221

ولا شك في أن الآنسة أم كلثوم تعد اليوم من أفخر المغنيات والمغنين، لا بجمال الصوت وحده: بل بسلامة الذوق وجودة الصنعة أيضا، ولا أدري لو لم تقع في أول نشأتها في طريق أستاذها أبي العلا، أو لم يقع هو في طريقها، كيف كان يكون شأنها في الغناء؟

فأبو العلا، رحمه الله، هو باعث فن عبده بتلحينه هذه القصائد والمقطوعات التي تصلصل بها الآن حلوق أكثر المغنين، إلى أنه خدم فني الأدب والغناء جميعا بما لحن كثيرا من متخير الشعر القديم والجديد، على حين لم يلحن أستاذه عبده في هذا الباب غير قصيدة أبي فراس «أراك عصي الدمع شيمتك الصبر»، فإن كان له سواها فما أحسبه بالشيء الكثير.

ولقد مضى صنيع الشيخ أبي العلا سنة درج عليها الأستاذ المفتن المبتدع محمد عبد الوهاب في بدائع أمير الشعراء، وسيدرج عليها غيره في نهضة الأدب الحديثة إن شاء الله!

تذييل عبده الحامولي

في 23 أبريل سنة 1934 نشرت مجلة «الرسالة» للكاتب مقالا طويلا ختمه بحادث شهده بنفسه من عبده الحامولي، ولقد رأينا إثباته في هذا المقام:

لم يكن يتهيأ لفتى حدث مثلي أن يسمع عبده الحامولي في سهولة ويسر، فلقد كان في العادة، لا يغني إلا في بيوت الطبقة «الأرستقراطية»، ودون أبوابها لؤم الحجاب، وعصي الأحراس، فما من سبيل إلا في الغفلة من أعينهم، أو الرشوة في أيديهم، أو في التسلل أعجاز الليل بعد منصرف السادة المدعوين، وعلى بعض هذا أذن الله أن أسمع ملك المغنين بضع عشرة مرة.

وبعد فعبده، وتاريخ عبده، وفن عبده، وصنعة عبده، وبدع عبده، كل أولئك غني عن التعريف والتبيين، ولكنني أبادر فأقرر أن صوت هذا الرجل على جلالته وحلاوته، ووفائه بكل مطالب النغم في جميع الطبقات، لم يكن بالموضع الذي يتمثل لأوهام من لم يسمعوه من أهل هذا الجيل، بل إن من القائمين من لعله يجهره في هذا المعنى من الجمال، ولكن لا يذهب عنك أن من وراء هذا الحس المرهف، والذوق الدقيق، والفن الواسع، والكفاية الكافية، والقدرة القادرة على التصرف في فنون النغم ، في يسر ولباقة وقوة ابتكار، ورعاية لوجوه المقامات المختلفة، والتوفيق إلى كل ما يغمز على الكبد، ألا لقد جمع الله أحسن هذا كله لعبده الحامولي، فلم ينته أحد فيه ممن سمعنا منتهاه، إذا استثنيت صاحبه المرحوم محمد عثمان، على اختلاف بين فني الرجلين غير قليل.

وإني لأذكر أنني سمعته مرة عند مطالع الفجر، وكان ذلك في دار المرحوم السبكي بك في شارع الطرقة الشرقي، ولعله كان قد مسه طائف من الشجا، فكاد يحيل العرس مناحة من كثر ما تبادر لنغمه الشجي من دموع الناس!

أما الحادثة التي أوثرها بالرواية، فلقد كانت في دار رجل من خئولتنا أولم لتزويج ابنه، وداره تقع في حي الناصرية، وكان صديقا حميما للمرحومين عبده أفندي الحامولي، والشيخ يوسف المنيلاوي، وكان أثيرا عندهما كريم المحل منهما، وقد دعاهما كليهما ليغنيا معا في عرس ابنه، فلبيا الدعوة خفيفين.

وأنت بعد خبير بأن «أفراح» أولاد البلد لا يحجب عنها الناس، ولا يدفعهم من دونها شرط ولا أحراس، وكذلك اكتظ السرادق بالمئات، إن لم أقل بالآلاف من أصناف خلق الله.

Unknown page