هذا إلى أن الذهن، كما أسلفت، قد يعيا بالإحاطة، ويضيق عن انتظام جميع جزئيات الموضوع جملة، وربما تواثب عليه من طوارق الفكر ما يشغله ويفرق شمله، ويكفه عن موالاة التصفح والاسترسال، وخاصة في ساعات القلق واختلاج النفس، وقلة استراحتها إلى الاطمئنان والقرار، أما إذا اجتمع الكاتب للبيان، كان مضطرا إلى أن يجمع شمله ويعتنق نفسه، ويرهف ذهنه ويذكي حسه، ويصل كل الوصل ما بينه وبين فكره، ويقطع كل القطع ما بينه وبين غيره، وتراه كلما اطرد في البيان جليت عليه الصور، وتتابعت المعاني وتلاحقت الفكر، فتيسر له وهي متمثلة بين يديه، أن يمد الذهن لتفقدها، وتقري ما عسى أن يعزب من وجوه الرأي عنها، وتبين ما يأتلف منها وما يتناكر، وما يتوافق وما يتنافر، فهيأ له ذلك التسوية ما شاء من خلق الفكرة، وتجليتها في صورتها الكاملة، بقدر ما يدخل في طوقه ويتسع له ذرعه.
لعله قد بان لك بعد هذا، الوجه فيما زعمت من أن الكاتب قد يعيي عليه الفكر ويستصعب عليه الرأي، فلا يرى بدا من أن يعود بالقلم يسترشده ويستهديه مواقع الصواب!
وإذا كنت قد أطلت في هذه المقدمة، فاعلم أن هذا شأني اليوم في علاج هذا المقال.
سؤال يتطلع إلى جواب
وبعد، فإن سؤالا يترجرج منذ أيام في نفسي، وكلما هممت بالارتصاد للنظر في موضوعه، وإشاعة الذهن في أقطاره، والتماس جواب له تستريح إليه النفس ويطمئن به صحيح المنطق، تطايرت عنه شعب هذا الذهن بما يهجم عليه من طوارق الفكر، أو يغمز من أوجاع المرض، أو بما يزحم المرء من هم يعز عليه في بعض الأحوال، أن يجد له مفيضا ومتنفسا، وإني لأصرف هذا السؤال عني صرفا وأدعه دعا، فلا يني عن مطالعتي من أي أقطار الفكر لأن له مدخله، وما برح كذلك يعتادني لا سلطان لي عليه، ولا طاقة لي بكفه والخلاص من طنينه، ولا أنا - وقد عرفت شأني - بقادر على الاستراحة إليه والاسترسال معه حتى أبلغ به ولو بعض ما يريد!
إذن لم يبق بد من جمع الشمل، وحد الذهن، وكف الطوارق عن النفس، واستكراه الفكر على التجرد في هذا المطلب أو يبدو فيه وجه الرأي، ولا يكون هذا، إذا قدر أن يكون، إلا بانتضاء القلم والتشمير للبيان، فعلى هذا نمضي مجتدين القلم، وأكبر الظن أنه لن يجود بجليل!
أما السؤال المذكور بكل هذا فهو: ترى هل من الخير أن تشاع الفنون في الناس وترسل بين أيديهم كافة، يتناولها منهم من شاء، وينقبض عنها من شاء؟ أو أن الخير في أن تكون حبسا على طائفة خاصة، لا يجوز أن يقتحم عليهم شأنهم فيفري فيها فريهم إلا لمن دلت الدلائل على كفايته وتهيئته للتجويد والإحسان، أو على التعبير العصري: هل الأفضل أن تجري الفنون على سنة «الديمقراطية»، أو أن تكون «أرستقراطية» لا يليها إلا طبقة معينة من الناس؟
لقد يتعاظم بعض القارئين أن ينبعث مثل هذا السؤال في هذا الزمن الذي تنتشر فيه «الديمقراطية» وتتبسط بكل قواها حتى تكاد تضغط آفاق العالم جميعا، لا يسلم عليها ما أقامت الأحقاب الطوال من الحدود، ولا ما رفعت التقاليد العاتية من الحواجز والسدود!
واللهم إن ما يتعاظمني من شأن هؤلاء لأعظم، فما كنت لأشير على الطبيعة برأي، أو أتقدم إليها بأمر، أو أسأل خلقا من الناس أن يكفوها عن غايتها، أو يعدلوا بها عن مذهبها، وأين أنا والناس جميعا من ذاك؟! إنما وجه السؤال إلى المفاضلة بين أن تصنع الطبيعة كيت، أو أن تعدل من نفسها إلى كيت، فالأمر لا يخرج عن أفق التمني على كل حال.
على أن الإنسان مهما يكن ضعيفا بإزاء عتو الطبيعة وشدة سطوتها، فإنه لا يعوزه لطف الاحتيال على التخفف من بعض أذاها، واستخراج الخير من أثناء شرورها، وتوجيهها في بعض مذاهبها إلى ما يجديه ويرفه عنه بقدر غير يسير، فإذا كان موضوع اليوم قد عقد للمفاضلة بين «ديمقراطية» الفنون و«أرستقراطيتها»، فما كانت النية في علاجه متجاوزة هذا المقدار.
Unknown page