Muhalhil Sayyid Rabica
المهلهل سيد ربيعة
Genres
وذاعت في حلل تغلب بعد حين ذائعة من رحيل المهلهل، فأسرع جمهور من شيوخها وكهولها إليه ليردوه عن قصده، ويحاولوا الاعتذار عما أجرم بعضهم في التطاول عليه، فلم يجدهم ذلك، وأصر المهلهل على المسير عنهم بأهل بيته.
وفي بكرة الصباح التالي اجتمع الناس رجالا ونساء لينظروا إلى بطلهم النظرة الأخيرة، ولم يملك المهلهل وهو يلقي عليهم آخر نظراته إذ ينحدر في سيره وراء الكثبان البعيدة أن يمسح دمعة غلبته، دمعة الأسى على فراق قوم طالما شاركهم وشاركوه في مخاطر الحروب وفي نشوة النصر وفي كسرة الهزيمة.
الفصل الخامس عشر
بعد عامين من ذلك اليوم كان المهلهل يسير وحيدا، لا رفيق له ولا أنيس، بعد أن قتل ابن أخيه الهجرس في غزوة من غزواته، وبعد أن قتل رفاقه القلائل واحدا بعد آخر في مصادماته العدة مع القبائل التي كان يمر بها. وهان أمره في القبائل حتى اضطر إلى تزويج ابنته الجميلة سلمى مرغما صاغرا من غير أكفائها، ولم يستطع في ضعفه أن يعاقب خاطبها الجريء، بل أجابه إلى زواجها وقلبه يتحرق، والعجز يخرس لسانه. وأخذ يضرب في الأرض بعد ذلك وحيدا إلا من عبدين وراحلتين وفرسه المحبوب «المشهر» وسيفه ودروعه التي آلى على نفسه منذ أعوام طويلة ألا يخلعها عن جسمه.
كان المهلهل بعد عامين من تلك الحياة المضطربة يسير وحيدا في صحبة عبديه، يريد النزول إلى جوار ماء من مياه هجر، بعد أن جفت بقايا الأمطار في القفر الذي اتخذه موطنا، فمر في أرض ينزل بها جماعة من بكر؛ من بني قيس بن ثعلبة قوم الحارث بن عباد. فسمع عوف بن مالك كبير القوم بمروره وخشي أن يكون قد أقبل عليه مغيرا يطلب غرة فيستاق من الأموال والنعم ما يجد، ثم يمضي سريعا كما كان يفعل كلما مر بقبيلة من بكر. فأرسل إليه كتيبة صغيرة ترصد له، حتى إذا ما اقترب منها وقفت تعترض سبيله. فأسرع العبدان إليه خائفين وقالا وهما يرعدان من الخوف: «هذه جماعة من بكر!» فنظر إليهم المهلهل كاسفا وقال كأنه يخاطب نفسه: «أين مني الأحرار؟» ثم صاح بهما وقد أشرع رمحه: «تنحيا عني لا أبا لكما.»
ومضى في سبيله والعبدان يسيران خلفه في بطء، وقد انخلع قلباهما، حتى إذا ما صار عند القوم أراد أن يخترق صفهم لا يلتفت إلى يمين ولا إلى يسار. وغمز فرسه المشهر فاندفع مسرعا حتى خالط الصف، وأوشك أن ينفذ من بينهم، فثار البكريون لهذه الجرأة واخترطوا سيوفهم واندفعوا إليه فأحاطوا به من كل جانب ولكنهم لم يمسوه؛ فقد كان أمر عوف بن مالك أن يعودوا به أسيرا.
ومضى المهلهل في سبيله ورفع الرمح فأهوى به على أقرب فارس منه فطعنه في صدره فألقاه صريعا، واضطربت الجماعة لحظة تمكن المهلهل في خلاها من أن يخرج من دائرتها، وأشرع الرمح مرة أخرى وأهوى به على فارس آخر يقصد قلبه، فتلقى الفارس طعنته في مجنه، وأسرع الفرسان فالتفوا حوله مرة أخرى وضرب أحدهم رمح المهلهل بسيفه فقصمه وصاح قائلا: «أسلم نفسك قبل أن نزيل هذا الرأس الأحمق عن جسدك.»
فتكبر المهلهل أن يرد على الرجل، وأسرع كالبرق فاستل السيف وأهوى به على رأسه فأرداه عن فرسه.
فاستشاط الفرسان غضبا واندفعوا نحوه من كل جانب يضربونه بسيوفهم وهو يراوغهم، ويتلقى ضرباتهم ما استطاع؛ يتلقاها على سيفه تارة وعلى مجنه أو درعه أخرى، حتى ظن القوم أنه قد أعجزهم، وعزموا على الفتك به فتصايحوا: «لا تبقوا على الوغد!»
ولكن المهلهل قاوم ودافع حتى كاد يأتي على آخرهم، لولا جراح أصابته نزفت منها دماؤه فأضعفته عن المقاومة، ومال عن سرجه خائر القوى، ولا يزال السيف في يده يقطر من دماء بني بكر.
Unknown page