209

أما أن البيان كان أسبق الفنون الثلاثة إلى التدوين، فذلك أن الإمام اللغوي الجليل القدر أبا عبيدة المتوفى سنة (209) قد وضع رسالة في البحث عن «المجاز في غريب القرآن»، ولا شك في أن غرضه إنما كان دينيا محضا، فإن تبين الحقيقة من المجاز مما تتأثر به الضرورة أحكام الشرع الكريم، فإذا صح أن تقصي هذه المجازات تقصيا جزئيا دون العناية بنظمها في قواعد كلية تستخرج منها الأحكام العامة - إذا صح أن يدعى هذا تدوينا في علم البيان - فلا نزاع في أن رسالة أبي عبيدة هذه هي أول ما دون لا في علم البيان فحسب، بل في علوم البلاغة على الإطلاق.

بعد هذا نعود إلى جعفر بن يحيى والجاحظ، أما جعفر فلم يسقط إلينا مما كتب في هذا الباب كثير ولا قليل، وأما الجاحظ المتوفى سنة (255) فلقد جرى قلمه في كتابه «البيان والتبيين» أكثر ما جرى بأسباب بتراء، وإرشادات عامة لمن يتصدون لنسج الكلام، ونقول في تعاريف البلاغة عن الأقوام الآخرين، على أنه قد يقع اجتهاده في بعض ما يكتب على أمور يعتبرها العلماء المدونون بعد ذلك - إما بنصها أو بعد تهذيبها وتسويتها - من قواعد علوم البلاغة التي لا يطوف بها ريب ولا يلحقها نزاع.

يقول الجاحظ مثلا: ... ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض استكراه، فمن ذلك قول الشاعر:

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

ولا شك أنه بهذا يعد واضع شرط من شروط الفصاحة، وهو السلامة من تنافر الكلمات، وقد استشهد مدونو البلاغة على هذا الضرب من التنافر بالبيت نفسه.

ويقول في مقام آخر: «... عن الحسن يرفعه، أن المهاجرين قالوا يا رسول الله: إن الأنصار فضلونا بأنهم آووا ونصروا وفعلوا وفعلوا قال النبي

صلى الله عليه وسلم : «أتعرفون ذاك لهم؟» قالوا: نعم، قال: «فإن ذاك»، يريد أن ذاك شكر ومكافأة».

وهذا أيضا من بلاغة الإيجاز بالحذف.

وهنالك أمثلة يسيرة أخرى مما نضح به قلم الجاحظ صادرا فيها عن اجتهاده أو ناقلا عن غيره، وكل ذلك لا غناء فيه إذ نحن تحدثنا في شأن علوم البلاغة عن التدوين والتصنيف. •••

Unknown page