158

وأسرف الشيخ علي في قرض الشعر، فمدح ورثى، وتغزل «بالطبع» وهجا، حتى اتسق له من هذا النظم ما جمعه بعد في ديوان كامل، وبهذا أصبح مجاورا ممتازا وإن حق عليه القول، وتراءى له شبح الهول!

إذن أصبح الشيخ مجاورا ممتازا بين المجاورين بالأدب، أو إن شئت قلت: لقد أدركته من الناحية الأزهرية حرفة الأدب.

ولقد دعاه هذا إلى الاختلاف إلى مجالس الأدباء، ومساهرتهم ومسامرتهم والتروي عنهم، ثم إلى غشيان دور بعض العلية ممن كانوا يجلسون لأهل العلم والفضل والأدب، فيتحاضرون ويتذاكرون، وأقبل الشيخ على هذا الشأن بقدر ما أدبر عن الكد في دروس الأزهر، ثم جعل يرسل المقالات المنثورة في الصحف والمجلات التي كانت قائمة في ذلك الوقت، وكان يكتب أول الأمر على طراز الكاتبين في عصره: مقدمات طويلة تمهد بين يدي كل موضوع ولو لم تدع إليها حاجة الكلام، واحتفال للمحسنات البديعية تستكره استكراها، ولو استهلكت الغرض المطلوب!

على أن من حسن حظ الشيخ علي أنه ابتدأ في معالجة الكتابة في الوقت الذي انبعثت فيه تلك النهضة البيانية الفاخرة، تلك النهضة التي نفخ في ضرامها بالإرشاد والتنبيه السيد جمال الدين الأفغاني، وبالفعل من الإنشاء والتعليم والتأليف الشيخ حسين المرصفي، وللشيخ علي طبيعة، وفيه فطنة قوية، فجعل يدرب قلمه ويروضه على إرسال البيان سهلا جزلا خاليا من الاعتساف، متطلقا من تكاليف البديع.

وفي هذا المقام يجدر بي أن أنبه إلى شيء جدير بالانتباه: ذلك أن حسن البيان وجودة المقال لا ترجع في جميع الأحوال إلى تمكن الكاتب من ناصية اللغة، وتفقهه في أساليبها، وبصره بمواقع اللفظ منها، واستظهاره لصدر صالح من بلاغات بلغائها، إلى حسن ذوق ورهافة حس، بحيث يتهيأ له أن يصوغ فكرته أنور صياغة، ويصورها أبدع تصوير، بل إن ذلك ليرجع في بعض الأحوال، وهي أحوال نادرة جدا، إلى شدة نفس الكاتب وقوة روحه، فقد لا يكون الرجل وافر المحصول من متن اللغة، ولا هو على حظ كبير من استظهار عيون الكلام، ولا هو بالمعني بتقصي منازع البلاغات، ومع هذا لقد يرتفع بالبيان إلى ما تتقطع دونه علائق الأقلام، ذلك لأن شدة نفسه، وجبروت فكرته، تأبى إلا أن تسطو بالكلام فتنتزع البيان انتزاعا، ولعل في بيان السيد جمال الدين الأفغاني، وهو غريب عن العربية، وقاسم بك أمين وهو شبه غريب عنها، أبين مثال على هذا الذي نقول، ولقد يعجب القارئ أشد العجب إذا زعمت له أن المرحوم حسين رشدي باشا، وكان رجلا قل أن تطرد على لسانه ثلاث كلمات عربية متواليات، لقد كان أحيانا يرتفع بالعبارة إلى ما يتخاذل من دونه جهد أعيان البيان!

والآن أستطيع أن أزعم أن الشيخ علي يوسف - على أنه تعلم في الأزهر، وقرأ طرفا من كتب الأدب، واستظهر صدرا من مظاهر البلاغة في منظوم العربية ومنثورها - لم يكن مدينا في بيانه لشيء من هذا، بقدر ما كان مدينا لشدة روحه وسطوة نفسه، وإنك لتقرأ له المقال يخلبك ويروعك، وتشعر أن أحدا لم ينته في البيان منتهاه، ثم تقبل على صيغه تفتشها وتفرها، فلا تكاد تقع على شيء من هذا النظم الذي يتكلفه صدور الكتاب، وبهذا أنشأ الرجل لنفسه أسلوبا، أو على الصحيح لقد خط قلمه القوي نهجا من البلاغة غير ما تعاهد عليه الناس من منازع البلاغات.

ولندع الآن بيان الشيخ علي وأثره، فلذلك موضع آخر من هذا الحديث، ونعود إلى تاريخ الرجل فنقول: إنه ما كان يستوي له ذلك القدر من الأدب حتى أنشأ مجلة دعاها «الآداب»، وهي وإن لم تكن شيئا يذكر بالقياس إلى المجلات الأدبية القائمة الآن، لقد كانت شيئا مذكورا بالقياس إلى المجلات التي كانت قائمة في ذلك العهد، وخاصة بعد إذ عفى الزمن على مجلة «روضة المدارس» التي كان يقوم على تحريرها وإجالة الأقلام بروائع البيان فيها صدور العلماء والشعراء والكتاب.

المؤيد

وإذا قلت «المؤيد» قلت شطر من تاريخ مصر محتفل بالأحداث العظام راع أهل الرأي في مصر أن ليس لهذه الأمة - أعني للمسلمين وهم كثرتها الكثيرة - صحيفة تتحدث عنها وتدلي بحاجاتها، وتترجم عن أمانيها، وتذود عن حقوقها وكرامتها، وإن أمة ليس لها في هذا الزمان صحيفة، لهي أمة لا تحس لنفسها وجودا، ولقد قوي الشعور بشدة الحاجة إلى صحيفة وطنية إسلامية بعد إذ صدر المقطم صحيفة تظاهر الاحتلال الإنجليزي، وتروج للسياسة الإنجليزية في هذه البلاد، وتدفع في صدر الأماني القومية ما اعترضت تلك السياسة في يوم من الأيام، وهنا يتقدم الشيخ علي مع صاحب له يدعى الشيخ أحمد ماضي، فينشئان جريدة «المؤيد» يومية سياسية وطنية إسلامية، ثم لا يلبث الشريكان أن يختلفا، ولا يخرج أحدهما عن الشركة إلا على مال، والمال في يد الشيخ علي أقل من القليل، وهنا تحركت أريحية بعض كبار المصريين، فأدوا المال عن الشيخ إلى صاحبه، وهكذا خلص المؤيد للشيخ علي يوسف، وكان للمرحوم سعد باشا زغلول في هذا سعي مشكور.

وأذكر أنه لما أتى رحمه الله بمطبعة جديدة من طراز «الروتاتيف» وعقد لذلك حفلا جامعا في إدارة «المؤيد»، خطب في الجمع فأتى في سيرة المؤيد على هذه الحادثة، ونوه بفضل سعد بك زغلول «المستشار بمحكمة الاستئناف» الذي أبى أن يسمع هذه الخطبة إلا واقفا.

Unknown page