ولم تستطع أوروبا المعاصرة أن تجعل محمد علي كما تريد، ولا نستطيع نحن أن نجعله كما نريد، فالرجل - كما كان - لم يكن جماع باشويات، بل كان رجلا عبقريا نشأ في عالم ذي موقع فذ وسمت همته لأن يعيد لذلك العالم حيويته ومكانته وسيرته، موفقا بين غابره وحاضره، ملائما بين حاجاته وحاجات الإنسانية جمعاء، ورأت أوروبا المعاصرة أن مصالحها تقتضي بقاء ذلك العالم على حاله، فكان تألبها على إفساد المشروع وفشله.
ينتمي محمد علي لطور من أطوار التفكير الإنساني لا يعرف لتنظيم الحياة السياسية إلا أساسا واحدا، هو: وحدة الحضارة، أو ما يمكننا أن نسميه: وحدة التمسك التاريخي. وهذه الوحدة لا تتنافى مع انفصال الأوطان بل ولا تتعارض مع تعلق الناس بأوطانهم الخاصة، ولا تشترط إلا عدم فناء الكل في الأجزاء، فلا يضيرها نماء جزء لإحياء الكل، وهذا النوع من التنظيم لا يستلزم حتما وحدة الحكومة فيكتفي أحيانا بغير الحكومة من النظم العامة، وقد تكون دينية أو ثقافية أو قانونية، وهكذا.
وفي ظل هذا النوع من التنظيم السياسي تتنوع طرق زعمائه تبعا لظروف أزمنتهم؛ فمنهم من يحاول منع قيام الوحدة السياسية؛ حرصا منه على استقلال جزئه، ومنهم من يحاول تقوية الجزء ليؤثر به أو يسير بواسطته في السلطة العامة السياسية عند وجودها، كما أن منهم من قد يهدم تلك السلطة العامة أو ينقلها لنفسه، هذا من حيث العلاقات الداخلية في الوحدة، أما عن العلاقات الخارجية فوجهة نظر الزعماء إليها تتنوع هي الأخرى بحكم ظروف الأحوال، منهم من يتأثر بفكرة المحافظة على نوع الحضارة فيتجه عمله للجهاد، ومنهم من يتأثر بفكرة بسط سلطان الحضارة بالاستعمار، كما أن منهم من يحاول - في ظلال السلم - تنمية العلاقات الاقتصادية والثقافية، وما إلى ذلك.
هذا مثل العالم الذي نما فيه محمد علي وغيره من أعلام الإسلام، اخترنا منهم صلاح الدين لتقريب فكرتنا عن محمد علي، وقد لاحظنا عند ذاك أنه اتخذ من مصر قاعدة لإحياء دار الإسلام للحرب، وفرقنا بينه وبين محمد علي لذلك، والآن نعرض مثلا آخر، نختاره من عالم آخر: العالم اليوناني بعد موت الإسكندر، والعلم الذي سندرسه يتفق مع محمد علي في أن القاعدة التي عمل منها كانت مصر.
قال مؤرخ مصر البطليموسية الرومانية الأستاذ بييرجوجيه في تحليله لسياسة بطليموس الأول: «لكي يخلق من مصر ملكا غنيا قويا عمل بطليموس على أن يضم إليها مكملاتها الطبيعية، برقة في غربيها وسوريا (وعلى الأخص أجزاؤها الجنوبية) شرقيها؛ ذلك لأن مصر كانت تستورد من سوريا ما تحتاج إليه من الأخشاب والمعادن، كما أنه عمل على أن يهيمن على الطرق التجارية التي كانت تنتهي عند الإسكندرية أو مراسي البحر الأحمر، كطريق النيل الآتي من قلب القارة الأفريقية ومسالك الصحراء التي تنتهي عند مراسي البحر الأحمر ... وهذه المراسي كانت تصل إليها أيضا حاصلات بلاد العرب وسواحل أفريقية والشرق الأقصى، وكطرق البحر المتوسط بصفة خاصة، وقد ترتب على ذلك أنه سعى لربط مملكته بالجزائر القريبة: كريد وقبرص ورودس وجزائر بحر الأرخبيل، وذلك بواسطة التحالف والصداقة أو السيطرة والحماية، كما ترتب على ذلك أيضا محاولته بسط نفوذه في مدن الساحل الفينيقي والأناضولي؛ إذ كانت تلك المدن نهايات الطرق الآسيوية الكبرى الآتية من بلاد الحرير والتوابل. ويتضح من هذا كله أن تلك السياسة تتنافى مع بقاء وحدة الإمبراطورية المقدونية سياسيا، وتعمل دائما على منع عودة تلك الوحدة بمحاربة كل من يسعى لإقامة دولة الإسكندر من جديد»، وآثر البطالسة وحدة من نوع آخر، وحدة الثقافة، فكانت جامعة الإسكندرية.
هذا إلى أن الفواصل بين البطالسة وأهل مصر ألزمت الملوك بتأكيد المظاهر الفرعونية في ملكهم المنفصل عن العالم اليوناني، كما أن ذلك العالم لم يشهد بعد انتشار قوة الجمهورية الرومانية في البحر المتوسط، فلم تكن الحاجة إلى العمل لتوحيده سياسيا ظاهرة ظهور الحاجة لبقائه مشتتا، وفي الأمرين يختلف موقف محمد علي عن موقف بطليموس؛ يختلف أولا: في أن محمد علي ورعيته ينتميان إلى عالم واحد، ويختلف ثانيا: في أن العالم العثماني متصل بأوروبا من جهة وبالأقطار الأخرى من دار الإسلام من جهات أخرى، فكانت السلامة في الوحدة لا في التجزئة، وكانت القوة والرفاهية في إدارة عقل واحد لملك متنوع الموارد، متنوع السكان، يملك أقصر الطرق بين الشرق والغرب.
وإنا بهذا التصور للخطة المحمدية العلوية؛ نذلل كل الصعوبات التي تعترضنا في فهم أعماله ونستغني عن «اختراع» تفسيرات لها، فلا نحتاج عندما نتكلم على شرح حملته على بلاد العرب أو إخماده الثورة اليونانية أو فتوحه في السودان إلى أن نقول: إنه لم يستطع عصيان أمر السلطان إذ ذاك فلم يسعه إلا الرضوخ، أو أنه أحب أن يتخلص من هذه الجماعة أو تلك من العسكر، أو أحب أن يجد ذهبا ... هذا كله - وأمثاله - موضعه تاريخ «الدايات والبايات والباشويات والزعامات» لا تاريخ محمد علي.
فهو يقضي على البغاة أو الثائرين؛ لأنه يعمل على إحياء العالم العثماني، ولأن الإحياء خطته هو، والعمل عمله هو، ولا نحتاج عندما نتكلم على حروبه مع حكومة السلطنة إلى البحث فيما وعد السلطان ولم ينجز، أو إلى الفصل فيما بينه وبين والي عكا من خصام، بل نرتفع بالبحث إلى مرتبة أرقى فنقول: أتعذر على محمد علي أم لم يتعذر المضي في عمله بلا إرغام لحكومة السلطنة على التسليم له بحرية العمل؟ وهكذا نتصور الأمر. •••
في فترة توازن القوى التالية لمعاهدة تلست، وفي سواحل وأراضي البحار العربية التي كانت تكون الحدود المبهمة للعالم العثماني؛ كانت أعمال محمد علي الأولى لإحياء القوة العثمانية، وكانت الدولة منذ أن عجزت عن إقصاء البرتغاليين ومن جاء بعدهم من رجال البحر والتجارة الأوروبيين عن البحار العربية، ومنذ أن تخلت عن سواحل اليمن في منتصف القرن السابع عشر قد تركت - فيما عدا الاهتمام الذي لا غنى لها عنه بالحجاز - شئون البحار العربية ومناطقها لأهلها وللاستعمار الأوروبي، فنمت أنواع مختلفة من السلطان العربي في مناطق الخليج الفارسي، وسواحل بلاد العرب الجنوبية وسواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي في أفريقية وآسيا، وانعزلت تلك الشياخات والإمارات والسلطنات عن الحياة العثمانية العامة السياسية والاقتصادية، واضطرت إلى تدبير معاشها والاحتفاظ بكيانها بالعمل في التجارة البعيدة والقريبة وفي مناطق الاستعمار العربي، على الساحل الأفريقي أو في الجزائر والسواحل الهندية وما وراءها، كما سعت إلى إنشاء صلات نظامية بالأمم الأوروبية صاحبة المستعمرات والوكالات التجارية في تلك المناطق.
وكان لحكومة السلطنة نوع مبهم من حقوق السيادة، تباشرها وتتولاها من عدة قواعد: القاعدة الأولى؛ ولاية جدة، وتلحق بها الدولة عادة ولاية الحبش (والطريف أن بعض المطلعين على وثائق ذلك العهد «يصححون» لقب إبراهيم باشا والي الحبش إلى والي الجيش) والمفهوم أن ولاية الحبش تمتد امتدادا لا يمكن تحديده على ما نعرفه الآن بسواحل السودان وإريترية والصومال الفرنسي، أما مقدار امتدادها للأراضي الداخلية فلا تحديد له، وينبغي أن نلاحظ هنا أن وصل فتوح محمد علي السودانية بمناطق النفوذ العثماني على البحر الأحمر أضبط تاريخيا وأدق من وصل تلك الفتوح - كما يفعل المحدثون - بالفكرة النيلية البحتة، وكانت ولاية جدة أيضا إحدى قواعد العمل في الحجاز، قلنا العمل؛ لأن الدولة لم تستطع أن تمنع قيام نوع من الحكم الثنائي في مكة يتركب من حكم بيوت من الأشراف والنفوذ العثماني.
Unknown page