تلك اللواتي ليس يعدوها
لخلت من داخل حلقومه
موسوسا يخنق معتوها
وإنه أثناء هذا ليكثر من التسعل والتنحنح، ولا يزال يدور بصوته الأجش المهزوم على فنون النغم لعله يوافق في إحداها بعض الفرج، فيدركك اليأس كله من أن الرجل في ليلته تيك مستور، وكلما زاد صوته علاجا ومطاولة أقبل عليه هذا الصوت بشيء من المواتاة، وأحس منه سامعه بشيء من الانتعاش أشبه بما يحس العليل أحيانا في مرضته الأخيرة، وربما عاوده الانتكاس فعاود هو المراجعة وشدة المطاولة، ولا يزال على هذا حتى يستوي قارئا عاديا لا فضل له ولا امتياز على غيره من جمهرة القراء، حتى إذا أدى قسمه أخلى الميدان لقرنه فجال فيه ما شاء الله أن يجول، وصال على الشيخ ما شاء أن يصول!
فإذا جاءت نوبته الثانية واستوى في مجلس الترتيل، رأيت فيه فتاء وقوة لا عهد لك بهما من قبل، وخرج صوته مرنا واضحا ليس عليه من الصدأ إلا قليل، ويقرأ ثم يقرأ؛ على أنه لا يأخذ في قراءته سمتا واحدا؛ بل ما يبرح يترجح بين فنون النغم؛ ولكن تحيره هذه المرة ليس في التماس النغمة التي تعيذه وتعصمه، بل في التماس تلك التي تضنيه وتتعبه، إذ صوته في أثناء ذلك يقوى ويشتد، ويعلو ويصفو، حتى يصير أوضح من فرند سيف خرج لساعته من الصقال، وينطلق في طلب الصيد من ها هنا ومن ها هنا، ولا يريغ من النغم إلا الأوابد، فإذا أصاب قنيصته راح يلون لها الافتراس ألوانا، ويشكل لها الالتهام أشكالا، فما يدعها إلا «أعظما وجلودا»، وهو أثناء ذلك يقيم الناس ويقعدهم، ويطويهم وينشرهم، ويذيقهم المهول الرائع من الطرب والانبهار، وما شاء الله لا قوة إلا بالله !
وهو رجل جريء جدا في بابه، لم أر من يعدله في جراءته إلا أن يكون الأستاذ الشيخ علي محمود، وصل الله في عمره، فلقد كان الشيخ ندا رحمه الله يكون في أعلى طبقات الصوت إلى الحد الذي يعلق له السامع النفس، ما يظن أن وراءه لصائح مدى، إلا أن تتصدع الحنجرة أو ينفجر الوريد، ثم تتنظر له من جانب السماء نغمة جديدة، فسرعان ما يتجمع لها، فما يزال يمط صوته القوي الجريء إليها، ولقد تراوغه بادئ الرأي، فلا يبرح يتحرف لها متيامنا تارة ومتياسرا أخرى حتى إذا شكها زر حنجرته عليها، فخرجت له، على هذا الجهد كله، نبرة لينة حلوة، لا عسر فيها ولا كلفة، كأنما أصابها وهي تدف
3
على ظهر الأرض لا تحلق في عنان السماء؛ ولقد أبت عليه كرامته في تلك المواقف المهولة أن تزل به قدم، أو ينشز عليه ما أراغ من النغم!
ولو قد هيئ لك أن تسمعه في نوبة ثالثة، فتلك التي لا يتعلق بها وصف واصف، وسبحان الخلاق العظيم! •••
ولقد عاش الشيخ أحمد ندا، على هذا خمسين سنة أو تزيد قليلا أو تنقص قليلا، قضى منها سنين طوالا لا يكاد يستريح من السهر ليلة واحدة، ولقد يسهر الليلة في أسيوط، ويسهر التالية في المحلة الكبرى مثلا، فيجلجل في الثانية كما يصلصل في الأولى، ما ترى على صوته أثرا لضعف ولا انخذال!
Unknown page