بعد أن فتح صلاح الدين عسقلان ملك الرملة وغزة والخليل، ثم سار إلى بيت المقدس، وكان فيه صاحب الرملة، ومن نجا من فرسانهم في وقعة حطين، وقد جمعوا وحشدوا وحصنوا المدينة، ولما انتهى صلاح الدين إلى القدس بقي خمسة أيام يطوف حول المدينة؛ ليرى من أين يقاتلها وعمد إلى جهة الشمال، ونصب المنجنيقات وأخذ في الرمي واشتد القتال، وكان فرسان الإفرنج يخرجون كل يوم فيقاتلون في ظاهر البلد إلى أن حمل المسلمون حملة رجل واحد، فأزالوا الإفرنج من مواقفهم وجاوزوا الخندق، والتصقوا إلى السور وأخذوا في نقبه والمنجنيقات تواصل الرمي لتكشف الإفرنج عن الأسوار، فتشاور الإفرنج وأم رأيهم على طلب الأمان، فامتنع صلاح الدين من الإجابة، وحضر صاحب الرملة إليه فاستعطفه، فلم يعطف واسترحمه فلم يرحم، فقال له: «فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ونحرق أموالنا وأمتعتنا ونبيد مواشينا، ونخرب الصخرة والمسجد الأقصى، ونقتل من عندنا من أسرى المسلمين، ونخرج عليكم مقاتلين قتال من يحمي دمه ، فلا يقتل منا رجل حتى يقتل أمثاله ونموت أعزاء أو نظفر كراما.» ولما سمع صلاح الدين هذا الكلام استشار أصحابه ، وأجاب إلى بذل الأمان للإفرنج على هذه الطريقة بما أمكن نقله من أموالهم، وأما النصارى غير الإفرنج فطلبوا من صلاح الدين أن يمكنهم من الإقامة في مساكنهم، ويأخذ الجزية منهم فأجابهم إلى ذلك.
وظهر صلاح الدين بهذه النازلة كرم أخلاقه، وإشفاقه على الفقراء والمصابين، ورد على أمهات أولادهن وعلى زوجات بعولهن الذين كانوا أسرى، وترك كثيرين دون أخذ الفداء المتفق عليه، وأبقى الكنائس ولا سيما كنيسة القبر المقدس مقتديا بعمر بن الخطاب، وسمح للنصارى أن يحجوا إلى بيت المقدس بشرط أن يأتوا بلا سلاح. (4) فتح صلاح الدين صور وغيرها
كان الإفرنج قد اجتمعوا بصور وقدم إليها كنراد بن المركيز دي مونتي فراتا، وقد وصفه ابن الأثير بأنه كان من شياطين الإنس حسن التدبير، وله شجاعة عظيمة، وقد حصن المدينة وقوى قلوب الأهلين، وخيم بجانبها صلاح الدين وعساكره سنة 1189 وحاول فتحها بمعظم الجهد، فلم ينل منها مأربا، فرحل عنها إلى عكا وسار منها إلى قلعة كوكب المطلة على الأردن، فحصرها ورأى الوصول إليها متعذرا، فسار إلى دمشق وترك عليها من يستديم حصارها، وحصار قلعتي صفد والكرك، وضايقوا هذه القلاع حتى طلب من كان بها الأمان وخرجوا منها.
وفي سنة 1189 غزا صلاح الدين في شمالي سورية، ونزل على بحيرة قدس في غربي حمص، وجمع العساكر وسار حتى نزل تحت حصن الأكراد، وأخذ كتيبة من الفرسان وأغار على صافيتا والعريمة ويحمور حتى وصل إلى قرب طرابلس؛ ليعرف من أين يأتي البلاد، وأتاه قاضي جبلة واستدعاه ليسلم جبلة إليه، فسار معه ونزل بطرطوس فأخلى الإفرنج المدينة واعتصموا بحصنين، فخرب المسلمون دورهم ودكوا أحد الحصنين ورموا حجارته في البحر، وترك صلاح الدين الحصن الآخر مخفورا، ورحل إلى مرقية وقد أخلاها أهلها، وساروا إلى المرقب وفيها حصن منيع، وكان صاحب صقلية سير ستين سفينة إلى طرابلس أتت ووقفت في البحر تحت المرقب ... وكان هناك مضيق فصف صلاح الدين الطارقيات والجفتيات على طول المضيق حتى عبره عسكره، وسار إلى اللاذقية فترك الإفرنج المدينة، واحتموا بحصنين على الجبل فحصرهما المسلمون، ونقبوا الأسوار، فطلب الإفرنج الأمان فأمنهم صلاح الدين وقصد قلعة صهيون وتجلد من فيها بالقتال، ولكن أرغموا على طلب الأمان، فلم يجبهم صلاح الدين إليه، وقدروا على نفوسهم قطيعة فقبلها وتسلم القلعة فزادها تحصينا، وسار عنها إلى قلعة بكاس فرأى الإفرنج قد أخلوها، وتحصنوا بقلعة الثغر فحاصرها أياما، ولم يمدهم أمير أنطاكية فسلموا القلعة إلى صلاح الدين، فرحل إلى قلعة برزية فتسلمها بعد عناء شديد، وسار إلى قلعة درب ساك وقلعة بفراس، وأكره من كان بهما على طلب الأمان وعزم على حصر أنطاكية، فأرسل ليمند أميرها يطلب هدنة، وبدل إطلاق كل أسير مسلم عنده فارتضى صلاح الدين لإراحة عساكره، وهادنه ثمانية أشهر وسار إلى حلب ثم عاد إلى دمشق. (5) في حصار الإفرنج عكا وفتحها وما كان إلى وفاة صلاح الدين
بعد أن ملك صلاح الدين بيت المقدس سير الإفرنج وفودا كثيرين إلى المغرب، فتألبت حملة ثالثة لإنقاذ الأرض المقدسة بإمرة ريشار الملقب بقلب الأسد ملك إنكلترا وفيلبوس أغوسطوس ملك إفرنسة، وسافر حينئذ أيضا فريدريك ملك ألمانيا الملقب برباروسا (أي: ذو اللحية الحمراء) بطريق القسطنطينية وآسيا الصغرى ومعه نحو مائة ألف، لكنهم تجشموا مصاعب وحروبا كثيرة وتوفي هذا الملك في كيليكيا، ولم يبلغ من عسكره إلى فلسطين إلا نحو خمسة آلاف رجل، وأما ملكا إفرنسة وإنكلترا فسافرا من جنوا ومرسيليا وبلغا فلسطين سنة 1191، وكان الإفرنج المقيمون بسورية قد حاصروا عكا سنة 1190، وسار إليها صلاح الدين فقاتل الإفرنج المخيمين حولها وأدخل عسكرا نجدة للمسلمين الذين فيها، وكانت وقعات بين الفريقين لم تكن فاصلة ... وعاد السلطان صلاح الدين سنة 1191 لقتال الإفرنج على عكا، واستمر القتال عليها وكان ملكا إفرنسة وإنكلترا قد بلغا إلى فلسطين، وأحاطت عساكر الإفرنج المدينة فارتاع المسلمون ولم يتمكن صلاح الدين من إنجادهم، وأصابه مرض أعجزه أن يشهد الحرب معهم، فطلبوا الأمان من الإفرنج، فأجابوهم إليه على شرط أن يطلق صلاح الدين الأسرى النصارى، ويطلق الإفرنج الأسرى المسلمين، وأن يدفع المسلمون إلى الإفرنج مائتي ألف دينار، ويردوا عليهم خشبة الصليب التي كانوا قد أخذوها منهم في وقعة حطين، وانقضى زمان ولم ينجز صلاح الدين وعده فهدده الإفرنج بقتل المسلمين الذين في حوزتهم وأخذوا ألفين وسبعمائة أسير، وقتلوهم قرب محلة صلاح الدين، وخشي صلاح الدين عاقبة استئناف الحرب فخلى سبيل ألفي أسير من الإفرنج، ودفع إليهم مائتي ألف دينار ورد عليهم خشبة الصليب، واستلموا عكا، ومرض ملك إفرنسة فعاد إلى مملكته تاركا من جنوده عشرة آلاف مقاتل بفلسطين، وبقي ريشار ملك إنكلترا وحده على إمرة الإفرنج بسورية، وأعطى لوسنيان ملك الإفرنج قبرس التي كان قد أخذها من ملك الروم بمروره عليها وسماه ملك قبرس.
وبعد أن أخذ الإفرنج عكا ساروا نحو يافا، فضايقهم المسلمون في سيرهم، ولكنهم أخذوا قيصرية وأرسوف وبلغوا إلى يافا فوجدوا المسلمين قد أخلوها فملكوها هم، وسار صلاح الدين إلى عسقلان فخربها ودك أسوارها؛ لئلا يأخذها الإفرنج وخرب حصن الرملة، ومضى إلى القدس وأخذ في تحصينها وتجديد ما رث منها، وفي سنة 1193 سار الإفرنج نحو عسقلان فاستلموها وشرعوا في عمارتها وقصدوا القدس وصلاح الدين فيها، لكنهم علموا أن لا قدرة لهم على إزاحته منها فعادوا عنها نحو عكا وأظهروا عزمهم على فتح بيروت، فأرسل صلاح الدين ابنه الأفضل ليعارضهم فلم يفارقوا عكا، وسار صلاح الدين إلى يافا فدخلها عسكره، وعاد الملك ريشار بحرا إليها فطرد المسلمين من يافا، وحارب صلاح الدين في ظاهرها، فظهر عليه ورده عنها إلى الرملة.
وبلغ الملك ريشار أن أخاه يوحنا يسعى بأن يأخذ ملكه، وسئمت نفوس المسلمين والإفرنج الحرب، فعقدت هدنة سنة 1193 بين صلاح الدين والملك ريشار، وجعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر على أن يستقر بيد الإفرنج يافا وقيصرية وأرسوف وعكا وحيفا، وأعمال هذه المدن وأن تكون عسقلان خرابا، واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في عقد هدنته، واشترط الإفرنج دخول صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس في عقد هدنتهم، وأن تكون الرملة مناصفة ... وعاد السلطان إلى القدس وزاد وقف المدرسة الصالحية التي كانت كنيسة على اسم القديسة حنة، ثم جعلها المسلمون مدرسة ثم جعلها الإفرنج كنيسة وردها صلاح الدين مدرسة، وأما الملك ريشار فقبل عوده إلى مملكته أقام هنري كنت شمبانيا ملكا للإفرنج، فتزوج إيزابل بنت الملك أموري التي كانت مزوجة بالمركيس كنراد والي صور، وكان صلاح الدين قد دس له من قتله. (6) في وفاة صلاح الدين وما كان بسورية إلى آخر هذا القرن
كان في عزم صلاح الدين بعد مهادنته الإفرنج أن يغزو في آسيا الصغرى، ويتصل إلى القسطنطينية ويتطرق إلى الإفرنج ببلادهم، ولكن أصابته حمى ولم تنجع به أدواء الأطباء وتوفي سنة 1194 ودفن في قلعة دمشق، ثم عمل له الملك الأفضل ابنه تربة قبالة الجامع الأموي، ونقل رفاته إليها سنة 1197، وكان له من البنون سبعة عشر ابنا وبنتا واحدة، فملك أكبر أولاده وهو الأفضل نور الدين بدمشق وولده العزيز عماد الدين عثمان بمصر، وولده الظاهر غياث الدين غازي بحلب، وكان الملك الأفضل هو المعهود إليه بالسلطة، وفي سنة 1195 استحكمت الوحشة بين الأخوين العزيز صاحب مصر، والأفضل صاحب دمشق، وسار العزيز بعسكر فحصر أخاه الأفضل بدمشق، فأصلح بينهما عمهما العادل وأخوهما الظاهر صاحب حلب، وعاد العزيز إلى مصر، ثم قصد دمشق ثانية سنة 1196 فاضطرب عليه بعض عسكره واضطر أن يعود إلى مصر، فتبعه الملك الأفضل وعمه الملك العادل، وقصد الملك الأفضل الاستيلاء على مصر، فمنعه عمه العادل عنها وسعى بالصلاح بين الأخوين، فعاد الأفضل إلى دمشق وبقي العادل بمصر.
وفي سنة 1197 اضطربت الأمور على الملك الأفضل بدمشق، فاتفق العزيز صاحب مصر والعادل على أن يأخذا دمشق منه ويسلمها العزيز إلى العادل؛ لتكون الخطبة والسكة للعزيز في كل البلاد كما كانت لأبيه صلاح الدين، فخرجا إلى دمشق وتسلماها، وسلمها العزيز إلى العادل وأعطى الأفضل صرخد، فسار إليها بأهله واستوطنها.
وفي سنة 1199 استولى الإفرنج على بيروت، وهجم الملك العادل على يافا، فملكها وحاصر الإفرنج بتبنين فرحلهم العادل عنها، وكانت هدنة بين الفريقين إلى ثلاث سنوات، وفي سنة 1200 توفي الملك العزيز بمصر، وخلفه ابنه الملك المنصور محمد وكان صغيرا، فاتفق الأمراء على استدعاء الملك الأفضل من صرخد فسار حثيثا، فصير أمير الأمراء عند الملك ابن أخيه فسار بالعساكر من مصر لاسترداد دمشق من عمه، فكان بينهما قتال شديد، وأتى الملك الظاهر صاحب حلب لنجدة أخيه الأفضل، وضايقا المدينة وقلت الأقوات، وحصل بين الأخوين الأفضل والظاهر خلاف أدى إلى ترك حصار دمشق.
Unknown page