212

ثم جاء العلامة الخطيب القزويني محمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة (739)، فضغط ما استخرج السكاكي ضغطا شديدا، وعصره عصرا «بليغا»، حتى أصبح ما يطالعك من قواعد كتابه أشبه بالأحكام العسكرية في شدة السطوة والجفاء!

وعلى كل حال فإنه على قدر ما تم لعلوم البلاغة - بمختصر الخطيب القزويني - من التحرير والضبط والدقة في تجلية الأحكام والقواعد، وشدة التحري في إيراد الأمثلة والشواهد، فلقد ذهب من الجهة التعليمية رواؤها، وجف ماؤها، واقتصر خطابها على العقل والحافظة، وكانت من قبل تخاطب الإحساس والأذواق!

وإذا كانت علوم البلاغة «الرسمية» قد ختمت بمختصر الخطيب القزويني، فتكون قد استهلكت من أول تنشيئها إلى غاية نضجها وإدراكها أربعة قرون سويا.

ولا شك أن من الكتب التي استغرقت جليلا من هم الدراسين والباحثين والشارحين والمعلقين هو هذا الكتاب، فلقد شرحه وعلق عليه من لا يحصون من العلماء كثرة، وأهم شروحه وأعظمها كان استدراجا لعناية أصحاب التحقيق هو المختصر لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني المتوفى سنة (792)، والمطول له كذلك، وأشهر الحواشي على هذا المطول وأشيعها بين أهل العلم تداولا، حاشية السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة (816)، وشرحا السعد وحاشية الجرجاني لقد كانت من عهد بعيد هي المادة العظمى لتروية علوم البلاغة لمتقدمي الطلاب في الأزهر الشريف.

فوق التعقيد الشديد في عبارات هذه الكتب، أيها السادة، والمبالغة في إيهامها وإغماضها، فإن ملاك البحث فيها إنما هو الجدل اللفظي، والاعتساف في بحوث فلسفية لا غناء لها في صنعة البيان، بل إنني لأزعم أنه لو كان هناك من يريد التخلص من فصاحة اللسان ونصاحة البيان، فليس عليه أكثر من أن يدرس هذه الكتب حق درسها، ويديم النظر فيها، ويقلب في عباراتها لسانه وفكره، ليكون له كل ما يحب إن شاء الله!

لتكن هذه الكتب مما يفسح في الملكات العامة، ويطبع الطالب على الصبر على البحث والتحقيق، ويعوده ألا يسيغ قصية من القضايا إلا بعد أن يحككها بألوان الاختبار والامتحان - ليكن لها كل هذا، وليكن لها غير هذا أيضا - ولكنها لا يمكن أن تلقن علوم البلاغة على أي حال، فضلا عن أن تذيق الطالب البلاغة نفسها، أو تريحه ريحها، اللهم إلا أن تكون بلاغة من طراز:

دع كوم زمران كي تنجو من العلل

وتستريح أخي من كثرة الزلل!

البلاغة فن

سيداتي، سادتي

Unknown page