حل محل محمود ابنه عبد المجيد، وبدأ بالدخول في مفاوضات مع محمد علي، وسارت المحادثات نحو الاتفاق على قاعدة الوراثة في ملك كل ما في يده، ولكن الدول الخمس قدمت مذكرة مشتركة تنص فيها على وجوب عدم اتخاذ قرار فيما بين السلطنة ومحمد علي إلا بموافقتها (يولية 1839)، هذا الاشتراك مما رحبت به الدول فقد اعتبرته إحلالا للهيمنة الدولية على الشئون الشرقية محل الهيمنة الروسية، فهو تتويج لما بذلته إنجلترة من جهود في السنوات الأخيرة ضد محمد علي، ولكن شذت فرنسا وخرجت عن الجادة - وليتها لم تشترك في مذكرة يولية من أول الأمر - وعملت من ناحيتها على حث السلطنة ومحمد علي على تسوية الخلاف فيما بينهما، الأمر الذي قتلته المذكرة المشتركة، ولما أحس بالمرستون بذلك ضرب ضربته؛ فعقد المعاهدة الرباعية المشهورة من إنجلترة والروسيا والنمسا وبروسيا (15 يولية 1840).
وتنص المعاهدة على منح محمد علي باشوية مصر وراثية في بيته، ومنحه جنوبي الشام مدة حياته، ثم تدرجت في نقص المنح إلى حد استرداد كل شيء منه بقوة السلاح إذا لم يذعن في الأوقات المحددة.
وقابلت فرنسا المعاهدة التي عقدت بالرغم عنها بعاصفة من الاحتجاج، لم يأبه لها بالمرستون كثيرا لاعتقاده الصحيح أن ملك فرنسا لوي فيليب لن يوافق على إعلان الحرب إذا جد الجد، واعتقد رئيس وزرائه تيير أن إجماع أوروبا لن يطول فنصح لمحمد علي بألا يذعن، ولكن لا يهاجم، بل يقف موقف الدفاع، وبئست النصيحة، كان الأولى بمحمد علي إما أن يقبل عرض الدول الأول «مصر وراثية وجنوبي الشام مدة حياته» أو يتخذ خطة الهجوم، قبل تأهب الدول للعمل المشترك، على قاعدة السلطنة: القسطنطينية.
لو فعل ذلك لأصبح في موقف لا تسهل زحزحته عنه، فهو بهذا يفتح باب المسألة الشرقية على مصراعيه، وهذا الفتح التام يصدع أي جبهة أوروبية مهما بلغ من اتحادها، أما خطة المقاومة السلبية فكانت فيها بذور الهزيمة، والنقد سهل من بعيد، وأجمل منه أن نبعث على البعد بتحية إعجاب وعطف للشيخ الذي صمد للمحنة مرفوع الرأس يستعد للوقفة الأخيرة؛ فأخذ يستدعي جنوده من الجزيرة العربية، ويؤلف فرقا جديدة وينشئ معسكرا دفاعيا في دمنهور، ويشجع على تأليف الحرس الوطني .
وأدرك رجال السياسة أن قد آن وضع حد لما هم فيه من استخدام القوة المجردة الغشوم، أدركوا أن خصمهم وراءه قوة تؤيده من الرأي الأوروبي المستنير؛ لذلك - وعلى الرغم من انهيار الدفاع المصري عن الشام، رحب رجال السياسة بالاتفاق الذي عقده الضابط البحري ناييير - دون تفويض له من حكومته بذلك - مع محمد علي في نوفمبر من سنة 1840، وبموجبه تعهد محمد علي بإخلاء الشام وإعادة الأسطول العثماني نظير منحه حكومة مصر بصفة وراثية، وعلى أساس هذا الاتفاق صدرت في سنة 1841 الفرمانات السلطانية المحددة لمركز مصر.
بدأ بتلك الفرمانات عهد الخديوية المصرية، ولكن الخديوية لم تتخذ شكلها في التأريخ إلا بعد موت محمد علي، ذهبت فتوحه واختفى أسطوله وانكمش جيشه ولكنه لا يزال مهيب الجانب، عالي الصيت، يتألق من جبينه جلال المشيب ونور المجد، فمنع عن مصر في السنوات التي بقيت له النزول إلى ما قدره لها أصحاب تسوية سنة 1841، إلى مرتبة النيابات العثمانية الراكدة ومناطق المشروعات الاستغلالية الأوروبية.
ولئن أخفق محمد علي في تحقيق مشروعه الخطير: إحياء القوة العثمانية؛ فقد نجح في وضع قواعد الدولة المصرية على أساس مكين.
الفصل الثامن
قضى محمد علي على تشتيت السلطان وتجزئته وأقام الدولة الجديدة، يخضع لها الجميع، وتتكفل بواجبات الدولة في العصر الحديث، شعارها - بل وروحها - السماحة، لا لأنها تجردت من الصفة الدينية، أو قصرت دائرة عملها على حد المصالح الدنيوية أو قامت على نوع من الفصل فيما بين الدين وبين السياسة؛ بل كان ذلك لاعتبارها أن الحياة الاجتماعية في العصر الحديث قد تطورت تطورا يسمح عمليا بقبول فكرة التعاون لتحقيق أغراض سياسية واجتماعية بين أناس يختلفون دينا ولكن تربطهم روابط إسلامية في حقيقتها، وبقيت القيم التي يعتد بها في تشكيل سلوك الأفراد وعمل الحكومة قيما إسلامية.
وقضى محمد علي على فكرة المشاركة والمقاسمة في الأموال العامة وتناهبها، وأقام مكانها العمل على إحياء الموات، فوقف الخراب عند حد، ثم ارتد أمام تقدم العمران، واستلزم هذا في أوله تقييد حرية الفرد، فإن محمد علي رفض الفكرة القائلة بأن الإنسان يستطيع أن يفعل ما يشاء بما تملكه يمينه، وأكد واجب ولي الأمر في توجيه الجهود الفردية نحو غايات اجتماعية، فخرج في ذلك عن الحد الذي رسمه بعض مفكري عصره عندما قصروا واجب الحكومة على مهمة المراقبة والحماية عند الاقتضاء فحسب، وقد عرفنا أن الاعتبارات العملية السائدة بررت موقفه تمام التبرير، وأدركنا أن خططه كان من شأنها في النهاية، وعلى الرغم مما اتخذته من حيطة أن تؤدي إلى فك القيود، وإزالة العقبات من طريق التبادل الحر والجهود الفردية الطليقة.
Unknown page