21 - حدثني أحمد بن أبي يعقوب عن أبيه، قال:
((كان يحيى بن خالد بن برمك قد تبنى الفضل بن سهل، وأجراه مجرى الولد -ونظر إلى ولده بعين الأخ لهم-. فضمه إلى المأمون. وكان يحيى بن خالد حسن المعرفة بالنجوم، والفضل بارعا فيها، فاتفقا على ما توجبه النجوم في مدد البرامكة، وتبينا سعادة تنتهي إليها حال الفضل، وكان كل واحد منهما كالمشاهد لما انتهى إليه.
وأوقع الرشيد بالبرامكة، فاعتصم الفضل بمحله من خدمة المأمون؛ وكانت يده تعجز عما يصلح يحيى وولده عند الرشيد، فوجه إليه: ((سيدي! قد كربني أمرك، ولست أصل إلى حسن الدفاع عنك، فأحل ذمامه في هذه المحنة؛ فإني أرجو أن أقضيه عنك عند انتهائي إلى سعادتي)).
قال ابن أبي يعقوب: فحدثني أحمد بن أبي خالد الأحول، قال: ((اتصل بي من ضيق يحيى ما كدر عيشي. وذكرت إحسانه إلي، وحسن صنيعه بي، فضاق بي العريض. ووجدت ما أملكه أربعة آلاف دينار، فقسمتها قسمين، وحملت أحدهما، وتوصلت إلى الدخول إليهم في محبسهم، فوضعتها بين يدي يحيى بن خالد، فقال لي: ((ليس يحسن بنا أن نغرك من أنفسنا، ولا أن نعدك عنا مالا تفي به الأيام لك، وقد انتهى أمرنا، فإن كنت تقدر أن أحوالنا تصلح فأمسك عليك مالك)).
فقلت: ((ما ذهبت في ذلك إلا لقضاء بعض الحق عني)). فأخذ بيضاء فكتب فيها: ((يا أبا العباس أيدك الله! هذا رجل خلص على تجربتنا، وأحسن بنا مع استحكام بأسه منا، وأنا أذكرك العهد، وأرغب إليك في قضاء حقه عني، وتخفيف ثقله علي، أحسن الله عونك، وكفاك ما أعجزك)). ثم ثناها وقطعها عرضا بقطعتين، وقال لي: ((احفظ هذا النصف معك، ولا تفرط فيه فيفوتك حظ كبير)).
ثم فرق ذلك المال في قوم ضعفت أحوالهم بما لحقه، وانصرفت من عنده وقد آيسني من رجوع حاله، وأعطاني نصف رقعة لا أقف على ما توصل إليه، وتقضى أمرهم، ومات الرشيد بطوس، وغلب الفضل بن سهل على المأمون بخراسان، وخلفه على جميع أمره، وشجر الأمر بين الأمين والمأمون، فظهر #40# المأمون عليه، وصحت وزارة الفضل بن سهل للمأمون، ووردت بادرة المأمون بذلك إلى سائر النواحي. وطالت عطلتي، واشتدت فاقتي، وفقدت من كل يؤثرني وينحاش إلي.
فإني لجالس في منزلي -في يوم قد أعوزني فيه قوت يومي، وعلي ثوب خلق، وليس لي إلا خلعة أركب فيها- حتى دخل إلي غلامي فقال: ((بالباب جماعة من أصحاب طاهر بن الحسين!))، فلبست ثياب ركوبي، وأذنت لهم، وتقدمهم رئيس لهم تبينت إعظامي في نفسه، فقال: ((الأمير طاهر يسألك المسير إليه)). فنهضت، فلما دخلت قدمني وأعظمني وقال: ((ورد كتاب الوزير أيده الله علي في حملك إلى حضرته على حال تكرمة، ومعك نصف الرقعة التي دفعها إليك يحيى بن خالد، وأمرني بدفع ألفى دينار إليك لحمولتك ومخلفيك)).
فقويت نفسي، وانفسح رجائي، وخرجت بعد قبض المال مع رسول طاهر. فلما دخلت إلى الفضل بن سهل، لقيني بأجمل لقاء، وسألني عن نصف الرقعة فأحضرتها، ثم أسر إلى بعض خاصته شيئا، فمضى، وجاء برقعة فوصلها بها فكملت، فلما استتم قراءتها بكى، ثم قال: ((رحم الله أبا العباس! فما كان أعرفه بتصرف الأيام، واستدعاء الشكر فيها، والتحيز من الذم بها!)).
ثم أدخلني إلى المأمون، وواكد أمري عنده، حتى بلغت معه إلى أخص أحوال كتابه، ومن وثق به في مهم أمره)).
Page 38