ابتدأت السياسة الأوروبية تتحرك وابتدأت السلطنة مفاوضات وهمية مع محمد علي لكسب الوقت، ولما ظنت أنها قد استعدت تحركت، وحدث ما توقعه محمد علي، فإن إبراهيم هزم الصدر الأعظم رشيد محمد هزيمة ساحقة عند قونية في ديسمبر 1832 وانفتح طريق القسطنطينية، وتقدم إبراهيم ولكنه عندما بلغ كوتاهية أمره أبوه بالوقوف، وكان الداعي لذلك تدخل الروسيا في الأمر، عرض القيصر على السلطنة مساعدتها بقواته البرية والبحرية، وطلب إلى محمد علي الكف عن القتال.
وكف إبراهيم عن التقدم، واستنجد السلطان بإنجلترة قبل أن يقبل ما عرضه عليه القيصر، طلب منها أن تعينه بأسطولها، ورفضت الحكومة الإنجليزية المعاونة المادية؛ لحاجتها إذ ذاك لكل قواتها بسبب مشكلة الحركة الاستقلالية البلجيكية، وسعت هي وفرنسا لحمل محمد علي والسلطان على تصفية ما بينهما آملتين أنهما بذلك يجعلان العرض الروسي لا لزوم له، أعلنت كل من فرنسا وإنجلترة تمسكها بسياسة المحافظة على الدولة العثمانية، «ولكن - كما قال بالمرستون وزير الخارجية لوكيله في القاهرة - لما كان من غير المستطاع إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، فالحل الوحيد في هذه الظروف أن تعهد حكومة السلطنة حكم ولايات الشام إلى محمد علي بشرط أن يؤدي الجزية عنها وأن يعين السلطان حربيا إذا اقتضى الحال ذلك، وبهذا الحل تصان مصالح السلطنة ولا تنقص مواردها المالية والعسكرية»، وسلم السلطان في النهاية بهذا الحل مضيفا على الولايات الأربع جزيرة كريد ومنطقة أضنه.
سلم السلطان بهذا، ولكنه نفث في الاتفاق وجو الاتفاق سما، فعقد مع القيصر معاهدة انكيار اسكله سي (يولية 1833) في ظاهرها معاهدة تحالف وفي جوهرها معاهدة حماية، كرهتها فرنسا وإنجلترة، وكرهت إنجلترة معها محمد علي، واعتبرت أن حركته التي لا تبطل وطموحه الذي لا حد له حملا السلطان على أن يضع نفسه في هذا الموضع المذل، ثم رتبت على ذلك النتيجة الظالمة: يجب أن أنافس الروسيا في حماية السلطان بكل سبيل، ويجب أن أقف في وجه محمد علي في كل مكان، يجب أن أعاديه بحيث يعرف السلطان أني أنا - لا الروسيا - الصديقة الصدوقة.
وقفت له في اليمن، ثم وضعت يدها على عدن، وهددته ألا يقترب من الفرات ومن الخليج الفارسي، وتصدى قناصلها للحكومة المصرية في سوريا؛ يعرقلون عملها ويسفهون عمالها ويبذرون بذور الشقاق والاستياء في بلاد علم الله قلة حاجتها للشقاق والكراهية، وكانت القنصليات الإنجليزية في الشام والسفارة الإنجليزية في القسطنطينية قواعد تلك الحملة العدائية، وإذا ما شذ قنصل عن ترداد النغمة التي تحبها وزارة الخارجية كان نصيبه العزل كما حدث لقنصل القاهرة كامبل عندما حاول أن يكون أمينا لخدمة بلاده بقول الحق.
وحاولت الحكومة الإنجليزية أن تهدم قوة محمد علي من الأساس بحمل الباب العالي على إلغاء الاحتكارات التجارية في معاهدة تجارية كرهها التجار الإنجليز في مصر - وهم أعرف بمصالحهم - ولم يروا فيها إلا عملا سياسيا مستترا بثوب تجاري، وهذا كله بأسلوب خلا من كل ما اصطلح عليه الناس في الغرب والشرق من أدب التعبير وحسن الخطاب، موجه إلى عصامي عرف الناس جميعا قدره، وقدره خصومه كما قدره أصدقاؤه ، رجل قد يحارب وقد يعادي ولكنه رجل لا يهان، ويأتي المؤرخ ددويل وينكر - بعد كل ما أورد - على من قال من المؤرخين المصريين، بأن الحكومة الإنجليزية حاربت عظمة مصر في عهد محمد علي، قولهم.
قابل محمد علي البذاءة بالتغاضي عنها؛ فهي لم تجر أبدا على لسانه، وقابل العداوات الصغيرة بالترفع عنها؛ فهمته أسمى من العداوات الصغيرة، وفي أسوأ الأوقات عندما تحرجت الأحوال واستخدمت الدول قوة السلاح ضده حافظ على مصالح رعاياها أدق محافظة، فلم يمسس لهم بريدا ولا مالا ولا شخصا، بل وذهب مرة في المجاملة إلى حد أن وضع تحت تصرف القنصل الإنجليزي باخرة من بواخره لتحمل إلى مالطة نبأ انتصار عسكري إنجليزي في الشرق كان يهم الحكومة الإنجليزية سرعة إرساله!
وعندما قطعت الدول علاقاتها به وانسحب القناصل من مصر، أتدري ما حدث؟ رفض التجار وغيرهم من الإنجليز أن يتبعوا قنصلهم ويغادروا مصر، فالحرب حرب اللورد بالمرستون، وبعثت إليه غرفة التجارة البريطانية ببنغالة في الهند برسالة تحيي فيها المثل الذي رسمه للأمم المسيحية في ضبط النفس المطمئن، وفي سنة 1842 ضرب التجار الإنجليز ميدالية ذهبية نقشوا عليها رسمه وسجلوا عليها حمايته النبيلة للمصالح الإنجليزية.
ومضى محمد علي في السنوات التالية لتسوية سنة 1833 في سبيل الجد، حاول أن يصنع في الولايات الشامية ما صنعه في مصر؛ أن يقيم سلطة عامة واحدة شعارها السماحة، وشغلها إحياء الموات، ودرعها الجيش الوطني، تصرف الناس عما درجوا عليه من تناهب الأموال العامة وترك الخراب يطغى رويدا رويدا على ما هو عامر، وكره لحمل السلاح في خدمة السلطان وإن كانوا يحملونه لشفاء الأحقاد الطائفية والشخصية، ولو خلص له الأمر في الولايات الشامية لتغلب على تلك الصعوبات تغلبه على مثيلاتها في مصر، ولكن الأمر لم يخلص له؛ تصدى له القناصل وترحموا على زمان سهل رغيد كانت لهم فيه مساهمة فيما سميناه حكومة التناهب، وتصدى له كل أصحاب «الحقوق» المكتسبة من أنصار زمان المذابح، وخلف الجميع السفارة الإنجليزية في القسطنطينية «والمابين الهمايوني» والسلطان عينه لا تنام، وقلبه دائم الخفقان، مستعد لأن يفعل كل شيء وأن ينزل لأي حضيض وأن يبذل أي تضحية لشفاء ما في نفسه، فأخذ يجيش الجيوش ويعد العدة؛ واستقدم فون ملكته البروسي ونفرا من أبناء جنسه لتدريب الجيش واستخدم ضابطا من الإنجليز في الأسطول.
وكان لا بد لمحمد علي من أن يكون أيضا مستعدا، حذرت الدول محمودا ومحمد علي من عواقب التمادي فيما هما فيه، وإن اختلفت لغة الخطاب في الحالتين، اختلفت لدرجة أن محمودا فهم من الثنايا «أن استمر فيما أنت فيه وأن الهزيمة نفسها لن تضيرك»، وقال القنصل كامبل في هذا الأمر كلاما معقولا، قال: إن الإنصاف يقتضي ألا يرغم محمد علي على نزع سلاحه دون أن تضمن له الدول الاحتفاظ بما في يديه، وتعمل عملا جديا على أن تحمل السلطان على نزع سلاحه هو أيضا.
وقبل محمد علي تلك الضمانة؛ فقد ضاق في تلك السنوات ذرعا بثقل أعباء التسليح والجزية مع التقدم نحو الشيخوخة دون أن يصل إلى نظام ثابت مستقر للمستقبل، فهم في سنة 1838 بإعلان الانفصال مهما كانت نتائجه، ثم غلب عليه اعتداله الطبيعي فتريث، وأخيرا عبر الجيش العثماني الفرات في إبريل سنة 1839 وطلبت الروسيا من إبراهيم أن ينسحب إلى دمشق واعدة بمخاطبة السلطان في الارتداد عن حدود الشام، فأجاب محمد علي بأنه على استعداد للانسحاب إذا عاد الجيش العثماني إلى ما وراء الفرات، وضمنت له الدول عدم اعتداء السلطان عليه وحق وراثة مصر لأبنائه من بعده، إن فعلت ذلك قبل تخفيض جيشه في الشام وتسوية نهائية مع السلطنة، ولما مل الانتظار، وسئم دسائس حافظ باشا - قائد الجيش العثماني - بين أهل الشام أمر إبراهيم بالهجوم، فهاجم إبراهيم معسكر حافظ باشا في نزيب «نصيبين» وحطم الجيش العثماني (يونيه من 1839)، وحدث بعد هذا بقليل موت السلطان وتسليم الأسطول العثماني لمحمد علي على يد قائده الأعلى، وقد خشى انهيار السلطنة نهائيا فسلم الأسطول إلى من ينبغي أن يكون رجلها.
Unknown page