أو جنحة!
وقد اتصل بي أخيرا والعهدة على الراوي، لا علي أنا، أن مساحي الأحذية في منيا القمح قد ألفوا هم الآخرون من بينهم فرقا، كل فرقة ثلاثة: اثنان منهم يحملان «فلقة»، فإذا وقع للمقهى إنسان، أسرعا «فمداه»، وأقبل الثالث يمسح له الحذاء، وكان هذا لزائر منيا القمح نعم الجزاء!
يا لطيف!1
تعلم أن رمضان يقظان الليل نائم النهار، يجمد الناس وتفتر الحركة في نهاره ويسهرون ليله، ويقضونه في وجوه السمر، ولهذا تؤخر الحكومة مواعيد افتتاح الدواوين والمصالح والمحاكم والمدارس، ولهذا تعطل المعاهد الدينية طوال الشهر المبارك، لأنه إذا كان قدر على الناس أن يسهروا عامة ليلهم في رمضان، فليس من المستطاع أن ينشطوا في الصباح الباكر لقضاء مصالحهم ومعالجة أسبابهم، على أنك فوق هذا، تجد سائر الأعمال جامدة راكدة في نهار رمضان، بحكم صيام الصائمين، واختلال أمزجتهم، وفتور أعضائهم من جهة، وبحكم قضاء الليل في السهر، وحاجة الناس إلى التزود من النوم في النهار من جهة أخرى، إلا أن إخواننا الباعة وسادتنا الشحاذين لم يسلموا إلى الآن بقضاء الله، ولا بقضاء الطبيعة، ولا بقضاء العادة، ولا بقضاء الحكومة، ولا بقضاء أمزجة الناس، وإنك لتقضي ليلك كله في السهر إلى الساعة الثالثة بعد نصف الليل أو الرابعة أو الخامسة، ويكون من حق الطبيعة، ومن حق بدنك عليك، ومن حق العمل الذي تعالجه أن تنام، على الأقل، إلى الساعة الثامنة أو التاسعة أو العاشرة، وإلا انهد جسمك، واختلت أعصابك، وفسد عليك شأنك كله
فتصور يا سيدي أنك نمت خلال تلك الساعات، فلم يرعك إلا النداء القوي المزعج يبعثك من أحلى رقداتك في الساعة السادسة: «ونبيض النحاس، ونبيض النحاس»؛ أو: «البدارى السمان»؛ أو غير ذلك مما يحمله أولئك الباعة المترفقون بأبدانهم المضطربون بسلعهم، وإني لأسمع صرخة الرجل منهم فأجزم بأنه لا يعرض سلعته على أهل الأرض، ولكنه إنما يعرضها على سكان الملأ الأعلى، حتى إنك لتكون في ضجعتك الهانئة بعد قضاء ليلك الأطول، فإذا بك قد هببت من نومك وأنت تظن أن الحرب قد نشبت، أو أن النار قد أكلت أثاث بيتك، أو أن سقوف الدار قد خرت على عيالك، فإذا الخطب كله أن بائعا ينادي «البدارى السمان» أو أن شحاذا يصيح: «من فطر صايم له أجر دايم هنيالك يا فاعل الخير»، والناس إنما يشترون صغار الفراريج ليطهوها لإفطارهم إذا نزلت الشمس للمغيب، ولا أدري لماذا يسشترونها في فجر يومهم، اللهم إلا أن يكون قد دخل في وهم أولئك الباعة أنها ستكبر عند «الزباين» وتسمن، حتى إذا دخل وقت الغروب استحالت «عتاقي» وأمست «بيجاوي». •••
أما أمر الشحاذين فأعجب وأغرب «من فطر صايم له أجر دايم إلخ» وذلك من منتصف الساعة السادسة صباحا، أي أن على الأمة أن تسهر، بحكم طبيعة رمضان، إلى الساعة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة صباحا، ولكن عليها في الوقت نفسه أن تهب من منتصف الساعة السادسة، وتشمر عن سواعدها وتنشط في «تقشير البصل»، وإنضاج «التقلية»، وخرط «الملوخية»، و«تقميع البامية»، و«تحمير البطاطس»، و«فلفلة الأرز» و«دق الكفتة» و«تسوية الكنافة»، و«قلي السمك البربون»، و«نقع الخشاف» للسادة الشحاذين!
نعم يجب على الأمة كلها أن تنثر أيديها من كل عمل إلا ما يجب عليها من معالجة الطعام وتهيئته لسادتها الشحاذين، حتى إذا حان وقت الإفطار قربت إليهم كل ما ساغ من لحوم طرية، وأطعمة شهية، وفواكه جنية!
وبعد فإن على الحكومة أن تختار بين أمرين: إما منع الشحاذين وحسم الباعة من أن يصيحوا ويهتفوا في رمضان قبل الساعة التاسعة على الأقل، حتى تستطيع الأمة أن تريح بدنها وتستجم لأعمالها، وإما أن تأمر بإلغاء شهر رمضان بتاتا، لتوفر الأمة جهودها على الباعة والشحاذين، بحيث «تنخمد» من الساعة التاسعة مساء ليتهيأ لها أن تهب من الفجر «لتشتري البدارى السمان»، أو «لتبيض النحاس»، ولتهيئ أشهى الطعام وأجنى الفاكهة لسادتها «الشحاذين» وعلى الحكومة السلام، وعلى الأمة هجر المنام وترك الصيام!
الشحاذون ...!1
Unknown page