Mujmal Tarikh Dumyat
مجمل تاريخ دمياط : سياسيا واقتصاديا
Genres
وإلى هذا كله استعد المصريون بمجانيقهم ومقاليعهم، فكانوا يمطرون الفرنسيين وأبراجهم بقذائف من النار اليونانية التي أنزلت الرعب في أفئدتهم ونالت من شجاعتهم كل منال، وليس أورع من وصف جوانفيل لهذا الذعر الذي استولى على الفرنسيين أمام هذا السلاح الخطر حين يقول: وقال ولتر دي كوريل
Walter de Cureil : «أيها السادة، نحن في خطر داهم لأن العدو لو صوب النار نحو أبراجنا وبقينا نحن في أماكننا لأتانا الموت من كل مكان، ولو أننا غادرنا مراكزنا التي استولينا عليها للحقنا العار، فلا منقذ لنا من هذا الخطر الداهم إلا الله ... فنصيحتي إليكم أن نخر سجدا - كلما صوبوا هذه النار حولنا - لنبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن ينجينا من هذا الخطر.» ولم يكن الملك لويس نفسه أقل جزعا من رجاله، يقول جوانفيل واصفا الرعب الذي استحوذ على الملك: «وكانت النار ترسل في انطلاقها الأضواء الباهرة التي تملأ رحاب المعسكر فيبدو وكأننا في وضح النهار، ولقد صوب العدو النار نحونا هذه الليلة ثلاث مرات، كما أطلقوها من قسيهم أربع مرات، وكان الملك القديس كلما سمع أن النار الإغريقية قد صوبت نحونا انتصب واقفا على سريره ورفع يديه إلى السماء وابتدأ الصلاة وعيونه مخضلة بالدموع وهو يقول: أيها الإله الطيب احفظ لي شعبي.»
يتضح من هذه الحوادث والأقوال أن الغلبة كانت للمصريين في أول المعركة ولو سارت الأمور سيرا طبيعيا لتم النصر النهائي، ولكن خائنا من البدو دل الفرنسيين في ذلك الحين على مخاضة في بحر أشموم - يستطيع الفرسان عبورها على خيولهم - نظير مبلغ من المال.
وفرح الفرنسيون بهذا الكشف، ووضع الملك لويس خطة جديدة للمعركة: وتتلخص هذه الخطة في أن يعبر الكونت أرتوا بفرقة الفرسان من هذه المخاضة، فإذا وصل إلى الشاطئ الذي يعسكر فيه المسلمون اشتبك معهم في قتال مؤقت ليشغلهم عن مهاجمة الفرنسيين الذين يقيمون الجسر إلى أن يتموه، فإذا تم بناء الجسر عبر عليه لويس ببقية جيشه، وانضم إلى فرسان الكونت أرتوا، وانقضوا جميعا على جيش المسلمين.
كانت الخطة كما ترى محكمة وخطرة، ولو أنها نفذت كما وضعت لقضى الفرنسيون على الجيش المصري قضاء مبرما، ولكن تهور الكونت أرتوا كان السبب في فشلها.
عبر أرتوا بفرسانه هذه المخاضة في الرابع أو الخامس من ذي القعدة سنة 647 (فبراير سنة 1250) وانقض على معسكر المسلمين فجأة فشتت شملهم لأنهم لم يكونوا مستعدين للقتال؛ إذ لم يخطر على بالهم أن يهاجموا من هذه الناحية، وكان قائد الجيش الأمير فخر الدين في الحمام عندما علم بهجوم الفرنج على معسكره، فخرج مشدوها، وركب فرسه دون أن يتخذ للدفاع عدته، فدهمه فرسان الفرنج، فتفرق عنه جنده، وتكاثرت عليه الرماح والسيوف حتى خر صريعا، وانقلبت بهذا هزيمة الفرنسيين إلى نصر باهر، وفرح أرتوا بهذا النصر السريع، وملكه حماس الشباب فلم يقف عند نهاية الجسر لحماية العاملين فيه - كما أمره أخوه - وإنما اندفع بفرسانه إلى المنصورة ودخلها، وتقدم حتى وصل إلى قصر السلطان بها، وكاد النصر النهائي يتم للفرنسيين لولا أن صمدت لهم فرقة المماليك البحرية بقيادة ركن الدين بيبرس، وحملت على الفرنسيين حملة عنيفة حتى ردتهم عن القصر، فلما فروا راجعين تعقبتهم بالسيوف والدبابيس، وأقام الأهالي المتاريس في الطرقات، واشتبك الفريقان في قتال عنيف في شوارع المدينة وأزقتها، واتخذ السكان حصونا من منازلهم يلقون من نوافذها بالقذائف والحجارة على الفرنسيين.
وانتهت المعركة أخيرا بالقضاء على فرقة الفرسان قضاء مبرما، وكان في مقدمة الضحايا الكونت أرتوا قائدها.
وكان الفرنسيون - أثناء هذه المعركة - يجدون ويبذلون كل الجهد لإتمام الجسر حتى يتمكنوا من العبور عليه والانضمام إلى فرسانهم، ولكنهم لم يكادوا يشرفون على إتمامه حتى وصلتهم أخبار الهزيمة التي نزلت بجنودهم؛ فنال هذا الخبر من شجاعتهم وفقدوا قوتهم المعنوية، فكانوا يلقون بأنفسهم إلى النيل يبغون العودة إلى معسكرهم. وبهذه الهزيمة عاد الفريقان إلى ما كانا عليه، كل منهما على شاطئ، والبحر الصغير يفصل بينهما.
وبعد أيام قليلة وصل الملك المعظم تورانشاه إلى مصر، واستقر في قصر السلطنة بالمنصورة يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي القعدة سنة 647 (فبراير 1250)، وفرح المصريون بسلطانهم الجديد وبدءوا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم.
ولجأ تورانشاه إلى الحيلة التي سبق أن لجأ إليها المصريون في عهد جده الملك الكامل عندما نزلت بنفس المكان جيوش جان دى بريين، فأمر بأن تصنع سفن بالمنصورة، وحملت هذه السفن مفصلة على الجمال إلى بحر المحلة حيث أعيد تركيبها، وملئت بالمحاربين وسارت شمالا، فلما وفدت سفن الفرنج تحمل الميرة من دمياط خرجت عليها هذه السفن، «فأخذت مراكب الفرنج أخذا وبيلا - وكانت اثنتين وخمسين مركبا - وقتل منها وأسر نحو ألف إفرنجي، وغنم سائر ما فيها من الأزواد والأقوات، وحملت الأسرى إلى المعسكر، فانقطع المدد من دمياط عن الفرنج، ووقع الغلاء عندهم وصاروا محصورين لا يطيقون المقام ولا يقدرون على الذهاب.»
Unknown page