ثم بعث واستدعى رجال لوائه، فأوصاهم بعضهم ببعض خيرا، وأوصى بدفنه في البهنسة حيث توجد قبور الشهداء - ولا ندري أي الشهداء عنى! - وما انتصف الليل إلا وكان في عداد الأموات، وليس له من العمر سوى خمس وخمسين سنة، فازرق جسمه، وظهرت عليه عوارض جعلت الجهلاء من الناس يعتقدون أنه مات مسموما، ولكنها عرفت الخبيرين بأن موته سببه وباء عرف فيما بعد باسم الكوليرا.
فتخلص محمد علي بوفاته من خصم عنيد في وقت مناسب للغاية، وبلغ من ابتهاجه بذلك أنه أعطى البدوي الذي أتاه مبشرا بموت الألفي خمسة أكياس.
وإنما قلنا إن ملاك الموت خلص محمد علي من الألفي في وقت مناسب للغاية؛ لأن الإنجليز في ذلك الحين ذاته - وكانوا قد أعلنوا الحرب على تركيا - كانوا يستعدون لغزو القطر المصري، ولو بقي الألفي حيا لساعدهم مساعدة فعالة.
على أن محمد علي لم يكن يعلم حينئذ بالضبط مقدار الخدمة الجليلة التي أداها له ملاك الموت، وكل ما اعتقده هو أن هلاك كبيري المماليك أعدائه يسهل عليه جدا مهمة الفوز عليهم، وأخذ يستعد لذلك، فعبأ جيشا زاهرا، وملأ ثمانمائة مركب مؤنا وذخائر وتجهز للزحف إليهم، ولكنه أصيب هو أيضا بالكوليرا وهو في وسط تجهيزاته، فأقام طبيبه الإيطالي المسيو بتزري يعالجه، وهو يكاد يعتقد - في اليوم الأول - أن الشفاء متعذر، وأن شعلة الحياة لمطفأة حتما، ولكن بنية محمد علي القوية تغلبت على الداء، وما مضت بضعة أيام إلا ولم يعد لذلك المرض من أثر، وكل ما كان منه أنه أظهر مقدار عطف العلماء والأعيان على محمد علي، وحبهم الشديد له، فلما نقه تماما، عهد في أمر المحافظة على الأمن في العاصمة إلى كتخداه محمد أغا طبوز أوغلو، وسار في 12 فبراير سنة 1807 بثلاثة آلاف من المشاة، وثلاثة آلاف فارس، وست مراكب مسلحة إلى قتال المماليك، وكانوا قد اجتمعوا في المنيا وضواحيها، ولكنه وقف في بني سويف وأقدم يتخابر مع أعدائه بواسطة العلماء، وبينما هؤلاء يفاوضونهم، أعمل محمد علي نقوده في العربان الموالين لهم، وفي ذات ليلة مدلهمة الظلام تقدم بألفي فارس، وبإرشاد أولئك العربان أنفسهم، إلى المعسكر الذي كانت حراسته موكولة إليهم، وإذا بالمماليك نائمين فيه نوما عميقا، فانقض محمد علي عليهم، وفتك بهم فتكا ذريعا، واستولى على كل مدافعهم ومهماتهم، وتعقب الفارين حتى حدود الصحراء، وبعد أن أوقع بهم في منقباد أيضا، أقام معسكره في أسيوط.
وأنه لفي سكرة فوزه، وإذا بالنجب أتته بأنباء ظهور العمارة الإنجليزية بحملة الجنرال فريزر، فأرسل محمد علي، في الحال، إلى العلماء المتفاوضين مع المماليك، بالاتفاق مع هؤلاء الأمراء على ما يطلبونه، بشرط أن ينضموا إليه بلا تردد في قتال الإنجليز أعداء الجميع.
فأبرم العلماء مع المماليك اتفاقا مبدئيا، وقر الرأي على ذهاب الأمراء إلى مصر لعقد الاتفاق النهائي هناك، بحضور العلماء والوجاقلية والأعيان، وعلى ذلك نزل الجيشان - جيش محمد علي وجيش المماليك - مجرى النيل: الأول على ضفته اليمنى، والثاني على ضفته اليسرى.
ولما انسحب الإنجليز رأى محمد علي أن القطر - لا سيما الريف - بات منهوكا ناضب المعين، وأن فلاحيه باتوا يفضلون الموت على الاشتغال بأعمال فلاحة لا يجنون منها إلا خرق حرماتهم والأذى، وأن المدن ذاتها باتت بائرة التجارة والصناعة، لا ثروة فيها.
فرأى أن يفاتح جاهين بك، الزعيم الذي أخلف البرديسي والألفي على لواء مراد، في أمر مصالحة نهائية، فقبل جاهين المفاوضة، واتفق مع الباشا على الإقامة في الجيزة، وعلى أن يكون له إيراد عشر نواح في الجيزة وثلاثين ناحية في البهنسة وإيراد الفيوم برمته، وجميع ذلك خال من كل ضريبة.
فلما وقع الفريقان هذا الاتفاق ذهب جاهين لزيارة الباشا، فأكرم محمد علي وفادته، ودعاه إلى تناول طعام الغداء على مائدة طوسن ابنه، فحذا مثل جاهين بك بغيره من أمراء المماليك إلى الاقتداء به، حتى إن كثيرين منهم تركوا حياتهم البدوية وأتوا وانتظموا تحت رايات محمد علي، وحتى إن إبراهيم بك الكبير نفسه أرسل إلى القاهرة مرزوق بك ابنه بحاشية عديدة.
فأدى ذلك إلى وضع مشروع اتفاق عام، منح البكوات بمقتضاه حق التمتع بإيرادات بلدان عينت لهم، على شرط أن يقدموا للميري كمية معلومة من الغلال، فوضعوا أيديهم على البلدان، ولكنهم لم يقدموا إلا جانبا يسيرا مما تعهدوا بتقديمه، فاضطر الباشا أن يخرج إلى محاربتهم بجيش يربو عدده على ستة آلاف مقاتل، غير أنهم لما رأوا هذه القوة أذعنوا! ووقعوا اتفاقا جديدا على قاعدة الاتفاق الماضي، لم يزد على هذا شيئا سوى فيما حتم على الأمراء من سكنى القاهرة، فأتاها أكثرهم ثقة بكلام الباشا، ولاقوا منه كل ترحاب وإكرام.
Unknown page