لست بحاجة إلى القول بأن مظهر هذه البطولة هو، في جراءة القلب وقوة الساعد، والمهارة في الإصابة، واللياقة في اتقاء الضربة بالعصا أو بالتحرف عن مذهبها، وكل هذا يحتاج إلى كثير من التدريب والتمرين، ولكن الذي يحتاج إلى البيان هو لون خاص من البطولة، وهو الكفاية في احتمال أشد الضرب، وطول الصبر عليه واقعا حيث وقع من أعضاء الجسد، ولهذا النوع من البطولة قيمته وسداده وغناؤه إذا حمي الوطيس، فإن الفتوات ليقدمون هؤلاء الأبطال بين أيديهم ليتلقوا عنهم بأجسامهم أكبر كمية من الضرب، حتى يستطيعوا هم أن يصرفوا أجل همهم لإجالة العصى ذات اليمين وذات الشمال.
وكان علم الأعلام في هذا النوع من البطولة من فتوات السيدة هو خليل بطيخة عليه رحمة الله، فقل أن كان يخرج إلى «الخناقة» وهو يتقلد عصا، ولو تقلدها ما أحسن استعمالها، ولعلها كانت «تلخمه» في ميدان القتال، وإنما سلاحه كله، سلاحه الماضي هو جسمه القوي الصفيق!
ولقد رأيته بعيني وأنا غلام بعد منصرف الناس من الصلاة في جامع عمرو في يوم الجمعة اليتيمة، وقد اجتمع عليه وحده نفر من فتوات الخارطة وأبي السعود، في أيديهم عصيهم الغليظة، وما زالوا يتهاوون بها على جسمه بأشد ما فيهم من قوة وبأس، أما هو فقد دس رأسه في صدره، وأسرع فتكور على الأرض حتى صار أشبه بلقبه «بطيخة»، وجعل يتلوى تلوي الحية، حتى ظن النظارة أنه هالك لا محالة، ثم ما إن أقبل البوليس بعد فترة طويلة، وفر أولئك الفتوات عند مرآه شرقا وغربا، حتى بسط جسمه ووقف في أسرع من رد الطرف، وكأنه لم يكلم كلما، ولم ينله كثير ولا قليل من أسباب الإيجاع والإيلام! ومضى لشأنه وهو يتحدث عن بطولته، وعما يعد للأخذ بالثأر من أولئك الأعداء! •••
وكانت خير الفرص لشب «الخناقات» هي في الأعراس، حيث يحتفل بإقامة «خناقة» في النهار في زفة العروس، وأخرى في الليل في زفة «العريس».
أما معركة النهار فلم يكن خطبها جليلا، إذ لا يخرج لها الزعماء ولا المقدمون، بل يكتفون فيها بتعبئة أوساط الفتوات، فيخرجون إليها ومعهم بعض الغلمان، ويتوارون في زقاق أو منعطف، حتى إذا أقبل موكب العروس بعثوا أولا أولئك الغلمان، وفي يد كل منهم ما تيسر من عصا رفيعة، أو «زعزوعة قصب»، أو قبضة من الحصا، وهؤلاء الغلمة يدعون «جر الشكل»، فيقذفون المركبات بالحصى، ويتعرضون بالعصي لأحراس الموكب، حتى إذا صدهم هؤلاء وضربوهم، برزت الكتيبة من مكمنها وأدارت رحى القتال، بدعوى الثأر لهؤلاء الأطفال.
سيداتي، سادتي
إذا حدثتكم عن المعارك الجلى التي تدور إذا كان الليل في «زفات العرسان» فإنما أحدثكم عما كان يحدث في حي السيدة زينب والأحياء المحيطة به، ولعله صورة مما كان يحدث في سائر الأحياء.
كانت هذه المعارك تدبر من قبل ليلة العرس بأيام، فيعد لها الخصوم عدتهم من جهة، ويتأهب لها أولياء «العريس» وصحبه من جهة أخرى، بل لقد كان هؤلاء في كثير من الأحيان يدعون لها، ويغرون الخصوم بها، ويستدرجونهم إليها، لأن مما يعير به أهل العرس من ذلك الصنف من الناس أن تجوز «زفة عريسهم» الشوارع فلا يتعرض لها أحد بالمكروه، فذلك دليل على تهاونهم واستحقار شأنهم، وإخراجهم في الاعتبار عن أفق الرجال، فضلا عن الأبطال!
وكانت «زفة العريس»، واقعة حيث وقعت داره من آفاق ذلك الحي، لا بد أن تجوز بمسجد السلطان الحنفي والشيخ صالح أبي حديد، وهناك يقع الصدام والطعان، ويتهاوى «الشوم» على رءوس الأقران في هذا الميدان!
ولقد زعمت لكم أن أولياء العرس قد يدعون في كثير من الأحيان إلى العراك، ويستدرجون الخصوم إليه، وأكبر مظهر لهذه الدعوة هو أن يقدموا بين يدي الموكب ما يدعونه «بخاتم سليمان»، وهو عبارة عن قطع خشبية متخالفة أقطارها، بحيث تتخذ الشكل الهندسي الذي يطلق عليه في العرف «خاتم سليمان»، وكلها ثقوب محفورة على مسافات مضبوطة، تثبت فيها كعوب الشمع المضاء، ويحمل كل واحدة من طرفيها رجلان أو فتيان، وفي حمل هذه الخواتم السليمانية معنى التحدي للخصوم ودعوتهم إلى العراك!
Unknown page