Mukhayyalat Khandaris
مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
Genres
تقع الحديقة قريبا جدا من مسرح البقعة، جنوب بيت الخليفة التعايشي، شرق سجن الخليفة، في الطريق إلى مستشفى الدايات، تحتل الحديقة المهجورة هذا المثلث الصغير. كان علينا أن نهرب في اتجاه بيت الخليفة، هذا هو الحل الوحيد. اقترحت دكتورة مريم أن نقوم بزيارة البيت، سوف لا يشك فينا أحد. تبادلت النظرات مع عبد الباقي، ابتسمنا لبعضنا ونحن نسرع الخطا نحو البوابة القديمة الأثرية، التي تحرسها جماعة من الرسميين. قمنا بزيارتنا الثانية للبيت في اليوم نفسه. اندهشت دكتورة مريم عندما شاهدت الحفاوة التي استقبلنا بها الرسميون. في الحقيقة كانت هذه الحفاوة الدافئة نتاج علاقة قديمة مستمرة سوف لا تخطر ببال صديقتنا الدكتورة. خاطبونا بالأساتذة ولم يأخذوا منا رسوم الزيارة المعتادة. كانوا يحسون من أعماقهم بأنهم يجب أن يقدموا لنا المساعدة المرجوة؛ لربما تكرمنا بذكر أسمائهم في البحث الذي نقوم بإعداده أنا وعبد الباقي عن بيت الخليفة، ذلك المشروع الوهمي الذي سوف لن ينجز أبدا!
جلسنا عند الفسحة أمام العربات التاريخية المهلهلة المهملة المغطاة بطبقة من الغبار سميكة. كان الظل باردا، تيار الهواء يمر شمالا جنوبا بحرية. كنا نحتاج لقدر كبير جدا من الهواء البارد؛ لإنعاشنا وإعادة الحياة إلينا. قلوبنا وآذاننا تقفز خلف الجدران لتعانق موجودات الحديقة في الخارج، تحوم حول الأطفال المشردين. كان هتافهم قاسيا وعنيفا، مختلطا بصفارات الإنذار المرعبة، عندما أخذ الزوار يخرجون من بيت الخليفة مهرولين يتقصون ما يحدث في الخارج، خرجنا معهم. دارت العربة العملاقة دورتين قبيحتين حول الحديقة الصامتة، كانت مليئة بالجنود الشباب المتحمسين لفعل كل ما يؤمرون به. ليس بإمكانهم أن يلاحظوا شيئا بهذه الطريقة الاستعراضية الفجة في البحث؛ لأن الأطفال كانوا يرقدون داخل الغرفة، ليس في حوش الحديقة. توقعنا أن يتوقفوا ويهبطوا ويدخلوا، لكنهم عندما أكملوا دورتهم الرابعة، اتخذت العربة الشارع الجانبي الشرقي الذي يقود إلى الإذاعة. تلاشى صراخهم الرهيب خلفهم تدريجيا، إلى أن اختفى نهائيا عندما انعطفت الشاحنة بهم يمين الإذاعة القومية متخذة طريق الطابية إلى مستشفى القوات المسلحة بأم درمان، أو إلى أي جحيم آخر لا ندريه.
لم نعد إلى الأطفال والمتشردين بالحديقة، على الأقل الآن، كان هذا رأي الجميع، كما أننا لم نرجع إلى بيت الخليفة عبد الله التعايشي مرة أخرى.
تشير الساعة إلى الثانية بعد الظهر. دكتورة مريم ستعود للعمل بمستشفى الحوادث بالخرطوم عند الثالثة والنصف، قد تحتاج إلى ساعة كاملة تقضيها في المواصلات العامة بين أم درمان والسوق العربي؛ لأن الوقت هو زمن ذروة التزاحم المروري، فالطرقات ضيقة وهي مصممة في عصر الاستعمار لبضع عشرات من السيارات الصغيرة يستغلها السادة السياسيون والإنجليز. الآن على ذات الطرق أن تتحمل ما لا يقل عن مليوني سيارة في اليوم. فكان الخيار الأرجح أن نذهب معها أنا وبقا إلى الخرطوم، من هنالك يذهب هو للسلمة وأنا لبحري، وسوف ننسق الخطوة القادمة عن طريق التلفونات أو الرسائل النصية القصيرة. تعرفت على دكتورة مريم منذ سنوات كثيرة مضت؛ أي منذ أن تخرجت في جامعة الأحفاد قبل خمس سنوات. كنت أقوم بقضاء فترة تدريبية بمنظمة رعاية الطفولة السويدية، التقيت بها هنالك، تعمل حينها منسقا لمشروع حماية الطفل بالمنظمة. احتضنتني وشملتني برعايتها منذ اليوم الأول الذي تقابلنا فيه. هي التي جعلتني ألم بالجوانب النظرية والعلمية في مجال حقوق الأطفال. ولم يكن فارق العمر بيننا كبيرا، كنت أصغر منها بثلاث سنوات، وهي تكبرني بخبرات عملية وإنسانية تفوق الخمسين عاما. ومثل كل سودانيين يتقابلان في أي زمان أو أي مكان يجدان شخصا مشتركا بينهما، هذا إذا لم يكتشفا أنهما أقارب، فبيني وبينها شخص عابر في حياتي، لكنه خلف في أثرا كبيرا ونهائيا، وهو أحد أقربائها بل ابن خالتها حسن إدريس. المرأة لا يمكنها أن تنسى الشخص الأول في حياتها، حتى إذا كان وقحا وناكرا للجميل مثل هذا الإدريس. أنا لا أحب أن أخوض في هذه الحكاية التي يؤلمني ذكرها الآن، هو لم يخدعني لكنني كنت أتوقع منه موقفا أكثر مروءة وإنسانية؛ أي ما تتوقعه كل فتاة من رجل تورطت معه في علاقة حميمة أدت إلى أن تجعلها حبلى بطفل. أتمنى ألا أعود لهذه الحكاية مرة أخرى.
العاشقان
والدتي لم تكن كبيرة السن أو هكذا تعتقد هي، أنجبتني عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها. ما زالت امرأة نحيفة قصيرة بعض الشيء، ظلت دائما محتفظة بنضارة الشباب، في هيأتها ذاتها عندما تخرجت في كلية الآداب قبل عشرين سنة. لا يحق لأحد أن يقدر عمرها بأكثر من أربعين عاما. أمي تعد نفسها أجمل مني. قد تبدو أصغر مني عمرا، إلا أنها تصر على أنها أجمل مني، أرى أنها تخلط فيما بين ما هي عليه قبل عقد من الزمان والآن. عندما كانت أجمل بنت في الحي، وأحلى وأصغر أم في الجامعة. فالواقع أمي تؤكد على أنه إذا كانت هنالك مسابقة جمال في تلك الأزمنة لنالت جائزة أجمل بنت في السودان دون منازع. لا مصلحة لي في ألا أصدق ذلك، لكن المشكلة تكمن فيما بعد النقاش اليومي عن العمر والجمال؛ لأنه ينتهي بشجار، لأن أمي تريدني أن أتزوج بأي طريقة كانت، بل بأول من تقدم إلي. قد تقدم إلي كثيرون، بل لماذا أنتظر إلى أن يتقدم إلي أحدهم؛ فالبنت الذكية هي التي تختار زوجها وتدفعه بحنكة إلى أن يطلب يدها، قد ترفضه إذا لم يعدها بثروته كلها. وأنت الآن تدخلين في «سن اليأس»، تضيعين وقتك في حب شخص لا يمكن أن يتزوجك، لا أعرف مثقفا تزوج من قبل، إنهم لا يتزوجون قبل أن يشعروا بأن الموت يطرق أبوابهم أو أنهم على قارعة الإفلاس! - قولي لي: كم من النساء تزوجن شعراء؟ أريد عشرا منهن. - لكن يا أمي ما شاعر ...
كعادتها تهمل إجاباتي عندما تسيطر فكرة ما على رأسها، خاصة بعد أن أخذت تنتابها حالات الإحباط النفسي بين وقت لآخر. - أنا أعرف عشرات النسوان الما تزوجوا شعراء وكانوا بحبوهم مثل عيونهم، ياما كتبوا فيهم شعر وأغاني ...
أقول لها: يا أمي هذا جدل بيزنطي لا يوصل لنتيجة؛ إنه ليس بشاعر. وكأنها لم تسمعني، تعدد لي أصحابي الشعراء الذين لم يتزوجوا حتى الآن:
عثمان بشرى.
عاصم الحزين.
Unknown page