مشروع معركة!1
خرجت مصبح اليوم على عادتي، أطلب مثابة عملي في الجيزة، وما إن كدت أبلغ موقف «الباس»، وهو على بضع عشرات الأمتار من «كبري» عباس، حتى رأيت منظرا جميلا استدرج همي، وشغل كل نفسي، فإنني لحق مشوق إليه من زمان طويل!
فتيان أو شابان من «أولاد البلد»، قد تفصدت نفساهما بالشر، واحمرت من فورة الغيظ أحداقهما، وها أنذا أراهما يتواثبان للمعركة الحامية ، تشج فيها الرءوس، أو تخلع الأكتاف، أو تدق الأصلاب وتقد المتون.
لقد أوحشني حقا هذا الضرب من «الخناق» الوطني يتهشم فيه الضارب والمضروب جميعا، وناهيك بمن لا يتسلحون لمعاركهم، في النزال على وجه خاص بمسدس ولا بسكين، ولا بعصي ولا بحجر، وحسب الفتى من السلاح يده ورجله ورأسه، ففي الضرب «بالروسية» غنى للمقاتلين!
وتالله ما بي أي حب للشر، ولا أنا ممن يستريحون إلى شهود الأذى، وإني لأتألم أشد الألم إذا رأيت حيوانا يتألم فضلا عن إنسان، ولكن هذا اللون من العراك (الخناق) بين أبناء البلد، كان مظهرا من مظاهر الفتوة والبطولة في مصر، فعفي أثره من زمان بعيد، وهذا مع الأسف العظيم.
وقفت إذن مغتبطا مستبشرا بشبوب المعركة، وعودة ذلك التقليد المصري القديم، على أن وسطاء الخير أو وسطاء السوء من السابلة، أسرعوا فحالوا بين القرنين، وأمسك أربعة منهم بواحد، وأمسك ثلاثة بالآخر، وجعل كل جماعة يجذبون صاحبهم ليبعدوه عن خصمه، وهو يقاومهم أشد المقاومة، ويحاول الإفلات منهم ليثب إلى صاحبه، إذ هم يدافعونه عن هذا بكل ما يملكون من القوة.
يتوسل كل منهما إلى جماعته أن يطلقوه فلا تنفع الوسيلة، ويضرع إليهم فما تجدي الضراعة، يتوسل أحدهما إلى صحبه أن يطلقوه ليدغدغ رأسه، فيرجو الآخر صحبه أن يدعوه ليفقأ عينيه، فيحلف الأول بأنهم لو خلوا بينهما لبقر بطنه (فتح كرشه)، فيجيب الثاني حالفا أنهم لو تركوه لدق صلبه (يكسر وسطه)، وهكذا من نحو: «والله لو سبتوني عليه لأخليه كفته»، و«حياة النبي، بس سيبوني وأنا أخلي الدبان الأزرق ما يعرفلوش طريق جرة» إلى آخر هذا الوعيد المرعب المهول.
وفي الحق، لقد اشتد غيظي، وكظ الحنق صدري على هؤلاء الوسطاء المتطفلين، حتى لقد هممت بأن أزجرهم عن تطفلهم، وتعرضهم لحريات الناس على هذا الوجه المقيت، أما الواقع، إذا شئت الحق فإنهم يحولون بصنيعهم بيني وبين متعة تستشرف لها منى النفس كما زعمت لك من زمان بعيد.
على أنه لم يرعني، وأنا أتهيأ لهذا الزجر إلا أن يجهد بالجماعتين كلتيهما ، ويبدو الكلال والإعياء على الجميع، فتطلق إحداهما صاحبها، وتحذو الأخرى حذوها.
وتزاحف القرنان فاشتد خفقان قلبي، وتداركت أنفاسي، حتى سمعت فيها ما يشبه الزحير، وهرولت إلى أقرب جدار فاستعصمت به، ودرت ببصري ألتمس المهرب إذا دنا مني القرنان، أثناء الصيال في الميدان، والكر لإحكام الضرب والطعان، وجمعت كل ما شرد من نفسي لأشهد المعركة الحامية، وأرقب المعمعة الدامية، وهذه فرصة لا شك فيها، فما كنت من قبل جنديا، ولن أكون من بعد لإحدى الصحف مكاتبا حربيا، حتى يتهيأ لي أن أشهد موقعة، أو أخوض معمعة.
Unknown page