Mukhayyalat Khandaris
مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
Genres
سلوى عبد الله زاندي
الموت نشوة
لم تعد علاقتي به ذات جدوى، أنا لا أفكر بطريقة مادية أو براجماتية. لقد أحببت بإخلاص، أظن أنه كان وما زال مخلصا في حبه لي، لكني الآن على مشارف الثلاثين من عمري، أريد أن أتزوج. في الحقيقة - بصورة أدق - أريد أن يكون لي طفل، أظن أن ذلك هدف نبيل وإنساني في مجتمع يدعي المحافظة والتمسح بقيم فوق ما نستطيع. مجتمع يقدس المظهر ولا يهمه جوهر الأشياء في شيء. في هذا السياق الذي هو واقع الحال لا يمكنني أن أنجب طفلا بغير أب؛ لأن تلك جريمة في حق الطفل وحتى الأب وحقي. فالتربية الجيدة للطفل تبدأ من قبل ميلاده، ويجب أن يلاحظ أيضا أنني لا أريد أي أب كما اتفق، أريد أن أنجب طفلا من رجل أحبه، عندما أقول: رجل أحبه، لا أعني غيره هو بالذات.
الأمر ليس بهذه البساطة. فكرت كثيرا فيما إذا كنت أحبه من أجل الطفل؛ أقصد من أجل تصوري الخاص للطفل الذي هو إنسان الغد. يعجبني أسلوبه في الحياة، على الرغم من أن هذه الجملة عامة، قد لا تعني شيئا بالذات إلا أنها تعني الكثير بالنسبة لي، أو أنني أتوهم أنها كذلك. علمني حب الأطفال، كان يقول لي دائما: إن الرجل مثل ذكر النحل لا فائدة منه ترجى إذا لم يستطع أن يضع أطفالا أقوياء في رحم سيدة، وإذا فعل ذلك فلا فائدة منه بعدها! عليه الرحيل. والمرأة الذكية هي التي لا تحتفظ بالرجل؛ لأنه سوف يسعى لنيل مكانة في الأسرة لا يستحقها في الغالب. يريد أن يصبح سيدا، ملكا وربا. كان الأحق بهذه المكانة الأطفال. هذه الفكرة رغم بدائيتها في عمقها تحمل كثيرا من الدجل والاحتيال العاطفي، يهدف من ورائها بوضوح - هذا الوضوح أحبه فيه أكثر - أن يهبني طفلا دون أي روابط شرعية؛ أي بغير ذلك الطقس الاجتماعي البغيض لدينا - نحن الاثنين - الذي لا مستقبل لأطفال في هذا المكان دونه. علمني حب الأطفال. علمني كيف أحب الأطفال، كل الأطفال في ذات اللحظة التي حرمني منهم فيها. كنا نراهم يوميا، يعومون في دفء سائلنا الأبيض الحميم، لهم طعم لاذع. كنا نراهم في المنازل، في الطرقات، المدارس، الأندية. ومن ثم ارتبط عملي بهم؛ فأنا أعمل في دار رعاية للمتشردين من الأطفال، أو باسم ألطف «الأطفال فاقدي الرعاية الأسرية». هي دار لمنظمة مجتمع مدني تطوعية. نقوم بتوفير الحد الأدنى لهم من متطلبات الحياة: إفطار بالفول المصري أو العدس، ماء للاستحمام، النظافة الشخصية وغسيل الملابس المتهرئة القديمة الممزقة، التي لا تتحمل الغسيل في الغالب، فتتمزق أكثر. نقدم لهم أيضا خدمات طبية عند الطلب. لكننا في الحقيقة لا نقدم لهم شيئا مهما، فقط نبقي على الوضع كما هو. العمل الفردي أو في جزر بدون تخطيط اجتماعي حكومي للمدى الطويل والقصير لا فائدة ترجى منه، ويظل كل ما نقدمه مجرد إبقاء على الوضع كما هو، بل تعقيده أكثر؛ وذلك لشح الإمكانات وقلة المحسنين الذين يقتنعون بأن رعاية المتشردين بها أجر أو ثواب في الحياة الأخرى، أو تشبع حاجاتهم الآنية من المساهمة في دعم الخير الإنساني والمشاركة في استمرارية الحياة بألم أقل. مقابل الفكرة الأخرى، التي ترى في المتشردين الشر في اكتماله وكامل شيطانيته. بل يحس البعض بأن المتشرد مخلوق أدنى بكثير، ليس اجتماعيا فحسب بل إنسانيا أيضا. كنا نحبهم ونحب بعضنا، كنت أحبه بغير شروط. نعم، أخذت الشروط تنمو قليلا قليلا مثل الطحلب فوق سطح حجر على ضفة النهر. عندما تحب المرأة فإنها تفكر بطريقة لا تشبه التي ورطتها في الحب، فإنها تفكر في الأطفال، البيت والزوج. وهذا طبيعي، لكنه قد يعيق فكرة الحب التي تنهض على سلطة الجسد: رغائبه واختياره داخل دوامة الانتخاب الطبيعي.
كنت أقتنع بكثير من آرائه. القليل منها يستهويني، الآخر أتحمله بفريضة المحبة. وهو يفعل كذلك تجاه أفكاري الشاذة أيضا، وترددي المتكرر. لكل منا ما يخصه من جنون وخير، لكن يبقى الحب القاسم المشترك، وهو ما يبقينا على صلة. وهذا التحليل مضلل أيضا؛ لأننا لسنا دائما على ما يرام ولسنا دائما في حالات حب، قد يقع خصام بيننا يدوم لأيام طويلة، قد أكرهه، وتمر بي أيام قد أقع في حب شخص آخر، وحدث ذلك مرتين خلال فترة علاقتي به، وهي الآن في عامها الرابع. إذن، ليس الحب هو الذي يبقينا معا، إنهم الأطفال! هذا ما توصلت إليه أخيرا. الأطفال الذين تستحيل عملية إنجابهم وتتعقد كلما مضى يوم من حياتي بدون أن يكون ذلك الشيء قد تخلق في رحمي.
كنا نمر سريعا أمام مستشفى أم درمان التعليمي. في اتجاه قبة الإمام المهدي. الجو كما هو في مايو حار جدا. كنا مرحين وقريبين من بعضنا البعض على الرغم من الحزن الذي يغمر قلبينا، لولا خوفنا من الشرطيين، وخشيتنا من أن يرانا أحد أفراد النظام العام المتنكرين في هيئة مدنيين، لتلامسنا بأيدينا بل لأمسكنا بكفينا معا ونحن نسير في هذا الطريق الفسيح. كانت دائما ما تغمرنا تلك النشوة الإنسانية الجميلة كلما اختلينا ببعضنا في مكان آمن، نستطيع فيه أن نتعرى، نقبل بعضنا ونصلي صلاة الجسد. لقد فعلنا ذلك قبل ساعتين في بيت الخليفة عبد الله التعايشي تحت رعاية وحماية بعض الرسميين. هو أكثر الأمكنة أمانا لدينا نرتاده عندما نشتاق لبعضنا البعض، حتى ولو كنا متشاجرين؛ لأن الجسد لا علاقة له بالخصومة، إذا وقعت فإنه يصلحها. اكتشفنا ذلك المكان بالصدفة البحتة، أقصد الغرفة السرية التي تقع تحت غرفة الخليفة مباشرة. بوابتها تفتح في الحمام المهجور ، لا ندري في ماذا كان يستخدمها الخليفة، هل كان يخاف أن يتآمر عليه البعض وهو نائم؛ لذا كان ينتقل لهذه الغرفة الآمنة ليلا لينام بدون كوابيس؟ أم أنها كانت سجنا سريا أو بيت أشباح يستضيف فيه الخليفة وأخوه يعقوب جراب الرأي بعض المارقين الكفرة من جدودنا المشاكسين؟ لقد زعمنا حين اكتشافها أن إدارة السياحة نفسها قد لا تعلم عنها شيئا. قمنا بمرور الأيام بفرشها بمفارش من الخيش وملاءات كنا نهربها إلى هنالك كلما سنحت لنا فرصة لحملها في حقيبة اليد. قد شردنا القطط المسكينة، التي كانت تظن نفسها سيدة المكان الوحيدة، آخذة ذلك الحق من كونها أول من اكتشفه؛ أي بوضع اليد. كنا نسمي الغرفة: بيت جدنا التعايشي، وهو مؤسس الدولة السودانية الحديثة، بالتالي الأب الشرعي لعلاقتنا المربكة والراعي التاريخي لها. حيينا الحرس. كانوا يعرفوننا لكثرة ترددنا إلى البيت مدعين بأننا نقوم بدراسة أكاديمية عن بيت الخليفة، لكننا لم ندخل مرة أخرى، بل عبرناه إلى الحديقة الصغيرة التي تقع في مثلث تحيط بها طرقات الأسفلت. كانت الحديقة مزدهرة في يوم ما، لكنها أصبحت الآن بفعل الإهمال ما يشبه المزبلة، ولو أن الغرف التي استخدمت في الماضي كبوفيه ما زالت قائمة.
كانت دكتورة مريم في انتظارنا ترتجف قلقا، تسيل الدموع من عينيها الطيبتين الواسعتين. أعطاها عبد الباقي القارورة البلاستيكية، فتحتها بيد مرتعشة. مضينا خلفها إلى الحجرة الخلفية حيث تخفى الأطفال. كانوا يموتون ببطء شديد، يتلوون من آلام مبرحة في بطونهم، قد تقيئوا كل شيء، يشتكون من صداع يجعلهم يصرخون في ألم آلمنا نحن أيضا. سقتهم بترتيب بدا لنا عشوائيا، لكنها بكلمات متقطعة قالت: إنها تفعل ذلك وفقا للمرحلة المرضية التي فيها كل طفل. والغريب في الأمر كان الأطفال يتحسنون بصورة سريعة! أو هكذا بدا لنا. وبعد نصف ساعة تكلم اثنان وبقي اثنان في حالة احتضار. بعد ساعة مات واحد وتحدث الآخر. كنا قد قمنا بتهريبهم من أحد الشوارع الطرفية حيث كانوا يقيمون بصورة دائمة في مصرف للمياه. وهو مكان مكشوف بالنسبة للفرقة ؛ حيث إنهم يستطيعون الوصول إليهم بسهولة ويسر، وما يعده الأطفال مخبأ يراه الجماعة قلب المصيدة. أصيب الثلاثة بالعشى. وتوقعت دكتورة مريم أنهم سوف لا ينجون من العمى إذا نجوا من الموت؛ لأن مادة الميثانول التي أسرفوا في شربها خلال الساعات العشر الماضية، تقوم بتدمير شبكية العين. طبعا هذا بالإضافة إلى تدمير كثير من الأنسجة الحساسة بالأحشاء، مثل: الكبد والبنكرياس وغيرهما. سقيناهم كل العرق الذي استطعنا أن نحصل عليه بما لدينا من نقود قليلة. بعض بائعات العرق الكريمات عندما عرفن أننا نحتاجه لإنقاذ أطفال مهددين بالموت أعطيننا من لدنهن وسعهن، ودعين من قلوبهن الجميلة النقية السوداء لهم بالشفاء ولنا التوفيق.
أنا - عبد الباقي ودكتورة مريم - نمثل فريقا واحدا من عدة فرق أخرى تقوم بالمهمة ذاتها في الخرطوم بحري وأم درمان. الهدف الرئيسي هو الوصول للأطفال المصابين قبل أن تصلهم الفرقة، وليس الوصول إليهم فحسب بل إخفاؤهم؛ لأنهم في حالة خطر دائمة وسيصبح مصيرنا مثل مصير أصدقائنا في فريق آخر تم القبض عليهم وجلدوا بحد حامل الخمر، وغرموا ولعنوا ثم أبقوا تحت الإقامة الجبرية بمنازلهم. وأصبح العمل أكثر تعقيدا، خاصة بعد أن أفتى مسلم طيب حريص على الدين أن العلاج بالعرق والأثينول حرام قطعا، وأن الأفضل لهؤلاء الصبية الموت؛ لأنهم إذا ماتوا سيموتون شهداء ويدخلون الجنة مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا. خير لهم من أن يحيوا ويعيشوا مجرمين ثم يموتوا بسوء الخاتمة: اللهم احفظنا واحفظ المسلمين، آمين يا رب العالمين. كنا نشعر أن واجبنا الإنساني يحتم علينا إنقاذ ما يمكن إنقاذه بأي أسلوب كان. ونشك بعمق في أن الفقيه المفتي طيب الذكر قادر على ضمانة دخوله هو نفسه وبعض عشيرته الأقربين إلى الجنة، دعك من ترشيح الآخرين لها. أو كما أفتى لنا أحد الأصدقاء، وهو يرمي في وجهنا أرقاما مجنونة عن أن السودان هو من أكبر المصادر للميثانول والأثينول، وهما من فصيلة الكحول، واللذين يستخدمهما الغرب بعد تنقيتهما لصنع ألذ أنواع الخمور المحرمة هنا في السودان. ولا تفوقه في ذلك غير دولة البرازيل؛ حيث إنها تمتلك أكبر مخازن الميثانول في العالم. وإذا كان هذا المفتي تقيا بما يكفي ولا يخشى لعنة رأس المال الإسلامي بالسودان، التي سوف تصيبه في مقتل؛ لتطرق ولو بحرف واحد لتقطير الكحول في مصنع السكر العملاق. وكأنما سمعه مفت أكثر ذكاء، وأكثر منه مالا؛ حيث إنه قال بالحرف الواحد: لا حرمة في إنتاج وبيع الميثانول والأثينول، فالبلح والعنب حلالان طيبان، وهما مصدران للنبيذ الخبيث وهو محرم. فالعبرة في الاستخدام وليس في إنتاج المادة ذاتها، وإلا حرمنا البطاطس والسكر والذرة بجميع أنواعها، بل كثيرا ما أحل الله لنا من نعم الدنيا والعياذ بالله من غضب الله! أتحرمون ما أحل الله؟!
إلى اليوم 20 / 7 / 2011 تم التأكد من موت ستة وسبعين متشردا وفقا للصحافة، وذلك في غضون أربعة وعشرين ساعة منذ أن اكتشف أول حالة، واتضح من خلال المؤتمر الصحفي الذي أقامته جريدة السودان في اليوم نفسه أن وزير الرعاية الإنسانية قد فوجئ هو نفسه بالأمر وبدا عليه الحزن العميق، ووصف الأمر بالمأساة. ربما كان مشغولا بالإعداد لزيارته الأخيرة للبرازيل. أما مسئول الشرطة فقد نفى نفيا قاطعا أن هنالك جهة حكومية وراء اغتيال المتشردين. إنه يحتفظ الآن بعشرة من المدنيين المشتبه في تورطهم في القضية، لكنه يؤكد أيضا أن الأمر غير منظم وغير مقصود. اندهشنا جميعا لآرائه القاطعة قبل انتهاء التحقيق. همست دكتورة مريم في أذني قائلة: إذا أردنا معرفة الرقم السليم للمقتولين فعلينا دائما أن نضرب رقم الصحافة في ثلاثة على الأقل.
قلت لها وبقلبي حسرة: هذا متفق عليه، للأسف.
Unknown page