صحيح أن كثيرا من المطبوع يَحتاج إلى طبع من جديد، لكن لا يَمنع ذلك أن في المطبوع أعمالا جيدة كثيرة؛ ولهذا أردت أن أبين لأبنائنا الطلبة ماهية التحقيق، وكيف يكون، وما هي غايته، ونتائجه، وذلك حين حاضرنا في هذا المضمار مُحاضرة في الحرم النبوي الشريف تَحت عنوان: "التحقيق مبادئه وغايته" منذ أكثر من سنتين، ثم جاءت الفرصة لنشر هذه المحاضرة بهذه الصورة، حين أُتيحت لنا فرصة التقدمة لأحد الكتب التي حُققت حديثًا.
فلابد أن تعرف أيها القارئ الكريم أن التحقيق هو السبيل لإبراز التراث القديم في أحسن حلة له، ولولاه ما استطاعَ الكم الهائل من طلبة العلم قراءة ما كتبه أسلافهم الكرام، وما استطاع هؤلاء الطلبة أن يستمروا في هذه النهضة العلمية التي نراها الآن.
فأولًا تجب الإجابة على هذا السؤال: هل التحقيق في مستوى التأليف؟ وهل يُنظر إليه من الناحية العلمية بِمنظار التقدير والأهمية؟
الحق أن التحقيق جهد علمي مشكور، إذا قصد صاحبه خدمة العلم والإخلاص له، وقد يتطلب التحقيق وقتًا أطول من التأليف، كما أن خدمة الكتاب القديم، وإلباسه اللبوس العلمي الجديد أمر لا يقل بِحال عن التأليف، بل إن عمل التحقيق جهد قومي؛ إذ ينير ثقافة الأمة في الأعصر الغابرة، ويثير المعرفة التي اشتهر بها العلماء المسلمون، وما زالت أنظار العلماء تتلفت نَحو الْمُحققين، وتوليهم الاحترام والتقدير الزائدين، ولاسيما من أخلص في عمله منهم، وأصاب في نتاجه.
وفي الحق أن ما وصل إلينا كان تراثًا ضخمًا -وما ضاعَ أو اندثرَ كان أضخم- وخاصة حين تتهيأ الظروف المناسبة لطبع المخطوطات كلها، أو الثمين منها على الأقل، وتتجه الأنظار اليوم إلى إحياء تراثنا العلمي -بعد نشر كثير من التراث الأدبي والتاريخي- في تاريخ الطب والهندسة والبيطرة
1 / 8