سيداتي، سادتي
لعل من الخير أن نستعرض حال الغناء وما اعتراه من ألوان التطور من قبل ثلاثين سنة خلت إلى الآن، وكيفما كانت الحال، فإن الغناء المصري قد صرف جل همه، إن لم يكن صرف همه كله إلى ترديد أحاديث الصبابة والهوى، وشدة البين وطول النوى، وألم الفراق وحرقة الجوى، والهتاف بالمحبوب في حالي إقباله وإعراضه، وجماحه وارتياضه، وإظهار الفرح بجميل لقائه، والشكوى من صده وطول جفائه، ونحو هذا من فنون المعاني التي ما برح الغناء المصري يتصرف فيها إلى الآن، أما العناية بإصابة المعاني السامية التي تتصل بتربية الأخلاق، أو بتزكية الأذواق، أو بوصف الحالات الاجتماعية، أو الإشارة بالوطنيات جملة، فهذه لقد ألقاها الغناء المصري دبر الآذان، إذا استثنينا أنشودة وطنية ضئيلة كان يترنم بها صغار التلاميذ عند منصرفهم آخر النهار من مدارسهم، والتي مطلعها:
مصر النعيم هي الوطن
وهي الحمى وهي السكن
وهي الفريدة في الزمن
فجميع ما فيها حسن
ولست أدري إن كانت أقلام الشعراء أو المتشاعرين أرسلت في ذلكم العصر غير هذه الأنشودة أم لم ترسل؟ وعلى كل حال فما في شيء من مثل هذا جليل غناء!
والآن نمضي إلى استعراض حال الغناء في مصر من قبل ثلاثين سنة خلت، وما دخل عليه من التطورات إلى هذه الغاية، على أن يكون هذا في إيجاز بيان: لقد كان من عادة جماعات المغنين - قل من ينحرف منهم عن هذا - أن يستفتحوا «وصلاتهم» بالموشحة، ثم ينفرد رئيسهم بمناداة الليل والعين، ثم يتناول بعض الموالي فيروح يرجعه، ويطوف به على فنون من النغم، ثم يرده على عقبه ويفضي منه إلى «الدور»، يشترك الجماعة معه في «مذهبه» وينفرد هو بالتغني في «غصنه»، إلا أن يحتاج منهم إلى المعونة في الترجيع والترديد.
ولقد ينشد القصيدة في أعقاب الليل، ولقد يتغنى - وكان هذا نادرا جدا - في المقطوعة التي يتكرر على جميع وحداتها نفس اللحن، وهي المعروفة الآن «بالطقطوقة»، ولا يزال المغنون التقليديون يصنعون هذا كله إلى اليوم.
وإنه ليعز علي أن أنعي، أو إني أكاد أنعي إليكم فنا جليلا من فنون الغناء، ألا وهو الموشحة، ولولا بقية لا تزال تستفتح بالقديم المأثور منها أبواب الغناء، لأدرجت في مطاوي التاريخ، ذلكم النوع الذي يحتاج في تلحينه إلى أبرع البراعة، وأحكم الفن، وأقوى الصنعة، وأين منا ما لحن عثمان
Unknown page