Mukhayyalat Khandaris
مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
Genres
ذات مرة، كنت أنا وهو وبنتي الصغرى مريم - عمرها في ذلك الوقت 13 عاما - نتجول في السوق العربي، كانت مريم تريد أن تشتري حذاء لا أظن أنهم فكروا في صناعته بعد! ظللنا نبحث عنه طوال النهار، بدءا من شارع محمد نجيب انتهاء بالسوق العربي؛ فأرهقنا المشي، جلسنا باقتراح منه في مقهى «أتنى»، هو مقهى من مخلفات عصور الجمال والحريات في السودان، الآن ليست به سوى ذكريات حقب الستينيات والسبعينيات؛ أي ما قبل أن يفكر النميري في حور وخندريس الجنان الحلال. يحتفي به المثقفون بأن يلتقوا فيه أو بالقرب منه، قد يحتسون الأثينول والعرق البلدي. يعشقون أيضا على ذكرى العصور الغابرات، عصور لم يعشها معظمهم، لكنهم سمعوا بها وشاهدوا آثارها، مثل تلك الآلة الحاسبة الميكانيكية العجوز التي كل ما تبقى في مقهى أتنى من تلك الأزمنة، وهي ما زالت تعمل. ابنتي مريم لا تحب تلك الأمكنة، كما أنني لا أدري بالضبط ما تحب. كعادته، إما أن يغني أو يجادلني في الثورة التي يؤمن أنها قائمة لا محالة: ليست مثل أكتوبر أو أبريل، بل ثورة لا يمكن سرقتها؛ لأننا سنحميها بالسلاح، ثورة الشعب المسلح يا صديقي! أثناء حديثه كان يرتجل خلفية موسيقية رقيقة.
قلت له: أنا أفضل أن أسمع الغناء، الغناء الذي أختاره أنا، لكن ابنتي أصرت على الغناء الذي يختاره هو. قد ظهر لي جليا أنها من أشد المؤمنين به، تماما مثل سلوى حبيبتي وصديقاتها، بل الكثير من الشباب والشابات، أعرف أيضا بعض العجائز الذين يحبونه وهم كثر. ولأنه فنان مشهور، خاصة بين المثقفين؛ تحول المقهى في لحظات إلى بيت عرس، عرس الثورة المرتقبة. غنى لنا أغنيته المرعبة، التي لا أحبها أنا مطلقا: بكرة أحلى.
كانت تلك هي آخر مرة أراه فيها، أو يراه فيها أحد أصدقائه أو المعجبين والمؤمنين به، لقد ذاب في الحياة مثل ذرة ملح في البحر. أعرف أنني لم أطل كثيرا، وأتمنى أن تستمتعوا بالفصل الأخير من رواية «ذاكرة الخندريس»، إذا كنتم قد استمتعتم بالفصول السابقة! أريد أن أذكركم بشيء أخير، وهو أنني أمارس حقي الطبيعي في الثرثرة.
عودة البازنجر
سريعا ما ظهرت على الطفلين علامات الراحة؛ صارت بشرتهما ناعمة، نما على رأسيهما شعر نظيف ناعم خال من القمل والبراغيث. أصبحا يكسبان يوميا وزنا إضافيا. هذا هو الشهر الثاني لهما بمنزلنا ... لا أكثر. تعلما كيف يستخدمان المرحاض، وافتتنا بمشاهدة القنوات الفضائية، خاصة اسبيس توون، إم بي سي ثري، واسبيس بور. بل أصبحت لهما أفلامهما ومسلسلاتهما المفضلة. تحسنت لغتهما، تجدهما عندما يتشاجران يستخدمان لغة مثل: احذر أيها الغبي! بدلا من: هيييي أوع.
وأصبحا يدعوان أمي بلفظة «ماما»، بدلا من «الجلكا».
الغريب في الأمر اكتشفنا مؤخرا أنهما توءم؛ نتيجة لمعايشتنا لهما اليومية وملاحظة نظام نمو الأسنان والسلوك الذي يكاد أن يكون متطابقا. كما أن دكتورة مريم أخذتهما لاختصاصي أطفال، أكد لها ذلك. هو أمر كان دائما موضع شك لدي، كنت قد أحسست أنهما توءمان منذ اللحظة الأولى التي رأيتهما فيها. لكن إصرار الفكي على عكس ذلك جعلني أتجاهل الموضوع.
لكن أجمل المفاجآت، وأكثرها إرباكا عندما قررت أمي وحبيبها وليد الجندي ذلك الروائي الغريب، الزواج. كان هذا حدثا عجيبا وجميلا في الوقت نفسه. كنت دائما ما أفكر في سعادة أمي، فقدها المبكر لزوجها، صبرها الطويل علي، ونوباتها النفسية المتكررة التي كانت بقدر كبير نتيجة لفقدها والدي وحياة العزوبية الروتينية التي تعيشها. لا شيء غير الزوج يحل محل الزوج ... كل الحذلقة الاجتماعية وطبيبات الأسرة لا تقنع امرأة عرفت متعة جسد الآخر، بأن تستعيض عنه بالطقوس الاجتماعية وثرثرة الأهل والجيران. فالجسد يحن إلى جسد لا إلى لغة. قالت لي: كل ما يعيبه كان شيئا واحدا - حدثتني أمي بخجل - إنه يتعاطى الكحول، ليس كثيرا، لكنه يشرب العرق كل يوم، أليست هذه مشكلة كبيرة؟ ألا يفتت ذلك كبده، إذا لم يكن قد تفتت أصلا؟
طمأنتها بأنها تستطيع أن تجعله يقلل من تعاطيه أو يتركه للأبد، حسب مجهودها معه، طالما لم يكن مدمنا، فيمكن تدارك الأمر ... - لكن المشكلة الأخرى - إيه المشكلة الأخرى يا أمي؟
يصر على أن تنتقل أمي معه إلى بيته، هي لا ترغب في أن تتركني أعيش وحدي في هذا البيت. - ح ترحلي معاي؟
Unknown page