وفي سنة 1621 أحيلت ولاية أطرابلس إلى عمر باشا الكتمانجي، وورد أمر للأمير فخر الدين أن يساعده إذا قاومه يوسف باشا سيفا، وبلغ ذلك إلى يوسف باشا فتنحى عن أطرابلس وسار إلى عكار، وأرسل فخر الدين فطرد أتباع يوسف باشا من جبة بشري، وولى عليها الشيخ أبا صافي الخازن، وسلمت ولاية عجلون إلى الأمير حسين بن فخر الدين، ثم كررت الأوامر بضبط أملاك يوسف باشا وبيعها، وإيراد ثمنها إلى الخزينة السلطانية بعد وفاء الدين الذي عليه، وولى عمر باشا أحمد بك على حماة، وجعفر أفندي على جبلة، وفخر الدين على جبيل والبترون وجبة بشري والضنية وعكار ... فجمع فخر الدين رجاله، وسار إلى أطرابلس وخرج إلى لقائه عمر باشا واليها وأعيانها، ثم عزل محمد باشا عن منصب الصدارة ورقى إليه قرا حسين باشا، فأصدر الأمر بإعادة يوسف باشا سيفا إلى ولاية أطرابلس، فاضطر عمر باشا واليها أن يعود مع فخر الدين إلى بيروت ومنها إلى الأستانة.
وفي سنة 1622 عزل والي دمشق جماعة فخر الدين عن نابلس وعجلون بدسيسة من الأمير يونس الحرفوش، فنهض فخر الدين إلى قب إلياس وطلب الأمير حسين بن يونس الحرفوش، ولما حضر إليه ادعى أنه اشترى دار قب إلياس وأرض تل نمرا وغيرهما في البقاع، وقد غصب هو وأبوه هذه الأملاك، فأنكر الأمير حسين ذلك وفر إلى بعلبك ثم سار هو وأبوه إلى الزبداني، ونهب رجال فخر الدين قرى البقاع، وضبطوا ماشيتها وهدموا دار قب إلياس، وتوجه الأمير يونس إلى دمشق، ودفع إلى واليها ألف ذهب زيادة من مال صفد وعجلون، فولاه صفد وولى على عجلون الأمير بشير قانصوه، فكتب فخر الدين إلى الأمير علي الشهابي وإلى حسن الطويل، فأحرقا بعض قرى عجلون ، ثم سار الأمير فخر الدين بعسكر لغزو بلاد الأمير أحمد طربية والأمير بشير قانصوه، فنهب رجاله المواشي والأثاث واقتتلوا مع العرب في تلك الجهة، فقتل كثيرون من الفريقين ثم نال فخر الدين أمرا من الباب العالي بتقرير ولاية صفد على ابنه الأمير علي، وتوجه إليها فهرب الأمير يونس الحرفوش، ورتب فخر الدين أمورها، وعند عودته قتل رجاله ثلاثين رجلا من أتباع الأمير يونس، وأحرقوا الكرك وسرعين وغيرهما.
وفي سنة 1623 وقعت نفرة بين مصطفى باشا والي دمشق والأمير فخر الدين، فسار الوزير من دمشق في عشرة آلاف مقاتل، وضوى إليه الأمير يونس الحرفوش وآل سيفا، فالتقاهم الأمير فخر الدين ومعه الأميران علي وأحمد شهاب والتحم القتال عند نبع عنجر، وكان الظفر لفخر الدين، وتشتت عسكر الوزير ولم يبق حوله إلا عشرة رجال، ووصل إليه الأمير فخر الدين فترجل عن جواده، وقبل ذيله وأكرم رجاله وأركبه جواده، وأرسل معه بعض حاشيته إلى قلب إلياس وسار الأمير في أثره، فدخل عليه معتذرا له عما كان فاعتذر الباشا له أيضا بأن الأمير يونس الحرفوش حمله على ذلك، وخلع على الأمير وقرر عليه وعلى جماعته سناجق عجلون وصفد ونابلس، وبقاع العزيز، وسارا معا إلى بعلبك، ففر الأمير يونس الحرفوش إلى معرة النعمان، وغنم رجال الأمير غلال آل حرفوش، وكانت وافرة، وبقي رجال الأمير يونس معتصمين بالقلعة، وحصرهم بها رجال فخر الدين وشاع أن والي حلب قبض على الأمير يونس، فقطع رجاله الرجاء منه وسلموا قلعة بعلبك إلى فخر الدين.
ثم غزا فخر الدين بلاد عجلون ونابلس وسار إلى نهر العوجاء، فكبس العرب ابنه الأمير علي والأميرين محمد وأحمد الشهابيين، إذ كانوا آتين إليه وقتلوا من رجالهم نحو ستة وخمسين رجلا وحاصر أهل بلاد حارثة رجال فخر الدين في قلعة جنين، وأخرجوهم منها وكثرت تعدياتهم على بلاد فخر الدين، فجمع رجاله وسار لقتال الأمير بشير قانصوه والعرب بني طربية وكثرت المراسلات بينهم وأخيرا دخل الأمير بشير المذكور في طاعة فخر الدين، فأقامه نائبا لابنه الأمير حسين في تدبير بلاد عجلون كما كان أولا، واتفق مع العرب المذكورين. (3) في ما كان بسورية في أيام السلطان مراد خان الرابع
في سنة 1623 خلع الإنكشارية السلطان مصطفى من عرش السلطنة، وأجلسوا عليه السلطان مراد الرابع ابن السلطان أحمد الأول، وكان صغيرا عند تسنمه منصة الملك، ومما كان في أيامه وفاة يوسف باشا سيفا سنة 1624، وتولى أطرابلس بعده ابنه الأمير قاسم الذي كان حاكما جبلة، واستمر ابنه محمود حاكما في حصن الأكراد، وابنه الأمير بلك في عكار، ثم حشد الأمير فخر الدين جيشا سار به إلى بعلبك ثم جبة بشري، ونزل منها إلى أطرابلس ... واستمر جماعته ينهبون ويسلبون مدة أربعين يوما حتى وصل إليها وزير حلب ومصطفى باشا من قبل الصدر الأعظم واليا عليها، فجار وظلم وولى على عكار الأمير سليمان بن سيفا فهرب أولاد عمه ويوسف باشا إلى الحصن.
وفي سنة 1625 أقرت الدولة فخر الدين على ولاية بعلبك، فهرب الأمير حسين ابن الأمير يونس الحرفوش إلى حلب، وأخذ يسعى عند واليها بالأمير فخر الدين، فأمسكه الوالي في قلعة حلب لتحقيق وشايته، وكان حينئذ أن مصطفى باشا والي أطرابلس استنجد فخر الدين على آل سيفا، فحشد الأمير عسكرا ضخما، وزحف به من بيروت إلى البقاع والهرمل، وكان الأمير سليمان بن سيفا معتصما بحصن صافيتا، فلما بلغه خبر قدوم فخر الدين أطلق رجاله وهرب إلى سلمية؛ ليعتضد بالأمير مدلج رئيس قبيلة من العرب، فقبض مدلج عليه وألقاه بالفرات، وسلم آل سيفا إلى فخر الدين قلعة الحصن وقلعة المرقب، فرضي عنهم وأقنع صاحب أطرابلس بأن لا يسطو عليهم.
وفي سنة 1626 قدمت الشكوى على الأمير فخر الدين، فسار خليل باشا الصدر الأعظم إلى حلب قاصدا محاربته، فأرسل إليه هدايا ووعده بتسليم قلاع الحصن وصافيتا وشميسة والمرقب إليه، فارتضى الوزير بذلك وقتل الأمير حسين يونس الحرفوش الذي كان ممسكا بقلعة حلب.
وفي سنة 1627 تولى فخر الدين محافظة إيالة أطرابلس، فأنشأ قناة القاع وعمر القليعات في عكار ونصب في مغراقها أربعة عشر ألف نصبة توت، وفي سنة 1630 زحف إلى بعلبك قاصدا الاستيلاء على قلعة تدمر فأخذها من والي دمشق، وفي سنة 1631 كانت وقعة بين الأمير علي بن فخر الدين والأمير أحمد قانصوه وغيره في صفد، وظفر بهم الأمير علي وسألوه الصلح فصالحهم، وفي سنة 1632 بنى فخر الدين ببيروت البرج الكشاف وخان الوحوش والجنينات.
وفي سنة 1633 كثرت الشكاوى على الأمير فخر الدين، فأمر السلطان مراد كجك أحمد والي دمشق أن يجرد جيشا عليه، فخرج من دمشق بعسكر ضخم وحل في صحراء خان حاصبيا، وأغار على بلاد وادي التيم إقطاع الأمراء الشهابيين، فنهبوا وقتلوا وأحرقوا، فأتى الأمير علي بن فخر الدين من صفد، وباغت العساكر ليلا، فاختلط الجيشان وقام الأميران قاسم وحسين الشهابيان لنجدة الأمير علي، فتشتت عسكر والي دمشق وتتبع الأميران الشهابيان آثارهم مسافة ساعتين، ولما رجعا وجدا الأمير عليا قتيلا وبجانبه عصبة من غلمانه وأصحابه، ولم يعلم من قتله، ولما بلغ ذلك فخر الدين وجد على ابنه جدا، وبلغ السلطان خبر تشتيت عسكر والي دمشق، فأمر بإهلاك آل معن جميعا وأرسل الأسطول السلطاني إلى بيروت بقيادة جعفر باشا، وضوى إليهم آل سيفا وآل علم الدين وأتى والي دمشق إلى صيدا، فانفض آل معن من وجه هذه الجيوش، ففر الأمير حسين بن فخر الدين مع مدبره الشيخ أبو نوفل الخازن إلى قلعة المرقب، والأمير ملحم بن الأمير يونس أخي فخر الدين إلى عجلون إلى الأمراء آل طربية، وانهزم فخر الدين إلى قلعة شقيف تيرون قرب نيحا، وتحصن بها مع مدبره الشيخ أبي نادر الخازن، وبقي الأمير يونس أخوه بدير القمر، فوجه جعفر باشا رئيس الأسطول عسكرا إلى قلعة المرقب فقبض على الأمير حسين، وسيره إلى الصدر الأعظم الذي كان بحلب، وطلب والي دمشق الأمير يونس أن يحضر إليه آمنا، فحضر فضرب عنقه، ونهض من صيدا فنهب قرى الشوف وقتل بعض سكانها، وولى عليها الأمير عليا ابن علم الدين اليمني، وتوجه فحاصر قلعة تيرون حيث فخر الدين، وأفسد الماء المنحدر إليها، فانهزم فخر الدين منها ليلا بحاشيته إلى المغارة التي تحت جزين ، فلحقه والي دمشق إليها واستحوذ عليها وقبض على فخر الدين وأولاده ومدبره الشيخ أبي نادر الخازن، وأطلق الحريم وأخذ من قبض عليهم إلى دمشق، وأرسل يطلب الأمير ملحم من الأمراء آل طربية، فسلموه إلى إبراهيم أغا مدبر الوزير، ولما صلوا به إلى خان الشيخ فر، واختبأ تحت معبر الماء القريب من هناك فخرجوا في طلبه، فلم يهتدوا إليه، ثم نهض من مخبأه وسار إلى قرية عرنة في جبل الشيخ، واختبأ عند رجل من حزبهم، وأما الأمير فخر الدين وأولاده فأشخصوه إلى الأستانة، وأما الشيخ أبو نادر الخازن، فكفله الأمير علي علم الدين وأخرجه من دمشق وابنه الشيخ أبو نوفل نادر، فهرب من حلب وعاد إلى لبنان.
ولما مثل الأمير فخر الدين بحضرة السلطان لامه على أمور كثيرة، فاحتج عن نفسه بأنه ما جمع رجالا إلا بأمر الوزراء والنواب، ولا قتل إلا العصاة والقلاع التي أخذها منهم سلمها إلى رجال الدولة، فطيب السلطان خاطره.
Unknown page