236

احتكار الغناء

وبعد، فما حرك هذا السؤال في نفسي ولا أثاره كل هذه الثورة بي إلا ما يروعني هذه السنين من الكثرة الهائلة في عديد من يتكلفون الشعر، والشعر الغنائي على وجه خاص، والكثرة الهائلة في عديد من يتكلفون الغناء للجمهرة، ومن يصطنعون تلحين الأصوات!

وأكبر الظن أن أبناء هذا الجيل لا يستكثرون من ذلك ما أستكثر، ولا يروعهم منه ما يروعني، فلقد شهدنا جيلا قبل هذا كان نظم المقطوعات الغنائية فيه مقصورا على نفر من أعيان البيان أمثال إسماعيل باشا صبري، ومصطفى بك نجيب، ومحمود أفندي واصف، والشيخ الدرويش، وقليل غير هؤلاء، كما كان تلحين الأصوات يكاد يكون كذلك حكرة لعنق من الناس، فلم يكن يعالجه إلا الشيخ المسلوب، ومحمد أفندي عثمان، وعبده أفندي الحامولي، وإبراهيم أفندي القباني، وداود أفندي حسني،

1

فإذا كان وراء هؤلاء من يكابدون التلحين، فهم ولا ريب أقل من القليل.

ولقد عاش المرحومون الشيخ يوسف المنيلاوي، والشيخ محمد الشنتوري، ومحمد أفندي سالم، وعبد الحي أفندي حلمي ما عاشوا، لم يؤثر عن واحد منهم أنه لحن طوال حياته صوتا (دورا) واحدا، إذ كلهم من الأعلام المبرزين بين أصحاب الغناء!

وتعليل هذا ليس مما يحتاج إلى كد الأذهان، فإن هذا الجيل الذي شهدنا أطرافه إنما قام في أعقاب عصر كانت المهن جميعا - وخاصة في أمهات المدن - تقوم فيه على ضرب من ضروب الاحتكار، إذ كان لكل أصحاب مهنة عريف يدعونه «شيخ الطائفة»، فلا يدخل في العادة، أحد فيها يعالج منها ما يعالج أهلها إلا بإقرار هذا «شيخ الطائفة» وإجازته!

ولقد حدثني المرحوم محمد أفندي سالم، وكان من المعمرين، أنه أدرك أياما لم يكن يؤذن فيها لامرئ باعتلاء منصة (تخت) الغناء رئيسا إلا إذا اجتمعت مشيخة أصحاب الفن في حفل جامع، حتى إذا استمعوا لغنائه، وقدروا فيه الكفاية للمهنة، قاموا إليه فحزموه، وقربوا إليه ضغثا من البقدونس فأصاب منه ما شاء! وكان ذلك منهم إجازة له باحتراف المهنة، وأذانا بكفايته لغناء الجماهير! •••

لا أشك في أن هذا الكلام سيأخذ نظر القارئ لأول وهلة، فيبعث فيه الدهش، وقد يثير سخطه واشمئزازه جميعا، فليت شعري، كيف يزم تصرف الناس في أفشى المباحات، ويؤخذ بمخانقهم في أشيع ألوان الحريات بأقسى من هذا وأنكر وأشنع! حتى الغناء! والغناء - لو عرفت - إنما هو أفصح تعبير وأحلاه، عن أدق ما يعتلج في النفس وأخفاه، ولعمري ما كان هذا من شيمة الإنسان وحده، فلقد سبقه إليه الحيوان، وإليه سبقتهما الطبيعة جميعا، هذا القمري يشدو، وهذا الكروان يغرد، وهذا الحمام يسجع، وهذا العصفور يسقسق، بل هذه الطبيعة التي نخليها من الحس والإرادة، وإن لها هي الأخرى لترجمة عن شأنها أي ترجمة، وتعبيرا من الغناء والتصويت أي تعبير، فهذه الرياح تعزف، وهذه الرعود تزمزم وتقصف، وهذه الأمواج تجرجر، وهذا النبات ألا يطربك رفيفه، كلما حركه النسيم فحف حفيفه؟

أكل أولئك له أن يغني كيفما شاء، ويترجم عن ذات نفسه بالترجيع والجلجلة كلما أراد، اللهم إلا الإنسان، فما كان ليؤذن له فيه إلا بإجازة وترخيص؟

Unknown page