ومن الغريب كثرة نقش اسم الملك أدريان على صخور بلبنان من صنين إلى جبة بشري، حتى عدد رنان منها ثمانين خطا، وله في هذه الخطوط رأيان: الأول أن أدريان وضع نظاما لقطع الأشجار في غابات هذه البلاد، فكتب اسمه في أماكن كثيرة حفظا لنظامه، والثاني أنه أقام بسورية سنين متطاولة، وكان مولعا بزيارة المعابد فيحتمل أنه طاف هذه الأماكن لزيارة هياكل مقامة فيها، ونقش اسمه في القرب إليها، وفي أيامه شرع الربيون يكتبون كتابهم المعروف بالتلمود، وأول من أخذ في كتابته علماء مدرستهم في طيبارية، ويسمى التلمود الأورشليمي ولهم تلمود آخر يسمى البابلي كتبه بعض الربيين المهاجرين إلى بابل لما أنزل بهم أدريان الملك. (3) في بعض ما كان بسورية في أيام أنطونيوس بيوس ومرقس أورليوس
لم تكن أحداث هامة في أيام أنطونيوس بيوس الذي خلف أدريان سنة 138، بل رتعت المملكة في رياض السلم والراحة، وسن لها رسوما ضمها إلى الناموس الروماني، وكف الاضطهاد عن المسيحيين وكان أكثر رفقا بهم، ويظهر أن ذلك نتيجة المحاماة التي رفعها إليه وإلى أبنائه والندوة والشعب الرومانيين القديس يوستينوس، الذي كان من نابلس وقد برع في الفلسفة، وتضلع في مذاهبها قبل أن يتنصر، وله في هذه المحاماة أقوال عسجدية وعبارات درية لخصت شيئا منها في تاريخ سورية (مج3 صفحة 577)، وأدركت الوفاة أنطونيوس بيوس سنة 161.
وخلفه مرقس أورليوس الذي كان أنطونيوس قد تبناه، وأشرك في الملك لوشيوس فاروس أخاه بالتبني، لكنه لم يتخذ لنفسه إلا اسم نائب الملك، ومن الأحداث بسورية في أيامهما حملة البرتيين عليها، وقهرهم جنود الرومانيين فيها، فأرسل مرقس أورليوس جيشا كثيفا إليها أمر عليه أخاه وشريكه فاروس، فاسترد الجيش الروماني المدن والأعمال التي كان البرتيون قد استحوذوا عليها، وكان من قادة هذا الجيش رجل اسمه إفيديوس كاسيوس سوري أصلا، وكان أبوه واليا بمصر على عهد أدريان وأنطونينوس، وحصلت ثورة بمصر فأمره مرقس أورليوس أن يدخل إليها، فدخل وخمد الثورة وأنفاس الثائرين، وزينت له نفسه أن يجدد ما عمله فسبسيان، وأشاع أن مرقس أورليوس مات ، فنادى به جنوده ملكا، فأعلنت الندوة أن كاسيوس عدو للمملكة وضبطت أملاكه، فارتاع بعض جنوده، وقلبوا له ظهر المجن وانتهز بعض أعدائه هذه الفرصة، فقطعوا رأسه وأرسلوه إلى الملك، فأسف لخسارة المملكة بموته قائدا باسلا ولفوات الفرصة له أن يبدي حلمه بعفوه عنه، ورد إلى أولاده نصف أملاكه، وقضى أن لا ينصب وال على بلد ولد فيها، فكانت سنة من سنتهم القديمة.
وزار مرقس أورليوس المشرق وأتى إلى أنطاكية، وجل ما عاقب به أهلها منعهم عن دخول المشاهد والاحتفاء بالأعياد مدة، وزار إسكندرية وكان يتردد فيها بثوب فيلسوف منادما الفلاسفة، وعلى صخور نهر الكلب خط كتب فيه ما ملخصه: «للقيصر مرقس أورليوس؛ لأنه مهد الجبال المشرفة على النهر ليكوس (نهر الكلب)، ووسع الطرق بعناية الفيلق الثالث الإفرنسي»، وعثر ودنيكتون على عدة خطوط بحوران نقشها كاسيوس المذكور إجلالا لمرقس أورليوس قبل ثورته وعصيانه على هذا الملك، وقال ودنيكتون: «يظهر أن السوريين كانوا يحبون كاسيوس؛ لأنهم لم يحطموا اسمه كما محوا اسم غيره من الولاة.» وتوفي مرقس أورليوس سنة 180. (4) بعض ما كان بسورية على عهد سبتيموس ساويروس
بعد وفاة مرقس أورليوس خلفه ابنه كومود سنة 180، ولم نطلع على ما كان بسورية في أيامه، وقد عثر ودنيكتون في السويدة بحوران على خط يوناني (2308) مؤذن بإقامة والي العربية ذكرا للملك كومود بمعرض جلبه الماء إلى السويدة، وضواحيها في السنة 8 لكومود وهي سنة 187، وبعد موت كومود سنة 193 رقي إلى منصة الملك برتينكوس، ولم يملك إلا شهرا وقتله قواد الجيش، وقام بعده يوليانوس ساويروس ونيجر على أن الذي استتب له الملك سنة 193 إنما هو سبتيموس ساويروس، وكان متزوجا بامرأة من سورية اسمها جولية دمنة، وقد كشفت لنا الآثار عن كثير من أخباره، وكان التاريخ قد ضن علينا بها، فقد وجدت صفيحة على مقربة من بيروت كتب عليها ما ملخصه: «لسلامة الملك القيصر سبتيموس ساويروس ومرقس أنطونينوس ابنه وجولية دمنة أمه وسائر أهل بيته» (ودنيكتون 1843)، وكشف عن خط آخر في جنوبي بيروت دال على المحطة الأولى من بيروت إلى صيدا كتب فيه: «جدد الملك سبتيموس ساويروس وابنه الطرق الجندية بعناية فيديوس روفس والي سورية فونيقي» (1844).
وقسم ساويروس سورية قسمين: الأول إلى الشمال وفيه سورية الكومجانية والمجوفة إلى السهول التي على ضفتي العاصي وما بين اللكام ولبنان، والثاني إلى الجنوب والشرق وفيه سورية الفونيقية والشطوط البحرية، وشرقي لبنان إلى وسط البرية ومنه بعلبك ودمشق وحمص وتدمر، وكان أهل أنطاكية مالئوا أعداءه فعاقبهم بصرامة، ثم عاد إليها وأقام بها مدة وجامل أهلها وبنى فيها حمامات عظيمة وعني بإصلاح الطرق بين المدن البحرية، فقد وجد في الطريق من صور إلى صيدا أربع صفائح دالة على الأميال، ومؤرخة في سنة 198، وكان جنود نيجر أحرقوا صور فجدد ساويروس بناءها وأسكن فيها بعض المتقاعدين، وجعلها جالية رومانية، وكان لبيروت هذا الحق من قبل، وكانت بها في أيامه مدرسة كبرى لتعليم الشرع الروماني، واشتهر بها حينئذ بابنيان وأولبيان وغيرهما من مشاهير الفقهاء، وقد جاهر أهل بيروت أولا بالعداوة لساويروس لكنهم تزلفوا إليه دون إبطاء، وأحبوه كما يتبين من النصب الذي أقاموه نذرا لسلامته وسلامة ابنه وامرأته وقد مر ذكره، وعثر ودنيكتون على خط بدير القلعة (1858) مؤداه أن الجالية الرومانية البيروتية أقامت من مالها تمثالا للملك سبتيموس ساويروس.
وكان ترايان وأدريان أدخلا الحضارة بحوران واللجا، فشخص ساويروس بنفسه إليهما، ووجدت فيها آثار دالة على قيام رؤساء عشرات سبتيميين فيهما، وعلى استعمال سكان بعض مدنها لغة الرومانيين ومقاييسهم وحسابهم، وعلى استتباب الراحة والأمن فيهما، وتجد آثار سبتيموس ساويروس ظاهرة في تدمر، ووجد دي فوكواي وودنيكتون مخافر للجنود على الطريق من بصرى إلى تدمر، وكان في هذه المدينة مجالس مختلطة كما في مصر الآن، وذلك دال على أنه كان بها جماعات من البرتيين والأرمن والرومانيين واليهود، وكان لأسرة أذينة بتدمر المحل الأول في الوجاهة، وأحد أفرادها المسمى حيران عاون ساويروس كثيرا حتى أنعم عليه أن يسمى باسمه سبتيموس ... روى ذلك دي فوكواي في الخطوط السامية خط 28، ومسكوكات سبتيموس في هذه البلاد كثيرة، وهو الذي أنشأ هيكل المشتري ببعلبك، ووضع نظاما لفلسطين عند تجوله فيها، وعاد اليهود والسامريون في أيامه إلى منازعتهم المعتادة، فأمر الجنود بضربهم وقتل كثيرين منهم. (5) في بعض فوائد في تاريخ سورية مأخوذة عن آثارها
يؤخذ عن آثار تدمر:
أولا:
أن اللغة التي كان عامة السوريين يتكلمون بها في القرن الأول، وما يليه هي اللغة الآرامية السريانية، إذ قال دي فوكواي في الخطوط السامية: إن اللغة التي كان شعوب سورية يتكلمون بها كانت اللغة الآرامية إلا ما ندر، وجميع الخطوط التي عثرنا عليها في تدمر وحوران وبلاد النبطيين كتبت بهذا الفرع من اللغة السريانية.
Unknown page