Muhalhil Sayyid Rabica
المهلهل سيد ربيعة
Genres
بعد ساعة كانت قبائل بكر تتحرك سائرة نحو قضة، وهي تملأ فضاء الأرض بالخيل والرجال، والمطايا من الإبل فوقها الظعائن من النساء، تليها الروايا تحمل الماء، وفي آخر القوم جاء العبيد يسوقون جنائب الخيل والإبل لتحل محل ما يقتل في الحرب من الدواب.
وكان اليوم التالي صنو سابقه في الحر اللافح والريح الثائرة والشمس المحرقة والرمال السافية. واجتمعت قبائل بكر كلها تحت لواء الحارثين؛ الحارث بن عباد على جناح، والحارث بن همام بن مرة على جناح، وأبطال القبائل كل منهم في قومه يتساندون ويتعاونون فيما بينهم، والتقى الجيشان، فكان أول من برز من بكر جحدر بن ضبيعة يلتمس ثمن شعره الذي لم يحلق، واندفع إلى تغلب فجأة فاحتضن أول فارس طلع عليه، ولم يكن التغلبي على استعداد لذلك النوع من المنازلة، فهي طريقة ابتكرها الحارث بن عباد وتعلمها منه في ذلك اليوم جحدر بن ضبيعة؛ أن يهجم على عدوه في سرعة البرق الخاطف، فلا يضرب ولا يطعن، ولكن يحتضنه ويعدو به راجعا إلى قومه. وعاد جحدر بأسيره مطروحا أمامه على ظهر الفرس وهو يحرك رجليه وذراعيه في الهواء يائسا. فضحك فرسان بكر وصاحوا مرحبين، وغضب فرسان تغلب وتصايحوا يحرض بعضهم بعضا على دفع الهجمة بأخرى مثلها، وما هو إلا قليل حتى التحم الجيشان في حرب عامة.
ومضى معظم النهار والقتال على استعاره، والحارث بن عباد يطعن ويضرب في تغلب، والمهلهل مع جراحه يفري فريا في بكر، ودفع جحدر المسكين ثمن لمته عظيما، فإنه ما زال يحارب حتى جرح، فلما مرت به فتيات بكر حسبنه تغلبيا، فطلب منهن شربة ماء فأهوين عليه بالهراوي، وهو كلما صاح بهن أنه بكري حسبنه يخدعهن فزدن في ضربه شدة حتى قتلنه كما قتلن كل جريح آخر غير حليق.
ولما أحست تغلب شدة وطأة عدوها عليها لجأت إلى الحيلة القديمة عند العرب، فأدبرت مستهزمة، وتبعتها بكر وهي تظن أن اليوم قد انتهى إلى نصر تشتفي به من عدوها، ولكنها ما كادت تبلغ وسط السهل، حتى رأت تغلب وقد وقفت فجأة عندما نادى المهلهل صائحا: «وا كليباه!»
وكانت تلك علامة فوقف الفرسان وارتدوا على بكر وهي في تفككها مستنيمة إلى توهم النصرة، واهتزت بكر هزة عنيفة من الصدمة، وأقبل عليها المهلهل كالصاعقة، وحوله حلقة من الصناديد يضربون كأنهم يحصدون حصدا، فتردد البكريون مليا ثم تزعزعوا، ثم لووا لجم الخيل وولوا الأدبار يطلبون النجاة من سيف المهلهل ومن حوله.
وكانت فتيات بكر عند ذلك في آخر السهل يسعين سعيا حثيثا ليدركن قومهن الذين أسرعوا في آثار تغلب المنهزمة. وفيما هن في سيرهن أبصرن فرسان بكر مقبلين نحوهن منهزمين، وقد تصدعت صفوفهم وتشتت شملهم وخيول المهلهل في آثارهم تصيح: «وا كليباه!»
فوقفن صفا في طريق الخيول المقبلة، وخرجت ابنة الفند إلى صدر الصف، وصاحت: «إلى أين يا خفاف القلوب؟»
وأخذت تنشد والفتيات ينشدن وراءها:
إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق
Unknown page