الكتب الإلكترونية، هبة العصر
تقديم للطبعة السابعة
عشرون عاما على «المغامرة»
فاتحة
سفر البداية
1 - التكوين السومري
2 - التكوين البابلي
3 - التكوين الكنعاني
4 - التكوين التوراتي
5 - ألواح التكوين السبعة وأيام التكوين السبعة
سفر الطوفان
1 - الطوفان السومري
2 - الطوفان البابلي
3 - الطوفان التوراتي
4 - أساطير الدمار الشامل
سفر التنين
1 - التنين السومري
2 - التنين البابلي
3 - التنين التوراتي
سفر الفردوس المفقود
1 - الجنة السومرية
2 - الجنة البابلية
3 - الجنة التوراتية
سفر قابيل وهابيل
1 - ثلاثة نصوص سومرية
2 - قايين وهابيل
سفر العالم الأسفل
1 - الجحيم السومري
2 - الجحيم البابلي
3 - الجحيم التوراتي
سفر الإله الميت
1 - هبوط إنانا إلى العالم الأسفل
2 - هبوط عشتار إلى العالم الأسفل
3 - هبوط بعل إلى العالم الأسفل
4 - هجرة الإله الميت
5 - الإله المخلص
6 - السيد المسيح «آخر المخلصين»
تعريف بأهم الآلهة
مراجع الكتاب
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
تقديم للطبعة السابعة
عشرون عاما على «المغامرة»
فاتحة
سفر البداية
1 - التكوين السومري
2 - التكوين البابلي
3 - التكوين الكنعاني
4 - التكوين التوراتي
5 - ألواح التكوين السبعة وأيام التكوين السبعة
سفر الطوفان
1 - الطوفان السومري
2 - الطوفان البابلي
3 - الطوفان التوراتي
4 - أساطير الدمار الشامل
سفر التنين
1 - التنين السومري
2 - التنين البابلي
3 - التنين التوراتي
سفر الفردوس المفقود
1 - الجنة السومرية
2 - الجنة البابلية
3 - الجنة التوراتية
سفر قابيل وهابيل
1 - ثلاثة نصوص سومرية
2 - قايين وهابيل
سفر العالم الأسفل
1 - الجحيم السومري
2 - الجحيم البابلي
3 - الجحيم التوراتي
سفر الإله الميت
1 - هبوط إنانا إلى العالم الأسفل
2 - هبوط عشتار إلى العالم الأسفل
3 - هبوط بعل إلى العالم الأسفل
4 - هجرة الإله الميت
5 - الإله المخلص
6 - السيد المسيح «آخر المخلصين»
تعريف بأهم الآلهة
مراجع الكتاب
مغامرة العقل الأولى
مغامرة العقل الأولى
دراسة في الأسطورة: سوريا وبلاد الرافدين
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970م بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني،
وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي،
فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة
دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن
الكتابة.
وفي عام 1971م قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت
خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة
وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما
يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي
مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت
دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب
الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية،
ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم
في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في
20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل
هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع
المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
تقديم للطبعة السابعة
إنه إحساس غريب وجميل، ذاك الذي ينتاب المؤلف بعد أن يتصفح كتابه وقد خرج غضا طريا من رحم المطبعة البارد الصلب. إن كل كلمة من كلمات الكتاب وفكرة من فكره التي صارعها المؤلف وصارعته، وشذبها وشذبته خلال ليالي الأرق الطويلة، تنتمي له بالقدر نفسه الذي تنتمي فيه لنفسها وعالمها وحياتها ومنطقها الخاص.
فالكتاب كالوليد الجديد الذي ينتمي لأبويه بقدر ما يتمتع بذات منفصلة حقيقية؛ وجد مستقل، وحياة تنبض من نفسها ولنفسها. وكلما مرت الأيام ازداد الانفصال ترسخا والاستقلال توضحا وتمكنا. وكل عودة لتصفح الكتاب تؤكد للمؤلف هذه الحقيقة التي ليست بحال من الأحوال وهما أو إسقاطا؛ فبعد أن تتداول الأيدي الكتاب وتستطلعه العقول، يشتد عوده ويشب عن الطوق شاقا لنفسه طريقه الخاص، آخذا مكانه في ثقافة المجتمع وضمائر من قرأه وناقشه وحاجه، فقبل به أم ببعضه، أو عارضه فحرض فيه مواقف مغايرة وأفكارا جديدة، مخالفة. وعقب سنوات، إذا أقبل المؤلف على كتابه بعد طول انقطاع، لم يجد فيه أثرا لذلك الطفل الأثير المدلل، بل ذلك الكائن المكتفي الممتنع عن التغير والتبدل، الذي يحاوره محاورة الند للند.
هذا بالضبط ما حدث لي وأنا أقدم «مغامرة العقل الأولى» لطبعة سابعة.
لقد هممت به في محاولة لتعديل هنا، وإضافة هناك، ولكنه أبى وتمنع، وواجهني بمنطق داخلي متماسك، وبناء متراص لا تستطيع انتزاع حجر منه أو إضافة آخر، دون أن تحدث شرخا يهدد استقراره. فآثرت التراجع وإعطاءه الحق في حياة مستقلة يقرر القراء بأنفسهم مدى تجاوبها مع حياتهم ومسار تفكيرهم في دورة تداول سابعة.
أمر واحد فقط أود التعقيب عليه؛ فبسبب المواقف المسبقة التي يبحث أصحابها عن سند لاعتقادهم ودعم، كرسوا «مغامرة العقل الأولى» باعتباره كتابا في نقد الفكر الديني عموما، وكان هذا أبعد ما يكون عن أهداف الكتاب. لقد قلت في حوار مع إحدى المجلات العربية ما نصه: «لقد كان همي دوما البحث عن وحدة التجربة الروحية للإنسان عبر التاريخ، بصرف النظر عن مصدر الخبرة الدينية، وهل هي من أصل ما وراثي أم نتاج تجربة إنسانية وكدح روحي.» ففي موقفي بعض من تساؤل أحد المتصوفة الذي كان يناجي ربه قائلا: «من منا اقتحم الصومعة على صاحبه؟» أي: هل إن خبرة الإنسان الدينية هي حصيلة لإفصاح القدرة الإلهية عن مقاصدها، أم هي كدح من الإنسان لتلمس مقاصد القدرة الإلهية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي تجربة فردية محضة يعانيها كل في معزل، ولا أسمح لنفسي بالتطفل عليها بإعطاء إجابة ناجزة قد تعفي البعض من حرية الأرق لتضعهم في قيد طمأنينة مستعارة. ومن ناحية أخرى فإن نوع الإجابة لا يؤثر، في اعتقادي، على جوهر التجربة الدينية وعمقها ونتائجها لدى كل فرد. إن لقاء الإلهي بالإنساني قائم عبر تاريخ الإنسان الروحي، وذلك بصرف النظر عن «من اقتحم الصومعة على صاحبه».
ربما كانت الديانات السماوية الباقية اليوم هي نتاج لإبانة القدرة الإلهية عن مقاصدها. ولكن، هل نسم بالزيف كل تجربة دينية لثقافة كدحت في التعرف على مقاصد القدرة الإلهية دون عون من وحي؟ إن أكثر الملتزمين بحرفية النصوص المقدسة لا يقدر على الإجابة بنعم مطمئنة عن هذا السؤال.
ولمزيد من الإيضاح أستنجد في هذا المجال بصديقي وصديق كل من قرأه، الكاتب اليوناني «كزانتزاكس»، الذي أورد في مذكراته المشهد النابض الذي أنقله فيما يأتي عن ترجمة الزميل ممدوح عدوان: «توقفنا بين خرائب القصر القديم قرب عمود مربع من الجص المصقول على قمته العلامة المقدسة منقوشة، الفأس ذات الحدين. ضم الأب كفيه وحنى ركبتيه لحظة، ثم حرك شفتيه وكأنه يصلي. استغربت وسألته: ماذا، أتصلي؟! فقال: طبعا يا صديقي الشاب. كل شعب وكل عصر يمنحه الله قناعه الخاص به، ولكن وراء الأقنعة كلها في كل عصر وفي كل عرق يبقى الله هو ذاته، الله الدائم الذي لا يتغير. إن لدينا الصليب شارة مقدسة لنا، وأجدادك الأقدمون في كريت كانت لهم الفأس ذات الحدين، لكنني أنحي جانبا هذه الرموز الفانية، وأتحسس الله وراء الصليب، ووراء الفأس ذات الحدين. أتحسسه وأنحني له احتراما.»
دمشق 1/ 1/ 1988م
عشرون عاما على «المغامرة»
تقديم للطبعة الحادية عشرة
إن تنفد طبعة كتاب ما من الأسواق خلال بضعة شهور فهو أمر معتاد في عالم الكتب، وأن يعاد طبعه بعد ذلك مرتين أو أكثر خلال عدة سنوات أمر معتاد أيضا. أما أن يعاد الكتاب عشرين سنة وتتداول الأجيال عشرا من طبعاته خلال هذه المدة، فأمر نادر الحدوث. وهذا الأمر النادر قد وقع لكتاب «مغامرة العقل الأولى» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1976م، وتخرج من المطبعة الآن طبعته الحادية عشرة ونحن في عام 1996م. بعد كل إصدار جديد كنت أقول لنفسي هو الأخير، ثم أفاجأ بالناشر بعد عام أو عامين يطلب الإذن لطبعة أخرى، فتحل النسخة الجديدة محل النسخ النافدة في واجهات المكتبات ، ويرفض الكتاب أن يترجل عن مكانه بين مئات الكتب التي تصعد وتهبط رفوف الباعة.
من الطبيعي أن يشعر المؤلف بالرضا عن نجاح كتابه، ولكن الرضا قد تحول عندي بعد مدة إلى عجب وحيرة؛ فلقد قيل عقب صدوره بأن «مغامرة العقل الأولى» قد سد فراغا في المكتبة العربية، وهذا سبب نجاحه. ولكن لماذا بقي حيا كل هذه السنين رغم موجة الكتب المؤلفة والمترجمة التي استثارها صدوره؟ وما هي الحاجة التي بقي الكتاب يسدها حتى الآن؟ أصدقكم القول لست أدري، وإن كان لدي بعض التخمينات.
بعد العجب والحيرة حل عندي في الآونة الأخيرة نوع من الحسد والغيرة. صرت أغار من ذلك الشاب الذي ابتدأ الإعداد «للمغامرة» وهو دون الثلاثين، عندما كان يتسكع مدهوشا بين رفوف وفهارس المكتبات الكبرى في بريطانيا وأمريكا، من مكتبة المتحف البريطاني إلى مكتبة المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو، ويسجل أفكاره المبدئية في مقاهي ساحة البيكاديللي بلندن، وعلى أرصفة وحشائش حدائق واشنطن العاصمة. كان يتصل بمن استطاع من المؤلفين الذين قرأهم وأحبهم، ولا يتردد في طرق باب شخصيات علمية لا تقل مكانة عن أرنولد توينبي الذي استقبله في داره بلندن، واستمع إليه بتواضع جم، وأجابه عن كل ما سأل. وفي الوقت نفسه كان يختلط بالطلبة المتمردين في شوارع واشنطن وحول البيت الأبيض والكابيتول وضفاف نهر البوتاماك، وهم آخر موجة من موجات ثورة الشباب التي انطلقت من باريس عام 1968م، وبقيت أصداؤها تتردد على الجانب الآخر من الأطلسي حتى مطلع السبعينيات بتأثير حرب الفيتنام. كان يحاورهم ويشاركهم المسيرات الصاخبة التي تندد بالحرب وتدعو لإيقافها، ويستمع إلى أحلامهم عن تغيير العالم وإحلال قيم جديدة في المجتمعات الغربية.
لهذا فقد جاء كتابه مزيجا من غضب الشارع ومن صمت المكتبات، من رائحة العرق ورائحة الورق. ربما لهذا أحبه الشباب أكثر من غيرهم، وربما لهذا بقيت الحاجة إليه قائمة بعد عشرين سنة من ظهوره.
ولكن لماذا الغيرة؟ لأن الكتاب كان نتاج مغامرتي المعرفية في بواكيرها الأولى، وهي المغامرة التي تعقدت في مؤلفاتي التالية واتسعت، ومعها تعقدت واتسعت مساحة السؤال. ومع ذلك فقد بقي الكتاب «المغامرة» في مقدمة إخوته، أشبه بالابن الأصغر المشاكس الذي يرفض المزاحمة. ربما لأن البعض لم يعد يتبين عندي ذلك المزيج الذي أحبه من الثورة والتأمل، أو لأن الثورة عندي لم تعد في وضوح التأمل، رغم أن موقفي من ضرورة الكتابة لم يتغير؛ فأنا أومن بأن الكتابة لا لزوم لها إن لم تنطلق من النقد المستمر لما نعرفه ونركن إليه، ومن المفارقة الدائمة للمألوف في مغامرة غير هيابة نحو المجهول، تدجن فينا الخوف من غير المألوف.
وكما قلت في مقدمة الطبعة السابعة للكتاب فقد كسب «مغامرة العقل الأولى» المواجهة الحاسمة بيني وبينه، عندما أقبلت عليه في محاولة لإجراء بعض التعديلات وتقديم بعض الإضافات، ثم تراجعت. وكسب قارئ الكتاب الذي أراده كما هو خلال عشرين سنة.
فإلى القارئ أهدي هذه الطبعة الحادية عشرة وما يليها مع كل محبة وشكر وعرفان.
فراس السواح
مقدمة الطبعة الثانية والعشرين
رسالة مفتوحة إلى فراس السواح
بقلم رزق الله أيوب
وردتني هذه الرسالة على موقع مجلة «ألف» منذ سنوات، وقد وجدتها مناسبة لتكون مقدمة لهذه الطبعة يكتبها القراء. «من الطبيعي أن يشعر المؤلف بالرضا عن نجاح كتابه، لكن الرضا قد تحول عندي بعد مدة إلى عجب وحيرة؛ فلقد قيل عقب صدوره بأن «مغامرة العقل الأولى» قد سد فراغا في المكتبة العربية، وهذا سبب نجاحه. ولكن لماذا بقي حيا كل هذه السنين رغم موجة الكتب المؤلفة والمترجمة التي استثارها صدوره؟ وما هي الحاجة التي بقي الكتاب يسدها حتى الآن؟ أصدقكم القول لست أدري.» من مقدمة الباحث والمفكر السوري فراس السواح للطبعة الحادية عشرة لكتاب مغامرة العقل الأولى.
عندما ولدت مغامرتك الأولى يا سيدي لم أكن قد ولدت بعد. وعندما راودك هذا التساؤل كنت طفلا في الحضانة يلعب مع زملائه، ويحاول معهم فك ألغاز هذا الكون بعقله الضامر. لكن اليوم، لا أخفيك القول إنه راودني عين التساؤل الذي دار في ذاتك: ما الفراغ الذي سده هذا الكتاب في نفسي؟
يا سيدي ، إن كتابك قد سئم مني، أصبحت أرى الملل في عيون غلافه الذابلة، وكأن العقل الذي مد جناحيه استعدادا للمغامرة يحاول الآن الهرب من أحضاني. أصبحت أسمع عويل صفحاته وتوسلاتها، راجية الرحمة مني والراحة. ها أنا أكتب هذه الكلمات وقد انتهيت من قراءتي الرابعة عشرة لهذا الكتاب. هذا وقد حط بصري صدفة على مغامرتك في إحدى المكتبات منذ ما يقارب العام فقط. منذ تلك اللحظة أصبح فراس السواح بعيوني نبيا، كتبه أحاديث صحيحة، ومغامرته الأولى إنجيلا أعود له كلما تعطشت نفسي لملاقاة روحها.
ففي المرة الأولى التي خضت فيها المغامرة معك أصبت بالذهول. بدأت قراءة ذلك الكتاب عند منتصف الليل تقريبا، لكني لم أدعه حتى ظهر اليوم التالي بعد أن انتهيت من قراءة جميع أسفاره بنهم عظيم، وانتابني شعور بالضياع، لا يمكن لكلماتي أن تصفه. لكني أصبحت أشبه بنبي يجوب الشوارع منذرا الناس باقتراب يوم الدين، وكلما رأيت شخصا كلمته عن الكتاب ودعوته لقراءته، واستعرضت له بعض ما اكتسبت منه.
لكني في كل مرة أقرأ فيها هذا الكتاب أذهل وكأنها المرة الأولى. كما لو أن مغامرة العقل الأولى هو الأفعى التي سرقت من جلجامش زهرة تجدد الشباب. فعند كل سطر من سطوره، أتوقف فأرى فيه روح شاب مكبوتة تريد التعبير عن ذاتها، تريد البوح بآلامها، تريد قول ما تعجز كتب العالم على استيعابه إذا دون. فكل سطر من سطوره هو بحث شامل لقضية ما، فصرت أقضي ساعات تصوف مع ذلك الكتاب، محاولا إزاحة السطور لقراءة ما تخفي خلفها، والغوص في أعماقها لأتعرف على أصولها سعيا لاكتشاف سر ذلك الكتاب، وما له دون سائر كتب المكتبات، ودون سائر كتب مؤلفه. حتى حللت ذلك اللغز.
إن مغامرتك الأولى يا سيدي هي صرخة استغاثة، أتت لتعبر عن نفوس شباب أمة، حولتها عصور من الانحطاط إلى مقبرة للعقول. فمغامرة العقل الأولى يا سيدي هي أكبر وأشمل من مجرد بحث في الأسطورة، وفراس السواح في مغامرته الأولى لم يكن ذلك المفكر المتميز والباحث في أصول الأديان ، بل كان جلجامش الذي يتحدى الصعاب ويخوض المغامرات في سبيل تحقيق ما عجز عنه واستسلم أمامه أبناء أمته.
فكتاب مغامرة العقل الأولى هو بعث للعقول الميتة. ولولا عصور الجهل والانحطاط التي مرت على أمتي لما كانت مغامرة العقل الأولى تعبيرا عن آلام النفوس التي فقدت حقيقتها. ولولا مغامرة العقل الأولى لما كان فراس السواح أقنوما من أقانيم الحكمة، وقدوة لشباب سوريا الذين بعثت جذوة النار في عقولهم. وستبقى مغامرة العقل الأولى خالدة، يخوضها معك في كل زمان ومكان أنكيدو جديد.
يا سيدي!
لقد دخلت كجلجامش أرض الأحياء: «وخلدت لنفسك هناك ذكرا.
على ذروة الأماكن التي ترفع فيها الأسماء قد رفعت اسمك.
وعلى ذروة الأماكن التي لم ترفع فيها الأسماء رفعت مغامرتك الأولى».
فاتحة
عندما كنا صغارا كان أستاذ الجغرافيا يحدثنا عن نظرية لابلاس في نشأة الكون وتشكل العوالم من الكتل السديمية الأولى وتحولاتها. وكنا في جدال دائم حولها وخصام. قال البعض إنها هراء يتعارض والكتب المقدسة التي تقول بخلق السموات والأرض في ستة أيام، وقال آخرون إننا في عصر لا نستطيع فيه غض الطرف عن الحقائق والمكتشفات العلمية، بحجة التمسك بأهداب الدين. وأذكر أنني مضيت إلى أبي يوما أسأله كيف خلق الله العالم في ستة أيام والعلم يقرر أن الكون قد تشكل ببطء عبر مليارات السنين؟ وكان حديثا طويلا استمر إلى ساعة متأخرة من تلك الليلة الشتائية.
فتح القرآن الكريم وقرأ لي بعض آيات أذكر منها:
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون .
1
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
2
ثم قال: ما طول اليوم الواحد من تلك الأيام الستة التي خلق فيها الله الكون؟
أكان ألف سنة مما نعد، أم خمسين ألف سنة، أم عددا آخر من السنين لا يعرفه إلا الله؟
في اليوم التالي مضيت إلى المدرسة بآراء جديدة أحاول من خلالها تقريب وجهات النظر المتعارضة.
مرت الأيام وعرفنا أن نظرية لابلاس لم تعد صالحة لتفسير النشأة الأولى، وأن نظريات أخرى قد حلت محلها. ولأمر ما يتعلق بتلك النقاشات القديمة بقي اهتمامي قائما بتتبع أخبار الاكتشافات والفرضيات العلمية، المتعلقة ببدايات تشكل المادة والعوالم والحياة، والغايات التي تسعى إليها الجمادات والحيوات. ولعل هذا الاهتمام هو الذي قادني إلى عالم الأسطورة، حيث وجدت البحث في البدايات والغايات، هما أساسيا من همومها. وتذكرت نظرية لابلاس والمجادلات القديمة وتساءلت: نظرية كبيرة أخذت مكانها في مساحة العلم ردحا، ثم دحضت، فما الفرق بينها وبين الأسطورة؟ أليست أساطير التكوين بدورها نظريات قامت للتفسير والتعليل؟ أليست محاولة من العقل، في نشأته، للتصدي للأسئلة الكبيرة المطروحة عليه؟
لقد جهد الإنسان دوما في كشف حقيقة العالم والحياة والبدايات، وشغلته الغايات والنهايات. وكانت وسيلته إلى ذلك مرتبطة بالمرحلة التاريخية لتطوره نفسيا وعقليا. أعتقد في البداية
3
أن العالم بكل مظاهره المتنوعة يخضع لترابطات وقوانين وقواعد معينة، وأعتقد أن معرفته بتلك الترابطات وقواعدها، تساعده في السيطرة على الطبيعة المحيطة به وإخضاعها لرغباته ومصالحه؛ فهو يستطيع مثلا استجلاب الأمطار عن طريق ممارسات سحرية معينة، تدفع الطبيعة مجبرة للاستجابة، كما يستطيع شفاء الأمراض، والقضاء على الأعداء، ودفع الكوارث الطبيعية بالطريقة نفسها. وقد تجمعت لديه عبر القرون مجموعة من القواعد الذهبية التي تؤلف في مجموعها سفرا متكاملا للسحر. ولم يكن الإنسان في ممارساته تلك يستعين بأية قوى خارقة أو إلهية من أي نوع؛ لإيمانه المطلق بأن تتابع الأحداث يخضع لقانون معين، هو جزء أصيل من الطبيعة ذاتها، لا خارجا عنها ولا متعاليا عليها.
على أن الإنسان، بعد تاريخ طويل مليء بالمرارة والألم والإخفاق في السيطرة على محيطه بعلمه الزائف ذاك (السحر)، اتجه إلى الدين. فإذا كان العالم قد تمرد حتى الآن على الإنسان، مثبتا عدم خضوعه لتلك الترابطات المفترضة، فلا بد إذن من وجود قوى خارقة تقف وراء المظاهر المتبدية لهذا العالم، قوى إلهية، مفارقة له، فعالة فيه. ولا بد أن يكون الكون تبديا ماديا لتلك الطاقات الإلهية، ومظهرا لفعاليتها وقواها المستمرة. وبذلك ابتدأت مرحلة جديدة تتميز بالتقرب لتلك القوى واجتذاب عطفها، ومحاولة تفهم رغائبها، وآلية فعلها وشروطه. فظهر الدين وتطور بشقيه؛ الشق الأول: اعتقادي يستخدم الأسطورة أداة للمعرفة والكشف والفهم. والثاني: طقسي، يستهدف استرضاء الآلهة والتعبد لها.
فالأسطورة، والحالة هذه، هي التفكير في القوى البدئية الفاعلة، الغائبة وراء هذا المظهر المبتدي للعالم وكيفية عملها وتأثيرها، وترابطها مع عالمنا وحياتنا. إنها أسلوب في المعرفة والكشف، والتوصل للحقائق، ووضع نظام مفهوم ومعقول للوجود، يقنع به الإنسان ويجد مكانه الحقيقي ضمنه، ودوره الفعال فيه. إنها الإطار الأسبق والأداة الأقدم للتفكير الإنساني المبدع، الخلاق، الذي قادنا على طول الجادة الشاقة، التي انتهت بالعلوم الحديثة، والمنجزات التي تفخر بها حضارتنا القائمة.
إلا أن الفكر الإنساني في وثبته الدائمة لا يقف عند إطار، ولا يهدأ في مستقر يطمئن إليه، أو يركن لمعرفة يظنها مطلقة لا يأتيها الباطل؛ فهو في حركة دائبة تتجاوز أبدا ما وصلت إليه. فتهاوت الأسطورة تحت مطارق الفلسفة، وتجرع سقراط السم جزاء اجترائه على آلهة اليونان، ومن بعده تابع أفلاطون وأرسطو المهمة. وتعاونت، مع الفلسفة، الديانتان المسيحية والإسلامية. فتبنت المسيحية بضع أساطير أساسية، كونت منها هيكلها، كأسطورة هبوط الإله من السماء وموته وبعثه بعد ذلك، وصعوده إلى السماء. وهدمت ما تبقى من صرح الأساطير القديمة. أما الإسلام فقد أثبت بعض ما أوردته الأساطير، وقدمه في صيغة مختلفة تماما، مرجعا إياه إلى أصله السماوي القديم، قبل تحريف الكلام عن مواضعه، بسبب التقادم أو سوء الطوية. ثم أدى تبلور المناهج العلمية مع مطلع العصور الحديثة إلى الازدراء الكامل للأسطورة وإنزالها إلى مرتبة الحكاية المسلية؛ لما تحتويه من عناصر غيبية تتنافى والتفكير العلمي السليم. كما ادعى العلم، في بعض مراحله، القضاء على الفلسفة والدين معا.
إلا أن القرن التاسع عشر في أوروبا قد جلب معه ثورة فنية وجمالية، أعادت للأسطورة رونقها وبهاءها كشكل فني تعبيري من أشكال الفلكلور والأدب الشعبي، بعد أن أراد أصحاب الاستنارة في القرن الثامن عشر محوها. ولم تكن إعادة الاعتبار هذه إلا مرحلة أولى ؛ فما لبث الرومانتيكيون أن مشوا خطوات أبعد في النظر إلى الأسطورة، فاعتبروها أصلا للفن والدين والتاريخ، وصارت لهم منهلا ثرا وملهما. ثم اتجهت إليها العلوم الإنسانية تبحث خلف الشكل الظاهر للأسطورة عن رموز كامنة ومعان عميقة، تعين على فهم الإنسان وسلوكه وحياته الروحية والنفسية وآليات تفكيره وعواطفه ودوافعه. فقدمت لمختبرات علوم الاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا مادة قيمة لا تقدر بثمن، وغدت منهلا للعلوم بعد أن لاقت من العلوم ما لاقت من تجاهل. وإلى جانب هذا وذاك ظهر فرع جديد من فروع المعرفة، يعنى بدراسة وتفسير الأساطير، دعي بالميثولوجيا
Mythology . والشق الأول من الكلمة
Mytho
مأخوذ عن الكلمة اليونانية
Mutho
التي تعني حكاية تقليدية عن الآلهة والأبطال.
4
أما الشق الثاني
Logy
فيعني «علم». وتستخدم هذه الكلمة الأخيرة بكثرة في العصر الحديث للدلالة على العلوم المختلفة، كأن نقول سوسيولوجيا أو بيولوجيا. كما تعني الميثولوجيا أيضا مجموعة الأساطير الخاصة بشعب من الشعوب،
5
كأن نقول الميثولوجيا السورية أو الميثولوجيا الإغريقية. هذا وقد اهتمت الميثولوجيا الحديثة بتعريف الأسطورة، ودراسة بواعث نشوئها وتفسيرها ودراسة وظائفها النفسية والفكرية والاجتماعية. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، ظهرت، وتظهر، مدارس شتى تهدف إلى تقديم نظريات شاملة متكاملة في تفسير الأسطورة وبيان دلالاتها وبواعثها ووظيفتها، إلا أن معظم هذه المدارس قد وقعت في أحادية النظرة؛ إذ حاولت إعطاء نظريات جامعة مانعة اعتقدت أنها قد أحاطت بالأسطورة وأوقعتها في شبكة التفسير الشامل الجامع. وسأقوم فيما يأتي باستعراض مجتزأ، غير جامع، لأهم تلك المدارس والاتجاهات. (1) الأسطورة باعتبارها فنا أدبيا وحكمة
ينظر هذا الاتجاه، لما ترويه الأسطورة، على أنه تراكم لنتاج الفكر الإنساني المبدع في مجال الأدب؛
6
فالأمثال الصغيرة التي يرويها حكيم القوم، سوف تروى مرات ومرات. ولن يقاوم الراوي رغبته الملحة والمشروعة في الإضافة إليها من عناصر جديدة نابعة من خياله الخاص، ومن ظروف اجتماعية مستجدة. وعندما تأخذ القصة شكلها المكتمل تكون قد عبرت عن طابع فني وفكري وأدبي لشعب من الشعوب. إلا أن هذا الشكل الفني لا ينفصل عن مضمونه الذي ينحو في غالب الأحيان لأن يكون تأمليا، يقدم للمجتمع نظريات في السلوك والأخلاق والتوجيه الاجتماعي. (2) الأسطورة وظواهر الطبيعة
يرجع هذا الاتجاه كل الأساطير إلى منشأ طبيعي يتصل بعناصر الطبيعة.
7
فكثير من الأساطير كان باعثه القمر، ذلك الجرم السماوي المنير الذي أثار دوما خيال البشر، بأطواره وتبدل أشكاله والسماء المعتمة التي يسبح فيها. وكثير من الأساطير قد تركز حول الشمس، ذلك الجرم المشع، مصدر الحياة والنماء والدفء. وجزء آخر سحرته السماء السامية، مثار التأمل والتفكير العميق. وآخر أهابته ظواهر الطقس المختلفة كالصواعق والرعود والبروق. وحتى الأساطير التي لا تتصل من قريب أو بعيد بظواهر الطبيعة، قد وجدت تفسيرا طبيعيا لها لدى هذه المدرسة، بعد التمحيص والبحث عن أصولها وجذورها وطريقة تطورها وتغيرها. (3) الأسطورة والأيتيولوجيا
الأيتيولوجيا (Aetiology)
هي دراسة الأسباب، فقد وجدت الأسطورة لتقديم الأسباب الكامنة وراء كثير من الظواهر التي يراها الإنسان في العالم الواقعي.
8
تقول أسطورة فلبينية مثلا إن تنوع ألوان العروق البشرية راجع إلى ساعة الخلق، عندما وضع الإله الخالق حفنة من طين في الفرن لصنع الإنسان. ففي المرة الأولى أخرج الإله الطين قبل نضجه فكان الإنسان الأبيض، وفي المرة الثانية تأخر في إخراجه فاحترق، فكان الإنسان الأسود، وفي الثالث أخذ الطين كفايته من الشي فخرج الإنسان الفلبيني البرونزي. وتقول الأسطورة الإغريقية إن هرقل قد أرضعته الإلهة هيرا في صغره، ولقوته العظيمة شعرت هيرا بألم في ثديها من شدة الامتصاص دفعها إلى سحب ثديها من فم الصغير بقوة، فانبثق اللبن في السماء مكونا المجرة المعروفة بدرب اللبن. (4) الأسطورة باعتبارها تاريخا
ليست الأسطورة، وفق هذا الاتجاه، نتاج الخيال المجرد، بل ترجمة لملاحظات واقعية ورصد لحوادث جارية. وعبرها انتقلت إلينا تجارب الأولين وخبراتهم المباشرة.
9
وهي تعود في أصولها إلى أزمان سحيقة سابقة للتاريخ المكتوب. فقبل أن يتعلم الإنسان الكتابة كانت ذاكرته على قدر كبير من النشاط والحيوية، وقد استخدمها لنقل الأحداث بأمانة عبر الأجيال.
10
ويتقدم أصحاب هذه المدرسة بأمثلة متعددة تدعم وجهة نظرهم هذه، منها أساطير الطوفان، أو الدمار الشامل بالنار السماوية، أو الأعاصير. فشمولية هذه الأساطير وتكررها لدى معظم الشعوب دلالة على تجارب وخبرات عاناها الجنس البشري في مطلع حياته. (5) الأسطورة والطقس
أسس هذا الاتجاه رائد الأنثروبولوجيا الحديثة السير جيمس فريزر. ورغم النقد الذي يوجهه إليه علماء الأنثروبولوجيا المعاصرون، بعد مرور ثمانين عاما تقريبا على ظهور كتابه الفريد «الغصن الذهبي»، فإن تأثير ذلك العبقري ما زال ماثلا، وآراءه ما زالت تلقى الاحترام لدى الكثيرين.
يقول فريزر ومن تأثر به من أصحاب هذا الاتجاه،
11
بأن الأسطورة قد استمدت من الطقوس؛ فبعد مرور زمن طويل على ممارسة طقس معين، وفقدان الاتصال مع الأجيال التي أسسته، يبدو الطقس خاليا من المعنى ومن السبب والغاية، وتخلق الحاجة لإعطاء تفسير له وتسويغ. وهنا تأتي الأسطورة لإعطاء تسويغ لطقس مبجل قديم، لا يريد أصحابه نبذه أو التخلي عنه. إن قيام أتباع ديانة ديونيسيوس، مثلا، بشرب دم ثور حي بعد تمزيقه، وأكل لحمه نيئا بعد ذلك، هو طقس قديم أتت أسطورة موت ديونيسيوس على يد التيتان مفسرة له ومحافظة على حرارته ودفعه؛ فديونيسيوس يحاول الهرب من التيتان، أعداء أبيه زيوس، ولكن عبثا يغير أشكاله وهم يتبعونه، إلى أن يقبضوا عليه في هيئة الثور فينهالوا عليه تمزيقا ويلتهموه حيا ويشربوا دمه. (6) الأسطورة والذرائعية
أسس هذا الاتجاه عالم الأنثروبولوجيا الشهير مالينوفسكي، الذي قضى شطرا من حياته في دراسة تجريبية مع قبائل التروبرياند في غرب المحيط الهادي إبان الحرب العالمية الثانية، والذي يعد من أشهر ناقدي جيمس فريزر وأصحاب المدرسة النفسية أيضا كفرويد.
يقول مالينوفسكي إن الأسطورة لم تظهر استجابة لدافع المعرفة والبحث، ولا علاقة لها بالطقس أو البواعث النفسية الكامنة، بل هي تنتمي للعالم الواقعي، وتهدف إلى تحقيق نهاية عملية؛ فهي تروى لترسيخ عادات قبلية معينة، أو لتدعيم سيطرة عشيرة ما أو أسرة أو نظام اجتماعي وما إلى ذلك. فهي، والحالة هذه، عملية في منشئها وغايتها.
12 (7) الأسطورة والكبت، فرويد
في كتابه «تفسير الأحلام» اجتذبت الأسطورة فرويد، كما اجتذبت الكثير من أتباعه فيما بعد. وفي كتابه ذاك، الذي نشر لأول مرة عام 1905م.
13
يرى فرويد تشابها في آلية العمل بين الحلم والأسطورة، وتشابه الرموز لكليهما، فهما نتاج العمليات النفسية اللاشعورية. ففي الأسطورة، كما في الحلم، نجد الأحداث تقع حرة خارج قيود وحدود الزمان والمكان. فالبطل في الأسطورة، كما هي حال صاحب الحلم، يخضع لتحولات سحرية ويقوم بأفعال خارقة، هي انعكاس لرغبات وأمان مكبوتة، تنطلق من عقالها بعيدا عن رقابة العقل الواعي الذي يمارس دور الحارس على بوابة اللاشعور. فالأسطورة، والحالة هذه، ملأى بالرموز، التي إن فسرت زودتنا بفهم عميق لنفس الإنسان الخافية ورغباته المكبوتة. وتفسير فرويد في هذا المجال لأسطورة أوديب أشهر من أن يبحث هنا.
وفي كتابه «التوتم والتابو»،
14
يبدو فرويد مقتنعا تماما أنه في فترة مبكرة من تاريخ الإنسانية، وقعت أحداث الدرام الأوديبي بشكل حقيقي، عندما تعاون الأولاد على قتل أبيهم في القبيل الابتدائي، في صراع كان دافعه الحصول على زوجات الأب. وعندما تم لهم ذلك انتابهم إحساس الندم والإثم، فحرموا على أنفسهم زوجات الأب، وكان ذلك أول قانون وضع للبشر. ولكن تلك التجربة البدئية قد تركت بصمتها على ضمير الجنس البشري، وهي الأساس وراء إحساس البشر المتوارث بخطيئة ما، كما أنها الأساس الكامن وراء مجموعة الأساطير التي تروى عن التضحية بالإله الابن. وكأنما يقدم البشر كفارة رمزية عن خطيئتهم الأولى نحو الأب.
15
لقد فتح فرويد بابا واسعا لم يغلق بعد أمام التفسير النفسي للأسطورة، وتابع الرحلة بعده تلامذته وناقدوه من أمثال يونج ورانك وفروم وغيرهم. (8) الأسطورة والنماذج البدئية، يونج
كان يونج من أكثر تلامذة فرويد اهتماما بالأسطورة، وتعمقا في دراستها، وتعويلا على أهميتها وعمقها وبعد دلالاتها. وفي رأيه أن كل المحاولات التي بذلت لتفسير الأسطورة لم تساهم في فهمها، بل على العكس لقد زادت في الابتعاد عن جوهرها، وزادت من حيرتنا نحوها. وهو يقتفي أثر فرويد في النظر للأسطورة كنتاج اللاشعور، ولكنه يفترق عنه جذريا عندما يقرر أن اللاشعور الذي تنتج عنه الأسطورة هو اللاشعور الجمعي للبشر، وهو يناقض نظرية فرويد القائلة بأن الأسطورة والحلم إنما يشفان عن مكنونات العناصر المكبوتة في لا شعور الفرد، وإنها نوع من التعويض عن رغبات لم يقيض لها إرضاء حقيقي؛ فالصور والخيالات المتبدية في الحلم والأسطورة لم تكن في وعي الفرد الشخصي في يوم من الأيام؛ ولذا فإنها لم تكبت، والأصح أن نقول إنها قد عاشت في اللاشعور الجمعي، ولكن انبثاقها كان من خلال الفرد. فنحن عندما نتنفس لا نستطيع تفسير هذا التنفس فرديا. ولذا يمكن القول بأننا ممتلكون من قبل هذه الصور والخيالات أكثر من كوننا مالكين لها. ونحن كلما تعمقنا نحو طبقات النفس السفلى، غادرنا عالم الفرد الشخصي تدريجيا واقتربنا من الأرضية الإنسانية المشتركة لبني البشر، إلى أن نصل إلى قاع النفس فلا نجد هناك سوى العالم بكل بساطة، مجردا من أي طابع شخصي فردي، تماما كما هو الأمر عندما نحلل المواد المكونة للجسد الإنساني، حيث تعود مادة الكربون الموجودة في الجسم إلى الكربون الطبيعي الذي تتشكل منه جميع الأجسام. فمن خلال رموز الأسطورة نجد أن العالم يتكلم، وكلما ازداد الرمز عمقا، كان أقرب للعالمية والشمول الإنساني.
16 (9) اللغة المنسية (إريك فروم)
إريك فروم (Erich Fromm)
آخر عمالقة مدرسة التحليل النفسي. قدم لنا في كتابه اللغة المنسية (The Forgotten Language)
17
دراسة عميقة للأسطورة، منطلقا أيضا من فكرة فرويد عن العلاقة بين الأسطورة والحلم، مع مخالفته في النظر للأسطورة والحلم على أنهما نتاج العالم اللاعقلاني؛ فالعقل في حالة الحلم إنما يعمل ويفكر، ولكن بطريقة أخرى ولغة أخرى؛ فعندما ندخل ملكوت النوم نتحرر من عبء العمل ومشاغل الحياة اليومية وقلق الصحو، وندلف إلى عالمنا الداخلي بعيدا عن قواعد الواقع، فتغدو ال «أنا» بؤرة تفكيرنا. فإذا كان الصحو دعوة للعمل والفعل، فإن النوم دعوة لتأمل من نوع خاص يستخدم لغة خاصة هي لغة الرمز. النوم انفلات من هم التحكم بعالم المادة وتفرغ للذات، يجعلنا أكثر شفافية وحساسية، فتغدو معرفتنا بأنفسنا أكثر وضوحا وصدقا وحكمة. فحالة السبات هي القطب الثاني لوجودنا في مقابل حالة اليقظة، وليست كما زمنيا معطلا يعطينا الراحة لبدء يوم جديد.
ولغة الرموز هي اللغة التي تنطق عن الخبرات والمشاعر والأفكار الباطنة، كما تنطق لغتنا المحكية عن خبرات الواقع، مع فارق هام يكمن في شمولية لغة الرمز وعالميتها، وتجاوزها لفوارق الزمن والثقافة والجنس. والأسطورة، كما الحلم، تكمن أهميتها في تقديمها حكايا تشرح بلغة الرمز، حشدا من الأفكار الدينية والفلسفية والأخلاقية. وما علينا إلا أن نفهم مفردات تلك اللغة لينفتح أمامنا عالم مليء بمعارف غنية ثرة. (10) الأسطورة، مغامرة العقل الأولى
بعد هذا الاستعراض السريع نود أن نوضح رؤيتنا الخاصة للأسطورة، والتي تشكل أرضية هذا الكتاب، في عجالة بلا إطالة؛ فهدفنا دراسة الأسطورة لا التنظير لها.
عندما انتصب الإنسان على قائمتين رفع رأسه إلى السماء ورأى نجومها وحركة كواكبها، وأدار رأسه فيما حوله فرأى الأرض وتضاريسها ونباتها وحيوانها. أرعبته الصواعق، وخلبت لبه الرعود والبروق. داهمته الأعاصير والزلازل والبراكين، ولاحقته الضواري. رأى الموت وعاين الحياة. حيرته الأحلام ولم يميزها تماما عن الواقع. ألغاز في الخارج وأخرى في داخله. غموض يحيط به أينما توجه وكيفما أسند رأسه للنوم. تعلم استخدام اليدين وصنع الأدوات، وفي لحظات الأمن وزوال الخوف، كان لدى الطفل متسع للتأمل في ذلك كله. لماذا نعيش؟ ولماذا نموت؟ لماذا خلق الكون وكيف؟ من أين تأتي الأمراض؟ إلى آخر ما هنالك من أسئلة طرحت نفسها عليه، كما تطرح نفسها على طفل العصر الحديث. كان العقل صفحة بيضاء لم ينقش عليها شيء، عضلة لم تألف الحركة خارج نطاق الغريزة، وبعد حدود رد الفعل. ومن أداته المتواضعة هذه، كان عليه أن يبدأ مغامرة كبرى مع الكون، وقفزة أولى نحو المعرفة، فكانت الأسطورة. وعندما يئس الإنسان تماما من السحر، كانت الأسطورة كل شيء له. كانت تأملاته وحكمته، منطقه وأسلوبه في المعرفة، أداته الأسبق في التفسير والتعليل، أدبه وشعره وفنه، شرعته وعرفه وقانونه، انعكاسا خارجيا لحقائقه النفسية الداخلية. فالأسطورة نظام فكري متكامل، استوعب قلق الإنسان الوجودي، وتوقه الأبدي لكشف الغوامض التي يطرحها محيطه، والأحاجي التي يتحداه بها التنظيم الكوني المحكم الذي يتحرك ضمنه. إنها إيجاد النظام حيث لا نظام، وطرح الجواب على ملحاح السؤال، ورسم لوحة متكاملة للوجود؛ لنجد مكاننا فيه ودورنا في إيقاعات الطبيعة. إنها الأداة التي تزودنا بمرشد ودليل في الحياة، ومعيار أخلاقي في السلوك. إنها مجمع الحياة الفكرية والروحية للإنسان القديم.
والأسطورة حكاية، حكاية مقدسة، يلعب أدوارها الآلهة وأنصاف الآلهة. أحداثها ليست مصنوعة أو متخيلة، بل وقائع حصلت في الأزمنة الأولى المقدسة. إنها سجل أفعال الآلهة، تلك الأفعال التي أخرجت الكون من لجة العماء، ووطدت نظام كل شيء قائم، ووضعت صيغة أولى لكل الأمور الجارية في عالم البشر. فهي معتقد راسخ، الكفر به فقدان الفرد لكل القيم التي تشده إلى جماعته وثقافته، وفقدان المعنى في هذه الحياة.
والأسطورة حكاية مقدسة تقليدية؛ بمعنى أنها تنتقل من جيل إلى جيل، بالرواية الشفهية، مما يجعلها ذاكرة الجماعة التي تحفظ قيمها وعاداتها وطقوسها وحكمتها، وتنقلها للأجيال المتعاقبة، وتكسبها القوة المسيطرة على النفوس. فهي الأداة الأقوى في التثقيف والتطبيع والقناة التي ترسخ من خلالها ثقافة ما وجودها واستمرارها عبر الأجيال. وحتى في فترات شيوع الكتابة لم تفقد الأسطورة الشفهية قوتها وتأثيرها؛ ذلك أن الألواح الفخارية كانت محفوظة في المعابد وفي مكتبات الملوك، ولا تلعب إلا دور الحافظ للأسطورة من التحريف بالتناقل. وبقي السمع هو الوسيلة الرئيسية في تداولها. وفي أكثر من مناسبة دورية كانت الأساطير تتلى أو تنشد في الاحتفالات الدينية العامة، من ذلك مثلا أعياد رأس السنة في بابل، حيث كانت تتلى وتمثل أسطورة التكوين البابلية، وأعياد الربيع حيث كانت تتلى وتمثل عذابات الإله تموز.
والأسطورة نص أدبي، وضع في أبهى حلة فنية ممكنة، وأقوى صيغة مؤثرة في النفوس، وهذا مما زاد في سيطرتها وتأثيرها. وكان على الأدب والشعر أن ينتظرا فترة طويلة قبل أن ينفصلا عن الأسطورة. لقد وضعت معظم الأساطير السورية والسومرية والبابلية في أجمل شكل شعري ممكن. وقام هوميروس بصياغة معظم أساطير عصره المتداولة، شعرا في الأوديسة والإلياذة. وإلى جانب الشعر والأدب، خلقت الأسطورة فنونا أخرى كالمسرح، الذي ابتدأ عهده بتمثيل الأساطير الرئيسية في الأعياد الدينية. كما دفعت فنونا أخرى كالغناء والموسيقى وغيرهما.
هذا ويمتزج تعبير الأسطورة في أذهان الكثيرين بتعبير «الخرافة » و«الحكاية الشعبية»، رغم البعد الشاسع بين هذه النتاجات الفكرية الثلاثة؛ فالخرافة حكاية بطولية ملأى بالمبالغات والخوارق، إلا أن أبطالها الرئيسيين هم من البشر أو الجن، ولا دور للآلهة فيها. ففي حديث نبوي
18
عن عائشة قالت: «حدث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نساءه ذات ليلة حديثا، فقالت امرأة: يا رسول الله كأن الحديث حديث خرافة. فقال: أتدرون ما خرافة؟ إن خرافة كان رجلا من عذرة، أسرته الجن في الجاهلية فمكث فيهن دهرا طويلا، ثم ردوه إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة.» وبصرف النظر عن صحة هذا الحديث المنسوب إلى الرسول فإن النص يظهر لنا معنى الخرافة عند العرب. بينما يثبت لنا القرآن الكريم علاقة كلمة «الأسطورة» في اللغة العربية بالتصورات الدينية والاعتقادية:
وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا .
19
وفي هذه الآية إشارة إلى قول أعداء النبي أن ما يأتي به محمد في القرآن هو أساطير الأقوام السابقة تملى عليه وهو بدوره يستكتبها.
أما الحكاية الشعبية فإنها كالخرافة لا تحمل طابع القداسة، ولا يلعب الآلهة أدوارها. كما أنها لا تتطرق، كما هو شأن الأسطورة، إلى موضوعات الحياة الكبرى، وقضايا الإنسان المصيرية، بل تقف عند حدود الحياة اليومية والأمور الدنيوية العادية، وذلك كمكر النساء ومكائد زوجات الرجل الواحد، وقسوة زوجة الأب على الطفلة المسكينة التي تتدخل العناية الإلهية لإنقاذها، وما أشبه ذلك من موضوعات. هذا وقد تتداخل الحدود بين الخرافة والحكاية الشعبية، أما الأسطورة فتبقى نسيجا متميزا. ورغم أن كلا من الخرافة والحكاية الشعبية والحكم والأمثال الشعبية قد تلعب دورا ثقافيا شبيها بدور الأسطورة، إلا أنها لا تمتلك قوة التأييد الذاتي التي تمتلكها الأسطورة، والنابعة من قداستها وطابعها الاعتقادي والإيماني وقالبها الفني، و... نبالتها.
لا أريد في هذه العجالة أن أتقدم برؤيا أحادية؛ فأنا أومن بتعدد المستويات لفهم الأسطورة؛ فقد تحتوي بعض أساطير الخلق على عناصر نفسانية كثيرة، وقد تحتوي بعض الأساطير الأخلاقية على عناصر تاريخية كأسطورة الطوفان البابلية، وأسطورة جلجامش . كما أننا نلمح تأثيرا كبيرا لنمط الإنتاج الاقتصادي على مضمون وصياغة الأسطورة. وسنقوم في حينه بإبراز هذه المستويات كما تتبدى لنا، مع التركيز على المستوى الأهم في رأينا لفهم الأسطورة كمغامرة فكرية جريئة لإنسان العصور القديمة، تهدف إلى كشف الحقائق وفتح آفاق المعرفة. •••
وبعد هذا كتاب في أسطورة الشرق القديم، هدفنا من ورائه التعريف بالأسطورة في سوريا القديمة وبلاد الرافدين. وقد بذلت غاية الجهد في الحصول على النصوص الكاملة لأهم الأساطير المعروفة وتقديمها اعتمادا على أكثر من نص وأكثر من ترجمة. وحاولت أن تكون ترجمتي أمينة دون تدخل أو تزويق، مع عدم الإخلال بالشكل الفني الرائع لتلك النصوص. وهي معادلة صعبة نجحت فيها أحيانا وأخفقت أحيانا أخرى. ولم يكن جهدي في الشرح والتفسير والتقديم منصبا على كل أسطورة، بمعزل عن الأخرى، بل حاولت رسم صورة متكاملة عن الموضوع، بحيث تأخذ كل أسطورة مكانها في تلك الصورة، وتستمد تفسيرها من البنية الإجمالية للعمل. وكان منهجي في تقديم الأساطير يعتمد على جمعها في مجموعات وفق موضوعاتها، لا وفق تسلسل زمني أو توزع جغرافي؛ لاعتقادي بأن تفسير أسطورة ما يبدو عصيا إذا لم ينظر إليها من خلال منظور شامل، يجمعها مع غيرها من الأساطير التي تعالج الموضوع نفسه. وهو منهج جديد في دراسة أساطير المنطقة على ما وصل إليه علمنا. كما قمت من خلال أسفار الكتاب بمقارنة شاملة مع كتاب التوراة العبرانية، فيما يتعلق بالنصوص الأسطورية الواردة فيه؛ لإظهار مدى اعتماد الثقافة اليهودية على الثقافة السورية والبابلية في صياغة أهم مرجع ديني وثقافي لدى الشعب اليهودي. كما أظهرنا علاقة الأساطير السورية والبابلية بأساطير الشعوب المجاورة كالمصريين والإغريق. وتتبعنا، كلما أمكن ذلك، الأصول الشرقية للأساطير الإغريقية.
أما لماذا اقتصر بحثي على سوريا وبلاد الرافدين
20
دون بقية ثقافات الشرق القديم، فذلك راجع لأسباب ثلاثة؛ الأول هو الوحدة الثقافية القائمة في هذا الجزء من المنطقة، هذه الوحدة التي تعطى لأي بحث يدور حولهما طابع الانسجام والتكامل. والثاني راجع لاتساع الموضوع وتشعبه، مما لا يسمح بدراسة وافية لميثولوجيا الشرق القديم في كتاب واحد ومن قبل مؤلف واحد. أما السبب الثالث فشخصي جدا، يرجع إلى ميل خاص إلى آداب هذه المنطقة، وولع بتاريخها وتراثها. وقد حاولت ألا يكون توجهي في هذا الكتاب إلى زمرة معينة من القراء، بل إلى زمر متعددة. فالقارئ العادي سيجد فيه موضوعا جديدا على الكتابات العربية الحديثة؛ لأنه أول كتاب يعالج موضوع الأسطورة على هذا المستوى من الإحاطة. وسيجد القارئ المطلع كثيرا من المعلومات الجديدة والتفسيرات الجديدة. كما سيجد المهتمون بالديانات المقارنة عددا لا بأس به من النقاط القابلة للدراسة والمناقشة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بدارسي الآداب والديانة اليهودية. أما بالنسبة للمتخصصين، فآمل أن تفتح النظرات والأفكار الجديدة التي أطرحها في ثنايا هذا الكتاب مجالا لحوارات مجدية. (11) ملاحظات لقراءة النصوص
إن جميع النصوص الواردة في هذا الكتاب مترجمة عن الإنجليزية. وقد جاءت النصوص العربية التي أثبتناها هنا، نتاج تحقيق طويل، ومقارنة دقيقة بين ترجمات إنجليزية مختلفة للنص الواحد. وقد حاولت قدر الإمكان ألا أتصرف بالترجمة إلا في مواضع قليلة استدعتها الضرورة، مع الإشارة إلى مثل هذا التصرف عند حدوثه. كما حاولت الإبقاء على الطابع الأدبي لتلك النصوص الشعرية، دون الإخلال بالمعاني والمرامي الأصلية. أما عند وقوع التعارض بين الصياغة الأدبية والترجمة الأمينة، فقد التزمنا الأمانة العلمية على حساب القيم الجمالية. كما بذلت جهدا في إعطاء الأسماء نطقا ساميا، قد يختلف أحيانا مع ما تعودنا قراءته في الترجمات الحرفية عن اللغات الأوروبية. فالإله مردوك هو في الواقع مردوخ، والإلهة تيامات، كما تنقلها لنا بعض الترجمات، هي تعامة، وأداد هو حدد ... [ ] القوس المنكسر في النصوص دلالة على وجود نقص في الشعر، ناشئ عن كسور أو تشوهات في اللوح الفخاري. فإذا احتوى القوس على كلمات [القوس المنكسر] فمعنى ذلك وجود تشوه غير تام في السطر، وأن ما تبقى من حروف ومقاطع يكفي لاستعادة الكلام الأصلي أو ما شابهه. أما إذا احتوى القوس على نقاط [...]؛ فمعنى ذلك أن التشوه تام. وفي هذه الحالة لم نسمح لأنفسنا بإملاء الفراغات الحاصلة. ( ) القوس العادي هو إضافة مني، أو من المترجم الأصلي على السطر لغرض توضيح المعنى، ولا وجود للكلمات المحصورة في هذا القوس في النص الأصلي. وقد أبقيت مثل هذه الإضافات في حدها الأدنى المطلوب، وغالبا ما لجأت إليها لضرورات جمالية.
سفر البداية
وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء .
قرآن كريم هود 7 «في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه.»
التوراة، تكوين، 1 «في تلك الأزمان الأولى لم يكن سوى المياه.»
أسطورة بابلية
لقد كانت مسألة بدء العالم والحياة والإنسان من أولى المسائل التي ألحت على العقل البشري، والتي تصدى لمعالجتها منذ فجر طفولته. فلا نكاد نجد شعبا من الشعوب إلا ولديه أسطورة أو مجموعة أساطير في الخلق والتكوين وأصول الأشياء، حيث احتلت هذه المسألة الجانب الأكبر من ميتافيزيقا جميع الفلسفات، وشغلت حيزا هاما في العلوم الحديثة، فحلت النظريات العلمية محل الأسطورة، ومحل التأمل الفلسفي المجرد.
تنتمي أساطير التكوين في المنطقة إلى زمرة أساطير الميلاد المائي؛ فالحالة السابقة لبدء الكون في أساطيرنا التكوينية، هي حالة من العماء المائي، ساكن، لا متمايز، لا متشكل، في زمن سرمدي متماثل، لا ينتابه تغيير ولا تبديل، كأنه عدم. وفي لحظة معينة، هي هزة ودمار، يليها بناء جديد، ينبثق الكون من لجة العماء، ويبدأ النظام من قلب الفوضى، ويتحدد الشكل من اللاشكل. لحظة يقرر فيها الآلهة خلق العالم، ووضع أسس الكون والحياة، فيبدأ الزمن الذي نعرفه الآن، وتتخذ الأشياء مظهرها الذي نراه اليوم. وساعة الخلق هي ساعة صراع كوني شامل؛ فالقوى الإلهية الخالقة هي قوى نشطة، دينامية، فعالة. وليس الكون والحياة والإنسان إلا تعبيرا عن طاقاتها الحركية وفاعليتها الخلاقة. ولكنها لا تستطيع تحقيق مرادها بغير التمرد والثورة على آلهة العماء والسكون والفوضى واللاتشكل، التي تقف ضد هذا الشرخ في جدار الزمن الساكن. ولهذا لن يتأتى ظهور العالم إلا بإراقة الدماء، وانتصار آلهة ودمار أخرى، ولن تتوطد أسس الكون إلا على أشلاء الضحايا المغلوبة.
وفعل الخلق الأول لا يعطي الوجود دفعة واحدة، ينطلق بعدها في مساره إلى الأبد، بل لا بد من تكرار دوري لفعل الخلق الأول في كل عام من أعوامنا الأرضية. ففي كل سنة يخلق العالم من جديد، ويجري تجديده ليعود نضرا كما كان لحظة خروجه طريا من يد الخالق لأول مرة. وهذا التكرار الأبدي للخلق يجري بمعونة البشر ومشاركتهم فيه، عن طريق الطقوس التي من شأنها شد أزر الآلهة ومعاضدتها ضد قوى العدمية التي تتصدى لحركة الكون بغية استعادته إلى حالته السكونية. وهنا تتكشف لنا المعاني السرية، والعميقة الدلالة، للاحتفالات الدينية في رأس السنة، والتي بدأت في بابل، وما زالت قائمة إلى يومنا هذا.
في بابل وغيرها من مدن الشرق الأدنى القديم كانت احتفالات رأس السنة تشغل حيزا من اهتمامات البشر الدينية. وخلال بضعة أيام كان الناس يتفرغون لمجموعة من الطقوس تتركز حول إعادة تمثيل فعل الخلق الأول، والتكرار الدرامي للصراع البدئي الذي أنتج الأكوان، والتوحد مع الزمن المقدس الذي أعطى العالم دفعته الأولى، واستحضاره مرة أخرى وعيشه والذوبان فيه، في حالة من الانقطاع الكلي عن الزمن الدنيوي المعتاد،
1
فكانت تجري تلاوة أسطورة التكوين على الملأ، ثم يجري تمثيلها دراميا بواسطة مجموعة من الممثلين يتخذون أدوار الآلهة المتصارعة. أما بقية العباد فكانت تمارس الصلوات والابتهالات، فتعطي من إيمانها دفعا للآلهة وسندا.
وهكذا نجد أن دور الإنسان في هذه الحياة ليس دورا سلبيا، بل هو دور إيجابي فعال يساهم في استمرار الوجود وسير الأكوان، ومساندة الآلهة في تكرار فعل الخلق الأول وإنتاج زمن جديد وعالم جديد. كما أن الإنسان عن طريق المشاركة الرمزية في إفناء العالم وإعادة تجديده، يتوحد رمزيا في فعل الخلق الكلي الهائل ويتجدد هو نفسه أيضا، ويشعر أنه قد تطهر ودفن خطاياه مع العالم الذي انقضى دون رجعة، فكانت أيام رأس السنة مناسبة للتطهر والتكفير والتوبة.
وتدعم بعض الدراسات اللغوية هذه النظرة الأسطورية؛ فكلمة «عالم» وكلمة «سنة» هي نفسها في بعض اللغات، كما هو شأن هنود أمريكا الشمالية الذين يقولون «مر عالم»، في معرض قولهم «مرت سنة». فالسنة هي عالم يتكرر مرة أخرى ويولد من جديد. وفي فارس كان الملك يقف في عيد النيروز، وهو رأس السنة الفارسية، ويعلن للملأ من قومه: هذا يوم جديد من شهر جديد من سنة جديدة. وإن ما بلي من الوقت يجب تجديده.
2
وعن أسطورة الأصل الأساسية تتفرع مجموعة من أساطير الأصول الثانوية التي تحكي عن بدايات الأشياء التي تلعب دورا أساسيا في حياة الإنسان؛ كالزراعة وأدواتها والكتابة والسدود والقنوات وما إلى ذلك. إن معظم ما يستعمله الإنسان ويفيد منه لحياته وحضارته، إن هو إلا نتاج نموذج بدئي مقدس صنعته الآلهة بيدها أو أوحت به. بل إن معظم ما يقوم به الإنسان ويمارسه في حياته ما هو إلا تقليد لفعل أولي قام به الآلهة، سواء في المأكل أو الملبس أو الجنس، أو العمل. ورد في أحد النصوص الدينية القديمة: هذا ما قام به الآلهة، وهذا ما سيقوم به الإنسان. وعلى هذا تغدو ميثولوجيا الأصول أداة كشف ومعرفة وتعليل، من جهة، ومن جهة أخرى تثبيتا للنماذج البدئية لمعظم النشاطات الهامة في حياة الإنسان والمجتمع.
الفصل الأول
التكوين السومري
ازدهرت الثقافة السومرية في الجزء الأسفل من حوض دجلة والفرات وحول الشواطئ العليا للخليج العربي، منذ أواسط الألف الرابع قبل الميلاد. ورغم مرور فترة لا بأس بها على اكتشاف الحضارة السومرية، فإن أصول الشعب السومري ما زالت قضية يكتنفها الغموض. على أن أكثر النظريات قوة اليوم هي النظرية التي تقول بقدوم السومريين من أواسط آسيا. ولقد أثبتت الدراسات اليوم أن أرض سومر لم تكن خالية من السكان قبل قدوم السومريين، بل كانت مسكونة بأقوام ساميين، ذوي لغة وثقافة سامية، لا نعرف عنها الكثير، ولا نعرف ماذا أعطت للغزاة الآسيويين. ولكن الشيء الأكيد هو أن الثقافة السومرية قد نضجت من احتكاك هذين الشعبين وتفاعلهما مع بعضهما البعض في تلك الحقبة المبكرة من تاريخ الإنسانية.
ولقد كان للثقافة السومرية تأثير كبير على ثقافة الشرق الأدنى القديم؛ فهي التي أعطت المنطقة الخط المسماري الذي غدا واسطة الكتابة لدى جميع شعوب المنطقة. وهي التي طورت منذ الأزمنة السحيقة مبادئ دينية وروحية، ظلت سائدة فترة طويلة من الزمن، حتى وصلت تأثيراتها إلى الثقافة الإغريقية في الفترات المتأخرة جدا. وهي التي وضعت أولى الملاحم الشعرية، وأولى التراتيل الدينية والقصائد الدنيوية، وأولى التشريعات والقوانين والتنظيمات المدنية والسياسية. وباختصار: فالتاريخ يبدأ من سومر.
لم تصلنا عن السومريين أسطورة متكاملة في الخلق والتكوين وأصول الأشياء، وإن كان العلماء لا يستبعدون العثور على مثل هذه الأسطورة، سواء في الألواح الفخارية المبعثرة في معظم متاحف العالم، أو في باطن أرض سومر حيث ما زلنا نتوقع مزيدا من الكشف عن التاريخ المطمور. إلا أن النصوص المتفرقة التي تم العثور عليها، والمتعلقة بأمور الخلق والتكوين، تكاد تعطي صورة واضحة عن أفكار السومريين بهذا الشأن. وإن دراسة متعمقة لتلك النصوص وربطها ببعضها في سلسلة منطقية، لتدلنا على أن الأسطورة ليست بالسذاجة التي تبدو عليها في نظر القارئ العادي. وإن الرموز الأسطورية التي استخدمها الإنسان القديم ليست إلا وسيلة إيصال وقالب تعبير. إنها لغة متميزة، تحاول من خلال مفرداتها وتعابيرها ومصطلحاتها إيصال حقائق معينة، وهي منهج له من المشروعية ما لبقية المناهج التي ابتكرها فكر الإنسان لاحقا، إذا أخذنا بعين الاعتبار العملية التطورية البطيئة والصاعدة التي سار بها عقل الإنسان منذ فجر التاريخ.
لم تكن أفكار السومريين عن الخلق والتكوين أفكارا بدائية، بل أفكارا ناضجة بالدرجة التي تتيحها معارف تلك الفترة من بداية حضارة الإنسان. فلقد أثبت السومريون مقدرة فائقة على الملاحظة الذكية والربط، واستخلاص النتائج المنطقية من المقدمات المنطقية والحقائق والوقائع المشاهدة. وإن دراسة النصوص الأسطورية المتفرقة تعطينا التسلسل الأسطوري التالي لعملية خلق العالم والأكوان: (1)
في البدء كانت الإلهة نمو ولا أحد معها، وهي المياه الأولى التي انبثق عنها كل شيء. (2)
أنجبت الإلهة نمو ولدا وبنتا؛ الأول آن إله السماء المذكر، والثانية كي إلهة الأرض المؤنثة، وكانا ملتصقين مع بعضهما وغير منفصلين عن أمهما نمو. (3)
ثم إن آن تزوج كي فأنجبا بكرهما إنليل إله الهواء الذي كان بينهما في مساحة ضيقة لا تسمح له بالحركة. (4)
إنليل، الإله الشاب النشيط، لم يطق ذلك السجن فقام بقوته الخارقة بإبعاد أبيه آن عن أمه كي. رفع الأول فصار سماء، وبسط الثانية فصارت أرضا، ومضى يرتع بينهما. (5)
ولكن إنليل كان يعيش في ظلام دامس، فأنجب إنليل ابنه نانا إله القمر؛ ليبدد الظلام في السماء وينير الأرض. (6)
نانا إله القمر أنجب بعد ذلك أوتو إله الشمس الذي بزه في الضياء. (7)
بعد أن أبعدت السماء عن الأرض، وصدر ضوء القمر الخافت وضوء الشمس الدافئ، قام إنليل مع بقية الآلهة بخلق مظاهر الحياة الأخرى.
والآن إذا جردنا هذه السلسلة الأسطورية من رموزها ومفرداتها الميثولوجية، وترجمناها إلى لغتنا العلمية الحديثة؛ لظهر لنا منطقها المتماسك، والملاحظات العلمية التي قادت إليها: (1)
في البدء لم يكن موجودا سوى المياه التي صدر عنها كل شيء وكل حياة. (2)
في وسط هذه الحياة الأولى ظهرت جزيرة يابسة على هيئة جبل قبته هي السماء، وقاعدته هي الأرض، ومن لقاء القبة بالقاعدة ظهر الهواء، العنصر المادي الثالث بعد المياه والتراب. (3)
من الصفات الأساسية لهذا العنصر الجديد التمدد. وبتمدد هذه المادة الغازية تباعدت السماء عن الأرض. (4)
لم يكن القمر السابح في الهواء إلا نتاجا للهواء وابنا له، وربما كان من نفس العنصر أيضا. أما الشمس فهي الابن الذي فاق أباه القمر قوة، وخلفه على عرش السماء فيما بعد. (5)
بعد أن ابتعدت السماء عن الأرض وغمرت أشعة الشمس الدافئة وجه البسيطة، تهيأت الشروط اللازمة للحياة، فظهرت النباتات والحيوان وتم خلق الإنسان.
تتطابق هذه النظرات في بعض جوانبها مع النظريات العلمية الحديثة؛ فولادة القمر من الهواء لا تبعد كثيرا عن النظريات القائلة بتشكل الأجرام السماوية من السحب الغازية. أما صدور الأشياء عن المياه الأولى فلا يبتعد عن الاكتشافات العلمية الحديثة المتعلقة بنشأة الحياة وتطورها ابتداء من البحر. وأريد هنا أن ألفت النظر إلى نقطة هامة لفهم الفكر الأسطوري وتطوره . فالفكر القديم ابتدأ ماديا حسيا، وبعيدا عن التجريد. وفكرة القوة المبدعة المنفصلة عن الكون الفاعلة فيه عن بعد، لم تكن موجودة في ذهن خالق الأسطورة؛ فعمليات الخلق ليست فعلا صادرا عن الآلهة منفصلا عنها، بمقدار ما كانت تبديا لحركتها وتفاعلها مع بعضها. ففي البدء كانت المياه الأولى، أزلية غير مخلوقة ولا منبجسة عن العدم. وجبل السماء والأرض لم يخلق بفعل قوة خارجية مجردة متعالية، بل جاء نتيجة إخصاب ذاتي للأم الأولى التي ولدته من رحمها، كما تلد أمهات البشر والحيوان، وكما يتكاثر النبات. وكذلك الأمر بالنسبة للقمر والشمس وغيرهما.
والآن لنأت إلى استعراض أهم النصوص التي وصلت إلينا، والتي تلقي الضوء على أفكار السومريين في موضوع البدء والتكوين. (1) فصل السماء عن الأرض
في مطلع أسطورة تحكي عن خلق الإنسان، نعثر على إشارة لجبل السماء والأرض.
في جبل السماء والأرض
أنجب آن أتباعه الأنوناكي.
1
وهذا الجبل لم يكن أزليا، بل مخلوقا؛ فمن لوح آخر مخصص لتعداد أسماء الأنوناكي، آلهة سومر، نعرف أن الإلهة نمو وهي المياه البدئية، قد أنجبت السماء والأرض، اللتين انفصلتا عن بعضهما. ويشير مطلع أسطورة أخرى عرضا إلى هذا الانفصال، فيقول:
بعد أن أبعدت السماء عن الأرض
وفصلت الأرض عن السماء
وتم خلق الإنسان
وأخذ آن السماء
وانفرد إنليل بالأرض
أخذ الإله كور الإلهة إريشكيجال غنيمة.
2
والإله كور في الميثولوجيا السومرية، هو رب العالم الأسفل، عالم الموتى الذي تمضي إليه الأرواح. أما إريشكيجال فقد كانت إلهة أرضية، تزوجها كور بعد أن اختطفها إلى عالمه الأسفل لتغدو إلهة ذلك العالم، وسيدته المطلقة، تماما كالإلهة بيرسيفوني في الميثولوجيا الإغريقية، التي اختطفها إله العالم السفلي هاديس من أمها إلهة الخصب ديمتر، فصارت ربة للعالم الأسفل وزوجة لسيد عالم الموتى. ومما يثبت الرابطة بين الأسطورتين أن اسم كور الذي بقي في اللغة السومرية دلالة على العالم الأسفل حتى الفترات المتأخرة، وزوال ذكرى الإله القديم وأسطورته، هو أيضا اسم ربة العالم الأسفل الإغريقية، التي تشير إليها الأساطير أحيانا باسم بيرسيفوني، وأحيانا أخرى باسم كور.
وفي مطلع أسطورة ثالثة نعرف مزيدا من المعلومات عن فصل السماء عن الأرض، والإله الذي قام بتلك العملية الجبارة:
إن الإله الذي أخرج كل شيء نافع
الإله الذي لا مبدل لكلماته
إنليل الذي أنبت الحب والمرعى
أبعد السماء عن الأرض
وأبعد الأرض عن السماء.
3
تثبت لنا هذه الأساطير السومرية تقاليد بقيت سائدة في الفكر الأسطوري لحضارات المنطقة والحضارات الأخرى المجاورة. ففكرة الميلاد المائي تتكرر فيما بعد في الأساطير البابلية التي تحكي عن ولادة الكون من المياه الأولى «تعامة» المقابلة لنمو السومرية.
4
وفي الأسطورة السورية نجد يم المياه الأولى، وقد انتصر عليها الإله بعل وشرع بعد انتصاره بتنظيم العالم.
5
وفي الأسطورة المصرية كان رع أول إله يخرج من المياه الأولى، وهو الذي أنجب فيما بعد بقية الآلهة.
6
وفي الأسطورة الإغريقية نجد أوقيانوس هو المياه الأولى، والإله البدئي الذي نشأ عنه الكون.
7
وفي التوراة العبرانية أيضا نجد المياه الأولى وروح الرب فوقها قبل التكوين: «وكانت الأرض خربة وخالية، وروح الرب يرف فوق وجه الماء» التكوين 1. كما أثبت لنا القرآن الكريم وهو نهاية الوحي الذي ابتدأ بسيدنا آدم وجود المياه البدئية إذ قال:
وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ، وقال:
وجعلنا من الماء كل شيء حي .
8
وكذلك الأمر فيما يتعلق بفكرة لقاح السماء والأرض المتحدتين، والفصل بينهما فيما بعد. ففي الأسطورة المصرية نجد جيب إله الأرض المذكر، ونوت إلهة السماء المؤنثة في حالة اتحاد، وقد تزوجا بعضهما سرا دون إذن من الإله رع. فلما علم كبير الآلهة بذلك أرسل إله الهواء شو الذي أبعدهما عن بعض عنوة. ومنذ ذلك الوقت والإله «شو» يطأ بقدميه جيب الصريع، ويرفع بذراعيه القويتين السماء نوت. وفي الأسطورة الإغريقية نجد جيا الأرض، الأم الأولى، التي كانت أول إله يخرج من العماء البدئي، تلد نظيرها أورانوس إله السماء الذي يغطيها من كل الجوانب، وتتحد به لتلد بقية الآلهة، ثم يتم التفريق بينهما عنوة. وفي الأسطورة البابلية يقوم الإله مردوخ بشطر جسد الإلهة تعامة، المياه الأولى، إلى نصفين، فيرفع الأول سماء، ويبسط الثاني أرضا. وفي الأسطورة التوراتية يقوم إله العبرانيين يهوه أيضا بفصل المياه الأولى إلى شطرين، رفع الأول إلى السماء، وبسط الثاني الذي تجمع ماؤه في جانب، وبرزت منه اليابسة في جانب آخر.
أخيرا أثبت لنا القرآن الكريم واقعة فصل السماء عن الأرض بقوله:
أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما .
9
وقد قام المؤلفون العرب فيما بعد بتفصيل نظرية الميلاد وفصل السماء عن الأرض، مستخدمين الأفكار الأسطورية القديمة نفسها. فنقرأ في كتائب عرائس المجالس، لأبي إسحاق الثعلبي المتوفى سنة 427 هجرية:
10 «لما أراد الله تعالى أن يخلق السموات والأرض، خلق جوهرة خضراء حجمها أضعاف طباق السموات والأرض، ثم نظر إليها نظرة هيبة فصارت ماء، ثم نظر إلى الماء فغلى وارتفع منه دخان وزبد وبخار ... وخلق الله من ذلك الدخان السماء، ومن ذلك الزبد الأرض.» كما نقرأ للطبري المتوفى سنة 310ه في كتاب تاريخ الرسل والملوك:
11 «إن الله تعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء، فسما عليه فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين.» كما يحدثنا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في الجزء الأول من الفتوحات المكية عن خلق العالم فيقول:
12 «فخلق الماء سبحانه، بردة جامدة كالجوهرة في الاستدارة والبياض، وأودع فيها بالقوة ذات الأجسام وذوات الأعراض. ثم خلق العرش واستوى عليه اسم الرحمن ... فنظر بعين الجلال إلى تلك الجوهرة فذابت حياء، وتحللت أجزاؤها فسال الماء، وكان عرشه على ذلك الماء قبل وجود الأرض والسماء ... وليس في الوجود إذاك إلا حقائق المستوى عليه، والمستوي، والاستواء. فأرسل النفس فتموج الماء وأزبد ... وترك زبده بالساحل الذي أنتجه ... فأنشأ سبحانه في ذلك الزبد الأرض ... ثم أنشأ الدخان من نار احتكاك الأرض عند فتقها، ففتق فيه السموات العلى ...»
وفي أساطير كثيرة من الشعوب البدائية المعاصرة لنا نجد تكرارا لأسطورة فصل السماء عن الأرض؛ ففي نيوزيلاندا وتاهيتي وجزر كوك ، يروي السكان الأسطورة الآتية:
13
بعد أن اتحدت السماء بالأرض أنجبتا عددا من الآلهة الصغار الذين كانوا يعيشون في ضيق وظلمة لشدة التصاق السماء بالأرض، فقرروا التمرد على هذا الوضع بزعامة الإله الجريء تاني الذي رفع السماء بقوة ذراعيه حتى استقرت مكانها، ثم قال لتبق السماء بعيدة عنا، أما الأرض فلتبق قريبة هنا أما رءوما.
ولعل النظريات العلمية الحديثة في نشأة الكون لا تبتعد كثيرا عن هذه الأفكار عندما تفترض أن انفجارا بدئيا قد حدث في الأزمنة السحيقة، نشأ عنه تبعثر الأجرام في الفراغ وابتعادها عن نقطة الانفجار. فالأرض والحالة هذه كوكب قد انفصل عن مكان ما هناك في السماء.
ولقد قامت مدرسة التحليل النفسي بتفسير نظرية الميلاد المائي على أنها انعكاس لذكرى كامنة في لا شعور الإنسان عن حالة الجنين في رحم الأم، حيث كان محاطا بالماء من جميع الجهات، وانبثاقه، من ثم، عن ذلك الوسط إلى العالم الجاف الخارجي. كما أن المدرسة تستخدم أساطير فصل السماء عن الأرض لتوكيد وجهة نظرها في سيطرة عقدة أوديب، التي تشغل حيزا كبيرا من نظرية سيجموند فرويد، فالرغبة المكبوتة في لا شعور الطفل، والمتعلقة بإبعاد الأب والاستئثار بالأم، تجد متنفسا لها في عالم الأسطورة، حيث يقوم البطل بإبعاد السماء والبقاء في الأرض. يضاف إلى ذلك أن بعض الأساطير لا تكتفي بالإبعاد، بل تتعداه إلى قيام الابن بفعل عنيف ضد الوظيفة الجنسية للأب، تلك الوظيفة التي تعطيه امتيازا عند الأم. فالإله كرونوس في الأسطورة الإغريقية
14
يقوم بتحريض من أمه بإخصاء أبيه أورانوس إله السماء، ورمي أعضائه التناسلية في البحر. ومن لقاء مياه أورانوس المخصبة بمياه المحيط، تولد أفروديت من زبد البحر، وتضع قدمها على اليابسة عند شواطئ قبرص. (2) تنظيم الكون
بعد أن فصل إنليل بين السماء والأرض، وأعطاهما شكلهما الذي نعرفه اليوم، انصرف إلى خلق بقية عناصر الكون. وهنا أيضا يأتي الخلق نتيجة الحركة المادية والفعالية الحياتية للآلهة، لا نتيجة الكلمة الخالقة والأمر الإلهي. فظهور القمر والشمس إلى الوجود، وبعض الآلهة الأخرى، يأتي نتيجة الفعالية الجنسية للإله إنليل الذي ضاجع الإلهة ننليل فولدت له القمر. والقمر بدوره أنجب الشمس بفعل جنسي آخر. تحدثنا أسطورة سومرية عن سلسلة الخلق هذه في نص شعري جميل مؤلف من مائة واثنين وخمسين سطرا، معظمها في حالة سليمة تسمح بقراءة واضحة للألواح الموزعة عليها:
15
تبدأ الأسطورة بمقدمة وصفية لمدينة نيبور التي وجدت قبل ظهور الإنسان، وكانت تسكنها الآلهة:
انظر (إلى نيبور) عماد السماء والأرض (هي) [...]
انظر إلى نيبور المدينة [...]
ترى أسوارها العالية، مدينة [...]
ترى نهرها الرقراق إيد سالا.
ترى رصيفها كاركورانا، حيث ترسو السفن.
ترى بولال نبعها الصافي.
ترى أدنو نبردو، جدولها العذب.
هناك إنليل فتاها الغض،
هناك ننليل فتاتها الشابة،
هناك ننبار شيكونو سيدتها العجوز.
بعد هذه المقدمة تبدأ القصة، فنجد سيدة نيبور العجوز وهي تحدث ابنتها ننليل في كيفية استمالة الإله إنليل:
في تلك الأيام قامت الأم بإرشاد ابنتها،
قامت ننبار شيكونو بنصح ابنتها: «عند النهر الصافي يا فتاتي، عند النهر الصافي اغتسلي.
وعلى ضفة نهر الننبردو، أي ننليل، تمشي.
ذو العينين البراقتين، السيد ذو العينين البراقتين،
الجبل العظيم، إنليل الأب، ذو العينين البراقتين سيراك.
الراعي، سيد المصائر، ذو العينين البراقتين سيراك.
حيث [...] وحيث يقبلك.»
نفذت ننليل مشورة أمها. وأبصرها إنليل فحاول غوايتها ولكنها تمنعت، فتحايل عليها وحملها بمعونة وزيره نسكو إلى قارب، وهناك اغتصبها وتركها حبلى بالإله القمر. إلا أن الآلهة تغضب لفعلة إنليل، ويقرر المجمع نفيه إلى العالم الأسفل. يرضخ إنليل لمشيئة الآلهة ويبدأ رحلته نحو العالم الأسفل، ولكن ننليل التي تمكن منها حب الإله الشاب تلحق به وتدركه عند بوابة الجحيم. ولكن إنليل يطلب من حارس البوابة، ولسبب لا ندريه، تضليل «ننليل»، ويتخذ هو نفسه هيئة الحارس ويقبع في انتظارها. وعندما تصل وتسأله عن حبيبها، يجيبها وهو في هيئة الحارس مضللا، ثم يجامعها ويتركها حبلى بنرجال إله العالم الأسفل.
إنليل [...] غادر المدينة.
نونا منير غادر المدينة.
انطلق إنليل، والفتاة اقتفت أثره.
انطلق نونا منير والفتاة اقتفت أثره.
قال إنليل لحارس البوابة: «يا حارس البوابة ، يا صاحب القفل،
يا رجل المزلاج، يا صاحب القفل المقدس،
ننليل الملكة آتية،
ننليل الملكة آتية،
فإن توجهت لك بالسؤال عني،
لا تكشف لها عن مكان وجودي.»
اقتربت ننليل من حارس البوابة قائلة: «يا حارس البوابة، يا صاحب القفل،
يا رجل المزلاج، يا صاحب القفل المقدس،
إنليل مليكك أين مضى؟»
فأجابها إنليل عن حارس البوابة: «لقد أمرني إنليل سيد كل البلاد.» (يلي ذلك أربعة أسطر تحتوي مضمون الأمر إلا أن معناها غامض، ثم الحوار الآتي): - إن إنليل، حقا، مليكك، ولكني أيضا مليكتك. - إذا كنت حقا مليكتي، فدعيني ألمس [...] - إن ماء مليكك في داخلي نانا
16
إنه في داخلي. - ليذهب ماء مليكي إلى السماء، ليذهب نانا إلى السماء،
واتركي مائي يمضي إلى الأرض.
إنليل في هيئة حارس البوابة اضطجع،
فقبلها وجامعها،
وسكب في داخلها ماء ميسلاميتا.
مشى إنليل وننليل اقتفت أثره،
نونا منير مشى والفتاة اقتفت أثره،
قال إنليل لصاحب نهر العالم الأسفل: «يا صاحب نهر العالم الأسفل،
ننليل الملكة آتية،
ننليل الملكة آتية،
فإن توجهت لك بالسؤال عني،
لا تكشف لها مكان وجودي.»
اقتربت ننليل من صاحب النهر قائلة: «يا صاحب نهر العالم الأسفل،
إنليل مليكك، أين مضى؟»
فأجابها إنليل عن صاحب النهر: «لقد أمرني إنليل سيد كل البلاد.»
يتكرر ثانية المضمون غير المفهوم للأمر، ثم يليه الحوار الآتي، بين إنليل في هيئة صاحب النهر، والفتاة ننليل: - إن إنليل حقا مليكك، ولكني أيضا مليكتك. - إذا كنت حقا مليكتي، فدعيني ألمس ... - إن ماء مليكك في داخلي، الماء الملتمع في جوفي ماء نانا الملتمع في جوفي. - ليذهب ماء مليكي إلى السماء، واتركي مائي يمضي إلى الأرض.»
إنليل في هيئة ملاح النهر اضطجع،
فقبلها وجامعها،
وسكب في جوفها ماء ننازو.
17
وتتابع الأسطورة على المنوال نفسه، فتصف مولد إله رابع من الإلهة السفلى هو الإله إليجيبيل، وهنا يتخذ إنليل هيئة ملاح العالم السفلي الذي ينقل بقاربه عبر النهر.
وتنتهي الأسطورة بترتيل حمد لإنليل:
إنليل هو السيد والملك ،
إنليل لا مبدل لكلماته.
الحمد لأمنا ننليل،
الحمد لأبينا إنليل.
والجدير بالذكر أن الأساطير اليونانية اللاحقة قد نسخت بعد ألفي سنة، حرفيا وصف العالم الأسفل السومري، فنجد بوابات العالم الأسفل، ونهره، وملاحه، وملكه ومليكته.
ولعل مما يلفت النظر في هذه الأسطورة ظهور القمر للوجود قبل الشمس، وكونه فيما بعد أبا للشمس. ويرجع ذلك، في اعتقادي، إلى أسبقية عبادة القمر على عبادة الشمس في المجتمعات البدائية السابقة لظهور الحضارات، مجتمعات الثقافة التي قدست القمر واعتبرته رمزا للأم الكبرى إلهة المجتمع الأمومي، وقدمته على الشمس التي كانت رمزا للذكر، والتي قدستها المجتمعات الأبوية بعد ذلك باعتبارها رمزا للإله الذكر، إله السماء الأعلى. ومن ناحية أخرى فإن فكرة الإله الابن الذي يتفوق على أبيه، ويأخذ سلطاته، هي فكرة شائعة في ميثولوجيا المنطقة وميثولوجيا الشعوب الأخرى. فإنليل نفسه قد صار الإله الأول في مجمع آلهة سومر، ومردوخ فيما بعد تفوق على أبيه، وصار سيد آلهة بابل. وعند الكنعانيين نجد الإله الأكبر إيل وقد تخلى عن مكانه للإله بعل الذي تفوق على أبيه داجون. وفي المعتقد المسيحي نجد الإله الابن وقد غدا أكثر أهمية لخلاص الإنسان من الإله الأب. (3) إنكي ينظم العالم
لم يكن الخلق مهمة تولاها إله واحد في سومر؛ فها هو الإله إنكي يتابع ما بدأه إنليل، ويضع اللمسات الأخيرة على صورة الكون، فتخرج حية نضرة. وإنكي هو إله الماء العذب عند السومريين وإله الحكمة أيضا. ومن غير إله الماء العذب يستطيع أن يبعث الحياة في كون جامد لا حركة فيه؟ ومن غير إله الحكمة يستطيع أن يدفع الحياة نحو غايتها، ويحدد أغراضها ومراميها؟
حول هذا الموضوع وصلتنا أسطورة سومرية، تتحدث عن نشاط الإله إنكي الخاص بتنظيم العالم، وتيسير أسباب الحياة والحضارة. ولكن الجزء الأول من النص، وهو الجزء الأساسي، مشوه بشكل لا نستطيع معه أن نتبين معنى واضحا. وعندما يصبح اللوح الفخاري قابلا للقراءة، نلتقي بالإله إنكي وقد وصل في تطوافه الكوني إلى بلاد سومر، فيتوقف هناك ويعين لتلك البلاد مصائرها:
18
سومر ، يا أعظم بلدان العالم،
أيها المغمور بالنور الدائم ، والشرائع المطاعة،
أقدارك عظيمة لا تتبدل،
وقلبك واسع عميق، لا يسبر له غور،
و[...] كالسماء، لا يمكن مسها.
الملك الذي تنجبه، مزين أبدا بحلي دائمة.
السيد الذي تنجبه، على رأسه تاج لا يميل.
سيدك، سيد معظم، يجلس مع آن في العرش السماوي.
مليكك، هو الجبل العظيم، الأب إنليل.
وكمثل [...] هو أب لكل البلاد.
أما الأنوناكي، الآلهة العظيمة،
ففي وسطك قد أقامت مساكنها
وفي غاباتك الواسعة تتناول طعامها.
سومر، لتتضاعف إصطبلاتك وتتكاثر أبقارك،
لتتضاعف زرائبك، وبالآلاف فلتتكاثر أغنامك،
لتكن [...] باقية.
ألا فلترفع [...] الراسخة يدها إلى السماء،
ألا فليقرر الأنوناكي، في وسطك، المصائر. (بعد ذلك يمضي إلى مدينة أور، وكانت عاصمة سومر في ذلك الوقت المبكر من تاريخه، فيقرر لها مصائرها):
إلى أور أتى
إنكي، سيد الأعماق، أتى ليقرر مصائرها:
أيتها المدينة الموفورة، يا مدينة الماء الثر، والثيران القوية،
يا مصدر رزق البلاد، أيتها الخضراء، يا متباعدة الركبتين أبدا،
19
يا غابة الظل الوارف [...]،
أقدارك الكاملة، هو الذي قدرها،
إنليل، الجبل العظيم، قد نطق اسمك المقدس،
إنليل، الجبل العظيم، قد نطق اسمك المقدس في الآفاق،
أيتها المدينة التي رسم مصائرها إنكي،
أي أور، أيها الهيكل المقدس، لترفعي هامتك نحو السماء.
ثم يذهب إنكي إلى بلاد ملوخا فيباركها أيضا، وإلى دجلة والفرات فيملؤهما بماء نقي ويخلق فيهما السمك، وعلى شاطئيهما ينثر القصب، ثم يوكل بهما الإله إنبيلولو. ثم يلتفت إلى البحر فينظم شئونه ويوكل به إلهة اسمها سيرارا.
20
ثم إلى الرياح فيتسلم قيادها ويوكلها إلى الإله أشكور، صاحب القفل الفضي، الذي ينظم من خلاله الأمطار، ثم إلى شئون الزراعة، وما يتصل بها من أدوات، حيث يخلق النير والمحراث، ويوكل الإله إنكمدو بالقنوات والسواقي. وفي المدن يهتم بالعمران فيقيم للآجر إلها خاصا، ويحفر الأساسات وينشئ الجدران، ويعين الإله شداما للإشراف على أعمال البناء. ثم يملأ السهول بالأعشاب والمراعي، وينثر فيها القطعان، ويعين لأمورها الإله سوموقان. ثم الحظائر يملؤها بالمنتجات الحيوانية، ويعين عليها الإله الراعي دوموزي.
وإلى هنا ينتهي النص المفهوم، حيث يعود اللوح للتشوه مرة أخرى. (4) خلق الإنسان
بعد أن أخذ الكون شكله، واستقرت السماء في موضعها، وكذلك الأرض. بعد أن انتظمت دورة النهار والليل، وحركة الفصول. بعد أن أخرجت الأرض زرعها وشجرها وتفجرت ينابيعها. بعد أن ظهرت الحيوانات بأنواعها وامتلأت البحار بأسماكها، بعد ذلك صار المسرح مهيئا لظهور الإنسان.
والأسطورة السومرية المتعلقة بخلق الإنسان، هي أول أسطورة خطتها يد الإنسان عن هذا الموضوع. وعلى منوالها جرت أساطير المنطقة، والمناطق المجاورة التي استمدت منها عناصرها الأساسية، وخصوصا فكرة تكوين الإنسان من طين، وفكرة تصوير الإنسان على صورة الآلهة.
أما لماذا خلق الإنسان؟ فإن الأسطورة السومرية لا تتردد في الإجابة على هذا السؤال ولا توارب؛ فالإنسان خلق عبدا للآلهة، يقدم لها طعامها وشرابها، ويزرع أرضها ويرعى قطعانها. خلق الإنسان لحمل عبء العمل ورفعه عن كاهل الآلهة؛ فمنذ البدء كان الآلهة يقومون بكل الأعمال التي تقيم أودهم وتحفظ حياتهم. ولكنهم تعبوا من ذلك فراحوا يشتكون لإنكي الحكيم ليجد لهم مخرجا. ولكنه، وهو المضطجع بعيدا في الأغوار المائية، لم يسمع شكاتهم. فمضوا إلى أمه الإلهة نمو، المياه البدئية التي أنجبت الجيل الأول من الآلهة؛ لتكون واسطتهم إليه، فمضت إليه قائلة:
21 «أي بني، انهض من مضجعك، انهض من [...]
واصنع أمرا حكيما،
اجعل للآلهة خدما، يصنعون [لهم معاشهم].»
فتأمل إنكي مليا في الأمر، ثم دعا الصناع الإلهيين المهرة وقال لأمه نمو: «إن الكائنات التي ارتأيت خلقها، ستظهر للوجود،
ولسوف نعلق عليها صورة الآلهة.
22
امزجي حفنة طين، من فوق مياه الأعماق،
وسيقوم الصناع الإلهيون المهرة بتكثيف الطين (وعجنه)،
ثم كوني أنت له أعضاءه،
وستعمل معك ننماخ
23
يدا بيد،
وتقف إلى جانبك، عند التكوين، ربات الولادة.
ولسوف تقدرين للمولود الجديد، يا أماه، مصيره،
وتعلق ننماخ عليه صورة الآلهة [...] في هيئة الإنسان [...]».
بعد ذلك يتشوه اللوح الفخاري حامل النص، ثم نجد أنفسنا، بعد وضوح الكتابة، مع إنكي يحتفل بإنجازه المبدع في وليمة يدعو إليها الآلهة.
وفي أسطورة سومرية أخرى تحكي عن خلق الماشية والحبوب، نجد رواية أخرى لقصة خلق الإنسان:
24
كالبشر، عندما خلقوا أول مرة.
لم يعرف الأنوناكي أكل الخبز،
لا ولم يعرفوا لبس الثياب،
بل أكلوا النباتات بأفواههم،
وشربوا الماء من الينابيع والجداول.
في تلك الأيام، وفي حجرة الخلق،
في دلكوج بيت الآلهة، خلق لهار وأشنان.
25
ومما أنتج لهار وأشنان،
أكل الأنوناكي ولم يكتفوا،
ومن حظائرهما المقدسة شربوا اللبن،
شربوا ولكنهم لم يرتووا؛
لذا ومن أجل العناية بطيبات حظائرهما
تم خلق الإنسان.
تسربت العناصر الرئيسية لهذه الأسطورة إلى معظم أساطير الشعوب المجاورة؛ ففي الأساطير البابلية اللاحقة يتم خلق الإنسان من الطين، ويفرض عليه حمل عبء العمل. وفي سفر التكوين العبراني نجد إله اليهود يهوه يقوم بخلق الإنسان من طين بعد انتهائه من خلق العالم، ويجعله على شاكلته: «وجبل الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة الحياة، فصار آدم نفسا حية».
26
ورغم أن الهدف الذي يقدمه النص التوراتي لخلق الإنسان هو السيطرة على «سمك البحر، وطير السماء، وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدابات التي تدب على الأرض»،
27
إلا أنه يعود فيفرض عليه عبء العمل، تماما كالنص السومري: «لأنك سمعت لقول امرأتك، وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا لا تأكل منها. ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك ... بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها؛ لأنك من التراب وإلى التراب تعود.»
28
وفي الأساطير المصرية نجد تردادا للفكرة نفسها، وكذلك الأمر في الأساطير الإغريقية،
29
التي تعزو لبرومثيوس خلق الإنسان. فقد قام هذا الأخير بخلق الإنسان من تراب وماء، وعندما استوى الإنسان قائما نفخت الإلهة أثينا فيه الروح، ثم راح برومثيوس بعد ذلك يزود الإنسان بالوسائل التي تعينه على البقاء والاستمرار، فسرق له النار الإلهية من السماء، ضد رغبة كبير الآلهة زيوس، وأفشى له سرها وكيفية توليدها واستخدامها، فنال بذلك غضب زيوس وعقابه.
فإذا تركنا أساطير الشعوب المتحضرة نجد أن فكرة الخلق من طين ترد في أساطير الشعوب البدائية. تقول أسطورة أفريقية:
30
إن الإله الخالق أخذ حفنة من طين شكلها على هيئة إنسان، ثم تركها في بركة مليئة بماء البحر مدة سبعة أيام، وفي اليوم الثامن رفعها فكانت بشرا سويا. وفي أسطورة من الفلبين،
31
يقوم الإله الخالق بجلب حفنة من الطين على هيئة إنسان ويضعها في الفرن، ولكنه يسهو عنها فتسود، وهذا هو أصل الإنسان الأسود، ثم يضع أخرى ويخرجها قبل أوانها، فهذا هو أصل الإنسان الأبيض. وفي المرة الثالثة يأخذ الطين كفايته من النار فيخرج الإنسان الفلبيني، ذو اللون البرونزي. وفي أسطورة هندية أمريكية نجد أيضا التكوين الطيني ونفخة الحياة التي تهب الشكل الجامد روحه وحركته.
هذا ولا يزودنا العلم الحديث بنظرية أو حقيقة، تثبت علاقة جسم الإنسان بتراب الأرض، ولكنه يقول لنا إن العناصر المكونة لجسم الإنسان هي نفس العناصر الموجودة في التراب.
وأخيرا يثبت القرآن الكريم خلق الإنسان من تراب في أكثر من موضع:
خلق الإنسان من صلصال كالفخار * وخلق الجان من مارج من نار .
32
قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين .
33 (5) استراحة الخالق
بعد الانتهاء من عناء الخلق يخلد إنكي للراحة والسكينة، ويشرع في بناء بيت له في الأعماق المائية. وتحدثنا أسطورة سومرية عن بناء بيت الرب، الذي يبدو هنا إلها للأعماق المائية بشكل عام، أكثر منه إلها للمياه العذبة الباطنية؛ فالأسطورة ترسم إنكي في صورة تذكرنا بالإله بوسيدون إله البحار عند الإغريق، أو نبتون عند الرومان. تقول الأسطورة:
34
بعد أن تفرقت مياه التكوين،
وعمت البركة أقطار السماء،
وغطى الزرع والعشب وجه الأرض.
إنكي، إله الغمر، إنكي، الملك.
إنكي، الرب الذي يقرر المصائر،
بنى بيته من فضة ولازورد،
فضة ولازورد كأنها النور الخاطف،
حيث استقر هناك في الأعماق.
وبعد أن انتهى من بناء بيته كان لا بد له، ككل الآلهة العظام، من مدينة أيضا، فرفع من أعماق البحر مدينة أريدو،
35
وغطاها شجرا وخضرة ونباتا، وملأ مياهها سمكا، ثم قرر السفر إلى أبيه إنليل ليحصل على بركته، فارتفع من الأعماق المائية في مشهد مهيب مروع :
عندما ارتفع إنكي، ارتفعت معه كل الأسماك،
واضطرب الغمر واصطخب،
زال عن البحر وجه المرح،
وساد الرعب في الأعماق،
واستبد الهلع بالأنهار العالية،
ورفعت ريح الجنوب الفرات على مد من الأمواج.
وعندما يصل إنكي في مركبته إلى نيبور مدينة إنليل، يقيم مأدبة للآلهة، يقدم لهم فيها الطعام والخمر. وفي نهايته يقف إنليل فيثني على ما فعله إنكي من بناء للبيت ويمنحه بركاته ورضاه.
ويبدو أن بناء البيت للإله هو أمر ضروري بعد ارتفاع شأنه وعلو مقامه، وبعد البيت يأتي بناء مدينة للإله أيضا؛ فهذا مردوخ إله بابل، يبني له الآلهة بيتا يناطح برجه المدرج عنان السماء، بعد انتهائه من فعل الخلق. وحول الهيكل المقدس يبني الآلهة أيضا مدينة بابل. وها هو بعل، إله سوريا، يطالب ببناء بيت له بعد أن تغلب على المياه الأولى ممثلة بالإله يم، وعلى قوى الشر والقحط الممثلة بالإله موت، فيكون له ما أراد. ويقلده في ذلك إله اليهود الذي يطالب ببناء بيت له بعد أن تعب من التجوال في خيمة مع بني إسرائيل. نقرأ في سفر صموئيل الثاني من العهد القديم 7: 3: «وفي تلك الليلة كان كلام الرب إلى ناثان قائلا: اذهب وقل لعبدي داود، هكذا قال الرب، أأنت تبني لي بيتا لسكناي؟ لأنني لم أسكن في بيت منذ أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة.»
وهكذا نغادر التكوين السومري بعد أن وضعت لنا تلك الأساطير القليلة، الناقصة والمبعثرة، الإطار العام لتصور أسطوري سيستمر ويتطور وينضج في بقية أساطير المنطقة. كما وسنلتقي مع من تعرفنا عليهم من الآلهة، في أماكن أخرى لشعوب أخرى؛ فإن إله السماء السومري سيغدو آنو إله السماء البابلي، وإيل إله السماء السوري، وإنكي إله الماء العذب سيغدو إيا إله الماء العذب البابلي. وننماخ الأم-الأرض، ستظهر باسمها نفسه أو باسم ننخرساج أو باسم ننتو أو مامي. ونمو المياه الأولى سنجدها في شخصية تعامة المياه الأولى عند البابليين ويم، عند الفينيقيين (الكنعانيين). وسنلتقي أيضا بإريشكيجال إلهة العالم الأسفل وقد حافظت على اسمها ووظائفها.
لقد استولت الحضارة السومرية على الفاتحين ثقافيا، بعد أن دانت لهم عسكريا.
الفصل الثاني
التكوين البابلي
أقام الأكاديون الساميون إلى جانب جيرانهم السومريين ردحا طويلا، وما لبثوا أن استوعبوهم، وبسطوا سلطانهم السياسي والثقافي على بلاد الرافدين، في إمبراطورية بلغت أوجها في عهد الملك الكبير حمورابي. وإذا كان السومريون قد وضعوا بذرة الثقافة في وادي الرافدين، فإن الأكاديين هم الذين استنبتوها لتعطي أكلها، وتهب العالم حضارة تعد، إلى جانب الحضارة السورية والمصرية، من أقدم وأهم الحضارات الإنسانية. ولم يكن تعاقب الشعوب السامية الأخرى على الهيمنة السياسية في وادي الرافدين (كالكلدانيين، والآشوريين) إلا تنويعا على أرضية واحدة مشتركة. وسأقوم في هذا الكتاب بالإشارة للثقافة الرافدية باسم الثقافة البابلية، دون أن يعني ذلك تخصيصا أو تحديدا معينا.
تتوضح أفكار البابليين في الخلق والتكوين، بشكلها الأكمل، في ملحمة التكوين البابلية المعروفة باسم «الإينوما إيليش». وتعتبر هذه الملحمة، إلى جانب ملحمة جلجامش، من أقدم وأجمل الملاحم في العالم القديم؛ فتاريخ كتابتها يعود إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد؛ أي قبل ألف وخمسمائة سنة تقريبا من كتابة إلياذة هوميروس، وتدوين أسفار التوراة العبرانية. وقد لقيت كثيرا من الاهتمام والدراسة من قبل علماء المسماريات والأنثروبولوجيا والميثولوجيا والثيولوجيا.
فإلى جانب الشكل الشعري الجميل الذي صيغت فيه الملحمة، والذي يعطينا نموذجا لأدب إنساني متطور، فإنها تقدم لنا وثيقة هامة عن معتقدات البابليين، ونشأة آلهتهم ووظائفها وعلاقاتها. كما أنها تقدم لدارسي الديانات المقارنة، مادة غنية، بسبب المشابهات الواضحة مع الإصحاحين الأول والثاني من كتاب التوراة.
وجدت الملحمة موزعة على سبعة ألواح فخارية، أثناء الحفريات التي كشفت عن قصر الملك آشور بانيبال، ومكتبته التي احتوت على مئات الألواح في شتى الموضوعات الأدبية والدينية والقانونية وما إليها. وقد جرى الكشف عن ألواح الملحمة تباعا، منذ نهاية القرن الماضي، وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين، حيث اكتملت وصارت واضحة وميسرة للترجمة والدراسة.
واسم الملحمة مأخوذ، كما هي عادة السومريين والبابليين، من الكلمات الافتتاحية للنص؛ فإينوما إيليش تعني: عندما في الأعالي. فعندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض. لم يكن في الوجود سوى المياه الأولى ممثلة في ثلاثة آلهة؛ أبسو وتعامة وممو. فأبسو هو الماء العذب، وتعامة زوجته كانت الماء المالح، أما ممو فيعتقد البعض بأنه الأمواج المتلاطمة الناشئة عن المياه الأولى، ولكني أؤيد الرأي القائل بأنه الضباب المنتشر فوق تلك المياه والناشئ عنها. هذه الكتلة المائية الأولى كانت تملأ الكون، وهي العماء الأول الذي انبثقت منه فيما بعد بقية الآلهة والموجودات، وكانت آلهتها الثلاثة تعيش في حالة سرمدية من السكون والصمت المطلق، ممتزجة ببعضها البعض في حالة شواشية لا تمايز فيها ولا تشكل. ثم أخذت هذه الآلهة بالتناسل فولد لأبسو وتعامة إلهان جديدان هما لخمو ولخامو، وهذان بدورهما أنجبا أنشار وكيشار اللذين فاقا أبويهما قوة ومنعة. وبعد سنوات مديدة ولد لأنشار وكيشار ابن أسمياه آنو، وهو الذي صار فيما بعد إلها للسماء. وآنو بدوره أنجب إنكي أو إيا، وهو إله الحكمة والفطنة، والذي غدا فيما بعد إله المياه العذبة الباطنية. ولقد بلغ إيا حدا من القوة والهيبة جعله يسود حتى على آبائه.
وهكذا امتلأت أعماق الإلهة تعامة بالآلهة الجديدة المليئة بالشباب والحيوية، والتي كانت في فعالية دائمة وحركة دائبة، مما غير الحالة السابقة وأحدث وضعا جديدا لم تألفه آلهة السكون البدئية، التي عكرت صفوها الحركة وأقلقت سكونها الأزلي. حاولت الآلهة البدئية السيطرة على الموقف واستيعاب نشاط الآلهة الجديدة ولكن عبثا، الأمر الذي دفعها إلى اللجوء للعنف. فقام أبسو بوضع خطة لإبادة النسل الجديد والعودة للنوم مرة أخرى. وباشر بتنفيذ خطته رغم معارضة تعامة التي ما زالت تكن بعض عواطف الأمومة.
لدى سماعهم بمخططات أبسو خاف الآلهة الشباب واضطربوا، ولم يخلصهم من حيرتهم سوى أشدهم وأعقلهم، الإله إيا، الذي ضرب حلقة سحرية حول رفاقه، تحميهم من بطش آبائهم، ثم صنع تعويذة سحرية ألقاها على أبسو فنام، ثم قام إيا بنزع العمامة الملكية عن رأس أبسو ووضعها على رأسه رمزا لسلطانه الجديد . كما نزع عن أبسو أيضا اللقب الإلهي وأسبغه على نفسه، ثم ذبحه وبنى فوقه مسكنا لنفسه. كما انقض على ممو (الضباب المنتشر فوق المياه الأولى) المعاضد لأبسو فسحقه وخرم أنفه بحبل يجره وراءه أينما ذهب. ومنذ ذلك الوقت صار إيا إلها للماء العذب يدفع به إلى سطح الأرض بمقدار، ويتحكم به بمقدار، وهو الذي يعطي الأنهار والجداول والبحيرات ماءها العذب. وهو الذي يفجر الأرض عيونا من مسكنه الباطني. ومنذ ذلك الوقت أيضا يشاهد ممو فوق مياه الأنهار والبحيرات لأن إيا قد ربطه بحبل فهو موثق به إلى الأبد.
بعد هذه الأحداث الجسام ولد الإله مردوخ، أعظم آلهة بابل، الذي أنقذهم مرة أخرى من بطش الآلهة القديمة ورفع نفسه سيدا للمجمع المقدس. وكيف لا وهو ابن إيا (إنكي) الذي فاق أباه قوة وحكمة وبطشا. وكما كان الإنقاذ الأول على يد الأب إنكي، كذلك كان الإنقاذ الثاني على يد الابن الشاب مردوخ. فتعامة، التي تركت زوجها أبسو لمصيره المحزن دون أن تهرع لمساعدته وهو يذبح على يد الآلهة الصغيرة، تجد نفسها الآن مقتنعة بضرورة السير على الطريق نفسه لأن الآلهة الصغيرة لم تغير مسلكها، بل زادها انتصارها ثقة وتصميما على أسلوبها في الحياة. وهنا اجتمعت الآلهة القديمة إلى تعامة وحرضتها على حرب أولئك المتمردين على التقاليد الكونية فوافقت، وشرعت بتجهيز جيش عرم قوامه أحد عشر نوعا من الكائنات الغريبة التي أنجبتها خصوصا لساعة الصدام، أفاع وزواحف وتنانين هائلة وحشرات عملاقة جعلت عليها الإله كينغو قائدا، بعد أن اختارته زوجا لها، وعلقت على صدره ألواح الأقدار.
علم الفريق الآخر بما تخطط له تعامة وصحبها، فاجتمعوا خائفين قلقين، وأرسلوا إليهم الإله إيا الذي أنقذهم في المرة الأولى، عسى ينقذهم في المرة الثانية. ولكن إيا عاد مذعورا مما رأى، فأرسلوا آنو الذي مضى وعاد في حالة هلع شديد. أسقط في يد الجميع وأطرقوا حائرين، كل يفكر في مصيره الأسود القريب. وهنا خطر لكبيرهم أنشار خاطر جعل أساريره تتهلل إذ تذكر مردوخ، الفتى القوي العتي، فأرسل في طلبه حالا. وعندما مثل بين يديه وعلم بسبب دعوته، أعلن عن استعداده للقاء تعامة وجيشها بشرط الموافقة على إعطائه امتيازات وسلطات استثنائية، فكان له ما أراد. وجلسوا جميعا حول مائدة الشراب وقد اطمأنت قلوبهم لقيادة الإله الشاب.
أعطى الآلهة مردوخ قوة تقرير المصائر بدلا من أنشار، وأعطوه قوة الكلمة الخالقة. ولكي يمتحنوا قوة كلمته الخالقة أتوا بثوب وضعوه في وسطهم وطلبوا من مردوخ أن يأمر بفناء الثوب، فزال الثوب بكلمة آمرة من مردوخ، ثم عاد إلى الوجود بكلمة أخرى. هنا تأكد الآلهة من أن مردوخ إذا أراد شيئا قال له كن فيكون. فأقاموا له عرشا يليق بألوهيته، وأعلوه سيدا عليهم جميعا، ثم أسلموه الطريق إلى تعامة. وقبل أن يمضي صنع لنفسه قوسا وجعبة وسهاما وهراوة، كما صنع شبكة هائلة أمر الرياح الأربع أن تمسكها من أطرافها. ملأ جسمه باللهب الحارق، وأرسل البرق أمامه يشق له الطريق. دفع أمامه الأعاصير العاتية وأطلق طوفان المياه. وانقض طائرا بعربته الإلهية، وهي العاصفة الرهيبة التي لا تصد، منطلقا نحو تعامة والآلهة تتدافع من حوله تشهد مشهدا عجبا.
عندما التقى الجمعان طلب مردوخ قتالا منفردا مع تعامة فوافقت عليه، ودخل الاثنان حالا في صراع مميت. وبعد فاصل قصير نشر مردوخ شبكته ورماها فوق تعامة محمولة على الرياح، وعندما فتحت فمها لالتهامه دفع في بطنها الرياح الشيطانية الصاخبة فانتفخت وامتنع عليها الحراك. وهنا أطلق الرب من سهامه واحدا تغلغل في حشاها وشطر قلبها، وعندما تهاوت على الأرض أجهز على حياتها، ثم التفت إلى زوجها وقائد جيشها كينغو فرماه في الأصفاد، وسلبه ألواح الأقدار وعلقها على صدره. وهنا تمزق جيش تعامة شر ممزق، وفر معظمه يطلب النجاة لنفسه، ولكن مردوخ طاردهم، فقتل من قتل وأسر من أسر.
بعد هذا الانتصار المؤزر على قوة السكون والسلب والفوضى، التفت مردوخ إلى بناء الكون وتنظيمه وإخراجه من حالة الهيولية الأولى، إلى حالة النظام والترتيب، حالة الحركة والفاعلية و... الحضارة. عاد مردوخ إلى جثة تعامة يتأملها، ثم أمسك بها وشقها شقين، رفع النصف الأول فصار سماء، وسوى النصف الثاني فصار أرضا. ثم التفت بعد ذلك إلى باقي عمليات الخلق، فخلق النجوم محطات راحة للآلهة، وصنع الشمس والقمر وحدد لهما مساريهما. ثم خلق الإنسان من دماء الإله السجين كنغو حيث قتله، وأفرج عن بقية الأسرى بعد أن اعترفوا بأن المحرض الأول هو كنغو، كما خلق الحيوان والنبات. ونظم الآلهة في فريقين؛ جعل الفريق الأول في السماء وهم الأنوناكي، والثاني جعله في الأرض وما تحتها وهم الإيجيجي.
1
بعد الانتهاء من عملية الخلق يجتمع الإله مردوخ بجميع الآلهة ويحتفلون بتتويجه سيدا للكون. بنوا مدينة هي بابل، ورفعوا له في وسطها معبدا تناطح ذروته السحاب، هو معبد الإيزاجيلا، وفي الاحتفال المهيب أعلنوا أسماء مردوخ الخمسين.
هذه هي الخطوط العريضة للملحمة البابلية الكبيرة، عرضتها في عجالة لا تغني عن النص الشعري الكامل الذي يعتبر مع ملحمة جلجامش أجمل نصين من نصوص الأدب السامي، ومن أجمل نتاجات الأدب القديم. وسأقدم فيما يأتي ترجمة كاملة لألواح الملحمة السبعة.
اعتمدت ترجمتي بشكل أساسي على نص السيد أليكسندر هيديل
Alexander Heidel
الصادر في كتابه
2
The Babylanian Genesis ، ونص السيد سبيسر
E. A. Speiser
المنشور في كتاب
3
Ancient, Near Eastern Texts ، وفي بعض المواضع على نص جريسون
A. K. Gryson ،
4
واسترشدت بترجمة كينج
L. W. King ، وترجمة سلانجدون
Slangdon ، فجاء النص العربي معبرا عن أهم الاتجاهات القائمة في ترجمة هذا النص العظيم.
5 (1) الإينوما إيليش (1-1) اللوح الأول
عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء،
وفي الأسفل لم يكن هناك أرض،
لم يكن (من الآلهة) سوى أبسو أبوهم،
وممو، وتعامة التي حملت بهم جميعا،
يمزجون أمواههم معا.
قبل أن تظهر المراعي وتتشكل سبخات القصب،
قبل أن يظهر للوجود الآلهة الآخرون،
قبل أن تمنح لهم أسماؤهم، وترسم أقدارهم.
في ذلك الزمن خلق الآلهة (الثلاثة) في أعماقهم
لخمو ولخامو، ومنحوا لهما اسميهما.
وقبل أن يكبر لخمو ولخامو ويشبا عن الطوق،
جاء إلى الوجود أنشار وكيشار وفاقاهما قامة وطولا.
عاشا الأيام المديدة، يضيفانها للسنين الطويلة،
ثم أنجبا آنو وريثهما، وفخر آبائه.
نعم كان آنو بكر أنشار، وكان صنوا له.
ثم أنجب آنو ابنه نوديمود
6
على شاكلته،
فصار نوديمود سيد آبائه.
كان واسع الإدراك، حكيما وعظيما في قوته،
أعظم من جده آنشار، «وأكثر قوة وعتيا»،
ولم يكن له بين إخوته ند (ولا منافس). ... وتجمع الصحب المؤلهون،
أزعجوا بحركتهم تعامة.
نعم، لقد هزوا جوف تعامة،
7
يروحون جيئة وذهابا في مسكنهم المقدس.
لم يقدر أبسو على إسكات صخبهم،
وتعامة كانت ساكتة حيال [أفعالهم]،
رغم ألمها من سلوكهم، [ورغم] رفضها لطريقهم.
ثم إن أبسو، سلف الآلهة العظام،
دعا أمينه ممو ... قائلا له: «أي ممو، يا أميني الذي يفرح به قلبي،
8
دعنا [نذهب] إلى تعامة.»
فمضيا ومثلا أمامها،
تشاورا في أمر أبنائهم الآلهة (الشابة)،
وفتح أبسو فمه، قائلا لتعامة بصوت مرتفع: «لقد غدا سلوكهم مؤلما لي؛
في النهار لا أستطيع راحة، وفي الليل لا يحلو لي رقاد،
لأدمرنهم وأضع حدا لفعالهم،
فيخيم الصمت ونخلد بعدها للنوم.»
فلما سمعت تعامة منه ذلك،
ثار غضبها وصاحت بزوجها،
صرخت وثار هياجها،
كتمت الشر في فؤادها وقالت: «لماذا ندمر من وهبناهم نحن الحياة؟
إن سلوكهم لمؤلم حقا، ولكن دعونا نتصرف بلين (وروية)!»
ثم نطق ممو ناصحا أبسو، [...] وفي غير صالح الآلهة جاءت نصيحة ممو: «نعم يا والدي دمرهم، دمر فوضاهم؛
لتستريح نهارك، وترقد ليلك.»
فلما سمع أبسو ذلك استضاء وجهه
للخطط الشريرة التي يضمرها لأولاده الآلهة،
ثم قام إليه ممو معانقا،
وجلس في حضنه وقبله.
ولكن ما دار في مجلسهم من خطط
قد وصل سمعه إلى أبنائهم الآلهة،
الذين اضطربوا لما سمعوا.
جلسوا صامتين وسكنوا (حائرين)، (غير أن) ذا الفهم العميق وصاحب الفطنة والحكمة
إيا، العليم بكل شيء، قد نفذ ببصيرته إلى خطط (المتآمرين)،
فابتكر ضدها دائرة سحرية (حامية) ضربها حول رفاقه،
وبتأن، نطق ترتيلته المقدسة المسيطرة (على النفوس)،
رتلها محيطا بها سطح الماء،
9
فجلب إليه النوم العميق.
نام أبسو وراح في سباته بلا حراك،
تاركا أمينه ممو بلا حول،
وهنا قام إيا بحل نطاق أبسو ونضا عنه تاجه،
وجلا عنه عظمته (وهيبته) وأسبغها على نفسه؛
وبذلك أخضعه، ثم عمد إلى ذبحه،
وسجن ممو وأغلق دونه الأبواب.
وفوق أبسو أقام إيا مسكنه،
وعاد إلى ممو فخرم أنفه بحبل يمسك به.
وبعد أن قهر إيا أعداءه وأخضعهم،
علا أمره على خصومه جميعا،
وبسلام ودعة ركن إلى مسكنه.
دعا مسكنه الأبسو وجعله مقدسا،
فيه بنى غرفة، مقاما لنفسه،
وسكن هناك مع زوجته دومكينا بكل أبهة وعظمة.
وفي غرفة الأقدار تلك، غرفة المصائر،
أحكم الحكماء، أحكم الآلهة، الرب، قد ولد
في أبسو المقدس، مردوخ قد ولد
إياه، كان له أبا.
ودومكينا، التي حملت به أما،
أرضعته حليب الآلهة،
وأسبغت عليه الجلالة والهيبة،
تخلب الألباب قامته، تلمع كالبرق عيناه،
يخطو بعنفوان ورجولة أنه زعيم منذ البداية.
عندما رآه إيا أبوه
فرح وامتلأ قلبه بهجة وحبورا،
رفع شأنه بين الآلهة وزاد قدره عليهم،
فكان أرفعهم مقاما، وأسبقهم في كل شيء.
بفن بديع تشكلت أعضاؤه.
لا تدركه الأفهام، ولا يحيط به خيال.
أربعة كانت آذانه، أربعة كانت عيونه.
تتوهج النيران كلما تحركت شفتاه.
اتسعت آذانه الأربعة،
كما اتسعت عيونه فأحاط بكل شيء.
كان الأعلى بين الآلهة، ما لهيئته نظير،
هائلة أعضاؤه، سامقة قامته.
عظموه، بجلوه،
10
الابن الشمس، وشمس السموات
11
مثل نوره كنور عشرة آلهة معا، جبارا عتيا،
أسبغت عليه الجلالة النورانية المهيبة. (ثم) خلق آنو الرياح الأربع وأنشأها،
أسلم أمرها لسيد الرهط
12 (مردوخ)، الذي أحدث الأمواج فاضطربت لها تعامة،
قلقة صارت، تحوم على غير هدى،
والآلهة (الكبيرة) نسيت الراحة، في خضم العواصف
أضمروا الشر في سرائرهم،
وجاءوا إلى أمهم تعامة قائلين: «عندما قتلوا زوجك أبسو
لبثت هادئة دون أن تمدي له يدا،
وعندما خلق (أنو) الرياح الأربع،
اضطربت أعماقك، وغابت عنا الراحة.
تذكري أبسو زوجك،
تذكري ممو المقهور واندبي وحدتك.
لم تعودي أما لنا، تهيمين على غير هدى.
حرمتنا عطفك وحنانك. [...] عيوننا ثقيلة، [...] دعونا ننام دون إزعاج، [...] واجعليهم نهبا للرياح.»
فلما سمعت تعامة القول سرت به: « [...] دعونا نخلق وحوشا،
13 [...] وفي الوسط (من جمعها) يسير الآلهة.
دعونا نعلن الحرب على الآلهة (الشابة)، دعونا [...].»
ثم احتشد الجمع وساروا إلى جانبها
غاضبين يحيكون الخطط بدأب ليل نهار،
يتهيئون للحرب في هياج وثوران.
عقدوا مجلسا وخططوا للصراع.
الأم هابور
14
خالقة الأشياء جميعا،
أتت بأسلحة لا تقاوم، أفاع هائلة
حادة أسنانها، مريعة أنيابها،
ملئت أجسادها بدل الدم سما. (أتت) بتنانين ضارية تبعث الهلع،
توجتها بهالة من الرعب، وألبستها جلالة الآلهة.
يموت الناظر إليها فرقا،
حتى إذا انتصبت لم تخنع ولم تدبر.
خلقت الأفعى الخبيثة والتنين وأبا الهول.
15
الأسد الجبار والكلب المسعور والرجل العقرب،
عفاريت العاصفة والذبابة العملاقة والبسيون،
كلها مزودة بأسلحة لا ترد، غير هيابة ولا ناكصة.
نافذة كانت أحكام تعامة، لا يقاومها أحد.
أحد عشر نوعا من الوحوش أظهرت للوجود،
ومن الجيل الأول للآلهة الغاضبة، في مجلسها
اختارت كينغو وجعلته عليا وعظيما.
وضعته أمام جيشها قائدا،
فيشهر السلاح للمعركة ويبدأ الصراع،
إنه الآمر الأعلى للمعركة.
أسلمته الأمانة، وأجلسته في المجتمع قائلة: «لقد قرأت عليك تعويذتي، وجعلتك عظيما في مجلس الآلهة،
وأسلمت إلى يدك قياد الآلهة جميعا.
فلتكن عظيما، يا زوجي الفذ،
وليعل اسمك فوق جميع آلهة الأنوناكي.»
ثم أسلمت إليه ألواح القدر، وزينت بها صدره قائلة: «وسيكون أمرك نافذا وكلماتك ماضية.»
وبعد أن جرى تنصيب كينغو وتسليمه السلطة العليا
قاما بتقرير مصائر الآلهة: «سيكون لكلمتك فعل الإخضاع،
وستذل (كلمتك) الأسلحة القاهرة.»
16
حاشية رقم 1 • اللوح الأول من عندما في الأعالي، نسخ عن الأصل وجرت مقارنته. • بيد نابور بلاطو.
حاشية رقم 2 • اللوح الأول من عندما في الأعالي. • نسخة من بابل نقلت عن الأصل وتمت مقارنتها. • بيد نابور ماشينك ابن [...]. (1-2) اللوح الثاني
بعد أن أعدت تعامة عدتها،
تهيأت لبدء الصراع مع ذريتها من الآلهة،
أعدت كل شيء انتقاما لأبسو،
ولكن استعداداتها وصلت لإيا،
فلما أحاط بالمسألة علما،
أقعده الخوف وجلس في حزن عميق.
وبعد أن قلب الأمر وسكنت ثائرته،
مضى إلى جده أنشار،
فلما صار في حضرة جده أنشار،
أفضى إليه بكل ما تخطط له تعامة: «أي أبتاه، إن تعامة التي حملت بنا، تكرهنا.
إنها مهتاجة غضبى، وقد عقدت اجتماعا
فقصدها جميع الآلهة،
حتى من خلقتهم أنت، انضموا إليها،
كلهم غضاب، وبلا راحة يتآمرون ، في الليل وفي النهار،
تحضروا للقتال وكلهم سخط وهياج،
عقدوا اجتماعا ووضعوا خطط المعركة.
والأم هابور، خالقة الأشياء جميعا،
أتت بأسلحة لا تقاوم؛ أفاع هائلة،
حادة أسنانها، مريعة أنيابها،
ملئت أجسادها بدل الدماء سما،
أتت بتنانين ضارية، تبعث الهلع،
توجتها بهالة من الرعب وألبستها جلال الآلهة،
يموت الناظر إليها فرقا،
حتى إذا انتصبت، لم تخنع ولم تدبر.
خلقت الأفعى الخبيثة، والتنين، وأبا الهول
الأسد الجبار والكلب المسعور والرجل العقرب
عفاريت العاصفة، والذبابة العملاقة والبيسون،
كلها مزودة بأسلحة لا ترد، غير هيابة ولا ناكصة.
نافذة كانت أحكام تعامة، لا يقاومها أحد،
أحد عشر نوعا من الوحوش، أظهرت للوجود،
ومن الجيل الأول، للآلهة الغضبى في مجلسها،
اختارت كينغو وجعلته عليا وعظيما،
وضعته أمام جيشها قائدا،
فيشهر السلاح في المعركة، ويبدأ الصراع.
إنه الآمر الأعلى للمعركة.
أسلمته الأمانة، وأجلسته في المجمع قائلة:
لقد قرأت عليك تعويذتي، وجعلتك عظيما في مجلس الآلهة،
وأسلمت إليك قيادة الآلهة جميعا.
فلتكن عليا عظيما يا زوجي الفذ،
وليعل اسمك فوق جميع آلهة الأنوناكي.
ثم أسلمت إليه ألواح الأقدار وزينت صدره قائلة:
سيكون أمرك نافذا وكلمتك ماضية.
وبعد أن جرى تنصيب كينغو وتسليمه السلطة العليا
قاما بتقرير مصير الآلهة،
سيكون لكلمتك قوة الإخضاع،
وستذل (كلمتك) الأسلحة القاهرة.»
فلما سمع أنشار ذلك وعرف بثوران تعامة،
ضرب فخذه وعض على شفتيه.
كان حزنه عظيما واضطرابه بالغا. [...] كتم تأوهاته،
ونادى إيا قائلا: قم يا بني وتأهب للقتال،
والأسلحة التي صنعتها، ستحملها الآن.
أنت يا من ذبحت أبسو [...]،
قم الآن واقض على كينغو الذي يتقدم جمعها، [قم يا سيد] الحكمة.
فأجابه نوديمود مستشار الآلهة: (ثلاثة أسطر مشوهة، إلا أننا نستدل من السياق العام على أن إيا قد قدم المعاذير عن عدم استطاعته تنفيذ المهمة.)
صرخ أنشار بغيظ عظيم،
وتوجه بالنداء إلى ابنه آنو: «يا أول أبنائي، أيها البطل الرائع،
يا ذا القدرة الفائقة، والانقضاض الجريء،
امض الآن وقف أمام تعامة،
فإن لم تصغ لكلماتك،
فه لها بكلماتي علها تخمد (من ثورتها).»
فلما سمع آنو كلام أبيه
قام ملتمسا طريقه إلى تعامة،
وعندما اقترب منها وعرف كل ما تدبره،
أدرك عجزه عن مجابهتها وعاد من حيث أتى.
مضى في رعب إلى أبيه أنشار،
ولفظ أمامه ما تمتمه في سره لما رأى تعامة:
إن ذراعي لا تكفيان لإخضاعها
17
فسقط على أنشار سكون عميق وأطرق إلى الأرض ثم هز رأسه،
فتراقصت خصلات شعره،
وكل الأنوناكي قد تجمعوا في المكان،
أطبقوا أفواههم وجلسوا صامتين؛
فما من إله يمضي لقتالها،
ويأمن العودة سالما من لقائها.
ثم نهض أنشار أبو الآلهة بعظمة وجلال،
يقضي بما تجيش به نفسه للأنوناكي: «إن من سينتقم لنا، هو صاحب العزم المتين،
الجريء في ساحة الوغى، إنه مردوخ الشجاع.»
فقام إيا باستدعاء مردوخ إلى غرفته الخاصة
وأسدى إليه النصح، مفضيا إليه بخططه: «أي مردوخ، تفكر فيما أقول لك، وأنصت لأبيك.
يا ولدي الذي يفرح به قلبي،
امض إلى حضرة أنشار في عدة الحرب الكاملة.
قف أمامه منتصبا بينما تكلمه، فتهدأ خواطره.»
سر الرب مردوخ بكلام والده.
مضى إلى أنشار وانتصب أمامه،
فامتلأ قلب أنشار بهجة لرؤيته،
قام إليه وقبله وقد تلاشى منه الخوف،
فبادره مردوخ: أي أنشار لا تصمت، بل افتح فمك،
سأمضي قدما وأحقق ما يصبو إليه فؤادك.
نعم أنشار لا تصمت، افتح فمك،
أي الرجال قد أشهر سلاحه ضدك،
أم تراها تعامة، وهي أنثى، قد فعلت ذلك؟
أبي، أيها الإله الخالق، لتسعد ولتبتهج؛ •••
فقريبا سوف تطأ عنق تعامة.
نعم يا أبي أيها الإله الخالق؛
فقريبا سوف تطأ عنق تعامة. (فقال أنشار): «أي بني، يا صاحب الحكمة الواسعة،
أسكت تعامة بتعويذتك المقدسة،
التمس طريقك إليها، على عربة العاصفة السريعة ... ... ردها على أعقابها.»
سعد الرب بكلام أبيه،
طرب فؤاده والتفت إليه قائلا: «يا رب الآلهة وسيد مصائرهم،
إذا كان لي أن أنتقم لكم حقا
فاقهر تعامة، واحفظ حياتكم،
فإنني أطلب اجتماعا يعلن فيه اقتداري.
وعندما تلتقون، جذلين في قاعة الاجتماع،
اجعلوا لكلمتي قوة تقرير المصائر، بدلا عنك،
وليبق ما أخلق قائما لا يزول،
وما أنطق به من أوامر، ماضيا لا يحول.»
حاشية رقم 1 • اللوح الثاني من عندما في الأعالي نسخ وفقا ... • ... نسخة من آشور • ...
حاشية رقم 2 • استنسخ عن الأصل وجرت مقارنته. لو نابور آحي آدينا. • ابن أتير، بل ابن كاهن الإله ماشي. (1-3) اللوح الثالث
فتح أنشار فمه
متحدثا إلى وزيره كاكا: «كاكا يا وزيري الذي يفرح به قلبي،
سأرسلك إلى لخمو ولخامو؛
فأنت واسع الإدراك مجيد الحديث.
ادع آبائي الآلهة للحضور إلي،
وليأت معهم جميع الآلهة،
فيجلس الجميع إلى مأدبتي ونتحدث.
سنأكل خبزا ونشرب خمرا.
وإلى مردوخ المنتقم فليسلموا مقاديرهم.
أي كاكا، انطلق وامثل أمامهم،
انقل لهم ما أنا محدثك به: «أنشار ابنكم قد أرسلني إليكم،
أوكلني أن أنقل إليكم مشيئة قلبه،
فتعامة التي حملت بنا تكرهنا،
إنها مهتاجة غضبى، وقد عقدت اجتماعا
فقصدها جميع الآلهة،
حتى من خلقتموهم أنتم، انضموا إليها،
كلهم غضاب، وبلا راحة يتآمرون في الليل والنهار،
تحضروا للقتال في سخط وهياج،
والأم هابور خالقة الأشياء جميعا
أنت بأسلحة لا تقاوم؛ أفاع هائلة
حادة أسنانها مريعة أنيابها
ملئت أجسادها بدل الدماء سما،
أتت بتنانين ضاربة تبعث الهلع،
توجتها بهالة من الرعب وألبستها جلال الآلهة،
يموت الناظر إليها فرقا،
حتى إذا انتصبت لم تخنع ولم تدبر.
خلقت الأفعى الخبيثة، والتنين، وأبا الهول
الأسد الجبار، والكلب المسعور، والرجل العقرب،
عفاريت العاصفة، والذبابة العملاقة والبيسون،
كلها مزودة بأسلحة لا ترد، غير هيابة ولا ناكصة.
نافذة كانت أحكام تعامة، لا يقاومها أحد.
أحد عشر نوعا من الوحوش، أظهرت للوجود،
ومن الجيل الأول للآلهة في مجلسها،
اختارت كينغو، وجعلته عليا وعظيما،
وضعته أمام جيشها قائدا،
فيشهر السلاح للمعركة، ويبدأ الصراع،
إنه الآمر الأعلى للمعركة،
أسلمته الأمانة، وأجلسته في المجتمع قائلة:
لقد قرأت عليك تعويذتي، وجعلتك عظيما في مجلس الآلهة،
وأسلمت إلى يديك قيادة الآلهة جميعا،
فلتكن عليا وعظيما يا زوجي الفذ،
وليعل اسمك فوق جميع آلهة الأنوناكي.
ثم أسلمت إليه ألواح الأقدار، وزينت بها صدره قائلة:
سيكون أمرك نافذا، وكلمتك ماضية،
وبعد أن جرى تنصيب كينغو وتسليمه السلطة العليا
قاما بتقرير مصير الآلهة:
سيكون لكلمتك قوة الإخضاع
وستذل (كلمتك) الأسلحة القاهرة.
أرسلت إليها آنو فلم يقدر على مواجهتها،
وأيضا نوديمود خاف وانقلب على عقبيه،
ثم تقدم مردوخ، ابنكم مردوخ، أحكم الآلهة،
حفزه فؤادي (الجريء) للقاء تعامة،
ففتح فمه وقال لي: «إذا كان لي أن أنتقم لكم حقا فأقهر تعامة وأحفظ حياتكم؛
فإنني أطلب اجتماعا يعلن فيه اقتداري،
وعندما تلتقون جذلين، في قاعة الاجتماع،
اجعلوا لكلمتي قوة تقرير المصائر، بدلا عنك،
وليبق ما أخلق، قائما لا يزول،
وما أنطق به من أوامر، ماضيا لا يحول.»
فهلموا إلي وسلموا إلي مقاديركم،
فيذهب للقاء عدوكم العنيد.
انطلق كاكا لا يلوي على شيء،
وأمام جديه لخمو ولخامو مثل وقال لهم:
أنشار ابنكم قد أرسلني إليكم،
أوكلني أن أنقل لكم مشيئة قلبه، (تكرار للمقطع السابق نفسه الذي يصف استعدادات تعامة، وذلك من السطر 73 إلى السطر 124.)
فلما سمع لخمو ولخامو ذلك، صرخا بصوت عال،
وكل الإيجيجي بكوا بحرقة: «ما الذي ألجأها لمثل هذا القرار؟
إن سلوكها مستعص على أفهامنا.»
ثم جمعوا بعضهم وانطلقوا.
كل الآلهة التي تقرر المصائر (انطلقت)،
والتأم الشمل في حضرة أنشار فامتلأت قاعة الاجتماعات.
قبلوا بعضهم بعضا حين تلاقوا،
وجلسوا للمأدبة يتحاورون،
أكلوا خبزا، وشربوا خمرا،
فبدد الفرح مخاوفهم،
وانتشت أجسامهم بالشراب القوي.
زال الهم عن قلوبهم وسمت أرواحهم،
ولمردوخ المنتصر سلموا المصير. (1-4) اللوح الرابع
أقاموا له منصة عرش ربانية،
واتخذ مكانه قبالة آبائه لتلقي السيادة: «أنت الأعظم شأنا بين الآلهة الكبرى،
لا يدانيك أحد، وأمرك من أمر آنو،
ومن الآن فأمرك نافذ لا يرد.
أنت المعز وأنت المذل حين تشاء.
كلمتك العليا، وقولك لا يخيب.
ما من إله يقارب حدودك.
مساكن الآلهة تستصرخ الحماية
18
فزينها بحضورك، تجد في كل مكان ركنا لك.
مردوخ أنت المنتقم لنا،
لك منحنا السيادة على العالمين.
وعندما تتصدر المجلس، كلمتك هي العليا.
لتكن أسلحتك ماضية، ولتفتك بأعدائنا.
أيها الرب احفظ حياة من وضع عليك اتكاله ،
وأهدر حياة من مشى في ركاب الشر.»
ثم أتوا بثوب فوضعوه في وسطهم،
وقالوا لبكرهم مردوخ: «سلطانك أيها الرب هو الأقوى بين الآلهة،
ليفن الثوب بكلمة من فمك،
وليرجع سيرته الأولى بكلمة أخرى.»
فأمر بفناء الثوب، فزال،
ثم أمر به فعاد ثانية كما كان،
فلما رأى آباؤه الآلهة، قوة كلمته (الخالقة)
ابتهجوا وأعطوه ولاءهم: مردوخ ملكا،
منحوه الصولجان والعرش والرداء الملكي،
وأعطوه سلاحا ماضيا يقضي على الأعداء قائلين: «امض واسلب تعامة الحياة،
ولتحمل الريح دماءها للأماكن القصية.»
بعد أن انتهى الآلهة من منح بل كل السلطات،
أسلموه الطريق، طريق النجاح.
صنع قوسا وأعلنه سلاحا له،
جعل للسهام رءوسا مسنونة، وشد لقوسه وترا،
رفع الهراوة، أمسكها بيمينه،
وربط القوس والجعبة إلى جنبه،
ثم أرسل البرق أمامه،
وملأ جسمه بالشعلة اللاهبة.
صنع شبكة يوقع بها تعامة،
وصرف الريح تمسك بأطرافها لتحتوي تعامة،
ريح الجنوب، وريح الشمال وريح الشرق وريح الغرب.
خلق الأمهيلو: الرياح الشيطانية، وخلق الإعصار والعاصفة،
الرياح الرباعية، والرياح السباعية، والزوابع، والرياح الداهمة،
ثم أفلت الرياح السبع التي خلق
ليعصف بها أعماق تعامة، فهبت من خلفه ومشت إثره.
أطلق فيضان المطر، سلاحه الهائل،
ثم اعتلى مركبة لا تقهر، مركبة العاصفة الرهيبة،
شد لجرها طاقما من أربعة لا تقهر؛ (هم) المدمر، والعتي، والساحق، والطيار.
أسنانها حادة وفي أنيابها السم،
تمرست بالدمار سريعة لا تجارى،
وضع على يمينه الباطش المجلي في النزال،
وعن يساره الفاتك الذي يؤجج الحماس،
أما هو فقد اكتسى بدرع مهيب من الزرد،
واعتمر بهالة تشيع الرعب والذعر.
والآن، اتخذ طريقه لا يلوي على شيء،
ميمما وجهه شطر تعامة الهائجة.
حمل بين شفتيه طلسما من عجينة حمراء،
وفي يده ترياقا من الأعشاب يحفظه من السموم،
وقد حفت به الآلهة، حفت به الآلهة،
وقد تدافعت حوله الآلهة، تدافع آباؤه الآلهة.
ولما اقترب من تعامة، دنا ليسبر غورها،
ويكشف خبيئة زوجها كنغو،
رماه بنظرة نافذة فاضطربت أحواله،
شلت منه الإرادة وتعثرت أفعاله،
أما أتباعه الآلهة، ممن مشى معه،
فقد زاغت أبصارهم لمرأى البطل الجبار،
وأطلقت تعامة زئيرها عاليا دون أن تدير رقبتها،
والثورة اللاهبة قد ارتسمت على شفتيها: «من أنت حتى تكسب إليك جميع الآلهة
فهبطوا إلى منزلتك وساروا معك.»
فرفع مردوخ سلاحه الرهيب فيضان المطر،
ولتعامة الهائجة توجه قائلا: ••• «كفى ما رأينا من عجرفتك وتكبرك،
لقد شحنت البغضاء قلبك فحرضت على القتال،
وأوقعت بين الآباء والأبناء،
فنسيت حب من أنجبت.
أعليت كنغو وجعلته زوجا لك،
وأعطيته منزلة آنو، دون حق.
ضد أنشار، ملك الآلهة، وجهت شر أفعالك،
ولآبائي الآلهة كشفت سوء طويتك.
فلتتركي الآن حشدك يتجهز بكل ما عندك من سلاح،
ولتتقدمي إلي وحيدة، في معركة ثنائية.»
فلما سمعت تعامة منه ذلك القول
انتابها السعار وضاع منها الرشد،
في اهتياج أطلقت صراخها عاليا،
وحتى الأعماق انتفضت ساقاها معا،
تلت تعويذة ووجهتها مرارا وتكرارا (ضد مردوخ)،
بينما آلهة المعركة تشحذ أسلحتها.
ثم تقدما من بعضهما، تعامة ومردوخ أحكم الآلهة
اشتبكا في قتال فردي، والتحما في عراك (مميت)،
نشر الرب شبكته واحتواها في داخلها،
وفي وجهها أفلت الرياح الشيطانية التي تهب وراءه،
وعندما فتحت فمها لابتلاعه،
دفع في فمها الرياح الشيطانية، فلم تقدر له إطباقا،
وامتلأ جوفها بالرياح الصاخبة،
فبطنها منتفخ، وفمها فاغر على اتساعه.
ثم أطلق الرب من سهامه واحدا مزق أعماقها،
تغلغل في الحشا وشطر منها القلب،
فلما تهاوت أمامه أجهز على حياتها،
طرح جثتها أرضا واعتلى عليها.
وبعد أن قضت تعامة على يد مردوخ،
تفرق ربعها وتشتت شمل جيشها،
ارتعدت فرائص الجميع وولوا أدبارهم،
كل يود النجاة بروحه،
وما من سبيل؛ فهم محاصرون من كل جانب.
ضيق عليهم (مردوخ) وحطم أسلحتهم،
في شبكته وقعوا وفي الشرك استقروا،
تكأكئوا في الزوايا وعلا نحيبهم،
فصب عليهم جام غضبه وهم محتبسون.
أما المخلوقات الأحد عشر التي خلقتها وألبستها الجلالة،
وحشد العفاريت التي مشت إلى جانبها،
فقد رماها جميعا في الأصفاد، وربط أيديهم بعضهم ببعض،
وداسهم بقدميه، رغم كل مقاومة.
أما كينغو الذي وضع رئيسا عليهم،
فقد كبله وأسلمه إلى إله الموت.
19
جرده من ألواح الأقدار التي حازها دون حق،
فمهرها بخاتمه وزين بها صدره.
وبعد أن عزز انتصاره على أعدائه،
وسيطر على عدوه المتكبر العنيد،
بسط سلطان أنشار على أعدائه وعزز نصره،
وحقق آمال نوديمود. إنه مردوخ الشجاع،
شدد الحراسة على الآلهة الحبيسة،
ثم عاد إلى تعامة المقهورة،
وقف على جزئها الخلفي،
وبهراوته العتية فصل رأسها،
وقطع شرايين دمائها،
التي بعثرتها ريح الشمال إلى الأماكن المجهولة.
فلما شهد آباؤه ذلك طربوا له وابتهجوا،
وقدموا له نفائس الهدايا عربون ولاء.
ثم اتكأ الرب يتفحص جثتها المسجاة
ليصنع من جسدها أشياء رائعة؛
شقها نصفين فانفتحت كما الصدفة،
رفع نصفها الأول وشكل منه السماء سقفا،
وضع تحته العوارض وأقام الحرس،
أمرهم بحراسة مائه فلا يتسرب،
20
ثم جال أنحاء السماء فاحصا أرجاءها.
استقام في مقابل الأبسو مسكن نوديمود.
قاس الرب أبعاد الأبسو،
وأقام لنفسه نظيرا له، بناء هائلا أسماه عيشارا،
جاعلا إياه كالمظلة فوق الأبسو،
21
ثم أعطى لآنو وإنليل وإيا مساكنهم.
22
حاشية
146 سطرا ولما تكتمل الإينوما إيليش بعد. البقية تأتي.
كتبت وفقا للوح الذي فسد.
نابور بيلشو ابن نعيد، مردوخ ابن حدر. كتبه لراحة نفسه،
ولدوام بيته ومملكته. كتب في معبد إيزيدا. (1-5) اللوح الخامس
خلق محطات لكبار الآلهة (يستريحون فيها).
23
أوجد لكل مثيله من النجوم.
حدد السنة وقسم المناخات،
ولكل من الاثني عشر شهرا أوجد ثلاثة أبراج.
وبعد أن حدد بالأبراج أيام السنة،
خلق كوكب المشتري ليضع الحدود
24
فلا يتعدى نطاقه في السماء ولا يقصر عنه،
وعلى جانبيه خلق محطتي إنليل وإيا
25
فتح بوابتين في كلا الجانبين
26
دعمهما بأقفال قوية على اليمين وعلى الشمال،
وفي المنتصف تماما ثبت خط السمت،
ثم أخرج القمر فسطع بنوره، وأوكله بالليل،
وجعله حلية له وزينة، وليعين الأيام: «أن اطلع كل شهر دون انقطاع مزينا بتاج،
وفي أول الشهر عندما تشرق على كل البقاع،
ستظهر بقرنين يعينان ستة أيام،
وفي اليوم السابع يكتمل نصف تاجك،
وفي المنتصف من كل شهر ستغدو بدرا في كبد السماء،
وعندما تدرك الشمس في قاعدة السماء،
أنقص من ضوئك التام وابدأ بإنقاص تاجك كما اكتمل ،
وفي فترة اختفائك ستسير في درب مقارب لدرب الشمس،
27
وفي التاسع والعشرين، ستقف في مقابل الشمس مرة أخرى».
إلى هنا وينتهي الجزء الواضح من اللوح الخامس وفقا للنص الذي كان بين أيدي علماء المسماريات إلى وقت قريب. ولكن اكتشافات جديدة في موقع مدينة آشور، قدمت لنا لوحا اعتبره البعض تتمة للوح الخامس. ولكنني أعتقد أنه لا ينتمي إلى النسخة المعروفة للملحمة، بل إلى نسخة أخرى مفقودة؛ لأننا نجد فيه تكرارا لأحداث وقعت في الألواح السابقة. وأنا أقدمه هنا مترجما عن نص جريسون
Gryson
المنشور في
Ancient Near Eastern Texts :
لقد عينت لك شارة فاتبع دربها، ... تقرب وأصدر حكمك ... (يلي ذلك واحد وعشرون سطرا مشوهة بشكل لا يسمح بترجمتها. يبدأ النص بالوضوح ابتداء من السطر الخامس والأربعين.)
بعد أن أوكل بالأيام شمش (إله الشمس)،
وفصل بين تخوم النهار وتخوم الليل،
أخذ من لعاب تعامة،
وخلق منها مردوخ [...]،
خلق منها الغيوم وحملها بالمطر والزمهرير،
دفع الرياح وأنزل المطر،
وخلق من لعابها أيضا ضبابا،
ثم عمد إلى رأسها فصنع منه تلالا،
وفجر في أعماقها مياها،
فاندفع من عينيها نهرا دجلة والفرات،
ومن فتحتي أنفها ... [...]
وعند ثدييها رفع الجبال السامقة،
وفجر منها عيونا، وأحيا آبارا
لوى ذيلها وثبته في الأعالي، [...] (فانفتح) شقاها، شق ثبت في الأرض،
فغطاها جميعا، وشق رسخ أرضا. [...] في وسطها أسال مجرى عظيما،
ثم نزع عنها شبكته تماما،
وقد تحولت إلى سماء وأرض،
رسخت بينهما الحدود [...].
وبعد أن أحكم شريعته وأرسى طقوسه،
أوجد المعابد وأسلمها لإيا،
أما ألواح الأقدار التي غنمها من كينغو
فقد أعطاها، هدية أولى، لآنو،
ثم ساق أمامه الآلهة المقهورة
ودفعها، مغلولة، إلى حضرة آبائه.
أما المخلوقات الأحد عشر التي صنعتها تعامة،
والتي حطم مردوخ أسلحتها وربط أيديها ببعض
فقد جمدها ونصبها تماثيل عند فوهة الأبسو (قائلا): «ليبق ما حدث لهم حيا لا يمحى ولا ينسى.»
سر الآلهة بما رأوا سرورا عظيما،
لخمو ولخامو وكل آبائه معهم،
عبروا إليه، وأنشار الملك وقف مرحبا،
أما آنو وإنليل وإيا فقد قاموا بتقديم الهدايا،
وأمه دومكينا أيضا خصته بهدية سرت فؤاده،
وأرسلت تقدمات أضاءت لها قسمات وجهه، (فعهد) إلى أوسمي الذي حمل هداياها،
عهد إليه بسدانة الأبسو وخدمة الهياكل.
ولما اكتمل جميع الإيجيجي ركعوا أمامه،
وقبل كل من الأنوناكي قدميه،
اجتمعوا لتقديم فروض الاحترام،
وانحنوا جميعا وأعلنوا مردوخ ملكا.
وبعد أن متع آباؤه أنظارهم برؤيته (يلي ذلك ستة عشر سطرا غير قابلة للترجمة بسبب تشوه اللوح، وتصف هذه الأسطر جلوس مردوخ على العرش بكامل عدته. وعندما يبدأ النص بالوضوح نجد أمه وأباه يتوجهان بالحديث إلى الآلهة.)
إيا ودومكينا [...]
فتحا فمهما متحدثين إلى الإيجيجي، الآلهة الكبرى: «فيما مضى، لم يكن مردوخ سوى ابن محبوب،
ولكنه الآن ملك عليكم، فنادوه باسمه.»
ثم أعلنا بصوت واحد: «سيكون اسمه لوجال ديميرانكيا، به آمنوا.»
وبعد أن وهباه السيادة والسلطان
توجها بالحديث إليه: «أنت من يحمي حمانا منذ الآن، (ومنذ الآن) سنصدع بما تأمر به.»
ففتح مردوخ فمه
ليقول كلمة لآبائه الآلهة: «فوق العيشارة التي بنيت
سأمهد مكانا صالحا للبناء،
28
هناك أبني بيتا لي وهيكلا
29
به قدس الأقداس رمز جلالتي،
وعندما تصعدون من الأبسو للاجتماع
سيكون مفتوحا لاستقبالكم وبه تبيتون،
أو تهبطون من السماء للاجتماع،
سيكون مفتوحا لاستقبالكم وبه تبيتون،
سأدعو اسمه بابل؛ أي بيت الآلهة الكبرى،
وسينهض لبنائه، أمهر البنائين.»
فلما انتهى آباؤه من سماع كلمته
توجهوا لبكرهم مردوخ بالسؤال: «فوق كل ما صنعت يداك
لمن ستوكل سلطانك؟
فوق الأرض التي ابتدعتها يداك
لمن ستوكل حكمك؟
وبابل التي منحت لها اسما مجيدا،
وجعلتها مقرا لنا أبد الدهر، [...] فيجلبوا لنا طعام يومنا
30 [...]
هناك ... بعملهم [...].»
ابتهج مردوخ لما سمع.
أجاب سؤال الآلهة.
أشرق وجه قاتل تعامة،
وفتح فمه لحديث مقدس: «[...] [...] سيوكل إليكم.»
فركع الآلهة أمامه وقالوا،
قالوا للإله لوجال ديميرانيكا: «فيما مضى لم يكن الرب سوى ابن محبوب،
ولكنه الآن مليكنا، فنادوه باسمه.
لقد أعطتنا تميمته المقدسة الحياة.
إنه رب الصولجان المقدس.
إيا، المتمرس بكل حرفة ومهارة
سيضع المخططات، وسنكون له عمال بناء.»
حاشية
31
اللوح الخامس من «عندما في الأعالي»،
قصر آشور بانيبال ، ملك العالم، وملك آشور. (1-6) اللوح السادس
فلما انتهى مردوخ من سماع حديث الآلهة
حفزه قلبه لخلق مبدع،
فأسر لإيا بما يعتمل في نفسه،
وأطلعه على ما عقد عليه العزم: «سأخلق دماء وعظاما،
منها سأشكل لالو وسيكون اسمه الإنسان.
نعم، سوف أخلق لالو الإنسان،
وسنفرض عليه خدمة الآلهة، فيخلدون للراحة،
ثم أعمد إلى تنظيم أمور الآلهة،
كلهم عظيم، ولكني سأجعلهم في فريقين.»
فتوجه إليه إيا بكلمة
مقدما رأيه في ذلك الموضوع: «ليقوموا بتسليم أحدهم
فيقتل، ومنه تصنع الإنسان.
ليجتمع كبار الآلهة هنا،
وليسلم إلينا الإله المذنب؛ لراحة الباقين.»
فقام مردوخ بدعوة الآلهة الكبرى
متوجها لهم بود ورحمة، مصدرا توجيهاته،
فأعطى الآلهة له أذنا صاغية،
قال المليك لهم كلمة: «لقد صدق حقا ما وعدناكم به،
32
والآن أريد منكم قول الحق، وقسمي لكم ضمان.
من الذي خلق النزاع؟
من دفع تعامة للثورة، وأعد للقتال؟
سلموا لي من خلق النزاع
فيلقى جزاءه، وتخلدون للراحة.»
فأجاب الإيجيجي، الآلهة الكبار،
أجابوا سيدهم مردوخ، ملك السماء والأرض: «إنه كينغو، الذي خلق النزاع
ودفع تعامة للثورة، وأعد للقتال.»
ثم قيدوه ووضعوه أمام إيا.
أنزلوا به العقاب فقطعوا شرايين دمائه،
ومن دمائه جرى خلق البشر،
ففرض (إيا) عليهم العمل وحرر الآلهة.
بعد أن قام إيا الحكيم بخلق البشر،
وفرض عليهم العمل وحرر الآلهة،
ذلك الفعل الذي يسمو عن الأفهام،
والذي نفذه وفقا لخطط مردوخ المبدعة،
قام مردوخ، ملك الآلهة، بتقسيم
جميع الأنوناكي، فجزء في الأعلى وجزء في الأسفل،
وأوكلهم لآنو ليحرصوا على طاعته.
وضع في السماء ثلاثمائة لحراستها،
وثلاثمائة أخرى في الأرض.
وبعد أن أنهى كل تنظيم،
وقسم لكل من آلهة السماء والأرض نصيبه.
فتح الأنوناكي أفواههم،
وقالوا لسيدهم مردوخ: «والآن أيها الرب، يا من خلصتنا من العمل المفروض،
ما الذي يليق بك عربون امتنان؟
سنبني لك هيكلا مقدسا،
مكانا به نركن مساء لنستريح،
هناك سنشيد لك منصة وعرشا،
وكلما أتينا المكان، نلجأ إليه لنستريح.»
فلما سمع مردوخ ذلك
انفرجت أسارير وجهه كما النهار: «كذا فلتكن بابل كما اشتهيتموها .
لنشرع بتجهيز الحجارة، ولتدع بالهيكل.»
أعمل الأنوناكي معاولهم
فأنهوا الطوب اللازم في مدى سنة،
ومع حلول السنة الثانية
رفعوا الإيزاجيلا
33
الذي وصلت أساساته الأبسو.
وبعد أن أنهوا برجه المدرج
بنوا في الداخل مسكنا لمردوخ وإنليل وإيا،
ثم جلس مردوخ أمامهم في جلال،
ومن الأسفل شخصوا بأبصارهم لقرون البرج الرائعة.
34
وبعد الانتهاء من الإيزاجيلا
قام الأنوناكي ببناء مقامات لهم،
ثم التأم جميع الآلهة،
والتقوا في حرم مردوخ السامي الذي بنوا،
فأجلس آباءه الآلهة إلى مأدبة: «هذه بابل مكان سكناكم المفضل،
فاصدحوا وامرحوا في أرجائها.»
ولما استقر الآلهة الكبار إلى المائدة
أخذوا يعبون الجعة وهم يأكلون،
وبعد أن مرحوا وطربوا
أقاموا الطقوس في الإيزاجيلا المهيب،
وأرسوا أسس العبادات،
ثم توزعوا فيما بينهم السموات والأرضين.
اتخذ الآلهة الخمسون الكبار أماكنهم،
ثم قام آلهة المصائر، السبعة، بوضع ثلاثمائة إله في السماء،
ورفع إنليل القوس، سلاح مردوخ، ووضعه أمام الجميع،
والشبكة التي صنعها كانت محط أنظار آبائه.
ولما انتهوا من تأمل القوس ودقة صنعه
أثنوا على فعله ثناء حميدا،
ثم رفعه آنو وتحدث إلى مجمع الآلهة
قائلا وهو يقبل القوس هذا [...]،
ثم أسبغ عليه الأسماء التالية:
العود الهائل، اسمه الأول، والدقيق، اسمه الثاني،
أما اسمه الثالث فهو القوس-النجم، يشع في السماء (يلي ذلك اثنا عشر سطرا في كل منها نقص يحجب المعنى.)
وليبسط رعايته على البشر أجمعين،
فتلهج باسمه ألسنتهم ويذكرون نعمته عليهم أبدا،
ويقدمون القرابين لآبائه،
فيقيمون أودهم ويرعون هياكلهم
ويصنعون لهم محرقات القرابين، يتنسمون رائحتها، ولتكن
تعويذاتهم [...]،
وكما فعل في السماء، لتكن كذلك مشيئته على الأرض؛
فيعلم البشر كيف يخشونه،
ويكون حاضرا في قلوبهم أبدا،
ويحفظون أبدا حدود إلههم وآلهتهم،
ويرعون أمره في الانصياع له،
ويبقون على تقدماتهم لإلههم وآلهتهم،
ويذكرون إلههم دوما ولا ينسونه،
ثم فلينتشروا في الأرض ويزينوها بيوتا لهم،
ويلقفوا بخشوع أمام إلهنا.
تعالوا نعلن أسماءه الخمسين،
ولتبق دروبه وفعاله مشعشعة أبدا:
مردوخ، هو اسم مولده الذي دعاه به جده آنو ،
واهب المرعى وموارد الماء، مالئ العنابر بالمؤن،
من بسلاحه الرهيب، طوفان المطر، قد هزم الأعداء،
من أنجد آباءه الآلهة وقت محنتهم.
حقا إنه الساطع، ابن الشمس،
وفي ألق ضيائه فليرتع الآلهة على الدوام.
على البشر ممن خلق [...]،
قد فرض خدمة الآلهة الذين حررهم،
فليكن في كلماته الخلق والفناء والسلوان والرحمة،
وليرفع الجميع أبصارهم إليه.
ماروكا، هو الإله الحق، خالق كل شيء،
الذي أفرح قلوب الأنوناكي وطمأن خواطرهم،
ماروتوكا، هو الملجأ والملاذ، سند العباد،
وهو الذي يسبح الناس بحمده [...].
باراشاكوشو، المكين القابض زمام الأرض،
كبير القلوب هو، عطوف رحيم،
35
لوجال ديميرانيكا، هو الاسم الذي دعوناه به في مجمعنا،
أمره سابق على أمر آبائه،
حقا إنه رب الآلهة أجمعين، في السماء وفي الأرضين،
ملك يخشاه من في السموات ومن في الأرض،
ناريلوجالدي ميرانكيا، أطلقنا عليه. شملت عنايته كل الآلهة،
وهو الذي في زمن الشدة، مكن لنا في السماء والأرض،
وخصص للإيجيجي والأنوناكي محطات راحة،
وهو الذي لذكره يرتجف الآلهة في مساكنهم.
أسار لوحي، الاسم الذي دعاه به جده آنو،
حقا إنه نور الآلهة، وإنه الأمير الجليل،
هو الروح الحارس للآلهة والأرض،
في صراع مهيب أنقذ ديارنا يوم الشدة.
وأسار لوحي أسميناه نامتيلاكو، الذي يحيي الموتى،
وهو الذي استرد الآلهة البائدة، وكأنما خلقهم من جديد،
الرب الذي بتعويذته المقدسة، قد بعث الآلهة الميتة،
القاهر فوق الخصوم الماكرين. فلنلهج بذكر شجاعته.
وأسار لوحي أسميناه، أيضا، نامشوب،
الإله الوضاء، ينير لنا طريقنا،
وهكذا أعلن كل من أنشار ولخمو ولخامو ثلاثة من أسمائه،
ولأبنائهم الآلهة قالوا: «لقد أعلن كل منا ثلاثة من أسمائه،
وكما فعلنا فليفعل كلكم، ولتعلنوا أسماءه.»
فابتهج الآلهة وصدعوا بما أمروا.
تشاوروا في قاعة المجلس قائلين: «الابن العلي الذي انتقم لنا،
سندنا وحافظنا، تعالوا نمجد اسمه.»
ثم قعدوا لمجلسهم يعلنون أسماءه،
وكلهم يذكر أسماءه في المكان المقدس. (1-7) اللوح السابع
أسارو، واهب الأرض الخصبة، ومالئ عنابر القمح،
منبت الحبوب والبقول، ومحيي الأعشاب.
أسار إليمنونا، الجليل نور آبائه،
الذي يوجه قرارات آنو وإنليل وإيا،
وحده القائم بأودهم، الذي وقف لهم مساكنهم،
الذي أفاضت حربته صيدا وفيرا.
توتو، بطل خلاصهم ونجاتهم هو،
فليطهر هياكلهم ويتركهم ينعمون،
ويجعل لهم تعاويذ، تطمئن بها نفوسهم،
فإذا اضطربوا أنزل سكينة عليهم.
حقا إنه المجد بين الآلهة،
لا يدانيه منهم أحد ولا يقرن به.
وتوتو هو زيوكينا به يحيا الآلهة،
الذي جعل لهم سماء وضاء،
مالك مصائرهم وسيد مسالكهم،
حي أبدا في قلوب عباده، لا ينسون نعمته عليهم.
وتوتو هو ثالثا زيكو، رب القداسة،
إله النسمة الخالقة، سميع مستجيب الدعوات،
هو المعطي دون حساب،
الذي حقق رغباتنا وأفاض،
الذي تنسمنا أنفاسه أيام البلوى،
ليلهج بذكره الجميع وليسبحوا بحمده.
توتو، ليعظم اسمك، وليكن رابعا أجاكو،
رب التميمة المقدسة، الذي بعث الموتى،
والذي رأف بالآلهة المقهورة،
أزاح عن أعدائه من الآلهة عبء العمل المفروض،
فخلق الإنسان لهم محررا.
هو الرحيم الذي يهب الحياة،
كلماته باقية لا تنسى،
عند البشر الذين كونتهم يداه.
وتوتو هو خامسا توكو الذي تردد الشفاه تميمته،
تميمته المقدسة التي اقتلعت الأشرار.
شازو، المطلع على أفئدة الآلهة، وعالم الأسرار،
لا يهرب من بطشه الأشرار.
أسس مجمع الآلهة وأفرح قلوبهم،
وبسط حمايته وأخضع العصاة.
أقام العدل ووضع حدا للغو الكلام،
أحق الحق، وأزهق الباطل.
شازو، فليمجد اسمك ثانيا على أنه زيسي، الذي أخرس المتمردين،
وآمن آباءه من خوف شل أجسامهم.
وشازو، هو ثالثا سوحريم، أفنى بسلاحه كل الخصوم،
أحبط خططهم، وجعلهم نهبا للرياح،
وقضى على من تصدى له من الأعداء،
فليمجده الآلهة في مجلسهم.
36
وشازو هو رابعا صاحكوريم، خلق آباءه من جديد، وجعل لهم مكانة.
استأصل شأفة الأعداء، وقطع دابرهم.
حطم تدابيرهم ولم يبق منهم على أحد.
فلتتغن باسمه كل البلاد.
وشازو، هو خامسا زاحريم، رب كل شيء،
الذي محق الأعداء جميعا، والذي يجزي بالخير ويجزي بالشر.
أعاد الآلهة الآبقة إلى مساكنها،
فليبق اسمه على مر الأزمان.
وسادسا فليعبد شازو في كل مكان على أنه زاحجوريم،
قاهر جميع الأعداء في ساح الوغى.
إينبيلولو، واهب الخيرات هو
الجليل الذي أعطى لكل اسمه ،
نظم المرعى وموارد الماء،
فجر الأرض عيونا، وأجرى المياه أنهارا.
ليمجد ثانيا على أنه إيبادون، الذي يروي الحقول،
حاكم السماء والأرض، موزع الزرع والكلأ،
الذي نظم السدود والقنوات، ورسم خطوط المحراث.
وليمتدح ثالثا على أنه جوكال، حاكم مزارع الآلهة،
رب الغلال الوفيرة والمحاصيل الكثيرة،
واهب الثروة الذي أغنى المساكن،
مانح الذرة، ومنبت الشعير.
وإينبيلولو هو حيجال، يتولى أمور الخزن،
يسقي الأرض بصيب من السماء فتنبت العشب.
زيرسير، الذي أقام جبلا فوق تعامة،
والذي بسلاحه قد فلق جسدها.
الراعي الأمين وحامي الديار ...
الذي عبر البحر الغاضب بآبائه،
وكجسر، مر إلى ساح المعركة.
زيرسير، ليكن اسمك ثانيا ملخ،
البحر مجاله والموج مطية له.
غيل، الذي يكدس القمح أكواما،
خالق الذرة والشعير، واهب البذور للأرض.
غليما، خالق الأشياء الباقية،
يحفظ تماسك العائلة، مصدر كل أمر حسن.
أغليما، الذي مزق تاج [...]،
الذي سخر السحاب فوق المياه، ورفع السموات.
زلوم، الذي حدد [...]،
مقسم الأرزاق، الذي يسهر على [...].
وزلوم ثانيا مومو، خالق السماء والأرض ومجري السحاب،
الذي طهر السماء والأرض،
لا يدانيه في قوته أحد بين الآلهة.
جيشنوموناب، خالق البشر أجمعين، وصانع أقاليم الأرض الأربعة،
محق أتباع تعامة، وصنع من أجسادهم البشر.
لوجالادبور، حطم صنيع تعامة وفل سلاحها،
الذي رفع أساساته الراسخة من خلف ومن قدام.
باجليونا، له الصدارة في كل البلاد، لا حد لقوته،
العلي بين إخوانه الآلهة، وسيدهم جميعا.
لوجال دورماخ، رباط الآلهة، الملك، سيد الدورماخ،
ذو المقام الأعلى في منزل السلطان، الظاهر على الآلهة.
أرانونا، مشير إيا، وباعث آبائه الآلهة،
لا يدانيه في الصفات الملوكية إله مهما علا.
دومودوكو، الذي جدد مسكنه المقدس في الدوكو.
دومودوكو، الذي لا يقطع إنليل برأي دون مشورته.
لوجالانا، العظيم الرفعة بين الآلهة،
الرب الذي له قوة آنو، الذي فاق أنشار.
لوجالوجا، الذي اجتاحهم جميعا في الميدان،
37
مالك الحكمة كلها، واسع الفهم عميقه،
أركينغو، الذي سحق كينغو في المعركة،
رقيب الآلهة، موجههم، واضع أسس المملكة.
كينما، قائد جميع الآلهة، مسدي النصح والمشورة،
لذكره يرتعش الآلهة فرقا، ولاسمه وقع العاصفة.
إيزيسكور، ألا فليتبوأ مكانا عاليا في بيت العبادة،
ألا فليتقدم الآلهة بالهدايا أمامه،
ومنه فليأخذ كل مهامه وصلاحياته،
وبدونه لا يقدر أحد على الخلق المبدع،
سكان الأقاليم الأربعة من صنع يديه،
ولا إله غيره يعرف يومهم الموعود.
جيرو، باني ال[...] للسلاح،
خلق في صراعه مع تعامة الأشياء البديعة،
واسع الفهم ملتمع الفكر،
خافي السريرة، لا يستطيع الآلهة مجتمعين سبر أغواره.
آدو، سيكون اسمه، يغطي مساحة السماء،
تمزق السحاب رعوده، وتعطي للناس الحياة.
أشارو، الذي يأخذ بيد آلهة الأقدار،
وسعت عنايته الناس والآلهة أجمعين.
نبيرو، القيم على مسالك السموات والأرض،
فكل ضال عن طريقه، من أعلى ومن أسفل، يأتي إليه.
فنيبر هو النجم الساطع في السماء،
اتخذ مكانه في نقطة الانقلاب المناخي، فارفعوا نحوه أبصاركم،
هو الذي يقطع عرض البحر دون توقف.
اسمه نيبرو الذي يشغل مكان المركز،
ألا فليحفظ مسارات النجوم في السماء،
ألا فليرع جميع الآلهة كما ترعى الشياه،
ألا فليخضع تعامة وينكد عيشها ويختصر حياتها،
ألا فلترتد على أعقابها، ألا فلتنسحب إلى الأبد.
وبما أنه خالق المكان، وصانع الأرض الراسخة،
فقد دعاه الأب إنليل بسيد الأرضين،
وكل الأسماء التي دعاه بها الإيجيجي،
سمعها إيا وابتهجت بها نفسه،
ثم قال: «هو الذي عظم أسماءه آباؤه،
سيكون نظيرا لي ويكون اسمه إيا،
فيغدو قيما على حقوقي جميعا،
ويغدو سيدا لقضائي.»
وأخيرا بالاسم خمسين الآلهة العظام
دعوه؛ لأن أسماءه خمسون، فجعلوه العظيم. (2) وقفة عند النص
يقف الدارس حائرا أمام هذا النص الذي أعتبره شخصيا أعظم نص أسطوري أنتجه الإنسان القديم. والحيرة تأتي من غنى النص وفيضه بالرموز النفسية والاجتماعية والتاريخية، وتعدد بواعث إنتاجه، وتراكم خبرات إنسانية شتى في تكوينه. فالملحمة قد تركبت من عدة أساطير سومرية بنت عليها العبقرية السامية ذلك الهيكل الشامخ، الذي يعطي خلاصة عن علم وفكر وفلسفة وفن الشعب الرافدي العريق، في مجالات هامة عدة. من هنا لا نستطيع إعطاء تفسير واحد للملحمة، فنبخسها بذلك حقها؛ فالملحمة لم توضع لغرض واحد، ولم تنشأ عن باعث واحد. ففي النص مستويات عدة متداخلة ومتآلفة، وعلى الدارس والمفسر ، إن أراد الموضوعية والشمول، أن يفرق بين تلك المستويات مميزا بعضها عن بعض، حذر الوقوع في أحادية النظرة. (2-1) الملحمة باعتبارها مغامرة فكرية فذة
تتقدم الملحمة بمجموعة من التأملات المترابطة، التي تتخذ من النشوء والتكوين والبدايات موضوعا لها؛ فالشكل الحالي للوجود قد انبثق عن شكل سابق له، ولم ينبثق عن عدم. فعندما كانت تعامة وأبسو وممو يمزجون أمواههم معا، لم يكن هناك زمان؛ لأن الزمان نتاج التغير، مرتبط بإيقاعه، وتلك العناصر الثلاثة كانت في هدأة وصمت وسكون. كما لم يكن هناك مكان؛ لأن المياه المتمازجة كانت وحدها ولا موجود معها قبل أن تخلق السموات والأرض وتتحدد الأمكنة والاتجاهات. إن فكرة انبثاق الوجود الحالي عن وجود سابق له، تتخلل فكر المنطقة وتميز كل التأملات الخاصة بالتكوين. كما نجدها في سفر التكوين العبراني: «في البدء خلق الرب السموات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الرب يرف فوق وجه الماء.» وإلى يومنا هذا، لم يقبل العلم الحديث فكرة العدم المطلق؛ فكل نظريات التكوين العلمية تتحدث عن نشوء الكون من مادة ما، بدئية، ووجود ما سابق. كما أثبت القرآن الكريم فكرة الوجود السابق على الخلق عندما قال:
وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء
سورة هود: 6. كما أشار محمد (
صلى الله عليه وسلم ) في الحديث الشريف إلى نفس الموضوع عندما أجاب عن سؤال: أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: كان في عماء (والعماء هو الغيم الرقيق الذي يحول بين الناظر وبين الشمس).
38
بعد ذلك تتتابع تفسيرات نشوء الكون في الملحمة. فمن الأطروحة ينبعث طباقها، ومن تناقضهما يظهر التركيب. فالقوى السكونية المتمثلة في الثالوث البدئي تنتج في صميمها القوى الحركية المتمثلة في الآلهة الجديدة، ومن صراعهما يظهر إلى الوجود الكون بكل مظاهره. الماء العذب موجود في بطن الأرض لأن إيا قد قهر أبسو وبنى مسكنه فوقه تاركا إياه حبيسا في الأعماق، والضباب يتشكل فوق الماء لأن إيا قد خرم أنف ممو بحبل يجره به أينما ذهب، والسماء والأرض تكونتا من جسد الإلهة تعامة التي شطرها مردوخ إلى شطرين، والإنسان خلق من دماء الإله كينغو وأعطي الحياة ليكدح على الأرض ويقدم للآلهة طعامها، وبابل ظهرت للوجود لأن الآلهة بنوها لزعيمهم مردوخ ... إلخ. (2-2) الملحمة باعتبارها تاريخا
يعتبر انتقال البشرية من مرحلة الثقافة الأمومية إلى مرحلة الثقافة الأبوية من أهم الانقلابات التاريخية الكبيرة. ورغم أن الإينوما إيليش قد كتبت في فترة متأخرة عن ذلك الانقلاب، إلا أنها تنطوي على ذكريات حية وغضة، عن تلك الحقبة الفاصلة؛ فالحالة السكونية للآلهة البدئية هي تمثيل واضح لسكونية المجتمع الأمومي وابتعاده عن التغيرات السريعة والحثيثة التي ميزت المجتمع الأبوي فيما بعد. أما الحالة الدينامية للآلهة الشابة بزعامة إيا أولا ومردوخ فيما بعد فهي تمثيل واضح لحركية المجتمع الأبوي وإشارة لبدء الحضارة التي نعرفها الآن. إن الصراع بين المعسكر الذي تقوده تعامة، والمعسكر الذي يقوده مردوخ، لم يكن إلا تمثيلا للصراع بين ثقافتين متمايزتين؛ ثقافة مركزها المرأة، وأخرى مركزها المجتمع، وتكريسا للثقافة الأبوية الطالعة.
لقد غادرت القوى الحضارية الجديدة مرحلة الوئام مع الطبيعة، التي ميزت المجتمع الأمومي، ودخلت مرحلة السيطرة على الطبيعة. ولم تكن سيطرة إيا على أبسو إلا رمزا لسيطرة الإنسان على الماء العذب وتسخيره لزراعته وريه؛ وذلك بحفر الآبار وبناء السدود
39
وحفر القنوات. ولم يكن بناء الآلهة لمدينة بابل إلا رمزا لشروع الإنسان في بناء حواضره. (2-3) الملحمة باعتبارها نتاجا نفسانيا
يمثل صراع مردوخ ضد تعامة على مستوى الأسطورة، صراعا آخر يقوده الفرد، على المستوى النفسي، ضد الاعتماد على الأم، بما يمثله هذا الاعتماد من اتكالية وتفكك في بنية الشخصية. إن صراعا كهذا، لا يحدث، كما قد يظن البعض، في فترة مبكرة من حياة الفرد، بل قد يتأخر حدوثه إلى أواسط العمر. ويغدو قتل الأم، رمزا لبناء الشخصية وتكاملها.
40 (2-4) الملحمة باعتبارها تأسيسا اجتماعيا وسياسيا
يترافق تاريخ كتابة الملحمة مع تاريخ تأسيس الإمبراطورية البابلية الأولى في عهد الملك حمورابي، الأمر الذي يدعونا للتأمل طويلا في تتابع أحداث الملحمة التي تأخذ بيد مردوخ وترفعه من ابن للآلهة إلى سيد مطلق لها. لقد رفعت أساطير كثيرة من شأن آلهتها، ولكننا قلما نعثر في أي مكان على كبير للآلهة قد نال من السلطة ما ناله مردوخ ومن التقديس والتبجيل ما حازه. الأمر الذي يدفعنا للاعتقاد بأن سيرة مردوخ في الملحمة ليست إلا انعكاسا لسيرة الإمبراطور البابلي وترسيخا لسلطانه،
41
فما يحدث على مستوى الأسطورة، تأسيس لما يجب أن يحدث على مستوى الواقع، وبابل التي بنتها الآلهة منذ البدايات كأول مدينة على الأرض هي التي يجب أن تسود العالم باعتباره أقدس مكان وأقدم مكان. (2-5) الملحمة باعتبارها تأسيسا لعقيدة جديدة
تتوافق كتابة الملحمة مع سيادة بابل على وادي الرافدين والمناطق المتحضرة الجديدة. والسيادة العسكرية تتبعها سيادة ثقافية تثبتها وتمد في عمرها، فكانت الملحمة وسيلة لنشر الديانة البابلية وتثبيتا لعبادة إلهها مردوخ، الذي ساد الآلهة جميعا وتفوق على آبائه وأقرانه. وقد خصص الجزء الأكبر من الملحمة لسيرة مردوخ ووصف مولده ونشأته وصعوده إلى السلطان وصراعه مع القوى الشريرة، وأعمال الخلق التي استحق بها سلطانا أبديا على الآلهة والبشر والأكوان. وتقربنا أسماؤه الخمسون كثيرا من المفاهيم التوحيدية اللاحقة، وكأن الآلهة السابقة اجتمعت في واحد، وكأنها تجليات له، وصور من صوره. (2-6) الملحمة باعتبارها تسويغا وترسيخا لطقس قديم
تأتي الملحمة لبث الروح في طقس معروف قديم، وهو الاحتفال برأس السنة، وإعطائه المعنى وتثبيته؛ ففي اليوم الرابع من الاحتفالات بعيد رأس السنة البابلية «الإيكيتو»، الذي يستمر من الأول من نيسان إلى الحادي عشر منه، كانت الملحمة تتلى كاملة من قبل الكاهن الأعلى، أمام تمثال مردوخ بحضور جماهير العباد. وفي أيام أخرى من الاحتفال كان يجري تمثيل بعض مشاهد الملحمة، وربما شارك الملك وكبار الكهنة أنفسهم في اتخاذ الأدوار الرئيسية في التمثيل. كما كانت مقاطع أخرى تنشد وتغنى من قبل العباد أنفسهم.
42
وذلك كله مساعدة من العباد لآلهتهم في المعركة الدائرة مع قوى الفوضى والعماء؛ فالمعركة البدئية لم تحدث مرة واحدة وكفى، بل هي معركة متجددة، يشارك البشر فيها طقسيا، فيشدون أزر آلهتهم ويعطونها سندا ومددا. (2-7) الملحمة باعتبارها فنا رفيعا
تعتبر الإينوما إيليش من أجمل النصوص الأدبية القديمة، وهي إلى جانب ملحمة جلجامش وملحمتي هوميروس وبعض أسفار التوراة، أبدع ما أنتج إنسان الحضارات القديمة من أدب. فإلى جانب الصياغة الشعرية الجميلة، تتمتع الملحمة بحبكة روائية فذة، وهي في مجموعها أشبه بسيمفونية موسيقية مؤلفة من أربع حركات. الحركة الأولى عذبة وهادئة، لا نكاد نسمع فيها سوى أصوات مديدة خافتة، حيث الأمواه البدئية تتمازج في حلم أزلي لذيذ. الحركة الثانية حوار بين النغم الخافت والنغم الصاخب، حيث يعلو الصوت حينا، ويعم الصمت حينا آخر، وتنتهي بنغم نشيط يمثل انتصار إيا على أبسو وتراجع الآلهة البدئية تراجعا مؤقتا. الحركة الثالثة قوية تتصارع فيها الألحان الصاخبة وتملؤها أصوات الظواهر الطبيعية من رياح وعواصف وصواعق، ويرتفع منها زئير المخلوقات العجيبة، ثم تنتهي بشكل عنيف وصاعق يمثل مصرع تعامة. الحركة الرابعة تبدأ مرتبة منظمة، وتنتهي بنشيد فرح وصلاة لمردوخ.
إن التصوير البديع لبعض مشاهد الملحمة يجعلها أشبه بشريط حي تكاد تسمع فيه الأصوات وترى فيه الأشكال وتشم روائح الأشياء، وخصوصا عندما يأتي النص لوصف تحرك مردوخ للقاء تعامة والصراع الذي دار بينهما. فها هو في عدته الكاملة يتقدمه البرق وتتبعه الرياح الأربع ترفع أطراف شبكته الهائلة، ومن ورائه تعصف الرياح الشيطانية السبع التي أعدها ليعصف بها أعماق تعامة. ومن تحته طوفان المطر الهادر يطير فوقه في مركبته العاصفة يجرها طاقم من أربعة أفراس إلهية، أسنانها حادة وفي أنيابها السم. اكتسى بدرع مهيب من الزرد، واعتم بهالة تشيع الرعب والذعر، يتأرجح قوسه على كتفه، وترفع الهراوة في يده والشعلة اللاهبة تندفع من جسده. أما مشهد التحام الإلهين وانتهاؤه بسقوط تعامة في شبكة مردوخ ودفعه للرياح الصاخبة في فمها الفاغر وشطره، من ثم، قلبها بسهمه، فمن المشاهد التي تبقى حية في ذاكرة قارئها أبدا. (3) نصوص بابلية أخرى في التكوين
إلى جانب ملحمة التكوين الأساسية، قدمت لنا الأسطورة البابلية نصوصا أخرى تدور حول الموضوع نفسه، إلا أن معظم هذه النصوص ناقص بسبب الحالة التي وصلتنا عليها الألواح الفخارية التي احتوتها، إضافة إلى أن النصوص نفسها لا ترقى إلى مستوى الإينوما إيليش من الناحية الجمالية. (3-1) نص سيبار
تم العثور على هذا النص في خرائب مدينة سيبار، ويعود تاريخه إلى الدولة البابلية الجديدة في القرن السادس قبل الميلاد. ويعتبر هذا النص من أهم تلك النصوص المتفرقة التي تقدم لنا تنويعات مختلفة لحكاية الخلق والتكوين. وقد كتب النص ليكون مقدمة لتعويذة سحرية بقصد تطهير المعبد؛ فقد اعتقد الفكر الأسطوري القديم أن العودة لذكر تفاصيل الخلق وبدايات الأشياء، من شأنها دوما إعطاء التعويذة قوة؛ وذلك باستحضارها الزمن الغض، عندما كانت قوة الخلق تتخلل الوجود البكر.
يجري النص على النحو الآتي:
43
قبل أن يوجد للآلهة بيت مقدس في مكان مقدس،
قبل أن يخلق القصب، ويظهر للوجود الشجر،
قبل أن يصنع الآجر وتبتكر قوالبه،
لم يكن هناك مدينة ولا بشر.
قبل أن تظهر للوجود نيبور وتبنى إيكور،
قبل أن تظهر أوروك ويبنى إيانا،
لم يكن للأبسو وجود،
44
وإريدو لم تبن بعد،
ولم يكن قد بني بعد مسكن للآلهة.
في تلك الأزمان، لم يكن سوى البحر ...
ثم ظهرت إريدو وبني (معبد) الإيزاجيلا،
الإيزاجيلا الذي وصلت أساساته إلى الأبسو.
ظهرت بابل للوجود، وانتصب الإيزاجيلا،
وظهر الآلهة، الأنوناكي سواسية،
فدعوها بالمدينة المقدسة، مسكنهم، وقرة عينهم،
ثم وضع مردوخ مغرفة من قصب وضعها على وجه الماء،
وعجن طينا وسكبه مستعملا المغرفة،
فلكي يخلد الآلهة ويهدءوا في مساكنهم
خلق لهم الإنسان،
إلى جانبهم خلق لهم بذور البشر،
ثم خلق حيوانات سوموقان،
45
وخلق الدجلة والفرات وحدد مجراهما،
وأعلن اسميهما.
خلق الأعشاب وطحالب الأهوار والقصب والخشب،
خلق مراعي السهول الخضراء،
والأرض والمستنقع وعيدان القصب،
البقرة والعجل والشاة وقطعان الزرائب.
خلق البساتين والغابات،
القطعان الوحشية ... ذات الصوف.
إلى هنا ويتشوه اللوح الآجري، وعندما يبدأ النص بالوضوح نجد أن الأسطورة قد انتهت، وأننا قد صرنا في قلب التعويذة السحرية التي كان النص مقدمة لها. (3-2) آدم وحواء
يحكي هذا النص
46
قصة خلق الكائنات الحية، وقد وجد محفورا على لوح شبه تالف في أنقاض مكتبة آشور بأنيبال في نينوى. وقد أثارت السطور القليلة المتبقية منها اهتماما كبيرا لإشاراتها إلى خلق الزوجين البشريين الأولين. ولكن لسوء الحظ، فإن النص غير واضح في معظمه وتمتنع قراءته تماما، في الموضع الذي يبدأ فيه بإلقاء ضوء على الحكاية الخالدة.
عندما خلق الآلهة في مجمعهم كل الأشياء
كونوا السماء وشكلوا الأرض،
وأخرجوا للوجود الكائنات الحية،
خلقوا قطعان السهول، ووحوش الفلاة ومخلوقات المدينة،
بعد [...] إلى المخلوقات الحية [...]،
وعينوا نصيبهم من قطعان سوموقان ومن مخلوقات المدينة، [...] كل المخلوقات، كل الخلق [...] [...]
قام إيا بخلق زوجين شابين،
وأعلا من شأنهما فوق جميع المخلوقات.
هناك تفسيران ممكنان لتعبير «مخلوقات المدينة»؛ التفسير الأول أن مخلوقات المدينة هم البشر، وأن في النص تقديما وتأخيرا على عادة الأسلوب الأسطوري في التعبير، وعلى ما جرى عليه التوراة من ذكر روايتين متداخلتين عن خلق الإنسان، الأولى تشير إلى خلق البشر دفعة واحدة، والثانية تأتي على ذكر الزوجين الأولين، وهي تلي الأولى في الترتيب. ولكني أميل للقول بأن المقصود بمخلوقات المدينة هم الآلهة؛ لأن المدن قد بنيت في الأصل ليسكنها الآلهة كما هو شأن بابل. (3-3) في الطين حيث يتحد الإنسان بالإله
الخالق في هذا النص هو إلهة الأمومة مامي، أو كما تدعى أيضا ننماخ أو ننخرساج أو ننتو. وهي الأم الكبرى، وهي أيضا الأرض والتربة الخصبة. يعادلها عند الكنعانيين عشيرة، وعند الإغريق جيا، وفي كريت رحيا، وفي آسيا الصغرى سيبيل؛ فكل الثقافات القديمة عبدت إلهة أنثى كبيرة، هي الأرض، الأم التي كانت مركزا للحياة الروحية. ورغم صعود الآلهة الذكور، ودفعهم الأم الكبرى إلى الوراء في الثقافات الأبوية، إلا قوة وتأثير هذه الآلهة بقي قائما في أعتى أشكال المجتمعات الذكرية. وفي بلاد الرافدين تقاسمت وظائف الأم الكبرى الموروثة عن العصور السالفة إلهتان هما ننتو (مامي، ننماخ، ننخرساج) وعشتار. فبقيت ننتو الأم-الأرض، وصارت عشتار الحب وروح الخصوبة الكونية. يشكل النص الذي بين أيدينا (1) مقدمة لتعويذة سحرية تتلى لتسهيل ولادة الحوامل وتخفيف آلامهن. وكما هو الأمر فإن التعويذة تبدأ بتلاوة جوانب من حكاية التكوين لاستمداد القوة والفعالية: (الجزء الأعلى من اللوح مكسور.)
أنت عون الآلهة، مامي، أيتها الحكيمة،
أنت الرحم الأم،
يا خالقة الجنس البشري،
47
أخلفي الإنسان فيحمل العبء،
اخلقيه، يحمل العبء [...]
ويأخذ عن الآلهة عناء العمل.
فتحت ننتو فمها،
وقالت للآلهة الكبار: «لن يكون لي أن أنجز ذلك وحدي
ولكن بمعونة إنكي سوف يخلق الإنسان،
الذي سوف يخشى الآلهة ويعبدها،
48
فليعطني إنكي طينا أعجنه.»
فتح إنكي فمه
قائلا للإلهة الكبيرة: «في الأول والسابع والخامس عشر من الشهر،
سأجهز مكانا طهورا،
وسيذبح (هناك) أحد الآلهة،
وعندها فليتعمد بقية الآلهة،
وبلحمه ودمائه
ستقوم ننتو بعجن الطين
إلها وإنسانا معا،
سيتحدان في الطين أبدا ...» (3-4) آدم وحواء بدون طين
يقدم لنا هذا النص
49
حكاية أخرى عن خلق الزوجين الأولين. وقد وجد النص محفورا على لوح يعود للقرن الثامن قبل الميلاد. عثر عليه في خرائب مدينة آشور. ووفق هذا النص، فإن دماء الآلهة تستعمل في خلق الإنسان بدون طين.
عندما شكلت الأرض وأخرجت،
عندما حددت مصائر الأرض والسماء؛
عندما استقرت شطآن دجلة والفرات،
عندها آنو وإنليل وإيا
الآلهة الكبار
وبقية الآلهة المبجلين،
جلسوا جميعا في مجمعهم المقدس،
واستعادوا ما قاموا به من أعمال الخلق:
أما وقد حددنا مصائر السماء والأرض،
وجرت القنوات في مجاريها، وتوضعت الخنادق
واستقرت شطآن دجلة والفرات،
ماذا بقي علينا أن نفعل؟
ماذا نستطيع، بعد، أن نخلق؟
يا مجمع الآلهة، أيتها الأنوناكي
ماذا بقي علينا أن نفعل؟
ماذا نستطيع، بعد، أن نخلق؟
فأجاب الحضور من الآلهة المبجلين
الأنوناكي، الذين يحددون المصائر والأقدار
بقسميهما، توجهوا بالإجابة إلى إنليل: •••
في أوزوموا عماد السماء والأرض
لنذبح بعض آلهة اللامجا،
50
ومن دمائهم فلنخلق الإنسان،
ولنوكله بخدمة الآلهة
على مر الأزمان.
سيقوم على صيانة خنادق الحدود،
ونضع في يده السلة والمعول،
فيبني للآلهة العظام
هياكل مقدسة تليق بهم.
سيميز الحقول بعضها عن بعض
على مر الأزمان،
ويقوم على صيانة خنادق الحدود،
ويحفر الخنادق الثابتة،
ويعمل على صيانة أحجار الحدود،
سيسقي الأرض بأقاليمها الأربعة،
ويخرج من جوفها الخيرات الوافرة (خمسة أسطر مشوهة)
فيجعل حقول الأنوناكي تنتج غلالا وفيرة.
سيحتفل بأعياد الآلهة،
ويستخرج الماء العذب،
أوليجار وإلجار
51
سيكون اسميهما،
وسيربيان الثيران والخرفان والأسماك والطيور،
ويزيدان في عطاء الأرض،
أنول ونينول
52
نطق فمهما المقدس،
وأرورو
53
المقدسة سيدة الآلهة وذات السلطان
رسمت للبشر أقدارا رائعة. (3-5) السوس ووجع الأسنان
وهذا النص
54
أيضا مقدمة لتعويذة مخصصة لشفاء آلام الأسنان. يحكي النص شطرا من حكاية التكوين، وبدايات الأشياء. ويعود لأصول وجع الأسنان وكيف ظهر.
بعد أن خلق آنو السماء،
وبعد أن خلقت السماء والأرض،
وبعد أن خلقت الأرض الأنهار،
والأنهار خلقت القنوات،
والقنوات خلقت المستنقعات،
والمستنقعات خلقت السوس،
مضى السوس باكيا إلى شمش
55
وذرف الدموع في حضرة إيا: - ماذا تعطيني لطعامي؟
ماذا تعطيني لشرابي؟ - سأعطيك شجر التين الناضج،
أو أعطيك المشمش. - بماذا يفيدني شجر التين؟
بماذا يفيدني المشمش؟
دعني أصعد وأتخذ لي مسكنا
بين الأسنان وعظام الفك،
حيث أمتص دماء الأسنان،
وأنخر فيها،
عند جذور وعظام الفك. «أدخل الإبرة وأمسك بالسوس».
56
لأنك نطقت بهذا أيها السوس
فليسحقك إيا بجبروت (وعزم) يديه.»
تعويذة ضد وجع الأسنان. «الطريقة: أحضر بيرة وزيتا وامزجهما معا،
واتل التعويذة ثلاث مرات وضع المزيج على الأسنان». (3-6) نصان باللغة اليونانية
قبل اكتشاف الحضارة البابلية بأجيال طويلة عرف العالم شيئا عن أسطورة الخلق البابلية عن طريق نصين كتبا باللغة اليونانية. النص الأول لآخر فلاسفة الأفلاطونية الحديثة وهو داماسكيوس وتعني الدمشقي، المولود في دمشق حوالي 480 بعد الميلاد. وقد تحدث هذا الفيلسوف عن بعض الأساطير البابلية في كتابه الرئيسي: صعوبات وحلول المبادئ الأولى. يقول داماسكيوس في روايته عن التكوين البابلي:
57 «لا يقول البابليون بمبدأ واحد للكون، بل بمبدأين؛ الأول تاوت، والثاني أباسون. فتاوت هي زوجة أباسون، وكانت تدعى بأم الآلهة. وقد ولد لهذين الإلهين مولود واحد هو موميز، الذي نعتقد أنه يمثل العالم العقلي. وعنهم نشأ جيل ثان: داشي وداشوش. وعن هذين نشأ جيل ثالث: كيساري وأرسوس. وهذان ولد لهما ثلاثة هم: آنوس وإيلينوس وأوس . ومن أوس وداوكي ولد بيل الذي يقولون إنه من صنع الكون.»
إن التشابه لمدهش حقا بين هذه الرواية وبين الإينوما إيليش، حتى لكأنهما مقطع مقتبس عنها مباشرة؛ فتاوت هي تعامة، وأباسون هو أبسو، ومومز هو ممو، وداشي وداشوش هما لخمو ولخامو، وكيساري وأرسوس هما أنشار وكيشار، وآنوس هو آنو، وإيلينوس هو إنليل، وأوس هو إيا، وداوكي هي زوجته دومكينا، أما بيل فهو الاسم التبادلي لمردوخ والذي دعي به دوما.
النص اليوناني الثاني هو نص بيروسوس، نسبة لكاتبه بيروسوس كاهن مردوخ في بابل. وقد عاش هذا الكاتب في فترة متأخرة من تاريخ بابل، بعد فتح الإسكندر. وخلال النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد قام بيروسوس بكتابة تاريخ مملكة بابل استنادا إلى الوثائق المكتوبة التي وصلت إليه من العصور القديمة، ونشر كتابه باللغة اليونانية عام 275 قبل الميلاد. وقد ضاعت أعمال هذا الكاتب بما فيها تاريخ بابل، إلا أن مقتبسات عن ذلك الكتاب ظهرت في أعمال الكاتب أليكسندر بوليستر، الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد. تجري رواية بيروسوس على الشكل الآتي:
58 «في البدء، لم يكن سوى الظلام والماء، ثم ظهرت إلى الوجود مخلوقات عجيبة التكوين: رجال ذوو أجنحة، جناحان وأحيانا أربعة، لهم وجهان بدل الواحد. وآخرون ذوو أجسام بشرية ورأسين، رأس امرأة ورأس رجل، وكانت أعضاؤهم الجنسية مؤنثة ومذكرة معا. وآخرون لهم سيقان وقرون الماعز، أو حوافر وذيل الحصان. وبالمقابل كان هناك ثيران ذات رءوس بشرية، وكلاب لها ذيول السمك، وخيول لها رءوس الكلاب ... وهكذا ... مخلوقات كثيرة قد استعارت من بعضها خصائص وأشكالا. وهذه المخلوقات كلها قد صورت على جدران معبد بل. وفوق أولئك جميعا امرأة اسمها أموركا، وفي اللغة الكلدانية تامتي؛ أي البحر. إلا أن هذا الاسم في القيمة العددية
59
يعادل القمر. ثم جاء مردوخ - بل - فصارع المرأة وشطرها شطرين، جاعلا من شطرها الأول أرضا ومن شطرها الآخر سماء، وقضى على جميع المخلوقات العجيبة، وأحل النظام في الكون. ولكن الأرض كانت خربة ومهجورة، فأمر مردوخ بقطع رأس أحد الآلهة، ومزج دمه بتراب الأرض، ومن ذلك المزيج صنع الإنسان ليملأ الأرض، ثم صنع الحيوانات بأجناسها. وبعد ذلك خلق النجوم والشمس والقمر والكواكب السيارة الخمس.»
رغم من اختلاف هذه النصوص عن بعضها واختلافها عن الإينوما إيليش في ترتيب عمليات الخلق، إلا أن عناصرها جميعا واحدة: الماء البدئي، الحالة السكونية الأزلية، ظهور القوى العقلية الفعالة المتمثلة بالإله أو الآلهة الشابة، صراع كوني حاسم، إحلال النظام الشامل، خلق السماء والأرض، خلق الكواكب والنجوم، خلق الإنسان والحيوان والحياة النباتية. كما تتفق معظم هذه النصوص على خلق الإنسان من طين، وعلى خلق زوجين بدئيين، عنهما تسلسل الجنس البشري. هذا وتعود كل هذه العناصر للظهور في الرواية التوراتية مما سيجري بحثه في التكوين التوراتي. وتذكرنا جملة: ولكن الأرض كانت خربة وخالية، الواردة في نص بيروسوس بما ورد في سفر التكوين، العهد القديم، و«كانت الأرض خربة وخالية ...» إلخ.
وبعيدا عن الأساطير في المنطقة، نجد كثيرا من أساطير الشعوب، حتى البدائية منها، تقول بتسلسل البشرية عن زوجين أوليين. فتقول أسطورة أفريقية
60
إن الإله نزامي قد خلق الإنسان الأول وأسماه سيكوم. ولما رأى أن هذا الإنسان وحيد في العالم، أمره أن يصنع لنفسه امرأة من غصن شجرة وأسماها مبونوي. وتقول أسطورة أفريقية أخرى
61
إنه في البدء لم يكن هناك سوى رجل وامرأة، يعيش كل منهما دون أن يعرف بوجود الآخر، إلى أن التقيا صدفة عند أحد الينابيع، فتشاجرا وتصارعا، ومن خلال ذلك اكتشفا الفعل الجنسي ومباهجه فتصالحا وأنجبا خمسين فتى وفتاة. وتقول أسطورة فارسية
62
إن الذكر والأنثى انبثقا عن شجرة وكانا متحدين في جسد واحد، ثم جاء إليهما الإله آهورا مزدا وفصل كلا منهما عن صاحبه وأرسلهما إلى الأرض. وتروي الأسطورة المكسيكية أن الخالق لما فكر بصنع الإنسان فكر في المادة المناسبة لذلك فاختار الطين، ولكن هذه المادة أثبتت عدم صلاحيتها لأنها ذابت في الماء عندما ذهب الزوجان الأولان للاستحمام، ثم صنعهما من خشب، ولكن المحاولة الثانية لم تكن ناجحة أيضا. ثم استقر على المعدن الذي أثبت نجاحه فاستوى المخلوقان كاملين وأنجبا الجنس البشري.
الفصل الثالث
التكوين الكنعاني
سكن الكنعانيون سوريا الشرقية والشريط الساحلي السوري منذ مطلع التاريخ المكتوب، وأشادوا مراكز حضارية بقيت مشعة حتى الفترات الكلاسيكية المتأخرة. وبالإضافة إلى التأثير المتبادل بين الثقافة الكنعانية والثقافات السامية الأخرى المجاورة والثقافة المصرية، فإن الثقافة الكنعانية كانت ذات تأثير مباشر على الثقافة الكريتية والثقافة اليونانية المبكرة. ويمكن القول:
1
إن الحضارة الكنعانية قد دخلت في أساس الثقافة اليونانية اللاحقة. يظهر هذا التأثير في الأساطير اليونانية التي تشير صراحة إلى التأثير الثقافي الشرقي، كأسطورة قدموس الإله الذي جاء من فينيقيا وعلم اليونانيين الكتابة، وأسطورة اختطاف الإلهة السورية يوروبا التي أعطت اسمها للقارة الأوروبية الجديدة. وقد أطلق اليونان على من احتكوا بهم من الشعوب الكنعانية اسم الفينيقيين.
حتى الربع الأول من هذا القرن بقيت معلوماتنا عن الميثولوجيا الكنعانية والأدب الكنعاني محدودة جدا، ومعتمدة على مصادر مشكوك في صحتها وصدقها. وهذا الشك راجع إما إلى كون هذه المصادر معادية للكنعانيين، كما هو الأمر في كتاب التوراة الذي نقل لنا كثيرا من أسماء الآلهة الكنعانية، وذكر لنا كثيرا من طقوسهم. أو لكون المصادر متأخرة تاريخيا، ومتأثرة بأساليب التفكير الأجنبية، كما هو حال المؤلفين الذين كتبوا باللغة اليونانية في الفترة اللاحقة، مثل فيلو الجبيلي، الذي نقل لنا كثيرا من آراء ومعتقدات الفينيقيين، ولكن من خلال عقل مشبع بالثقافة اليونانية وأساليبها الفلسفية.
إلا أن اكتشاف مدينة أوغاريت على الساحل السوري، جعلنا نقف على أرض أكثر صلابة لأن الألواح الفخارية التي تم العثور عليها في أنقاض معبد بعل هناك، قد وصلتنا بالثقافة الكنعانية مباشرة دون وسيط أو ناقل. وبعد حل رموز الكتابة الأوغاريتية ثبت بالدليل القاطع أن الكتابة المسمارية التي نقشت على تلك الألواح هي كتابة أبجدية، وتنتمي لعائلة اللغات السامية.
والأوغاريتية شديدة القرب للغة العربية. ولعل إيراد بعض المقاطع من اللغة الأوغاريتية مكتوبة بالحروف العربية، ومقارنتها بترجمتها العربية، يعطينا فكرة عن هذا القرب ونوعه. وإليكم مقطعا من ملحمة كرت: يعرب بحدره ويبكي (أي: يدخل خدره ويبكي). بتن رجم ويدمع (أي: يثني الكلام ويدمع). تنكتن أدمعته (أي : ودموعه تنكت). كم شقلم أرصه (أي: كما المثاقيل على الأرض). تمنح مصت مطته (أي: تبلل غطاء سريره). إيل يرد بظهرته (أي: ويرد إيل بظهوره). أب آدم ويقرب (أي: ويقترب أبو البشر). يسأل كرت (أي: يسأل كرت). يدمع نعمن غلم إيل؟ (أي: أيدمع الجميل غلام إيل؟) عل لظهر مجدل (أي: أعل ظهر القلعة). ركب شكم صمت (أي: اركب شكائم الجدار). سأيدك شم (أي: ارفع يدك نحو السماء). دبح لثور ابك إيل (أي: واذبح للثور أبيك إيل).
يظهر على رأس قائمة الآلهة الأوغاريتية الإله إيل كبير الآلهة ورب السماء، يعتلي عرشه في السماء السابعة. وقد شاعت عبادة هذا الإله لدى جميع الشعوب السورية. فنجد في الحواضر الفينيقية، والآرامية في الألف الثالث قبل الميلاد، كما نجده في مدينة تدمر وغيرها من الحواضر السورية في العصور الكلاسيكية المتأخرة. وقد عبده العبرانيون في مطلع تاريخهم أيضا، وكان إله أجدادهم الأولين كما يحدثنا بذلك كتاب التوراة في سفره الأول. كما نجد الإله بعل أو حدد وهو رب المطر والسحاب والصاعقة، وكان الإله الأقرب لقلوب العباد لعلاقته المباشرة بمعاشهم؛ فهو سيد الدورة الزراعية التي يعتمد عليها البشر في حياتهم. وإلى جانب بعل نجد نقيضه الإله موت إله الجفاف والحرارة والعالم الأسفل، وهو في صراع دائم مع بعل.
ومن الآلهة المؤنثة عبد الكنعانيون عشيرة الأم الكبرى وزوجة إيل، وكانت تدعى أيضا إيلات نسبة إلى إيل، من ألقابها سيدة البحر، وما زال اسمها حتى الآن يطلق على الخليج المعروف في البحر الأحمر باسم خليج إيلات. كما عبدوا عناة حبيبة الإله بعل وروح الخصوبة الكونية، وكانت تلقب بالعذراء، وهنالك عستارت، وهي إلهة أخرى للخصب تقاسمت مع عناة وظائف إلهة الخصب البابلية عشتار. إلى جانب هذه الآلهة الرئيسية نجد آلهة تأتي في المرتبة الثانية مثل الإله يم وهو البحر الأول، وشبش إلهة الشمس، وهي أنثى على عكس إله الشمس البابلي شمش، وداجون إله القمح وأبو الإله بعل.
تتجه الأسطورة الأوغاريتية لتفسير الطبيعة بطريقة تروي توق الإنسان الكنعاني المستمر لدوام الخصب في الأرض والحيوان والإنسان، ودوام دورة الطبيعة. وقد صيغت الأسطورة في قالب حركي مليء بالفعل، وانطلاقا من ذهنية بعيدة عن التجريد. فنجد الآلهة التي تمثل تشخيصا لظواهر الطبيعة، وقد انهمكت في القيام بأفعال حركية، بها ترتبط دورة الطبيعة. فعندما يقوم بعل، وهو إله الحياة والخصب، بمنازلة موت إله الموت والجفاف؛ فإن أهمية هذا الصراع ونتائجه لا تقتصر على الإلهين المتصارعين، بل تشمل الظواهر الكونية كلها.
تقع الألواح الفخارية التي قدمتنا للأسطورة الكنعانية في ثلاث مجموعات، المجموعة الأولى تضم الأساطير المتعلقة بالإله بعل، وعلاقته مع بقية آلهة المجتمع الفينيقي. والمجموعة الثانية تضم ملحمة «كرت» ملك حبور. والمجموعة الثالثة تضم ملحمة الأمير «أقهات»، وتحتوي قصته كسابقتها على فيض من العناصر الأسطورية. وقد عثر على هذه الألواح جميعا في أنقاض معبد بعل وهي في حالة يرثى لها من التشوه والتلف؛ مما جعل مهمة الباحثين على غاية من الصعوبة. يضاف إلى ذلك الصعوبات والمشكلات التي ما زالت تثيرها اللغة الأوغاريتية إلى يومنا هذا؛ فحتى الآن ما زال هناك كثير من النصوص الغامضة والعصية على التفسير.
وتواجهنا الصعوبات بشكل خاص في ألواح بعل؛ فكاتب الألواح لم يعطها تسلسلا ما، فجاء كل لوح بأسطورة قد تكون لها علاقة بغيرها أو لا يكون؛ فالألواح لا تقول لنا مثلا هل وقع صراع بعل وموت قبل، أو بعد صراع بعل مع يم، وهذا ما جعل باب الاجتهاد مفتوحا على مصراعيه، الأمر الذي وضعنا أمام ترجمات مختلفة ومتباعدة عن بعضها لأساطير بعل؛ فالتغيير في تسلسل الألواح يغير من القصة تغييرا جوهريا. فإذا أضيف إلى ذلك الاجتهادات الواسعة في تفسير اللغة الأوغاريتية نفسها، صار واضحا مدى الصعوبة التي تواجه الباحث في تقديم صورة واضحة لمسلسل بعل. وقد اطلعت على التسلسل الذي قدمه
L. Delaporte
2
والتسلسل الذي قدمه
J. Gray
3
والتسلسل الذي قدمه
C. H. Gordon
وخرجت بتسلسل أقرب لوجهة نظر الأخير. ولكني قسمت الألواح إلى مجموعتين: المجموعة الأولى اعتبرتها فصلا في التكوين الكنعاني، وسيرى القارئ مشروعية هذه النظرة. أما المجموعة الثانية فأساطير في الخصب ألحقتها في باب «الإله الميت » الذي عالجت فيه أساطير الخصب في المنطقة. ونظرا للتلف الكبير الحاصل في الألواح، فقد قدمت ترجمة أمينة للمقاطع الواضحة ومختصرات نثرية للمقاطع المشوهة كي لا أثقل على القارئ بكثرة من السطور غير الواضحة والمليئة بالفراغات. والنص مترجم عن
C. H. Gordon
في كتابه
Ugarit, New York 1967, Norton, and Minoan Crete
الذي قدم فيه ترجمة كاملة لألواح أوغاريت. (1) بعل ويم، السيطرة على المياه الأولى
يلعب إله الخصب بعل في هذه الأسطورة الدور نفسه الذي لعبه مردوخ في الإينوما إيليش في قهر المياه الأولى وإحلال نظام الكون. والمياه البدئية هنا يمثلها يم
4
ابن إيل. ونص الأسطورة شعري يستخدم الكثير من المترادفات والتشابيه على طريقة الشعر العربي.
عندما يصبح اللوح الفخاري واضحا للقراءة، نجد الإله يم وقد بدأ النزاع مع بعل؛ فهو يتلو على رسوليه كتابا موجها لمجمع الآلهة، يطلب فيه تسليم بعل ليصبح عبدا له، ويبدو أن بعل قد تحاشى الصدام مع يم في البداية ولجأ إلى مجمع الآلهة. ولكن المجمع نفسه لا يستطيع أن يحمي بعل من سطوة يم الذي كان يتمتع بقوة فائقة وسلطة واسعة:
امضيا أيها الشابان،
امضيا ولا تتقاعسا، (انطلقا) ويمما وجهيكما
شطر مجمع الآلهة،
في وسط جبال الليل.
عند قدمي إيل لا تسجدا،
وأمام مجمع الآلهة لا تركعا، بل أعلنا ما لديكما،
قولا لثور،
5
قولا لإيل أبي،
وأعلنا أمام مجمع الآلهة
رسالة يم سيدكما،
رسالة السيد نهر:
6
سلموا إلي، ذاك الذي تؤوون،
ذاك الذي كلكم تؤوون،
سلموا إلي بعل وأنصاره
ابن داجون؛ حتى أرث ذهبه.»
فانطلق الشابان،
ودونما تقاعس (توجها) ويمما وجهيهما
شطر جبال الليل،
شطر مجمع الآلهة،
وقبل أن يلتئم مجمع الآلهة،
قبل أن يجلسوا للمائدة،
كان بعل واقفا قرب إيل،
فلما رأى الآلهة الرسولين
مبعوثي السيد نهر،
أحنوا رءوسهم حتى الركب،
نعم ... وهم على عروش جلالهم،
فوبخهم بعل قائلا: «لماذا أطرقتم أيها الآلهة؟ (لماذا أحنيتم) رءوسكم حتى الركب؟
نعم (لماذا) وأنتم على عروش جلالكم؟
دعوا الإلهين القادمين يقرآن،
7
دعوهما يقرآن ألواح يم،
ألواح السيد نهر،
وارفعوا رءوسكم أيها الآلهة، (ارفعوا رءوسكم) من انحناءتها،
نعم (ارفعوها ) وأنتم على عروش جلالتكم،
وسأنبري أنا للرد
على رسل يم،
على رسل السيد نهر.»
فرفع الآلة رءوسهم.
وعندما يصل الإلهان الرسولان يتوجهان مباشرة للمجمع بالرسالة، دون أن يقدما فروض الطاعة والاحترام لأحد، ويقرآن مطالب يم: «سلموا إلي ذاك الذي تئوون،
ذاك الذي كلكم تئوون،
سلموا إلي بعل وأنصاره
ابن داجون؛ حتى أرث ذهبه».
فأجاب إيل، أجابه أبوه، الثور، قائلا: «ليكن بعل عبدا لك أيها الأمير يم،
ليكن بعل عبدا لك إلى الأبد،
ابن داجون ليكن أسيرك،
وكجميع الآلهة، سوف يقدم لك الطاعة،
نعم، وسيبذل لك التقدمات كأبناء القداسة.»
فيثور بعل، ويقفز إلى سلاحه لقتل الرسولين، إلا أن الإلهتين عناة وعستارت تحولان دون بغيته؛ لأن العرف يقضي بصيانة حياة الرسل:
فأمسك بيده سكينا،
وانتضى بالأخرى خنجرا،
ولوح بهما معتزما قتل الشابين.
إلا أن حديث الإلهتين يضيع مع تشوه اللوح الفخاري الذي يستمر إلى نهاية النص. أما بقية القصة فنعثر عليها في لوح آخر ناله التشوه ما نال اللوح الأول. تحدثنا المقاطع الواضحة في اللوح عن تعاون الإلهين الحرفيين كوثر وحاسيس مع الإله بعل، إذ يصنعان له سلاحين ماضيين يستخدمهما ضد يم، حيث يقوم السلاح الأول بشل حركة يم ويتكفل الثاني بالقضاء عليه. وبعد الانتهاء من صنع السلاحين يتقدم الإلهان لبعل بنبوءتهما: «ألم نقل لك يا بعل، أيها الأمير؟
ألم نعلن لك يا راكب الغيوم؟
هؤلاء أعداؤك يا بعل،
هؤلاء أعداؤك الذين سوف تقتل،
هؤلاء أعداؤك الذين ستقضي عليهم،
ولسوف تقبض على الملك إلى الأبد،
وتبسط على الكل سيادتك.» (ثم يتقدم كوثر بالسلاح ويعطي له اسمه): «لتكن، وليكن اسمك العاصف.
8
اعصف، اعصف بيم،
ادفع به عن عرشه،
ادفع نهر عن كرسي سيادته،
ولسوف تنطلق من يد بعل،
وكالصقر تندفع من بين أصابعه
فتصيب منكبي الأمير يم.»
فانطلق السلاح من يد بعل،
وكالصقر اندفع من بين أصابعه،
وضرب منكبي الأمير يم،
في المنتصف، بين ذراعي السيد نهر.
ولكن يم كان قويا،
فلم يهن ولم يقهر ،
ولم تتخاذل مفاصله،
لا ولم تهو قامته (وهنا يندفع حاسيس ويضع بين يدي بعل السلاح الثاني ويعطيه اسمه): «لتكن وليكن اسمك الصاعق،
اصعق يم على عرشه،
ادفع بنهر على كرسي سيادته،
ولسوف تنطلق من يد بعل،
وكالصقر تندفع من بين أصابعه.
اضرب رأس الأمير يم،
ولتكن إصابتك في المنتصف بين العينين،
فيتهاوى يم،
ويخر ساقطا.»
فانطلق السلاح من يد بعل،
كالصقر اندفع من بين أصابعه
وضرب رأس الأمير يم،
في المنتصف بين عيني السيد نهر،
فخر يم وتضعضع،
وتهاوى ساقطا،
تخاذلت مفاصله،
وهوت قامته. (وهنا تضطرب الآلهة لهذا الحدث وينقسمون بين راض وساخط. وتتوجه عستارت بالقول إلى بعل):
مزقه يا بعل العلي،
9
بعثره يا راكب الغيوم.
10
لقد مات يم وقضى نحبه،
فليسد بعل ويحكم.
وإلى هذين اللوحين يمكن أن نلحق لوحا ثالثا، ربما كان استمرارا لترتيبنا المفترض للألواح، حيث نجد عناة وقد دعت الآلهة إلى وليمة فاخرة، ربما احتفالا بانتصار بعل المؤزر على المياه وتوطيده ملكه. وتقابل هذه الوليمة، في افتراضي، الوليمة التي أقيمت لمردوخ البابلي بعد انتصاره على المياه. يأتي الآلهة جميعا إلى مأدبة عناة، حيث يقدم اللحم والخمر، وينشد المنشدون وتصدح الموسيقى. وبعد ذلك يمضي بعل إلى مقره في جبل صفون:
ومضى بعل صاعدا إلى مرتفعات صفون،
وهناك التقى ببناته،
متع النظر ببدرية ابنة النور،
وطلية ابنة المطر،
وأرصية ابنة الأرض.
أسماء بنات بعل مثال آخر على قرب الأوغاريتية للعربية، فبدرية اسم ما زال شائعا في سوريا والنسبة هنا للبدر وهو القمر الكامل. وطلية منا هي الطل أو الندى، وأرصية هي الأرض والتربة الخصبة. (2) بعل يبني بيتا له
بانتصار بعل على المياه تنتصر قوى النظام والحضارة على قوى الفوضى والعماء. ونستطيع أن نفترض أن بعل بعد انتصاره ذاك قد قام بتنظيم الكون ووضع أسس الحضارة. ولكن بعل بعد انتصاره يلزمه بيت لسكناه، كما هو شأن الآلهة الكبرى. وهنا يحدثنا نص آخر عن سعي بعل لبناء مثل هذا البيت، تماما كما حصل مردوخ على بيته بعد انتصاره. وفي هذا النص نجد بعل يطلب المعونة من حبيبته عناة في الحصول على بيته: «ليس لبعل بيت كبقية الآلهة،
ولا هيكل كأبناء عشيرة، (ليس له) كمسكن إيل، (ولا) كبيوت أبناء إيل، (ولا) كمسكن عشيرة سيدة البحر، (ولا) كبيت بدرية ابنة النور،
أو طلية ابنة المطر،
أو أرصية ابنة الأرض،
أو بيوت الحوريات العظيمات».
فأجابت عناة العذراء: «سيهتم أبي إيل، الثور، بالأمر،
من أجلي سيهتم أبي بالأمر،
وإلا رميته إلى الأرض كحمل صغير،
وجعلت الدم يجري (في نسغ) شعره الأشيب،
وفي شعيرات لحيته البيضاء.
سيعطي بعل بيتا كبقية الآلهة،
نعم ويعطيه هيكلا كأبناء عشيرة.»
ثم قفزت على ساقيها
وغادرت الأرض
ميممة شطر إيل،
عند منبع النهرين،
في وسط التيارين،
ودخلت على إيل في مقره،
دخلت حرم الملك أبو شنم
11 (وعندما اقتربت من مقر أبيها، وصله صوتها مهددا متوعدا، فلجأ إلى غرفته الثامنة التي تقع خلف غرف أخرى سبع):
فأجابها إيل من وراء غرفه السبع
من داخل غرفته الثامنة: «أعرفك عنيفة متهورة يا بنتي،
وأعرف أن لا راد لما تشائين،
12
فماذا تريدين، أي عناة، أيتها العذراء؟»
فأجابت عناة العذراء: «عاقلة هي كلماتك يا إيل،
وأبدية هي حكمتك،
وسعادة مقيمة ما تلفظ به.
ملكنا هو بعل العلي،
سيدنا الذي لا يعلو أحد عليه. (وبعد أن تعرض عناة قضيتها على إيل تتطوع زوجة إيل وأولادها لتأييد دعوى عناة): «وهنا صاحت عشيرة وأولادها،
صاحت الإلهة ومن لف لفها:
هو ذا بعل بلا بيت كبقية الآلهة،
ولا هيكل كأبناء عشيرة،
وليس له كمسكن إيل،
ولا كمسكن عشيرة سيدة البحر،
ولا كبيت بدرية ابنة النور،
أو طلية ابنة المطر،
أو أرصية ابنة الأرض،
أو بيوت الحوريات العظيمات».
وعندما ينزل إيل عند رغبة عناة، يجري إرسال مبعوث الإلهة عشيرة وهو قادش - أمرار إلى إله الصناعة والحرف كوثر - حاسيس حاملا الأمر ببناء البيت: «امض يا صياد عشيرة،
امض يا قادش-أمرار
13 [...]
انحن أمام قدمي كوثر واسجد له،
اسجد أمامه وبجله،
وأعلن أمام الصانع الماهر رسالة بعل العلي،
رسالة علي المحارب».
14
وهنا تتكفل عناة بنقل الخبر إلى بعل الذي جلس ينتظر حضور الإله الصانع. وعندما يصل كوثر-حاسيس إلى صفون قادما من موطنه في كريت، يستقبله بعل بالحفاوة والترحيب، ويذبح لأجله ثورا ويقيم مأدبة عامرة، يبدأ على إثرها بناء البيت. إلا أن خلافا يقع بين بعل وكوثر حول تصميم البناء؛ فبينما يقترح كوثر أن يكون للبيت نوافذ، يصر بعل على أن يكون البيت خلوا منها. ويحسم الخلاف لصالح كوثر، وعندما ينتهي الهيكل يأتي آية في الجمال والإبداع، كتلة من خشب الأرز والفضة والذهب يعتلي قمة صفون. (3) بعل وعناة
نتعرف في مطلع هذا النص على الوجه المدمر للإلهة عناة؛ فهي ككل إلهات الخصب القديمة تمتلك مجموعتين من الخصائص المتناقضة. فمن جهة هي ربة الحب والجنس والخصب وربة الحياة، ومن جهة أخرى هي ربة الحرب والدمار والكوارث، ربة الظلام.
15
محبة رقيقة رءوم، وقوية جبارة متسلطة. وقد رأينا في النص السابق كيف دخلت على أبيها إيل إله السموات الذي ارتعد لقدومها واختبأ في غرفته، واستمعنا إلى تهديدها له ووعيدها. أما في هذا النص فنجدها وقد خاضت مذبحة دموية تقتل فيها من الأعداء بيديها وتغوص في دمائهم: «هي ذي عناة تقاتل بضراوة،
إنها تذبح أبناء المدينتين،
إنها تصارع أبناء شاطئ البحر،
وتبيد أبناء مشرق الشمس،
تحتها الرءوس تتطاير كالنسور،
وفوقها تتناثر الأذرع كالجراد».
وأبناء شاطئ البحر هم سكان الغرب. أما أبناء مشرق الشمس فهم سكان الشرق؛ أي إن عناة كانت تمعن تقتيلا في الناس كافة. فلسبب غير معلوم، قررت عناة إفناء الجنس البشري واتبعت في ذلك الوسيلة المباشرة؛ أي تنفيذ المهمة بيديها، على عكس الإله إنليل الذي اتخذ قرارا مشابها في بلاد الرافدين، ولكنه استعمل في حملته الأمراض والأوبئة الفتاكة كما استعمل الطوفان العظيم. «إنها تخوض في دماء الأبطال حتى الركب،
إنها تغوص في دماء الناس حتى العنق. (ولكن الجولة الأولى لم تكن كافية، فتراها تكر مرة أخرى):
إنها تقاتل بضراوة
إنها تهاجم أبناء المدينتين، ...
تقاتل (وتقف) فتجيل النظر،
تذبح (وتقف) فتتأمل،
كبدها يتفجر سرورا،
وقلبها يمتلئ حبورا،
في يدها راية الانتصار،
تخوض في دماء الأبطال حتى الركب،
وتغوص في دماء الناس حتى العنق». (وما إن انتهت عناة من مهمتها وهدأت ثائرتها حتى بدأت):
تغسل يديها في دماء الجنود،
وأصابعها في دماء البشر، [...]
تجمع المياه وتغتسل
بندى السماء،
بزيت الأرض،
بأمطار راكب الغيوم (تغتسل).
وهنا يقوم بعل بإرسال مبعوثيه إلى الإلهة الغاضبة، طالبا منها أن تضع السلاح وترفع راية السلام، واعدا إياها بكشف أسرار الطبيعة إن هي أتت لزيارته في مسكنه الجبلي: «عند قدمي عناة انحنيا واركعا،
اسجدا أمامها، بجلاها،
وقولا للعذراء عناة،
أعلنا لسيدة الأبطال،
رسالة بعل العلي،
أعلنا كلمة علي المحارب:
أن ضعي في الأرض خبزا،
وضعي في التراب لفاحا
16
واسكبي في الأرض قربان السلام،
والتقدمات في وسط الحقول، [...]
وإلي فلتسرع قدماك،
إلي فلتسرع قدماك؛
فعندي كلمة، أود لو قلتها لك،
ومسألة لو أطلعتك عليها.
هي كلمة الأشجار (والأوراق)،
هي همسة الصخور (والحجارة)،
وشوشة السماء للأرض،
وغمغمة الأغوار للنجوم،
فأنا عليم بالبرق الذي لا تدرك كنهه السموات،
وعندي من الأسرار ما لا يعرفه البشر،
ولا جموع الأرض به تعرف.
هلمي إلي، فأريك كل ما لدي،
هلمي إلى مقري، أنا رب صفون، هلمي إلى حرمي،
إلى جبالي، إلى المكان المقدس،
إلى تلال القوة (والمنعة)».
وعندما يقترب الرسولان تتطير عناة وتظن أن مكروها ما قد أصاب بعل فتبادرهما بالسؤال ملهوفة:
أي جوبار وأوغار ما الذي أتى بكما؟
أي عدو قام في وجه بعل؟
وأي خصم قد ناهض راكب الغيوم؟
ألست التي محقت يم حبيب إيل؟
17
ألست التي قضت على نهر، الإله العظيم؟
ألست التي أفنت التنين،
وسحقت الحية الملتوية ذات الرءوس السبعة؟
لقد قضيت على موت مختار آلهة الأرض،
ودمرت بيت إيل زبوب.
18
لقد قاتلتهم جميعا وحزت على ذهبهم،
أولئك الذين أزاحوا بعل عن أعالي صفون،
الذين دفعوا به عن كرسي ملكه،
وأبعدوه عن عرش جلالته،
نعم، أي عدو قام في وجه بعل؟
وأي خصم قد ناهض راكب الغيوم؟»
فأجابها الشابان قائلين: «لم يقم في وجه بعل عدو،
لا، ولم يناهض راكب الغيوم خصم ،
ولكن هي ذي رسالة من بعل العلي،
وكلمة من علي المحارب:
ضعي في الأرض خبزا،
وضعي في التراب لفاحا،
واسكبي في الأرض قربان السلام،
والتقدمات في وسط الحقول.» (يكرران الرسالة حرفيا إلى آخرها، وعندما ينتهيان تجيبهما ملهوفة): «سأضع في الأرض خبزا،
وسأضع في التراب لفاحا،
وسأسكب في الأرض قربان السلام،
والتقدمات في وسط الحقول.»
ثم إنها لا تنتظر عودة الرسولين بجوابهما، بل تطير لتوها قاطعة مئات الأميال تطوي الفيافي والقفار. وعندما يراها بعل قادمة من بعيد يرسل جمعا من النساء لاستقبالها، ويذبح من أجلها ثورا، ويحتفل بها احتفالا مشهودا. وبقدومها تبتهج الطبيعة، فيرقص النبات، ويتكاثر الحيوان. (4) نص باللغة اليونانية (سانخونياتن والنظرية الزائفة)
في غمرة المد الثقافي الهيليني الذي اجتاح شرقي المتوسط منذ القرن الثالث قبل الميلاد، كانت تقوم أصوات متفرقة، تدعو للتذكير بثقافة المنطقة والوقوف في وجه تيار الثقافة اليونانية الذي بدأ يطبع العالم المتحضر في ذلك الوقت. من تلك الأصوات كان صوت الكاتب السوري فيلو الجبيلي، الذي عاش في نهاية القرن الأول الميلادي، ووضع مؤلفا ضخما في تاريخ الفينيقيين اشتمل على تسعة أجزاء ضاعت جميعها، ولم يبق منها سوى مقاطع متفرقة أوردها مؤلفون آخرون نقلا عنه.
في حديثه عن الميثولوجيا حاول أن يثبت أن الأساطير الإغريقية قد بنيت في معظمها على أصول كنعانية شرقية، وأرجع معظم آلهة الإغريق إلى جذورهم الفينيقية. وقد وضع معظم أفكاره على لسان كاتب فينيقي قديم عاش في القرن الرابع عشر قبل الميلاد اسمه سانخونياتن مدعيا أن مؤلفه الكبير ليس إلا ترجمة لأفكار ذلك الكاتب العظيم.
ولعل أهم ما بقي لنا من كتاب فيلون-سانخونياتن، هو النظرية الفينيقية في التكوين، التي وصلتنا بسبب تصدي بعض الكتاب المسيحيين لنقدها، في حملتهم التي شنوها ضد المعتقدات القديمة وتفنيدها. وهكذا نجد أن نظرية سانخونياتن التي نقلها فيلو، لم تصلنا إلا عن طريق المصادر المعادية، التي استعملتها وسيلة للنقد والمحاجة، وتثبيتا للفكر المسيحي الجديد. وهذا الوضع برمته يترك مجالا واسعا للشك في صحتها مما سأتحدث عنه لاحقا.
تقول النظرية
19
إنه في البدء لم يكن هناك سوى ريح عاصفة، وخواء مظلم، ثم إن هذه الريح وقعت في حب مبادئها الخاصة وتمازجت. ذاك التمازج كان «الرغبة» وهي مبدأ خلق جميع الأشياء. ولم يكن للريح معرفة بما فعلت، نتج عن تمازج الريح موت الذي كان عبارة عن كتلة من الطين أو مجموعة من العناصر المائية المتخمرة، وكان بذرة الخلق. وكان لموت شكل البيضة عندما تتكون. غدا مضيئا وأنتج الشمس والقمر والنجوم والمجموعات النجمية الكبرى.
ثم التهب الهواء بتأثير التهاب اليابسة والبحر وتشكل السحب وهطل على الأرض ماء مدرارا. وبتأثير حرارة الشمس انفصلت الأشياء وطارت من مكانها لتلتقي في الهواء وتتصادم، فنشأت البروق والرعود، وعلى صوتها أفاقت الحيوانات مذعورة وراحت تنتقل على اليابسة وفي البحر، ذكورا وإناثا.
وتتابع النظرية سرد أنساب البشر بدءا من الزوجين كولبيا وباو، وتعزو لكل جيل فضل اكتشاف من اكتشافات الحضارة، كاكتشاف النار والزراعة وتربية الحيوان وما إلى ذلك، وتشرح كيف عبد البشر أصحاب تلك الاكتشافات وجعلوهم من الآلهة بعد موتهم، إلى أن تصل إلى أورانوس-السماء، وزوجته جيا الأرض، ابني عليون؛ أي العالي أو السامي. ويشرح النص هنا القصة الإغريقية نفسها المعروفة عن قسوة أورانوس على أولاده ومحاولته قتلهم، إلى أن يأتي كرونوس، أحد أولاده، الذي يتغلب عليه بمعونة صديقه هرمس ويأخذ سلطانه. وهو الذي بنى أول مدينة فينيقية وهي جبيل. ولكن أباه أرسل له ثلاث بنات لقتله، فما كان من كرونوس إلا أن استمالهن وتزوج بهن. فولدت له الأولى وهي عستارت سبع بنات وولدين؛ أحدهما يوثوس، والآخر إيروس. وولدت له الثانية وهي رحيا أيضا سبع بنات. ولما تابع أورانوس الحرب ضد ابنه كرونوس قام الأخير بمفاجأته في كمين وقبض عليه وأخصاه، ففاض دمه في الجداول والينابيع.
ولا أريد المضي في سرد مزيد من التفاصيل حول هذه النظرية، مكتفيا بما سردته. إن زيف النص يبدو واضحا للعيان دون كبير مشقة أو جهد في تمحيصه. وسأنطلق في نقده من ثلاث زوايا ؛ الزاوية الأولى: ما يقدمه لنا النص نفسه، بصرف النظر عن أية عناصر خارجية. والزاوية الثانية: ملابسات وصول النص إلينا، والقنوات غير المتعمدة التي سلكها. والثالثة: ما قدمته لنا حفريات رأس شمرا من مقارنات مفيدة مع أمثال هذه النصوص المتأخرة.
أولا:
إن قراءة أولى للنص تظهر لنا أنه قد كتب بروح وخلفية وثقافة يونانية؛ فروح الفلسفة الإغريقية تشع من كل حرف من حروفه، وخاصة في مقدمته، عندما كانت هناك ريح عاصفة وخواء مظلم، وعندما وقعت الريح في حب مبادئها الخاصة ... إلخ. كما أن التركيز على فكرة المنشأ المادي للدين، وعلى أن الآلهة التي عبدها البشر لم تكن إلا رجالا صالحين قدموا للبشرية خدمات جلى، فتم تأليههم وعبادتهم؛ يدل دلالة واضحة على التأثر الكبير بالاتجاهات الفلسفية المتأخرة، ويبتعد بنا عن منحى التفكير الديني الأسطوري الذي كان سائدا في الفترة التي عزا ناقل النص إليها إنتاجه. لقد كان القرن الرابع عشر قبل الميلاد زمنا ما زال الفكر الأسطوري فيه منتعشا، وفيه كتبت ألواح رأس شمرا، وأساطير بعل وعناة وملاحم كرت وأقهات، مما كشفت عنه حفريات موقع مدينة أوغاريت. ولا يمكن بحال أن تكون العقلية التي أنتجت تلك النصوص هي نفسها التي أنتجت نص سانخونياتن. والمشكلات التي كانت مطروحة وقتها لم تكن مشكلة وجود الآلهة أم لا، بل مشكلة أي إله يعبد. والتساؤل عن وجود الآلهة لم يطرح إلا في العصور الفلسفية اللاحقة. كما أن الفترة نفسها هي التي شهدت الصراع بين وحدانية الإله وتعدد الآلهة، حيث قامت ديانة أخناتون في مصر، وتبعتها ديانة موسى في سوريا.
ثانيا:
أخبرنا فيلو الفينيقي (42 ميلادية) عن سانخونياتن، ونقل لنا عنه تاريخ فينيقيا، مدعيا أنه إنما يترجم لليونانية فقط، ما كتبه سانخونياتن قبل ذلك بألف وأربعمائة عام، دون أن نعثر لسانخونياتن قبل ذلك على ذكر إلا عند كاتبين سوريين آخرين هما: أدريان الصوري (150 ميلادية)، وفورفيوس الصوري (448 ميلادية)، وكلاهما لاحقان لفيلو الجبيلي. وليس مستبعدا أن يكونا قد استندا في ذكرهما لسانخونياتن على فيلو نفسه. كما تغدو مسألة تحقيق النص أصعب؛ إذ إن أعمال فيلو قد ضاعت كلها ، وأن ما نعرفه عنها قد وصل إلينا عن طريق أقلام يونانية أو مسيحية. والنص الذي بين أيدينا الآن قد نقله أوزيب الكاتب المسيحي ناقدا، ومدافعا عن المسيحية. فما الذي بقي لنا من سانخونياتن إذن؟
لقد لعب سانخونياتن في أعمال فيلو دورا مشابها لما لعبه سقراط في محاورات أفلاطون؛ فلقد بات مؤكدا منذ زمن بعيد أن سقراط، في محاورات أفلاطون، لم يكن إلا شخصية تتحرك لتعبر عن آراء أفلاطون وفلسفته، مع الخلاف الواضح بين المثالين؛ لأن الأدلة قائمة على وجود شخص اسمه سقراط، ولأن أعمال أفلاطون قد وصلتنا مباشرة. بينما لا وجود لأي دليل تاريخي على وجود سانخونياتن، وأعمال فيلو قد ضاعت تماما.
ثالثا:
لقد كان جل ما نعرفه عن لاهوت الكنعانيين عبارة عن متفرقات وردت في أعمال المؤلفين اليونان، إلا أن اكتشاف رأس شمرا على الساحل السوري في مطلع هذا القرن، وحل أبجديتها السباقة، جعلنا على اتصال مباشر بالفكر والأدب واللاهوت الكنعاني؛ فالألواح تتحدث عن نفسها دون وسيط. ولقد غدا من نافلة القول التحدث عن أي نص منقول، يتعارض مع ما تنطق به المكتشفات. فما الذي تقوله لنا الألواح الأوغاريتية عن نص فيلو؟
إن بعض أسماء الآلهة الفينيقية قد ورد في نص فيلو، إلا أن هذا النص قد امتلأ بأسماء الآلهة اليونانية فكاد لا يترك إلها إغريقيا إلا وذكره. وكل هذه الأسماء لم نعثر لها على ذكر في ألواح أوغاريت التي تعود إلى الفترة نفسها التي عزا ناقل النص إليها إنتاج نظرية سانخونياتن. إضافة إلى تناقضات واضحة بين وظائف بعض الآلهة عند سانخونياتن ووظائفها في ألواح أوغاريت.
وبشكل عام يمكن القول إن فيلو قد أراد الدفاع عن الثقافة السورية باستعمال المنظور الإغريقي، والقوالب الفكرية الإغريقية، فأتى بنظرية تلفيقية، هي قبل كل شيء نظريته الخاصة لا نظرية الفينيقيين. وقد وقع بعض دارسي الأسطورة العرب
20
في الفخ السهل، وتبنوا نص فيلو باعتباره عملا فكريا فذا معبرا عن الفكر الكنعاني القديم، وصرفهم الحماس لهذا النص الفلسفي الجميل عن النظرة الموضوعية.
الفصل الرابع
التكوين التوراتي
(1) لمحة تاريخية
إذا كان لنا أن نأخذ ما كتبه العبرانيون عن أنفسهم في توراتهم، باعتباره تاريخا، لتتبعنا ظهور العبرانيين في المنطقة، من خلال ثلاث حركات بشرية أساسية؛ الأولى: هجرة إبراهيم الجد الأول، من مدينة أور الكلدانية في أرض الرافدين، واستقراره في أرض كنعان بفلسطين: «وقال الرب لأبرام، اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم اسمك.»
1
وبعد وصول إبراهيم وأهله إلى كنعان، يبرم معه الرب ميثاقا، فيعطيه الأرض له ولنسله من بعده: «في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات.»
2
والحركة الثانية تظهر بقيادة يعقوب أو إسرائيل بن إسحاق وحفيد إبراهيم، وعن يعقوب هذا تصدر أسباط إسرائيل الاثنا عشر، ومعه يجدد الرب عهد إبراهيم: «والأرض التي أعطيت إبراهيم وإسحاق، لك أعطيها ولنسلك من بعدك أعطي الأرض.»
3
أما الحركة الثالثة فتقوم بها جموع اليهود الفارين من مصر بقيادة موسى، تلك الشخصية الغامضة في التاريخ، غموض شخصية إبراهيم، وذلك في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
دخلت هذه الجموع الرعوية الجائعة أرض فلسطين من الجنوب بعد أن تاهوا في صحراء سيناء أربعين سنة، جزاء خوفهم من دخول الأرض أول مرة. لقد أرهبتهم أرض كنعان بما رأوا فيها من منعة وثروة وحضارة، فقفلوا راجعين إلى الصحراء: «فأرسلهم موسى ليتجسسوا أرض كنعان ... قد ذهبنا إلى الأرض التي أرسلنا إليها. وحقا إنها تفيض لبنا وعسلا وهذا ثمرها. غير أن الشعب الساكن في الأرض معتز، والمدن حصينة عظيمة جدا ... وجميع الشعب الذي رأينا فيها أناسا طوال القامة. وقد رأينا هناك الجبابرة بني عناق، فكنا في أعينهم كالجراد ... فرفعت الجماعة كلها صوتها وصرخت، وبكى الشعب تلك الليلة، وتذمر على هارون وموسى جميع بني إسرائيل، وقال لهما كل الجماعة ليتنا متنا في أرض مصر.» وهنا يغضب يهوه إلههم، ويقرر حرمانهم من دخول الأرض التي وعدهم بها، إلى أن يتطهروا من أدرانهم: «في هذا القفر تسقط جثثكم ... وأما أطفالكم فإني سأدخلهم، فيعرفون الأرض التي احتقرتموها. فجثثكم أنتم تسقط في القفر، وبنوكم يكونون رعاة في هذا القفر أربعين سنة، ويحملون فجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر.»
4
كان تقدم العبرانيين في أرض كنعان بطيئا جدا، إلا أن سياسة الإفناء التي اتبعوها لم يذكر لها التاريخ مثيلا: «رجع جميع إسرائيل إلى عاي وضربوها بحد السيف. وكان جملة من قتل في ذلك اليوم، رجل وامرأة، اثني عشر ألفا، جميع أهالي عاي ... وأحرق يشوع عاي، وجعلها تل ردم إلى الأبد خرابا»،
5 «وعاد يشوع في ذلك الوقت وافتتح حاصور وقتل ملكها بالسيف، وضربوا كل نفس فيها بحد السيف، ولم تبق نسمة، وأحرق حاصور بالنار»،
6 «وقال صموئيل لشاول، إياي أرسل الرب لمسحك على شعبه إسرائيل. والآن فاسمع كلام الرب ... اذهب واضرب عماليق ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا.»
7
وعندما تم لهم الاستيلاء على فلسطين وزع القائد يشوع بن نون (خليفة موسى) الأرض على القبائل الإسرائيلية الاثنتي عشرة، ثم عاشوا مدة قرنين لا يجمعهم نظام سياسي يوحدهم، إلى أن أسس شاؤل المملكة الموحدة، ثم خلفه داود وسليمان. وبعد وفاة سليمان انقسمت المملكة الموحدة إلى مملكتين: إسرائيل في الشمال، ويهوذا في الجنوب. وبقي العبرانيون عالة على الثقافات المجاورة؛ ففي أوج ازدهار دولتهم، أيام الملك سليمان، نجد هذا الملك يستعين بالحرفيين والصناع الفينيقيين لبناء هيكله المشهور، ويستورد له المواد اللازمة من فينيقيا: «وأرسل سليمان إلى حورام ملك صور قائلا: كما فعلت مع داود أبي إذ أرسلت له أرزا ليبني بيتا يسكن فيه، فها أنا ذا أبني بيتا لاسم الرب إلهي ... فالآن أرسل لي رجلا حكيما في صناعة الذهب والفضة والنحاس والحديد والأرجوان والقرمز ماهرا في النقش ... وأرسل لي خشب الأرز وصندل وسرو لبنان لأني أعلم أن عبيدك ماهرون في قطع خشب لبنان.»
8
في عام 721ق.م. قضى صارغون الآشوري على مملكة إسرائيل وسبى كثيرا من أهلهم وأسكنهم في مناطق أخرى. وفي عام 587ق.م. دمر نبوخذ نصر البابلي أورشليم وأنهى الوجود السياسي لمملكة يهوذا. وبعد ذلك جاء العصر الفارسي ثم اليوناني ثم الروماني، وتلاشى اليهود كمجموعة دينية في فلسطين، لا سيما بعد انتشار المسيحية. (2) الخلفية الثقافية
لم يحضر اليهود إلى سوريا الجنوبية معهم ثقافة خاصة بهم؛ فقد عاشوا في مصر عيشة العبيد والأذلاء، وفروا منها استجابة لدعوة رجل فولاذي هو موسى. وقد تضاربت الآراء حول هذه الشخصية الفذة. ولعل أكثر هذه الآراء إثارة النظرية القائلة بأن موسى مصري الأصل وليس عبرانيا،
9
وأنه قائد عسكري من أتباع ديانة آتون، وهي أول ديانة توحيدية معروفة تاريخيا، أسسها الفرعون أخناتون. ولما هلك أخناتون، ودمر كهنة الديانات التقليدية كل ما بناه؛ تفرق أتباعه وأهله، إلا أن موسى التابع المخلص لأخناتون أخذ على عاتقه متابعة الرسالة فقام باختيار اليهود، تلك الفئة الغريبة المضطهدة؛ للتبشير بينهم، وقادهم، لقاء اهتدائهم، في مسيرتهم الطويلة للخلاص من العبودية. ولعل هذا الاختيار الذي قام به موسى، هو الذي أعطى فكرة اختيار الإله يهوه لشعبه في التوراة. وتتابع هذه النظرية منطقها فتقول إن اليهود بعد خيباتهم المتلاحقة وضياعهم الطويل، قد قتلوا قائدهم في ثورة من ثورات الغضب، وهذا الفعل الشنيع هو الذي أدخل على اليهودية فكرة المسيح المنتظر؛ لأن الندم قد اعتصر قلوب المغتالين، وترسخ بعد ذلك في لا شعور الجماعة، ونشأت الأمنية بعودة القتيل، الذي لم يمت وإنما اختفى؛ ليعود في نهاية العالم لقيادة شعبه.
رغم قلة ما نعرفه عن الديانة الآتونية، بسبب الانتقام الشامل الذي تعرضت له من قبل الكهنة الثائرين، فإننا نستطيع أن نلمح بعض أوجه التشابه بين الديانتين، الآتونية والموسوية، وذلك رغم ما خضعت له الأخيرة بعد موسى من تبدلات.
فأولا:
تصر الديانتان، ولأول مرة في التاريخ، على وحدانية الإله. إلا أن وحدانية أخناتون أعم وأشمل؛ لأنه يرى آتون إلها للأمم كلها، بينما بقيت اليهودية على الاعتقاد بيهوه إلها للشعب اليهودي، يتجلى في المعارك والانتصارات، لا كما يتجلى آتون في الأزهار والأشجار وجميع أشكال النماء والحياة.
ثانيا:
تمنع الديانتان أي نوع من أنواع التصوير أو النحت للإله الواحد ؛ لذلك فقد حطمت كل التماثيل إبان حكم أخناتون ومسحت عن جدران المعابد كل صور وأسماء الآلهة القديمة. وكانت الإشارة الوحيدة المسموح بها كرمز للإله هي أشعة الشمس التي كانت جميع الصلوات تحث على النظر للقوة الكامنة خلفها. فآتون ليس قرص الشمس ذاته، بل خالق أشعته التي يمدها بالطاقة. وليس ما في الكرة الملتهبة من مجد مشرق، إلا رمزا للقدرة المستورة. كذلك نقرأ في التوراة: «لا تصنع لك تمثالا، صورة مما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء تحت الأرض.»
10
ثالثا:
لا نجد في الديانتين أثرا لفكرة البعث والحساب والحياة الآخرة؛ فأخناتون في صراعه مع الديانات القائمة آنذاك، أراد أن يحرم أوزوريس، وهو الإله الشعبي الأول، ملكوته في العالم الآخر؛ لأنه كان رب البعث والحساب الذي يزن الحسنات والسيئات في العالم الأسفل، ومالك قلوب العباد الباحثين عن السعادة في الحياة الثانية. فعمد أخناتون إلى إلغاء فكرة البعث والحساب. وعلى منواله نسجت الديانة الموسوية التي لا نجد عندها أفكارا واضحة عن الحياة بعد الموت،
11
بل إن هذه الفكرة قد اعتبرت لفترات طويلة ضلالا مبينا، ولم تبدأ في السيطرة على عقول بعض المتدينين إلا في الفترات المتأخرة وقبل ظهور السيد المسيح.
رابعا:
نظرا لاتصال الديانات المصرية بالسحر؛ فقد حاربت الآتونية السحر والسحرة وأبطلت تأثيرهم في المجتمع. كذلك الأمر في الديانة اليهودية التي حرمت السحر.
إن تأثر الديانة الموسوية بالديانة الآتونية هو أمر منطقي وممكن، بصرف النظر عن حكاية موسى المصري؛ فالديانة الموسوية نشأت في زمن لا يبعد كثيرا عن زمن ازدهار الآتونية. ونستطيع بسهولة أن نفترض أن الديانة الآتونية بعد انهيارها، قد تحولت إلى ديانة سرية انتشرت بين المضطهدين الغرباء، وخضعت لتحولات أساسية عبر الوقت، إلى أن اتخذت شكلها الجديد على يد موسى. وقد استمرت بعض الصلوات الآتونية حية في كتاب التوراة. ومن ذلك مثلا إحدى صلوات أخناتون في تسبيح إلهه التي نجدها في المزمور 104 من سفر المزامير في التوراة: (2-1) صلاة أخناتون
12 • العالم في ظلام كأنه الموت. الأسود تخرج من عرينها،
والحيات من جحورها،
والظلام يسود،
وعندما تشرق في الأفق يتلاشى
الظلام، وكل يذهب إلى عمله. • تزهر كل الأشجار والنباتات وتتفتح،
والطيور ترفرف على أعشاشها، والخرفان
ترقص وتثب على أرجلها. • السفن تمخر عباب الماء صعودا وهبوطا،
والأسماك في النهر تقفز أمامك، وأشعتك
في وسط البحر العظيم. - كم هي متعددة أعمالك ... لقد خلقت
الأرض وفقا لمشيئتك. وكل ما عليها
من ناس وحيوان. • لقد خلقت نيلا في السماء
يرسل الماء على المخلوقات، فيسقي
حقولهم، ويجعل الجبال تفيض سيولا؛
فتروي الناس والقطعان في الأرض. • أنت الذي خلق الفصول، وخلقت السماء
البعيدة تسطع فيها وتشرق وتغرب يوما بعد يوم. • العالم كله بين يديك. عندما تسطع على المخلوقات
تحيا، وعندما تغرب عنها تموت، وبك يعيش الإنسان. (2-2) المزمور 104
تجعل ظلمة فيصير ليل، فيه تدب
كل حيوان الوعر،
الأشبال تزمجر لتخطف وتلتمس من الرب
طعامها. • تشرق الشمس فتجتمع في مآويها وتربض.
الإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله إلى المساء. • تشبع أشجار الرب أرز لبنان الذي نصبه
حيث تعشعش هناك العصافير، أما اللقلق فالسرو
بيته. الجبال العالية للوعول، والصخور ملجأ للوبار. • هذا البحر الكبير الواسع الأطراف،
هناك دبابات بلا عدد. صغار الحيوانات مع كبار،
هناك تجري السفن. • ما أعظم أعمالك يا رب! كلها
بحكمتك صنعت. ملآنة الأرض بغناك. • الساقي الجبال من علاليه. من ثمر
أعمالك تشبع الأرض. المنبت عشبا
للبهائم، وخضرة لخدمة الإنسان لإخراج
خبز من الأرض،
وخمر تفرح قلب الإنسان. • صنع قمرا للمواقيت.
الشمس تعرف مغربها.
كلها إياك ترتجي لترزقها قوتها في حينه.
تعطيها فتلتقط، وتفتح يدك فتشبع خبزا، تحجب وجهك
فترتاع، تنزع أرواحها فتموت، وإلى ترابها تعود
ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض.
هذا وربما كنا أقدر على إيجاد مزيد من المشابهات لو وصلنا من تراث الآتونية أكثر مما وصل. ولكن الانتقام الشامل الذي تعرضت له هذه الديانة بعد وفاة مؤسسها جعل التاريخ لا يعرف عنها إلا القليل.
وإذا كانت الآتونية قد أعطت اليهودية دفعتها الأولى، فإن المناخ الثقافي الذي نمت فيه وترعرعت، فيما بعد، وأعني به الثقافة السورية المجاورة، كان له أكبر الأثر في تشكلها وتطورها البطيء. وقد كتب التوراة عبر مسافة زمنية تبدأ في القرن العاشر قبل الميلاد، وتنتهي في القرن الأول؛ فالأسفار الخمسة الأولى قد كتبت على مدى ثلاثة قرون ابتداء من القرن العاشر، أما آخر أسفار التوراة، وهي سفر المكابين الأول، وسفر المكابين الثاني، فقد حررت خلال القرن الأول قبل الميلاد. والتوراة هو المأثرة الثقافية الوحيدة للشعب اليهودي.
ومع هذا التطور البطيء تطورت فكرة اليهود عن الإله. وكان على إلههم يهوه أن ينتظر طويلا قبل أن ينتقل من مجرد إله خاص بشعب إسرائيل، يصارع ويقارع آلهة الشعوب الأخرى للحفاظ على وحدانيته لدى شعبه المختار، إلى إله مطلق للعالم. فآيات التوراة تتحدث عن يهوه دائما كأعظم الآلهة شأنا: «والبيت الذي أنا بانيه عظيم لأن إلهنا أعظم من جميع الآلهة.»
13
ويهوه نفسه على ما يبدو كان إلها كنعانيا؛ فقد وجدت في أرض كنعان عام 1931م بعض المكتشفات؛ قطع من الخزف من بقايا عصر البرونز، مكتوب عليها اسم إله هو ياه أو ياهو. كما نسمع الإله إيل يقول في بعض ألواح أوغاريت: اسم ابني ياو. وهذا الإله ربما حمله العبرانيون معهم إلى مصر، وعادوا به وقد اختلط بالإله آتون بعد هربهم من هناك، أو طردهم.
14
وفي أسفار التوراة الأولى نجد أن اليهود ينادون إلههم باسم إيل، وهو رب الأرباب عند الكنعانيين والآراميين وإله السماء. نقرأ في سفر التكوين: «وبكر يعقوب في الصباح وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه وأقامه عمودا، وصب زيتا على رأسه، ودعا المكان بيت إيل ... وهذا الحجر الذي أقمته يكون بيت الرب.»
15
وفي مكان آخر نقرأ: «فأتى يعقوب إلى لوز التي في أرض كنعان هو وجميع القوم الذين معه، وبنى هناك مذبحا ودعا المكان بيت إيل؛ لأنه هناك ظهر له الرب حين هرب من وجه أخيه.»
16
هذا ونجد اسم إيل في كثير من أسماء الأعلام اليهودية مثل؛ رعوئيل، إسماعيل، إسرائيل ... إلخ. وهي أسماء مركبة؛ رعو-إيل، إسماع-إيل، إسرا-إيل.
وفي المراحل التالية نجد يهوه ينفصل عن إيل ويحاول انتزاع صفات وسلطات الإله السوري بعل إله المطر والصاعقة والرعود، والإله الأكثر محبة في قلوب السوريين. فالرعد هو صوت بعل الذي يعلن قدومه، والغيوم مركبته التي تقله، والصاعقة سلاحه، والبرق هيبته، والمطر نعمته. هذه الرموز كلها ادعاها يهوه لنفسه: «صوت الرب على المياه، إلى المجد أرعد، الرب فوق المياه الكثيرة، صوت الرب بالجلال.»
17
وأيضا: «الجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح.»
18
فيهوه هنا يتخذ لنفسه صفة أساسية من صفات بعل وهي: راكب الغيوم. وحتى عندما يأتي يهوه لمصارعة التنين والقضاء عليه فإن تنين يهوه هو نفس تنين بعل. نقرأ في ألواح أوغاريت، وفي سفر إشعيا:
النص الأوغاريتي *
سفر إشعيا 27: 1
والآن تريد أن تقتل لوتان
في ذلك اليوم يعاقب الرب
الحية الهاربة
بسيفه القاسي العظيم الشديد
الآن تريد أن تجهز على الحية الملتوية
لوتان الحية الهاربة
شالياط العتية
لوتان الحية المتحوية
ذات الرءوس السبعة
ويقتل التنين الذي في البحر *
النص الأوغاريتي ترجمة أنيس فريحة: أوغاريت، دار النهار، بيروت 1980م، ص156. وقد أرجعت كلمة «لوباثان» في أصلها الأوغاريتي «لوتان» وفق ترجمة غوردن.
ويأتي المزمور 92 بسرد مشابه لسرد النص الأوغاريتي عن صراع بعل ضد أعدائه:
النص الأوغاريتي *
المزمور 92
هو ذا أعداؤك يا بعل
هو ذا أعداؤك يا رب
هو ذا أعداؤك تبيدهم
هو ذا أعداؤك تبيدهم
هو ذا خصومك تفنيهم
يتبدد كل فاعلي الإثم *
C. H. Gordon, Ugarit, Norton Library, New York 1962, p. 48.
وكما تغلب بعل على المياه الأولى يم كذلك يهوه: «أنت متسلط على كبرياء البحر، أنت سحقت رهب مثل القتيل.»
19
وكما طالب بعل ببناء بيت له بعد انتصاره، كذلك يفعل يهوه: «وفي تلك الليلة كان كلام الرب إلى ناثان قائلا، اذهب وقل لعبدي داود، هكذا قال الرب، أأنت تبني لي بيتا لسكناي؛ لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت ببني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسيرا في خيمة؟»
20
وكان اليهود لدى قراءتهم في التوراة يتهيبون لفظ اسم يهوه، فعندما يصلون في قراءتهم للاسم يلفظون بدلا عنه اسم أدوناي وهو من ألقاب بعل، كما أن اسم أدوناي يرد تبادليا مع اسم يهوه في أكثر من موضع في الكتاب المقدس.
وإذا كان يهوه قد حاول التشبه بالآلهة السورية والبابلية، فإنه قد بز قساتهم بما جنته يداه من أعمال الدمار والفتك والقتل. فهو إله حقود لا يكتفي بعقوبة المذنب وحده، بل إنه يتابع انتقامه من ذرية المذنب، ويحل عليهم غضبه وانتقامه: «أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، وفي الجيل الثالث والرابع من الذين يبغضونني.» «وغضبه لا يهدأ إلا بالتضحيات التي تحرق على المذبح ويسر لرائحتها كثيرا.» ويرتب بنو هارون، الكهنة، القطع مع الرأس والشحم فوق النار التي على المذبح. أما أحشاؤه وأكارعه فيغسلها في الماء، ويوقد الكاهن على المذبح محرقة وقود، رائحة سرور للرب:
21 «وتوقد كل الكبش على المذبح، هو محرقة للرب، رائحة سرور، وقود هو للرب.»
22
وغضب يهوه لا يزول بالتضحية الحيوانية فقط، بل لا بد من التضحية الإنسانية أيضا. نقرأ في سفر صموئيل الثاني من العهد القديم ... إن جوعا وقحطا شديدين قد عما البلاد مدة ثلاث سنوات، وكان ذلك أيام الملك داود فيطلب داود وجه الرب، ويفهم منه أنه حاقد من أجل شاول الذي قتل الجبعونيين، فيقوم داود بتقديم سبعة رجال قربانا للرب حتى يهدأ: «وسلمهم إلى يد الجبعونيين، فصلبوهم على الجبل أمام الرب، فسقط السبعة معا، وقتلوا في أيام الحصاد.»
23
ورغم قسوة يهوه وجبروته فإن اليهود لم يتوقفوا عن عبادة آلهة السوريين طيلة تاريخهم؛ فهذا يعقوب نفسه يطلب من أهل بيته أن ينزعوا الآلهة السورية من وسطهم: «فقال يعقوب لبيته ولكل من كان معه: اعزلوا الآلهة الغريبة التي بينكم وتطهروا وأبدلوا ثيابكم ... فأعطوا يعقوب كل الآلهة الغريبة التي بين أيديهم، والأقراط التي في آذانهم، فطمرها يعقوب.»
24
وهؤلاء بنو إسرائيل وموسى بعد بين ظهرانيهم، يتركون يهوه ويتجهون لعبادة بعل: «وتعلق إسرائيل ببعل، فحمي غضب الرب على إسرائيل، فقال الرب لموسى خذ جميع رءوس الشعب وعلقهم للرب مقابل الشمس، فيرتد حمو غضب الرب.»
25
والملك سليمان، أعظم ملوك اليهود قاطبة، كان من عبدة الآلهة السورية: «ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه. فذهب سليمان وراء عشتاروت إله الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين. وعمل سليمان الشر في عيني الرب، ولم يتبع الرب.»
26
وبعد سليمان كان معظم ملوك اليهود يعبدون مع يهوه آلهة سوريين: «وعمل آخاب الشر في عيني الرب أكثر من جميع الذين قبله، وسار وعبد البعل وسجد له، وأقام مذبحا للبعل في بيت البعل الذي بناه بالسامرة.»
27
وهكذا نجد أن مطلب يهوه المتواضع في الوصية الأولى من الوصايا العشر لم يتحقق له، وهو أن يكون مقامه فوق سائر الأرباب. لقد كانت رحلة مضنية، تلك التي مشاها يهوه، عبر تاريخ طويل امتد أكثر من ألف سنة، قبل أن يصبح من خلال الديانة المسيحية إلها واحدا مطلقا. لقد ابتدأ يهوه بداية وثنية متواضعة، ثم شق طريقه بدأب نحو الوحدانية. ولعل علاقته المبكرة مع موسى تظهر تلك البداية المتواضعة. فيهوه لا يدعي العلم المطلق عندما يطلب إلى اليهود أن يميزوا بيوتهم بدهنها بدماء الخرفان المضحاة، فلا يهلكوا مع من يريد إهلاكهم من المصريين: «ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر.»
28
وهو إله متردد يخشى شماتة الناس به وبشعبه، ويستطيع موسى بذكائه أن يدفعه لتغيير رأيه: «إلى متى يهينني هذا الشعب، وحتى متى لا يصدقونني؟ إنني سأضربهم بالوباء، وأبيدهم.» فقال موسى للرب: «فإن قتلت هذا الشعب، يتكلم الشعوب الذين سمعوا بخبرك قائلين لأن الرب الذي لم يقدر أن يدخل هذا الشعب إلى الأرض التي حلف لهم، فقتلهم في القفر. اصفح عن ذنب هذا الشعب، وكما غفرت لهذا الشعب من مصر إلى هنا. فقال الرب قد صفحت حسب قولك.»
29
وهو إله مشخص يمكن رؤيته بالعين المجردة؛ فهذا موسى يلمح قفاه: «فقال أرني مجدك ... فقال الرب هو ذا عندي مكان فتقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي، أني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي، فتنظر إلى ورائي ، وأما وجهي فلا يرى.»
30
وهو بطل يصارع الوحوش والتنانين تماما كآلهة السوريين والبابليين والإغريق: «أنت شققت بعزتك يم
31
وشدخت رءوس التنانين على المياه، أنت رضضت رءوس لوياتان، جعلته مأكلا لزمر القفار.»
32
وقصارى القول إن كتاب التوراة وهو المأثرة الثقافية الوحيدة للشعب اليهودي، قد نشأ وتطور انطلاقا من أرضية ثقافية سورية وبابلية ومصرية. وإن مسيرة الفكر العبراني، في سعيه لبناء ديانة مستقلة، لم تتكلل بالنجاح إلا عن طريق استيعاب وتمثل الديانات السابقة، والآلهة القوية التي لم يستطع يهوه زحزحتها إلا باستعارتها لنفسه.
لقد بدأت المشابهات بين التوراة وآداب الشرق القديم تظهر عندما بدأت الحضارات القديمة للمنطقة تتكشف من تحت التراب بواسطة الحفريات الأثرية التي أحيت آدابا قد فقدت منذ عهد بعيد. إن ضوءا قويا قد سلط الآن على التوراة ومنشئه، وأصبح في وسع القائلين بالمعجزة التوراتية أن يدركوا أن آداب التوراة لم تظهر كاملة النمو، وإنما مدت جذورها عميقا لتشرب نسغ حضارات معاصرة لها وأخرى سابقة عليها. وأن التربة التي أمدت مؤلفي التوراة بمادتهم الأدبية كانت تربة كنعان وآرام وأرض الرافدين. (2-3) أسطورة التكوين التوراتية
لنقرأ الآن أسطورة التكوين التوراتية كما وردت في مطلع كتاب التوراة: سفر التكوين، الإصحاحان الأول والثاني:
الإصحاح الأول: «في البدء خلق الرب السموات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الرب يرف فوق وجه الماء. وقال الرب ليكون نور فكان نور. ورأى الرب النور أنه حسن، وفصل الرب بين النور والظلمة، ودعا الرب النور نهارا والظلمة ليلا، وكان مساء وكان صباح يوما واحدا.
وقال الرب ليكن جلد (قبة السماء) في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه. فعمل الرب الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان ذلك. ودعا الرب الجلد سماء. وكان مساء وكان صباح يوما ثانيا.
وقال الرب لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة، وكان كذلك. ودعا الرب اليابسة أرضا، ومجتمع المياه دعاه بحرا، ورأى الرب ذلك أنه حسن. وقال الرب لتنبت الأرض عشبا وبقلا يبزر بزرا، وشجرا ذا ثمر يعمل ثمرا كجنسه بزره فيه على الأرض، وكان كذلك فأخرجت الأرض بقلا وعشبا وبقلا يبزر بزرا كجنسه، وشجرا يعمل ثمرا بزره فيه كجنسه، ورأى الرب ذلك أنه حسن. وكان مساء وكان صباح يوما ثالثا.
وقال الرب لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل، وتكون أنوارا في جلد السماء لتنير على الأرض، وكان كذلك. فعمل الرب النورين العظيمين، النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل، والنجوم جعلها الرب في جلد السماء لتنير على الأرض. ولتحكم على النهار والليل. ولتفصل بين النور والظلمة، ورأى الرب ذلك أنه حسن. وكان مساء وكان صباح يوما رابعا.
وقال الرب لتفض المياه زحافات ذات نفس حية، وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء. فخلق الرب التنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكل طائر ذي جناح كجنسه، ورأى الرب ذلك أنه حسن. وباركها الرب قائلا أثمري واكثري واملئي المياه في البحار، وليكثر الطير على الأرض. وكان مساء وكان صباح يوما خامسا.
وقال الرب لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها، بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها وجميع دبابات الأرض كأجناسها، ورأى الرب ذلك أنه حسن. وقال الرب نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض. فخلق الرب الإنسان على صورته، على صورة الرب خلقه، ذكرا وأنثى خلقهم. وباركهم الرب وقال لهم أثمروا واكثروا واملئوا الأرض وأخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض. وقال الرب إني أعطيتكم كل بقل يبزر بزرا على وجه الأرض، وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزرا لكم يكون طعاما. ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيت عشبا أخضر طعاما، وكان كذلك. ورأى الرب كل ما عمله فإذا هو حسن جدا، وكان مساء وكان صباح يوما سادسا.»
الإصحاح الثاني: «فأكملت السموات والأرض وكل جندها. وفرغ الرب في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الرب اليوم السابع وقدسه لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الرب خالقا.
هذه مبادئ السموات والأرض حين خلقت، يوم عمل الرب الإله الأرض والسموات، كل شجر البرية، ولم يكن بعد في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد؛ لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان يعمل على الأرض، ثم كان ضباب يطلع من الأرض ويسقي كل وجه الأرض. وجبل الرب آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة الحياة، فصار آدم نفسا حية. وغرس الرب الإله جنة من عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله. وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر. وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس؛ اسم الواحد فيشون، وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد، هناك المقل وحجر الجزع. واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع أرض كوش. واسم النهر الثالث حداقل، وهو الجاري شرقي آشور. والنهر الرابع الفرات. وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها.»
يقتفي التكوين التوراتي أثر أساطير التكوين السومرية والبابلية والكنعانية في خطوطه العامة وفي تفاصيله. فالحالة البدائية السابقة للخلق حالة عماء مائي، وظلمة سرمدية. ومن هذه المياه تم التكوين، حيث يقوم يهوه بتقسيم المياه إلى قسمين؛ رفع الأول إلى السماء، وترك الثاني في الأسفل فصار بحارا منها برزت اليابسة. وعلى هذه اليابسة تابع يهوه أفعاله الخلاقة، فأخرج النبت والمرعى والشجر المثمر، وخلق الحيوان. وفي السماء خلق الشمس والقمر والنجوم، وفي البحر خلق الحيوانات المائية، وفي الجو خلق الطير، وأخيرا خلق الإنسان.
وإذا كان صراع يهوه مع التنين البدئي لم يظهر في هذه الأسطورة كمقدمة للخلق، كما هو الشأن في أسطورة التكوين البابلية، فإن مثل هذا الصراع يظهر في نصوص أخرى تتحدث عن أفعال يهوه الخلاقة. وفيها نجده قبل الخلق وقد انهمك في الصراع مع تنينه لوياتان. من ذلك مثلا المزمور الرابع والسبعون: «أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رءوس التنانين على المياه، أنت رضضت رءوس لوياتان، جعلته طعاما للشعب، لأهل البرية. أنت فجرت عينا وسيلا، أنت يبست أنهارا دائمة الجريان. لك النهار ولك الليل أيضا. أنت هيأت النور والشمس. أنت نصبت كل تخوم الأرض. الصيف والشتاء أنت خلقتهما.»
على أن القراءة المتأنية لنص التكوين التوراتي تظهر لنا تناقضا واضحا في أحداثه. ففي البدء خلق الرب السموات والأرض، ثم نجده يخلقهما مرة ثانية بفصل المياه عن بعضها. ومرة نجده يخلق البشر دفعة واحدة: «ذكرا وأنثى خلقهم وباركهم الرب وقال لهم أثمروا واكثروا واملئوا الأرض»، وفي المرة الأخرى يخلق الرب الإنسان بدءا من زوجين أوليين مقتفيا بذلك أثر الأساطير البابلية والسومرية: «جبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ...» وفي الواقع فإن هذا النص، ونصوصا أخرى كثيرة في التوراة، قد كتبت بعد التوفيق بين روايتين. دعا علماء التوراة الرواية الأولى بالرواية اليهوية، والثانية بالرواية الإلوهيمية. في الرواية الأولى يظهر الإله تحت اسم يهوه، وفي الثانية تحت اسم إيلوهيم.
33
وقد جرى المزج بين الروايتين بعد العودة من الأسر البابلي عام 538ق.م. عندما قام كهنة اليهود بصياغة موحدة لأسفار التوراة. فإذا حللنا رواية التكوين إلى مكوناتها، استطعنا تمييز الروايتين عن بعضهما وفق الآتي:
34 (2-4) النص الإيلوهيمي (1)
الحالة الأولى للكون، عماء مائي. (2)
يعزى الخلق إلى إيلوهيم الذي قام به في ستة أيام منفصلة، في كل يوم عمل. والاسم إيلوهيم يرد في الترجمات العربية بصيغة «الله». (3)
تتسلسل مراحل الخلق وفق الآتي:
النور.
السماء.
اليابسة.
الزرع.
الأجرام السماوية.
الأسماك والطيور.
الحيوانات والبشر رجالا ونساء. (2-5) النص اليهوي (1)
الحالة الأولى للكون قفر وخراب لا حياة فيه ولا زرع ولا ماء. (2)
يعزى الخلق إلى يهوه دون أي تقسيم زمني، والاسم يهوه يرد في الترجمات العربية بصيغة «الرب الإله». (3)
تتسلسل مراحل الخلق وفق الآتي:
الإنسان، آدم من تراب.
جنة في شرقي عدن.
الأشجار من كل نوع بما فيها شجرة المعرفة.
الحيوانات والوحوش والطيور (لا ذكر للأسماك).
المرأة تخلق من الرجل.
هذا ولعل أكثر المشابهات إثارة بين أسطورة التكوين التوراتية وبقية الأساطير في المنطقة، هي المشابهات مع الإينوما إيليش، مما سأتحدث عنه مفصلا فيما يأتي:
الفصل الخامس
ألواح التكوين السبعة وأيام التكوين السبعة
إضافة للاحتكاك الطويل مع الثقافات السورية المجاورة، فإن السبي البابلي قد قدم لليهود فرصة للاطلاع على آداب وديانة وأساطير ثقافة أرض الرافدين. وعندما عادوا إلى أورشليم، وقاموا بتدوين نصوص التوراة المتفرقة في كتاب جامع شامل، دخلت خبراتهم أيام السبي بشكل تلقائي وطبيعي فيما دونوه من نصوص. وكانت الإينوما إيليش، درة الأدب والفكر البابلي، عميقة التأثير فيهم. وسنعرض فيما يأتي أوجه التشابه بين التكوين البابلي والتكوين التوراتي. (1) طبيعة المبدأ الأول
المبدأ الأول في كلا النصين هو المياه. وانطلاقا من هذه المياه البدئية تتم كل عمليات الخلق. وهي أزلية غير مخلوقة؛ ففي النص البابلي هي جسد آلهة ثلاثة؛ أبسو وتعامة وممو، وفي النص التوراتي نجدها إلى جانب الإله دون أن يوضح لنا النص أيهما أقدم. (2) الظلام البدئي
يأتي النصان على ذكر الظلام البدئي، غير أن الإينوما إيليش لا تذكره بوضوح، بل يأتي ذكره صراحة في نص بيريسوس الذي يقول إنه في البدء لم يكن هناك سوى الظلام والماء. (3) الضوء قبل النجوم والأجرام السماوية المشعة
يقول النصان بوجود الضوء واختلاف الليل والنهار قبل خلق الأجرام السماوية؛ فالإينوما إيليش تتحدث عن وجود الأيام والليالي منذ عهد أبسو، عندما كان لا يستطيع النوم ليلا ولا الراحة نهارا، كما أن مردوخ نفسه كان يشع بالنور. وفي الفصل الأول من سفر التكوين يخلق الرب النور ويميز الليل من النهار قبل أن يخلق الأجرام المنيرة والنجوم والكواكب. (4) خلق السماء
يتفق النصان على أن السماء أتت نتيجة فصل المياه الأولى إلى قسمين. ففي النص البابلي يشطر مردوخ تعامة شطرين، ويرفع أحدهما سماء. وفي النص التوراتي: «وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان ذلك . ودعا الرب الجلد سماء.» (5) خلق الأرض
قام مردوخ بقياس أبعاد الأبسو وأقام لنفسه نظيرا له بناء هائلا دعاه عيشارا؛ أي الأرض. ولقد صنع ذلك بنصف تعامة الآخر. كذلك الأمر في سفر التكوين التوراتي، فبعد أن يرفع الرب نصف المياه الأولى إلى الأعلى، تتجمع المياه السفلى إلى جانب مشكلة البحار، وتظهر الأرض منبثقة من تحتها: «وقال الرب لتتجمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة، ودعا الرب اليابسة أرضا، ومجتمع المياه دعا بحرا.» (6) خلق الأجرام المنيرة
بعد أن شكل مردوخ السماء والأرض، التفت إلى خلق الأجرام المضيئة، وقسم الوقت فرسم خط السمت، وحدود السنة، وجزأها إلى أشهر وأيام، وأمر القمر بالسطوع وأوكله بالليل، جعله حلية وزينة ومنظما لشهور السنة، وخلق الشمس محددة لأيام الأرض. وفي سفر التكوين بعد أن ينتهي الرب من تشكيل السماء والأرض: «وقال الرب لتكن أنوار في جلد السماء لتنير على الأرض، وكان كذلك. فعمل الرب النورين العظيمين؛ النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل، والنجوم، وجعلها في جلد السماء لتنير على الأرض.» (7) خلق الحيوانات والنبات
لا تحتوي ملحمة التكوين البابلية في أجزائها المقروءة شيئا عن خلق الحيوان والنبات، ويعتقد أن الأجزاء المفقودة من اللوح الخامس تتحدث عن مثل هذا الخلق. أما النص التوراتي فيتحدث عن خلق الحيوانات في اليوم الخامس. أما نبات الأرض فلم يظهر إلا بظهور الإنسان. (8) خلق الإنسان
تتفق الروايتان على أن خلق الإنسان هو آخر عمل في سلسلة الخلق التي قام بها الإله. كما تتفقان على الأهمية البالغة لهذا العمل؛ ففي بداية اللوح السادس نجد مردوخ وقد حدثته نفسه بخلق أشياء مبدعة. وقد وصف هذا العمل في مكان آخر من اللوح بأنه العمل الذي يسمو على الأفهام. أما أهمية خلق الإنسان في نص التوراة فتظهر في كونه قد خلق على صورة الإله، وأعطي السيطرة على الأرض، وسخرت له حيواناتها ونباتاتها.
وفي نصوص بابلية أخرى تتعلق بالتكوين، وجرى ذكرها سابقا تتحدث الأسطورة عن خلق الإنسان انطلاقا من زوجين أولين، وكذلك الأمر في الرواية التوراتية. وقد تم صنع الإنسان الأول في الأسطورة، إما من دم الإله وحده، وإما من دم الإله ممزوجا بالطين، ثم علقت عليه صورة الآلهة ليأتي على شبهها. وفي الرواية التوراتية يصنع الإنسان من طين على صورة الإله.
هدفت الآلهة البابلية من خلق الإنسان إلى تحميله عبء العمل الذي كان مفروضا على الآلهة. ورغم أن هذا الهدف لا يظهر واضحا في النص التوراتي، إلا أن النتيجة النهائية الأخيرة تتطابق مع غايات الأسطورة البابلية عندما يطرد آدم من الجنة ويفرض عليه العمل كعقوبة: «وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك. وقال لآدم: لأنك سمعت قول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا، حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها؛ لأنك تراب وإلى تراب تعود.»
1
أطلقت الرواية التوراتية على الإنسان الأول اسم آدم، والواقع أن هذه الكلمة أوغاريتية فينيقية وتعني البشر أو الإنسان.
2
وقد وردت هذه الكلمة في عدة نصوص أوغاريتية ومنها ملحمة كرت، عندما يظهر الإله إيل للملك كرت في الحلم: «وبينما هو يبكي وقع في غفوة،
بينما هو يذرف الدموع غلبه النعاس.
نعم لقد غلب كرت النعاس،
وغاب في سبات عميق،
ولكنه ما لبث أن أجفل؛
إذ ظهر له في الحلم إيل،
في رؤاه ظهر أبو آدم».
وكاختصار لما سبق نضع تسلسل الخلق في كلا النصين جنبا إلى جنب:
الإينوما إيليش
سفر التكوين (1) العماء الأول تعامة. (1) الظلام يغلف المياه
الماء المالح وزوجها.
الأولى، وروح الرب
الماء الحلو، يحيط بهما ظلام.
يرف فوق المياه. (2) النور يشع ويتولد من الآلهة. (2) خلق النور. (3) خلق السماء. (3) خلق السماء. (4) خلق الأرض. (4) خلق الأرض. (5) خلق الأجرام السماوية. (5) خلق الأجرام السماوية. (6) خلق الإنسان. (6) خلق الإنسان. (7) مردوخ ينتهي من الخلق والآلهة تحتفل به . (7) يهوه يستريح. (9) تفسيرات حول تشابه النصين (1)
التفسير الأول: النص البابلي قد اعتمد على النص التوراتي. وهذا بعيد الاحتمال لأسبقية الإينوما إيليش على أية نصوص مدونة للتوراة؛ فتاريخ تدوين الملحمة البابلية يعود إلى تاريخ قديم، حدده دارسوها بحوالي 1800 قبل الميلاد؛ أي قبل ولادة موسى بأربعة أو خمسة قرون. ولا شك أن أصولها ترجع إلى مصادر موغلة في القدم. أما التوراة العبرانية فقد دونت أقدم أسفارها وهي أسفار موسى الخمسة بعد العودة من الأسر البابلي في القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد. ولم يقر النص النهائي للتوراة إلا في القرن الأول قبل الميلاد. وقد علقت مصادر دينية مسئولة على هذا التشابه في بعض المناسبات بقولها إن موسى قد استعمل وثائق مخطوطة وتقاليد شفوية سابقة، ونقل ما يوافق الغاية التي استهدفها بإلهام الروح القدس. (2)
التفسير الثاني: النص التوراتي قد اعتمد النص البابلي. وهناك الكثير من المسوغات التاريخية التي تدعم هذا الرأي؛ فاللغة البابلية قد شاعت في المنطقة وانتشرت غربا حتى الساحل السوري، وشمالا حتى آسيا الصغرى، وذلك منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. فقد تم العثور في خرائب عاصمة الحثيين على نصوص أدبية بابلية مكتوبة باللغتين الحثية والبابلية، منها أجزاء ألواح تحتوي على مقاطع من ملحمة جلجامش. كما تم العثور في خرائب تل العمارنة في مصر على مراسلات بين ملوك فينيقيا وملوك مصر باللغة البابلية، مما يدل على أن اللغة البابلية قد غدت، في زمن ما، حوالي منتصف الألف الثاني، لغة الدبلوماسية في المنطقة. كما عثر في تل العمارنة أيضا على نصوص من الأساطير البابلية، كأسطورة آدابا، وأسطورة ملكة العالم الأسفل، وقد كتبت بلغة بابلية وبطريقة أقرب للتمارين المدرسية. ويغلب الظن أنها كانت تستعمل لتدريس اللغة.
وهكذا نرى أن العبرانيين كانوا معرضين للاطلاع على الأدب البابلي في أماكن مختلفة وأزمنة مختلفة. ولكن أفضل مكان وأنسب زمان لمثل هذا الاطلاع كان إبان الأسر البابلي خلال القرن السادس قبل الميلاد. ومن ناحية أخرى إذا أردنا أن نعتبر إبراهيم، الجد الأول، شخصية تاريخية، وهذا ما لم تثبت عليه بينة حتى الآن، فإننا نستطيع متابعة التأثر إلى تاريخ أبعد، إلى أوائل الألف الثاني، عندما هاجر إبراهيم من أرض الرافدين حاملا معه تقاليد دينية بابلية. (3)
التفسير الثالث: اعتمد النصان نصا أقدم، وتقاليد دينية أعرق، وربما متح الفكران، البابلي والعبراني، من ديانة توحيدية قديمة بقيت آثارها في العقائد اللاحقة.
سفر الطوفان
قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل .
قرآن كريم: سورة هود: 7 «وقال الرب لنوح ادخل السفينة أنت وجميع أهلك فإني إياك رأيت بارا أمامي في هذا الجبل.»
العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح السابع 1 «قوض بيتك وابن سفينة. اهجر ممتلكاتك، وانج بنفسك، اترك متاعك وأنقذ حياتك. واحمل فيها بذرة كل ذي حياة.»
أسطورة بابلية
بعد فترة ليست بالطويلة من خلق العالم وظهور الحياة، تكتشف الآلهة أن الإنسان لم يحقق تماما الغاية التي من أجلها قد خلق، وأنه قد عاث في الأرض التي استخلف فيها فسادا وسفك الدماء. فتقرر إفناء الحياة على الأرض، وغسلها بطوفان شامل، تبدأ بعده تاريخا جديدا. ولكن الإنسان خلال عهده القصير على الأرض قد حقق بعض غاياته، وترك منجزات حضارية وثقافية لا يستهان بها؛ ولذا لا بد من الحفاظ على ذلك الجزء الصالح ونقله للعالم الجديد ليكون أساس البناء الثاني. ولن يتسنى ذلك إلا بإنقاذ مجموعة صغيرة من البشر، تحمل معها منجزات العمل الإنساني لتبدأ منها عهدا ثانيا، على أرض تطهرت من فساد الأجيال السالفة. ويقود ملحمة النجاة هذه رجل حكيم صالح تختاره الآلهة لهذه المهمة الفريدة، وتوكل إليه مهمة بناء سفينة هائلة، يحمل فيها أهله والمقربين إليه من الصالحين، ومن كل زوجين من الحيوانات اثنين. فيقلع بها عند اندياح الطوفان وقد حمل فيها من المؤن ما يكفي. وعند جفاف المياه يطلق حيواناته للجهات فتملأ الأرض مرة ثانية، ويؤسس بمن تبقى من البشر حضارة جديدة.
تتكرر هذه الخطوط العريضة للأسطورة، مع بعض التنويعات، لدى السومريين والبابليين والعبرانيين. ومع السفن الفينيقية تنتقل إلى اليونان ، فتروي لنا الأسطورة الإغريقية
1
أن كبير آلهة الأوليمب «زيوس» قرر تدمير الحياة على الأرض ، فأرسل طوفانا عارما استمر تسعة أيام قضى على الناس أجمعين إلا رجلا وامرأة هما ديكليون وزوجته فرحة، طافا بسفينة استقرت بهما على قمة جبل البرناس. وقد رأى زيوس، بعد ذلك، أن يسرع بإعادة الحياة إلى الأرض، فأمر الزوجين أن يقوما برمي الأحجار الصغيرة خلفهما، فتحولت هذه الأحجار إلى مخلوقات حية.
ومن المثير للتأمل أن أسطورة الدمار الشامل شائعة في أماكن متفرقة من العالم، وبين شعوب لا يربط بينها مكان أو زمان؛ ففي بوليفيا نجد لدى السكان الأصليين أسطورة عن دمار العالم بواسطة نار سماوية
2
قضت على جميع مظاهر الحياة عدا رجل واحد لجأ إلى كهف حريز، وتزود بالماء والمؤن الكافية، وبين الفينة والأخرى كان يمد عصا طويلة من ثقب صغير في باب كهفه، فتعود العصا مسودة ساخنة، فيعرف أن النار ما زالت ملتهبة في الخارج. إلى أن مدها مرة فعادت باردة، فعرف أن طوفان النار قد انحسر عن الأرض، ففتح باب كهفه ليرى الأرض محروقة موحشة، وأنه الكائن الوحيد على سطحها.
وفي نيوزيلاندا أسطورة عن حريق يلتهم الأرض؛
3
فقد قام أحد الأبطال من البشر بسرقة النار السماوية والفرار بها إلى الأرض، بعد أن قضى على العملاق حارس النار وسلبه الشعلة المقدسة وحملها إلى قومه. ولكنه لجدة عهده بها يسقطها من يده، فينسكب لهيبها ويطغى على الأرض. يرفع الرجل صلاته مستنجدا بإله المطر الذي يحاول إطفاء النار ولكن عبثا. ثم يلجأ لإله العواصف والأعاصير فلا يستطيع حيال النار شيئا، فتتابع التهامها للأرض والبحر على السواء. إلى أن يجتمع الآلهة فيسلطوا فيضاناتهم التي تغمر العالم وتطفئ النار. تذكرنا هذه الأسطورة بقصة بروميثيوس اليوناني، الذي سرق النار الإلهية من السماء، وما تبع ذلك من كوارث حلت بالبشر.
ولدى هنود كاليفورنيا أسطورة مماثلة؛ حيث يقوم أحد الأبطال بسرقة النار من السماء، ولكنها تقع من يده وتحرق العالم. وتتناقل قبائل البرازيل حكاية طوفان عظيم، وكذلك قبائل غينيا البريطانية، وأمريكا الوسطى الشمالية ، وبعض القبائل الأوروبية قبل اعتناقها المسيحية. وفي أسطورة هندية أن فيضانا غمر العالم ولم ينج منه سوى رجل وامرأة كانا على أعلى قمة. وبعد انحسار الفيضان جعلا يرتجفان من البرد، فعطف عليهما أهل القمر وأرسلوا لهما نارا ليتدفآ.
4
إن شيوع أساطير الطوفان والدمار الشامل في جميع أنحاء العالم يثير مسائل شتى تتعلق بتفسير هذا النوع من الأساطير وبواعث نشأتها. فهل تنقل لنا هذه الروايات المرعبة أحداثا تاريخية وقعت في أزمان سحيقة قبل التاريخ المكتوب، وترسخت في ذاكرة البشر؟ إن هذا التفسير رغم جاذبيته لا تؤكده الدراسات الجيولوجية والأركيولوجية حتى الآن. أم هل تشف هذه الأساطير عن حقائق نفسية ونوازع خافية باطنة؟ هل هي طغيان النزعات التدميرية الكامنة في لا شعور البشر ورغبة لا واعية في تدمير الذات؟ هل هي إحساس عارم بالإحباط من حضارة تسير دوما في اتجاه مخالف لسعادة الإنسان، حضارة يجب تدميرها كلما أحكمت حلقاتها وضيقت خناقها على صانعيها؟
الفصل الأول
الطوفان السومري
تؤسس الأسطورة السومرية لأقاصيص الطوفان التي شاعت في المنطقة، كما أسست من قبل أقاصيص التكوين؛ فنص الطوفان، الذي تم العثور عليه في خرائب مدينة نفر السومرية، يقدم لنا الخطوط العريضة لكل أساطير الطوفان اللاحقة في بابل وسوريا وبلاد الإغريق، وفي كتاب التوراة. وذلك رغم الحالة السيئة التي وجد عليها اللوح الفخاري الحاوي على الأسطورة، ورغم تشوه النص ونقصه في معظم مواضعه. وتتلخص الخطوط العريضة للأسطورة في ثلاث نقاط تتكرر كلها، مع بعض التنويعات، في بقية الأساطير اللاحقة: (1)
قرار إلهي بدمار الأرض بواسطة طوفان شامل. (2)
اختيار واحد من البشر لإنقاذ مجموعة صغيرة من البشر وعدد محدود من الحيوانات. (3)
انتهاء الطوفان واستمرار الحياة من جديد بواسطة من نجا من الإنسان والحيوان.
يمنع النقص الحاصل في بداية النص من حصولنا على فكرة واضحة عن مطلع الأسطورة. وما إن يصبح النص واضحا حتى يبدأ الحديث عن خلق الإنسان وظهور خمس مدن إلى الوجود هي: إريدو، باديتيرا، لاراك، شروباك. وهي من أوائل المراكز الحضارية السومرية. بعد توزيع هذه المدن على مجموعة من الأبطال والملوك، يتشوه النص ويغيب معناه. وعندما يبدأ اللوح، نجد الآلهة وقد قررت إفناء البشر بواسطة طوفان يغمر الأرض. إلا أن بعض الآلهة تظهر عدم رضائها عن ذلك القرار؛ فهذه إنانا إلهة الحب والخصب تنوح وتبكي مصير البشر المفجع، وهذا إنكي إله الحكمة يخرج عن إجماع الآلهة ويأخذ على عاتقه إنقاذ بذرة الحياة على الأرض. يتصل إنكي بالملك زيوسودرا، وكان إنسانا تقيا صالحا، فيحدثه من وراء حجاب، كاشفا له نوايا الآلهة، شارحا له خطته لإنقاذ الحياة، والتي تتلخص في قيام زيوسودرا ببناء سفينة كبيرة لحمل الزمرة الصالحة من البشر وبعض الحيوانات. ورغم من أن المقاطع الواضحة من النص لا تشير إلى بناء سفينة، وهوية الناجين وعدد الحيوانات، إلا أن المقاطع الباقية تصف لنا السفينة أثناء الطوفان، وتحدثنا عن قيام زيوسودرا بذبح ثور وكبش قربانا للآلهة بعد نجاته. وهذا يدل على أنه حمل معه في السفينة بعض الحيوانات. وبعد انتهاء الطوفان يكافأ زيوسودرا على عمله بإعطائه نعمة الخلود وإسكانه في أرض دلمون، جنة السومريين. وهذه ترجمة للمقاطع الواضحة من الأسطورة:
1 «في ذلك الحين بكت ننتو
2
كامرأة في المخاض،
وإنانا المقدسة ناحت على شعبها.
إنكي فكر مليا، وقلب الأمر على وجهه.
آنو وإنليل وإنكي وننخرساج [...]
آلهة الأرض وآلهة السماء دعوا باسم آنو وإنليل.
في تلك الأيام زيوسودرا كان ملكا وقيما على المعبد،
قام بتقديم [قربان] عظيم،
وجعل يسجد بخضوع [ويركع] بخشوع،
ودونما كلل توجه للآلهة [في المعبد].
فرأى في أحد الأيام حلما لم ير له مثيلا،
الإله [...] جدار [...]».
وعندما وقف زيوسودرا قرب الجدار سمع صوتا: «قف قرب الجدار على يساري واسمع،
سأقول كلاما فاتبع كلامي،
أعط أذنا صاغية لوصاياي.
إنا مرسلون طوفانا من المطر [...]
فيقضي على بني الإنسان [...]،
ذلك حكم وقضاء من مجمع الآلهة،
أمر آنو وإنليل، [فنضع حدا] لملكوت البشر.»
يتبع ذلك تشوه في النص، إلا أن المفقود يصف ولا شك تعليمات الإله حول بناء السفينة ومواصفاتها ونوعية ركابها، ثم قيام زيوسودرا ببنائها. وعندما يتضح النص للقراءة نجد أنفسنا وسط الطوفان:
هبت العاصفة كلها دفعة واحدة،
ومعها انداحت سيول الطوفان فوق [وجه الأرض ]،
ولسبعة أيام وسبع ليال
غمرت سيول الأمطار وجه الأرض،
ودفعت العواصف المركب العملاق فوق المياه العظيمة.
ثم ظهر أوتو
3
ناشرا ضوءه في السماء على الأرض.
فتح زيوسودرا كوة في المركب الكبير،
تاركا أشعة البطل أوتو تدخل منها.
زيوسودرا الملك
خر ساجدا أمام أوتو،
ونحر ثورا وقدم ذبيحة من غنم.
يعود النص للتشوه مرة أخرى. ومن المحتمل أن يكون الجزء الناقص هنا يتحدث عن جفاف المياه وهبوط السفينة على الأرض الجافة وحضور بقية الآلهة وسرورهم بنجاة الحياة من الدمار الكامل، والإنعام على بطل الطوفان بالحياة السرمدية في أرض دلمون:
زيوسودرا الملك،
سجد أمام آنو وإنليل،
ومثل إله وهباه حياة أبدية،
ومثل إله وهباه روحا خالدة،
عند ذلك زيوسودرا، الملك،
دعي باسم حافظ بذرة الحياة،
وفي أرض [...] أرض دلمون
حيث تشرق الشمس، أسكناه.
ودلمون، جنة السومريين، ليست مكانا لأرواح الصالحين؛ لأن الحياة الأخرى لم تكن معروفة لدى السومريين، وحالة الموت هي حالة أبدية يدخلها كل البشر بصرف النظر عما قدمت أيديهم في الحياة الدنيا، حيث يدلفون إلى العالم الأسفل، عالم الظلمة الأبدية، في استمرارية ليست بالحياة وليست بفقدان الحواس والشعور والإدراك. وسنبحث هذه النقطة في باب العالم الأسفل لاحقا. أما الجنة فهي مرتع الآلهة، وقلة قليلة من البشر الذين أنعم عليهم بالخلود. نقرأ عنها في لوح آخر وصفا حيا؛ فهي مكان طاهر نظيف ومضيء، حيث لا تنعق الغربان ولا تصرخ الشوحة، ولا يفترس الأسد ولا الذئب، حيث لا تلتهم الحيوانات الزرع، ولا يعرف أحد الآلام والمرض والعجز والشيخوخة، حيث لا مكان للحزن والبكاء.
4
الفصل الثاني
الطوفان البابلي
كما فعل البابليون في رائعتهم الأولى «الإينوما إيليش» فعلوا في رائعتهم الثانية «ملحمة جلجامش»؛ فملحمة جلجامش هي نص أدبي رفيع يؤلف بين مجموعة نصوص سومرية قديمة تتحدث عن بطل سومري حكم الفترة النضرة الأولى التالية للطوفان. فكانت تلك الأقاصيص السومرية نواة بنت عليها العبقرية الأدبية البابلية درة من درر الأدب القديم ، وحملتها الكثير من تصورات الثقافة البابلية، الفكرية والدينية والفلسفية. وإلى جانب نصوص جلجامش السومرية ، استفاد البابليون من نص الطوفان السومري فأدخلوه في سياق الملحمة التي جاءت نسيجا متميزا في معانيها ومراميها.
كان نص الطوفان هو أول ما تم اكتشافه من ملحمة جلجامش؛ ففي عام 1872م أعلن عالم الآثار البريطاني جورج سميث عن توصله لحل رموز أحد ألواح مكتبة آشور بانيبال الحاوي على نص عن الطوفان مشابه للنص التوراتي. وقد أثار هذا الإعلان الكثير من الحماس، فتتابعت البعثات الأثرية على المنطقة إلى أن تم الكشف عن ألواح ملحمة جلجامش الاثني عشر، والتي تغطي أسطورة الطوفان معظم اللوح الحادي عشر منها. ورغم أن قصة الطوفان تبدو للوهلة الأولى وقد أقحمت على أحداث الملحمة، إلا أنها في الواقع قد جاءت في انسجام تام مع الإيقاع المأسوي للملحمة، وأضافت إليها أبعادا ومعاني خاصة، مؤكدة أن الخلود سراب لن يناله أحد من البشر.
جلجامش هو بطل مدينة أوروك وملكها، ثلثه إله، وثلثاه بشر. قضى حياته في الصيد واللهو والبطش بالناس، منتشيا بقوته الخرافية وطاقته المتفجرة. ثم يتعرف على أنكيدو، نده، وتغير الصداقة العميقة التي ربطت بينهما مجرى حياته، فيقرر تحويل قواه وطاقاته للعمل المجدي الذي ينفع الناس. يقوم الصديقان بمغامرات عديدة ذات أهداف سامية، إلا أن أنكيدو يموت نتيجة إحدى هذه المغامرات. وهنا يصحو جلجامش على المأساة الحقيقية في حياة البشر ويهيم على وجهه في الصحاري والبراري، تاركا عرشه ومملكته باحثا عن سر الخلود وإكسير الحياة، يدفع به قدر الإنسان الفاني. فهو رغم ثلثه الإلهي، فإن نسبه البشري يشده إلى القدر المشترك لبني الإنسان. وبعد صعاب ومشاق لا يقدر عليها بشر، وصل جلجامش إلى أوتنابشتيم، الإنسان الذي منت عليه الآلهة بالحياة الخالدة؛ ليسأله عن سر الخلود، وكيف الحصول عليه. فيقص عليه أوتنابشتيم قصته مؤكدا أن ما حصل له هو أمر فريد لن يتكرر بسهولة لأحد من الناس، ويكشف له خبايا وأسرار واقعة الطوفان الكبير:
1
قال جلجامش لأوتنابشتيم البعيد:
أنظر إليك يا أوتنابشتيم،
فأرى شكلك الرقيق لا يختلف عن شكلي.
نعم، إنك لا تختلف عني في شيء،
لقد صورتك في نفسي كبطل على أهبة القتال،
ولكن ها أنت مستلق بتراخ أو متكئ.
أخبرني كيف حصلت على رفقة الآلهة ونلت الخلود؟
فقال أوتنابشتيم لجلجامش:
جلجامش، سأكشف لك أمرا كان مخبوءا،
وأبوح لك بسر من أسرار الآلهة،
شوريباك مدينة أنت تعرفها،
تقع على شاطئ نهر الفرات،
لقد شاخت المدينة والآلهة في وسطها،
فحدثتهم نفوسهم أن يرسلوا طوفانا.
كان هناك آنو أبوهم،
كما كان إنليل مستشارهم،
وننورتا ممثلهم،
وإينوجي وزيرهم،
وننجيكو الذي هو إيا كان حاضرا أيضا،
فنقل حديثهم إلى كوخ القصب:
2 «يا كوخ القصب، يا كوخ القصب، جدار يا جدار،
أصغ يا كوخ القصب، وتفكر يا جدار،
3
رجل شوريباك يا بن أوبارا-توتو،
قوض بيتك وابن سفينة،
اهجر ممتلكاتك وانج بنفسك،
اترك متاعك وأنقذ حياتك،
اعمل على حمل بذرة كل ذي حياة،
والسفينة التي أنت بانيها،
ستكون وفقا لمقاسات مضبوطة،
فيكون عرضها معادلا لطولها،
وغطها كما هي المياه السفلى».
عندما فهمت ذلك قلت لإيا مولاي، [سأضع نصب عيني] ما قد أمرتني به،
وأعمل على تنفيذه، [ولكن بماذا] أجيب المدينة والناس والشيوخ؟
ففتح إيا فمه وقال
متوجها بالحديث إلي أنا خادمه: «إليك ما ستقوله لهم:
لقد علمت أن إنليل يكرهني،
وعلي بعد الآن ألا أبقى في مدينتكم،
وألا أدير وجهي نحو أرض إنليل.
سأهبط إلى أبسو أعيش مع مولاي إيا.
أما أنتم فسينزل عليكم مطر وافر، [...] من الطيور ... من الأسماك، [...] غلال الحصاد،
وفي المساء رب العاصفة،
سينزل عليكم خيراته مطرا من القمح».
4
وما إن [لاح أول قبس من نور الصباح]
حتى تجمع الناس حولي، [...] (سطران مشوهان)
جلب الأطفال القار، [بينما] جلب الكبار [كل ذي] فائدة،
وفي اليوم الخامس أنهيت هيكل [السفينة].
كانت أرضيتها إيكو
5
واحد، وارتفاع جدرانها مائة،
وطول كل جانب من جوانب سطحها مائة وعشرون ذراعا.
6
حددت شكلها الخارجي وشكلته،
وستة سطوح سفلية بنيت فيها،
وبذلك قسمتها لسبعة طوابق،
كما قمت بتقسيم أرضيتها لتسعة أقسام،
وثبت على جوانبها مصدات المياه.
زودتها بالمؤن والذخيرة،
وسكبت في القرن ست وزنات من القار،
وثلاث وزنات من الأسفلت،
ثلاث وزنات من الزيت أتى بها حاملو السلال،
واحدة استهلكها نقع مصدات المياه،
واثنتان قام ملاح السفينة بخزنها.
ذبحت للناس عجولا،
ورحت أنحر الخراف كل يوم.
عصير العنب والخمر الأحمر والزيت والخمر الأبيض،
أعطيت الصناع فشربوا كما من نهر ماء،
واحتفلوا كأعياد رأس السنة.
و[...] المرهم وضعت يدي. [...] أضحت السفينة جاهزة. [...] كان صعبا للغاية. [...] من فوق ومن تحت. [...] ثلثاها.
حملت إليها كل ما أملكه.
كل ما أملكه من فضة حملت إليها.
كل ما أملك من ذهب حملت إليها.
كل ما لدي من بذور، كل شيء حي حملت إليها،
وبعد أن أدخلت إليها أهلي وأقاربي جميعا،
وطرائد البرية ووحوشها وكل أصحاب الحرف،
عين لي الإله شمش وقتا محددا: «عندما يرسل سيد العاصفة
7
مطرا مدمرا في المساء،
ادخل الفلك وأغلق عليك بابك».
وما إن أزف الموعد،
حتى أرسل سيد العاصفة مطرا مدمرا في المساء.
قلبت وجهي في السماء. كان الجو مرعبا للنظر.
دخلت السفينة وأغلقت علي بابي،
أسلمت قيادها للملاح بوزور-آموري،
أسلمته الهيكل العظيم بكل ما فيه.
وما إن لاحت تباشير الصباح،
حتى علت الأفق غيمة كبيرة سوداء،
يجلجل في وسطها صوت حدد
8
ويسبقها شوللات وخانيش.
9
اقتلع أريجال
10
الدعائم،
وقام ننورتا بفتح السدود.
رفع الأنوناكي مشاعلهم
حتى أضاءت الأرض ببريقها.
إلا أن ثورة حدد بلغت حدود السماء،
أحالت إلى ظلمة ما كان مضيئا،
وقام بتحطيم الأرض كما تحطمت الجرة.
عصفت الريح العاتية يوما كاملا،
بعنف عصفت و[...]
أتت على الناس وحصدتهم كما الحرب،
حتى عمي الأخ عن أخيه،
وبات أهل السماء لا يرون أهل الأرض.
حتى الآلهة ذعروا من هول الطوفان،
وهربوا صاعدين إلى سماء آنو.
11
انكمشوا كالكلاب الخائفة وربضوا في أسى.
صرخت عشتار كامرأة في المخاض.
ناحت سيدة الآلهة ذات الصوت العذب: «لقد آلت إلى طين تلك الأيام القديمة؛
ذلك بأنني نطقت بالشر في مجمع الآلهة،
فكيف استطعت أن آمر بمثل هذا الشر؟
كيف استطعت أن آمر بالحرب لتدمير شعبي،
تدمير من أعطيتهم أنا الميلاد؟
وها هم يملئون اليم كصغار السمك.»
وبكى معها آلهة الأنوناكي.
جلسوا يندبون وينوحون،
وقد غطوا أفواههم.
ستة أيام وست ليال،
والرياح تهب، والعاصفة وسيول المطر تطغى على الأرض.
ومع حلول اليوم السابع، العاصفة والطوفان،
خففت من وطأتها وكانت قبل كأنها الجيوش المحاربة.
وأخذ البحر يهدأ والعاصفة تسكن، والطوفان يتوقف.
فتحت نافذة، فوقع النور على وجهي.
نظرت إلى البحر. كان الهدوء شاملا،
وقد عاد البشر إلى الطين.
كان ال[...] بمحاذاة السقف.
جلست وانحنيت أبكي،
وانسالت دموعي على وجهي،
ثم نهضت وتطلعت في كل الاتجاهات،
مستطلعا حدود البحر.
على بعد اثنتي عشرة ساعة مضاعفة، انبثقت قطع من الأرض،
واستقرت السفينة على جبل (نصير).
أمسك الجبل بالسفينة ومنعها من الحركة.
ومضى اليوم الأول والثاني والجبل ممسك بالسفينة.
ومضى اليوم الثالث والرابع والجبل ممسك بالسفينة.
ومضى اليوم الخامس والسادس والجبل ممسك بالسفينة.
وعندما حل اليوم السابع،
أتيت بحمامة وأطلقتها في السماء.
طارت الحمامة بعيدا وما لبثت أن عادت إلي.
لم تجد مستقرا فآبت.
فأتيت بسنونو وأطلقته في السماء،
طار بعيدا وما لبث أن عاد إلي.
لم يجد موطئا لقدميه فآب،
ثم أتيت بغراب وأطلقته في السماء،
فطار الغراب بعيدا، ولما رأى أن الماء قد انحسر،
أكل وحام وحط ولم يعد.
عند ذلك أطلقت الجميع للجهات الأربع وقدمت أضحية.
سكبت خمر القربان على قمة الجبل.
أقمت سبعة قدور وسبعة أخر،
وجمعت تحتها قصب السكر الحلو وخشب الأرز والآس.
فتشمم الآلهة الرائحة الذكية،
تجمعوا على الأضحية كالذباب،
وعندما وصلت الآلهة العظيمة، (عشتار)،
رفعت عقدها الكريم الذي صنعه آنو وفق رغباتها وقالت: «أيها الآلهة الحاضرون. كما لا أنسى هذا العقد اللازوردي
الذي يزين عنقي،
فإنني لن أنسى هذه الأيام قط، وسأذكرها دوما.
تقدموا جميعا وقربوا من الذبيحة،
إلا إنليل وحده لن يقترب؛
لأنه سبب الطوفان دونما ترو،
وأسلم شعبي للدمار.»
وعندما وصل إنليل
ورأى السفينة، انتابه الغيظ الشديد،
واستشاط غضبا من آلهة الإيجيجي.
أنجا أحد من الفانين؟ ألم يكن مقدرا أن يهلكوا جميعا؟
ففتح ننورتا
12
فمه وقال مخاطبا إنليل المحارب: «من يستطيع أن يقوم بأمر دونما إيا،
إن إيا وحده يعي كل الأمور.»
ففتح إيا فمه وقال مخاطبا إنليل المقاتل: «أيها المحارب، أيها الحكيم بين الآلهة.
كيف؟ آه كيف دونما تفكر جلبت هذا الطوفان؟
حمل المذنب ذنبه، والآثم إثمه.
أمهله حتى لا يفنى، ولا تهمله كي لا يفسد.
كنت تستطيع بدل الطوفان أن تسلط الأسود لتنقص عدد البشر.
كنت تستطيع أن تطلق الذئاب فتنقص من تعدادهم،
أو تحدث القحط الذي يهلك البلاد،
أو تأتي بإيرا
13
فيحصد الناس.
ثم إنني لست الذي أفشى سر الآلهة العظام.
لقد أريت أتراحيس
14
حلما فاستشف منه السر.
والآن اعقد أمرك بشأنه.»
فصعد إنليل إلى السفينة،
وأخذ بيدي وأصعدني معه،
كما أصعد زوجتي أيضا وجعلها تركع إلى جواري،
ثم وقف بيننا ولمس جبهتينا مباركا: «ما كنت يا أوتنابشتيم إلا بشرا فانيا،
ولكنك وزوجك منذ الآن ستغدوان مثلنا (خالدين)،
وفي القاصي البعيد عند فم الأنهار ستعيشان.»
ثم أخذوني وأسكنوني في البعيد حيث فم الأنهار.
يعتبر هذا النص أهم نصوص الطوفان في أرض الرافدين؛ وذلك للعثور عليه كاملا دونما نقص أو تشويه، ولدقة تعبيره وجمال أدائه الأدبي، ونصاعة لغته الشعرية. فهو جزء من ملحمة ذائعة الصيت في العالم القديم ترجمت إلى معظم لغات المنطقة القديمة، إلا أنه ليس النص الوحيد؛ فقد وصلتنا أساطير طوفان أخرى من أرض الرافدين سنتعرض لها فيما يأتي في هذا الفصل. (1) نص نيبور
يقدم لنا هذا النص أقدم رواية سامية عن الطوفان؛ فهو يعود إلى الدولة البابلية القديمة. وتم العثور عليه في خرائب مدينة نيبور مكتوبا على لوح آجري تالف ومكسور. ولم تسمح حالة اللوح باستعادة أكثر من بضعة أسطر منه، ولكن هذه الأسطر الباقية تعطي فكرة واضحة عن مضمونه:
15
سأقوم بإفلات [المياه ...] [...] سوف يأخذ الناس أجمعين. [...] قبل أن يحل الطوفان [...] سأسبب الخراب والدمار والفناء. [...] قم ببناء السفينة [...] سيكون هيكلها
سفينة عظيمة، وسيكون اسمها حافظة الحياة. [...] قم بتغطيتها بغطاء متين ،
وإلى السفينة التي صنعت
اجلب وحوش البر وطيور السماء.
إن هذه الأسطر على قلتها تعطينا فكرة واضحة عن مضمون القصة؛ فهناك طوفان قادم، وإله يصطفي أحد البشر لينقذ الحياة، ويأمره ببناء سفينة وحمل أصناف الحيوان إليها. ولا شك أن هذا النص يشكل النواة التي بني عليها نص طوفان جلجامش. (2) ملحمة أتراحيسس
وهي النص البابلي الثالث عن الطوفان، ورغم من أنها وصلتنا موزعة على عدة كسرات ألواح، فإن سياقها العام واضح، ويمكن متابعتها دونما إشكال ولا إبهام. وقد سبق الطوفان في هذه الرواية بالأمراض والأوبئة التي أرسلها إنليل في محاولة للتقليل من تعداد البشر الذين بدأ تكاثرهم وضجيجهم يقض عليه مضجعه ويمنع النوم عن جفونه:
16
لقد عمرت الأرض وتكاثر الناس،
تكاثروا حتى تخمت بهم الأرض كما تتخم الشاة،
وتزايدوا حتى أزعجوا الإله إنليل بتجمعاتهم.
لقد وصل ضجيجهم إليه (في عليائه)،
فقال للآلهة الكبرى:
17 «لقد ازداد صخب البشر
وجعل النوم بعيدا عن عيوني،
فلتقع الأشجار التي تطعمهم،
ولتعو بطونهم طلبا للطعام،
وليمنع حدد في الأعالي مطره عنهم.
وفي الأعماق فلتنضب مياه الينابيع،
وليتوقف سيل المياه من العيون،
ولتهب الرياح [...]
لتحرم السماء من غيومها،
وتبق الأرض دونما مطر،
لتمنع الحقول غلالها،
ولتحجب «نيسابا»
18
صدرها الخصب.» (يتبع ذلك تشويه كبير حتى السطر 387، ثم يتابع النص على الشكل الآتي):
ففتح إنكي فمه
وقال مخاطبا إنليل: «لماذا أمرت [...]؟
سأمد يد المساعدة إلى البشر [...]
والطوفان الذي قد أمرت به.» (مجموعة أسطر مشوهة يصعب ترجمتها يليها مباشرة سطر استدراكي، ثم التذييل المعهود الذي ينهي به النساخ كل لوح.)
فتح أتراحيسس فمه
وقال لمولاه (تذييل): «اللوح الثاني من: عندما الإنسان الإله، مجموع سطوره 439 سطرا.
نسخها: إيليت-إيا النساخ المساعد 28 شباط،
في السنة التي قام بها الملك آميزادوجا بإعادة بناء
دور-أفيزادوجا
عند فم الفرت.» (2-1) الكسرة الثانية (البداية مفقودة)
فتح أتراحيسس فمه وقال لمولاه: «هلا أعطيتني شرحا لأحلامي؟» [...] «حسنا فلتصغ إلي: «اسمع يا جدار،
وتمل كلماتي يا كوخ القصب:
قوض بيتك وابن سفينة،
أهجر ممتلكاتك،
وخلص حياتك،
والسفينة التي أنت بانيها.»» (يتبع ذلك تشويه كبير حتى نهاية الكسرة، حيث نجد التذييل نفسه الذي رأيناه في الكسرة السابقة.) [...] (2-2) الكسرة الثالثة «وفي الوقت المحدد الذي سأعينه لك
ادخل الفلك وأغلق عليك بابك،
احمل إليها الحبوب والمتاع والمواشي،
زوجك وعائلتك وأقرباءك وأصحاب الحرف،
طرائد البرية ووحوشها، وما استطعت من آكلة الأعشاب،
سأدفع بها إليك، وتقبع عند أبوابك تحرسها لك».
فتح أتراحيسس فمه وقال
محدثا إيا مولاه: «لم يسبق لي أن بنيت سفينة،
فهلا رسمت لي شكلا لها على الأرض،
أستعين به على بنائها [...] على الأرض [...]،
ثم إني سأعمل على تنفيذ كل ما أمرتني به.» (البقية مكسورة.) (2-3) الكسرة الرابعة (البداية مفقودة)
وعندما حلت ال[سنة الثانية]،
وتبعتها السنة الثالثة؛
تبدل الناس في [...] سهم.
وعندما حلت السنة الرابعة [...] في ضيق [...] الواسع غدا ضيقا.
وهام الناس في الطرقات باكتئاب.
وعندما حلت السنة الخامسة طرقت البنت باب أمها
19
ولكن الأم لم تفتح لابنتها بابها،
وراقبت البنت ميزان أمها،
وراقبت الأم ميزان ابنتها
20
وعندما حلت السنة السادسة أعدت الابنة لتكون طعاما،
كما هيئ الأطفال ليكونوا طعاما ال[...] مليئا،
وراح البيت [يفترس] البيت الآخر،
وصارت وجوه الناس كوجوه أشباح الموتى. [وعاشوا] بأنفاس خفيضة (مكتومة تكاد لوهنها تتوقف)،
ولكنهم تلقوا رسالة [...] (بقية العمود تالفة، ولكننا نستنتج مما ورد في العمود الثاني أن البشر قد منحوا استراحة مما يعانون فعادت أحوالهم للازدهار، ولكنهم عادوا لإقلاق إنليل من جديد، فشن عليهم حملة جديدة.)
في الأعالي [أمسك حدد أمطاره]،
وفي الأعماق نضبت (الينابيع) ولم تصل المياه لآبارها،
وضن[ت الحقو]ل بخيراتها؛ (لأن) نيسابا قد حجبت صدرها [...]
فاضت السهول بال[ملح ...]
ولم يظهر الزرع ولا أزهر النبت،
واجتاحت الأمراض والأوبئة الناس أجمعين،
أغلقت الأرحام وباتت بلا حبل ولا ولادة. [...]
وعندما حلت السنة الثانية [...] المؤن.
وعندما حلت السنة الثالثة
تغير الناس في [...].
وعندما حلت السنة الرابعة [...] في ضيق [...] الواسع غدا ضيقا،
وهام الناس في الطرقات باكتئاب.
وعندما حلت السنة الخامسة طرقت البنت باب أمها،
ولكن الأم لم تفتح لابنتها بابها،
وراقبت البنت ميزان أمها ،
وراقبت الأم ميزان ابنتها.
وعندما حلت السنة السادسة أعدت الابنة لتكون طعاما،
كما هيئ الأطفال ليكونوا طعاما وكان ال[...] مليئا،
وراح البيت يفترس الآخر،
وصارت وجوه الناس كوجوه أشباح الموتى،
وعاشوا بأنفاس خفيضة (مكتومة تكاد لوهنها تتوقف)،
ولكن أتراحيسس الرجل [الحكيم]
توجه بقلبه [إلى إيا سيده]، [وتكلم] مع إلهه، [وسيده إيا] تكلم معه، [...] باب إلهه،
وإلى جانب النهر أقام سريره، [...] الأمطار [...] (يلي ذلك نقص ولكننا نفهم من سياق ما يأتي أن إيا قد استجاب لأتراحيسس بعد أن أقام هذا إلى جانب النهر يصلي ليكون قريبا من إنكي إله الماء. ولكن الناس عادوا لسابق عهدهم، فعاد إنليل إلى أفانينه في إفنائهم والتقليل من توالدهم.)
بسبب ضوضائهم غدا إنليل منزعجا،
وبسبب ضجيجهم لم يطرق الكرى جفونه،
فعقد إنليل اجتماعا،
وقال للآلهة أبنائه: «عظيمة صارت ضوضاء البشر،
وبسببها أنا منزعج،
وبسببها لا يطرق الكرى جفوني، [...] فلتكن هناك ملاريا،
وبلحظة خاطفة لتضع الأوبئة حدا لضجيجهم،
وتهب عليهم كما العواصف (والأعاصير)
علل وأمراض وأوبئة وحمى.» [...] فكان ملاريا،
وبلحظة خاطفة وضعت الأوبئة حدا لضجيجهم،
وكالعواصف هبت عليهم (وحصدتهم)
علل وأمراض وأوبئة وحمى،
ولكن أتراحيسس توجه بقلبه إلى سيده إيا
وتكلم مع إلهه،
وسيده إيا تكلم معه.
فتح أتراحيسس فمه وقال
مخاطبا إيا سيده: «يا إلهي إن البشر يئنون،
وقد طغى على الأرض غضب الآلهة، [...] وأنت يا من خلقتنا
هلا اجتثثت العلل والأمراض والأوبئة والحمى.»
فتح إيا فمه وقال له لما سمع نداءه: [...] في الأرض [...] وصل لآلهتك [...] [...]
فعقد إنليل اجتماعا وقال للآلهة أبنائه: «[...] لا تضعوهم،
لم ينقص البشر بل ازدادوا عما قبل،
ضوضاؤهم تزعجني (وتؤرقني)،
وضجيجهم يمنع عن عيني الكرى.
لتمنع الشجار عنهم ثمارها،
ولتعو بطونهم طلبا للخضار.
في الأعالي فليمسك حدد مطره عنهم،
وفي الأعماق لتنضب الينابيع ولا تصل المياه لآبارها،
ولتبخل الحقول بخيراتها،
ولتحجب نيسابا صدرها (الخصب) ...
ولتنتج السهول العريضة ملحا.
لا يظهر الزرع ولا يزهر النبت.
ولتعصف الأمراض والأوبئة بالناس أجمعين،
ولتغلق الأرحام فلا حبل ولا ولادة.» (فكان ما قال)
منعت الأشجار ثمارها عن الناس،
وعوت بطونهم طلبا للخضار،
وفي الأعالي أمسك حدد مطره عنهم،
وفي الأعماق نضبت الينابيع ولم تصل المياه لآبارها،
وضنت الحقول بخيراتها،
وحجبت نيسابا صدرها (الخصب)،
وعصفت الأمراض والأوبئة بالناس أجمعين،
وأغلقت الأرحام فلا حبل ولا ولادة.
يلي ذلك نقص. وعندما يكتمل اللوح للقراءة نجد مساعي إنليل في إفناء البشر عن طريق إغلاق الأرحام تبوء بالإخفاق؛ لأن أتراحيسس وآخرين معه يمضون إلى ربة الولادة مامي أو ماما يسترحمونها فتقوم بتجديد الخلق عن طريق أرحام طينية.
والمقطع يشوبه الغموض بعض الشيء. وقد عمدت إلى ترك ترجمة بعض الأسطر للحفاظ على المعنى العام. [...] قبلوا أقدامها
قائلين: إليك ندعو يا خالقة بني الإنسان،
يا سيدة جميع الآلهة،
ومضوا إلى بيت الأقدار،
ننجيكو (الذي هو) إيا وماما الحكيمة ...
وقال إيا [...] بينما يتلو التعويذة ويكررها،
وطلب من مامي أن تتلو التعويذة وهو جالس أمامها.
تلتها ماما وعندما أنهتها
صبتها على (ما جمعه) من طين،
واقتطعت منه أربع عشرة قطعة، فوضعت سبعا على اليمين،
ووضعت سبعا على اليسار، وبينهما أقامت قطعة من الآجر. ...
وفتحت لكل منها سرة (في وسطه)،
سبعة أرحام وسبعة أخر. سبعة أنتجت رجالا،
وسبعة أنتجت نساء.
إلى هنا وينتهي ما وصلنا من ملحمة «أتراحيسس». والواقع أن الصورة التي ظهر بها إنليل لصورة مهولة. وهو وإن وارتبط اسمه بأهم حوادث الدمار والخراب في المنطقة، فإن له جانبا آخر لا علاقة له بالدمار والخراب، بل بالبناء والنظام. وكيف لا وهو الذي أخرج العالم من وسط العماء وخلق الشكل والنظام من لجة الفوضى، وفيما يلي أورد ترتيلة من إحدى الصلوات الكثيرة التي وجدت في تمجيده وتعظيمه باعتباره محور الكون:
لولا إنليل الجبل العظيم
لما بنيت المدن ولا أقيمت المواطن،
ولما شيدت الزرائب والحظائر.
ولما أقيم ملك، ولا ولد كاهن أعظم،
ولما اختير كاهن الماخ ولا الكاهنة العليا ...
ولغدا العمال وليس عليهم رئيس ولا مشرف،
والأنهار لولاه ما جلبت مياهها الفيض والإرواء،
ولولاه ما وضع السمك بيضه في الأهوار،
ولما بنت أطيار السماء أعشاشها في الأرض الواسعة ،
وفي السماء لولاه ما جاءت بمائها السحب العابرة،
ولولاه ما نمت النباتات والأعشاب التي يزهو بها السهل،
وفي الحقل والمرعى ما ازدهرت الغلة الوافرة،
وما أنتجت الأشجار في الغابات ثمارها. (3) نص بيروسوس
قلنا في فصل التكوين أن بيروسوس هو كاهن مردوخ في بابل في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد بعد فتح الإسكندر وطغيان التأثير الهليليني، وقد قام هذا الكاهن بكتابة تاريخ بابل عن طريق جمعه المخطوطات والوثائق المدونة، ونشره باللغة اليونانية عام 275ق.م.، وقلنا إن أعمال هذا الكاتب قد ضاعت كلها. غير أن مقتبسات من تاريخه قد ظهرت في أعمال الكاتب ألكسندر بوليستر في القرن الأول قبل الميلاد. ومن جملة تلك المقتبسات رواية بيروسوس عن الطوفان:
21
بعد موت الملك أرديتيس تولى الحكم بعده ابنه أكسوثروس الذي وقع في عهده الطوفان الكبير. ففي ذات ليلة تجلى كرونوس
22
للملك في الحلم وأنبأه أنه سيقوم في الخامس عشر من شهر تموز بإهلاك الحياة على الأرض بواسطة طوفان مدمر لا يبقي على شيء. ثم أمره أن يشرع بكتابة ألواح عن بداية كل شيء وتطوره ونهايته،
23
وطمر هذه الألواح في سيبارا مدينة إله الشمس. كما أمره أن يبني سفينة ويقلع فيها مع عائلته وأقربائه، وأن يخزن فيها الماء والطعام، ويحمل إليها الحيوانات الحية من كل ما يطير أو يدب على الأرض. فإذا سئل إلى أين يبغي الذهاب عليه أن يقول: «إلى الآلهة لأصلي لها عسى أن تكون رفيقة بالبشر.» صدع بالملك بما أمر وبنى سفينة طولها خمسة (أسناديا)، وعرضها اثنتا (أسناديا)، وملأها وفق المشيئة الإلهية ثم صعد مع زوجه وأولاده والمقربين إليه.
وبعد أن هدأ الطوفان أرسل أكسوثروس بعض الطيور. فلما لم تجد مكانا تهبط إليه أو طعاما تلتقطه عادت إلى السفينة. فانتظر فترة ثم أرسل الطيور مرة أخرى، ولكنها عادت إلى السفينة أيضا وعلى أرجلها آثار من طين. وعندما أطلقها للمرة الثالثة طارت ولم تعد. فعرف أكسوثروس أن الأرض قد انكشفت. وما لبثت السفينة أن استوت على أحد الجبال ولم تعد تتحرك. نزل الملك من السفينة ومعه زوجته وابنته وملاح السفينة، فسجد على الأرض وبنى مذبحا وقدم قربانا للآلهة.
ولما تأخر عن العودة إلى السفينة نزل ساكنوها وبحثوا عنه وعمن رافقه فلم يقفوا لهم على أثر. وبينما هم في حيرة من أمرهم أتاهم صوت من السماء يأمرهم بالتقوى والصلاح، ويخبرهم بأن أكسوثروس رفع إلى الآلهة ليعيش معهم عيشة خالدة لأنه كان تقيا صالحا، كما شاركته في هذه النعمة زوجته وابنته وملاح السفينة. وأخبرهم الصوت أن المكان الذي هبطوا فيه هو إحدى بقاع أرمينيا، وأن عليهم أن يعودوا منه إلى بابل وأن يستعيدوا الألواح المطمورة في سيبار.
وعندما سمع القوم ما قاله لهم الصوت السماوي قاموا بتقديم أضاح للآلهة، ومضوا إلى بابل سيرا على الأقدام. وقبل وصولهم عرجوا إلى حيث الألواح فاسترجعوها، ثم تابعوا فبنوا المدينة من جديد، وأشادوا مدنا كثيرة أخرى، وأقاموا المعابد والهياكل.
الفصل الثالث
الطوفان التوراتي
إذا كان الدارس بحاجة إلى إعمال الفكر ليظهر التشابه القائم بين نصوص التكوين السومرية والبابلية والسورية من جهة، والنص التوراتي من جهة أخرى، فإن نصوص الطوفان تعفيه من كثرة التمحيص والتدقيق والبحث عما خفي من المعاني والرموز. إن التشابه بين النصوص البابلية والنص التوراتي يدعو لكثير من التأمل والتفكير. ومرة ثانية تطرح نفسها، مسألة التفسير، بقوة أكبر. لقد كتب مؤلفو التوراة نص الطوفان معتمدين بشكل واضح على أكثر من نص بابلي، مع بعض التعديل والتغيير، ومعظم التعديلات تتعلق بشخصية الإله الرئيسي في الرواية؛ فبينما تزدحم الرواية البابلية بالآلهة المتناقضة الأهواء والرغبات، يتفرد يهوه بالفعالية الرئيسية في الرواية التوراتية. وفيما عدا ذلك فإن الرواية التوراتية تتبع المخطط العام نفسه الذي أسست له الأسطورة السومرية. وسأعمد بعد سرد النص التوراتي إلى إجراء مقارنة شاملة بين جميع النصوص التي قدمتها. (1) طوفان نوح، سفر التكوين (1-1) الإصحاح السادس «(1) ولما ابتدأ الناس يكثرون على وجه الأرض وولد لهم بنات. (2) رأى بنو الله بنات الناس أنهن حسنات، واتخذوا لهم نساء من جميع من اختاروا. (3) فقال الرب لا تحل روحي على الإنسان أبدا لأنه جسد، وتكون أيامه مائة وعشرين سنة. (4) وكان على الأرض جبابرة في تلك الأيام ، وأيضا بعد أن دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا، أولئك هم الجبابرة المذكورون منذ الدهر. (5) ورأى الرب شر الناس قد كثر على الأرض، وأن كل تصور أفكار قلوبهم إنما هو شر في جميع الأيام. (6) فندم الرب أنه عمل الإنسان على الأرض وتأسف من قلبه. (7) فقال الرب أمحو الإنسان الذي خلقت على وجه الأرض، الإنسان والبهائم والدبابات وطير السماء لأني ندمت على خلقي لهم. (8) أما نوح فنال حظوة في عيني الرب. (9) وهؤلاء مواليد نوح. كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله، وسلك نوح مع الله. (10) وولد نوح ثلاثة بنين ساما وحاما ويافث. (11) وفسدت الأرض أمام الله وملئت جورا. (12) ورأى الله الأرض فإذا هي فسدت؛ لأن كل جسد قد أفسد طريقه إليها. (13) فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي فقد امتلأت الأرض من أيديهم جورا، فها أنا ذا مهلكهم مع الأرض. (14) اصنع لك تابوتا من خشب قطراني، واجعله مساكن، واطله من داخل ومن خارج بالقار. (15) كذا تصنع: ثلاث مائة ذراع طوله، وخمسون ذراعا عرضه، وثلاثون ذراعا سمكه. (16) وتجعل طاقا للتابوت، وإلى قد ذراع تكمله من فوق، واجعل باب التابوت من جانبه، ومساكن سفلى وثواني وثوالث تصنعه. (17) وها أنا ذا آتي بطوفان مياه على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء وكل ما في الأرض يهلك. (18) وأقيم عهدي معك فتدخل التابوت أنت وبنوك وامرأتك ونسوة بنيك معك. (19) ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين، من كل تدخل التابوت لتحيا معك، ذكرا وأنثى تكون. (20) من الطير بأصنافها، ومن البهائم بأصنافها، ومن جميع دبابات الأرض بأصنافها يدخل إليك اثنان من كل لتحيا. (21) وأنت فخذ لك من كل طعام يؤكل وضمه إليك فيكون لك ولهم مأكلا. (22) فعمل نوح بحسب ما أمره به هكذا فعل. (1-2) الإصحاح السابع (1) وقال الله لنوح ادخل التابوت أنت وجميع أهلك، إني إياك رأيت بارا أمامي في هذا الجيل. (2) وخذ من جميع البهائم الطاهرة سبعة سبعة ذكورا وإناثا، ومن البهائم التي ليست طاهرة اثنين ذكرا وأنثى. (3) وخذ أيضا من طير السماء سبعة ذكورا وإناثا ليحيا نسلها على وجه الأرض. (4) إنني بعد سبعة أيام ممطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة، وأمحو كل قائم مما صنعته عن وجه الأرض. (5) فعمل نوح بحسب كل ما أمره الرب به. (6) وكان نوح ابن ست مائة سنة حين كان ماء الطوفان على الأرض. (7) ودخل نوح التابوت هو وبنوه وامرأته ونسوة بنيه معه من ماء الطوفان. (8) ومن البهائم الطاهرة ومن البهائم التي ليست بطاهرة ومن الطير وجميع ما يدب على الأرض. (9) دخل التابوت اثنان اثنان إلى نوح ذكورا وإناثا، كما أمر الله نوحا. (10) وبعد سبعة أيام كانت مياه الطوفان على الأرض. (11) في السنة الستمائة من عمر نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر منه، في ذلك اليوم تفجرت عيون الغمر العظيم وتفتحت كوى السماء. (12) وكان المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. (13) في ذلك اليوم نفسه دخل نوح التابوت هو وسام وحام ويافث بنوه وامرأة نوح وثلاثة نسوة بنيه معهم. (14) هم وجميع الوحوش بأصنافها وجميع البهائم، كل طائر كل ذي جناح. (15) ودخل التابوت إلى نوح اثنان من كل ذي جسد فيه روح حياة. (16) والداخلون دخلوا ذكورا وإناثا من كل ذي جسد كما أمره الله وأغلق الرب عليه. (17) وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض، فكثر الماء وحمل التابوت فارتفع عن الأرض. (18) وكثرت المياه جدا، وتعاظمت على الأرض فسار التابوت على وجه الماء. (19) وكثرت المياه جدا على الأرض فغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت السماء كلها. (20) وعلت المياه خمسة عشر ذراعا على الأرض وتغطت الجبال. (21) هلك كل ذي جسد يدب على الأرض والناس كافة. (22) كل من في أنفه نسمة حياة من كل من في اليبس ماتوا. (23) ومحا الله كل قائم على وجه الأرض من الناس والبهائم والدبابات وطير السماء، فانمحت من الأرض وبقي نوح ومن معه في التابوت فقط. (24) وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوما. (1-3) الإصحاح الثامن (1) وذكر الله نوحا وجميع الوحوش والبهائم التي معه في التابوت، فأرسل الله ريحا على الأرض فتناقصت المياه. (2) وانسدت عيون الغمر وكوى السماء واحتبس المطر من السماء. (3) وكانت المياه تتراجع عن الأرض كلما مرت وعادت ونقصت المياه بعد مائة وخمسين يوما. (4) واستقر التابوت في الشهر السابع في اليوم السابع عشر منه على جبل آراراط. (5) وكانت المياه كلما مرت نقصت إلى الشهر العاشر، وفي أول يوم منه ظهرت رءوس الجبال. (6) وكان بعد أربعين يوما أن فتح نوح كوة التابوت التي صنعها. (7) وأطلق الغراب فخرج وجعل يتردد إلى أن جفت المياه عن الأرض. (8) ثم أطلق الحمامة من عنده لينظر هل غاضت المياه من وجه الأرض. (9) فلم تجد الحمامة مستقرا لرجلها فرجعت إليه إلى التابوت؛ إذ كانت المياه على وجه الأرض كلها، فمد يده فأخذها وأدخلها إلى التابوت. (10) ولبث أيضا سبعة أيام أخر وعاد فأطلق الحمامة من التابوت. (11) فعادت إليه الحمامة وقت العشاء وفي فيها ورقة زيتون خضراء، فعلم نوح أن المياه قد جفت عن الأرض. (12) ولبث أيضا سبعة أيام أخر ثم أطلقها، فلم تعد ترجع إليه أيضا. (13) وكان في سنة إحدى وستمائة في اليوم الأول من الشهر الأول أن جفت المياه عن الأرض، فرفع نوح غطاء التابوت ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف. (14) وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين منه جفت الأرض. (15) فخاطب الله نوحا قائلا. (16) اخرج من التابوت أنت وامرأتك وبنوك ونسوة بنيك معك. (17) وجميع الوحوش التي معك من كل ذي جسد من الطير والبهائم وسائر الدبيب الساعي على الأرض، أخرجهن معك ليتوالدوا في الأرض وينموا ويكثروا عليها. (18) فخرج نوح وبنوه وامرأته ونسوة بنيه معه. (19) وجميع الوحوش والدبابات والطيور وكل ما يدب على الأرض بأصنافها خرجت من التابوت. (20) وبنى نوح مذبحا للرب وأخذ جميع البهائم الطاهرة ومن جميع الطير الطاهرة فأصعد محرقات المذبح. (21) فتنسم الرب رائحة الرضا، وقال الرب في نفسه لا أعيد لعن الأرض أيضا بسبب الإنسان بما تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته، ولا أعود أهلك كل حي كما صنعت. (22) وأبدا ما دامت الأرض فالزرع والحصاد والبر والحر والصيف والشتاء والنهار والليل لا تبطل.»
وكما رأينا في أسطورة التكوين التوراتية فإن قصة الطوفان تقدم لنا أيضا فرصة لملاحظة النسج الذي قام به كتاب التوراة، بعد العودة من الأسر في بابل لنوعين من النصوص التوراتية؛ الأول ويظهر الرب فيه تحت اسم يهوه، والثاني تحت اسم إيلوهيم. ولذا دعونا النصوص الأولى باليهوية والثانية الإيلوهيمية.
إن قراءة الطوفان التوراتي دون أخذ هذه المسألة بعين الاعتبار توقع القارئ في حيرة لما في الحوادث من تناقض؛ لأن مؤلفي التوراة قد جعلوا النصين يتداخلان مع بعضهما دونما التفات لإلغاء التناقضات بينهما. ولإيضاح ذلك لا بد من العودة إلى النص مرة أخرى؛ لإيراد أوضح النقاط التي يبدو التعارض فيها محيرا للوهلة الأولى.
ورد في الإصحاح السادس: 19-20: «ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل التابوت لتحيا معك، ذكرا وأنثى تكون. من الطير بأصنافها ومن البهائم بأصنافها ومن جميع دبابات الأرض بأصنافها يدخل إليك اثنان من كل لتحيا.» أما في الإصحاح السابع: 2-3 فنقرأ: «وخذ من جميع البهائم الطاهرة سبعة سبعة، ذكورا وإناثا. ومن البهائم التي ليست طاهرة اثنين ذكرا وأنثى.» إن الفقرتين تطرحان تعليمات متناقضة تماما. في الأولى يتوجب على نوح أن يحمل من الحيوانات والطيور والدبابات اثنين بصرف النظر عن نوعها أو طهارتها، أما في الفقرة الثانية فعدد الحيوانات المحمولة يتوقف على نوعها وطهارتها.
وفي الإصحاح السابع، 12: «وكان المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة.» وفي الإصحاح نفسه، 17: «وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض.» وفي الإصحاح الثامن، 3: «ونقصت المياه بعد مائة وخمسين يوما.» وفي الإصحاح نفسه، 6: «وكان بعد أربعين يوما أن فتح نوح كوة التابوت التي صنعها وأطلق الغراب لينظر هل غاضت المياه عن وجه الأرض.» هنا أيضا نواجه بروايتين؛ الأولى تجعل مدة الطوفان مائة وخمسين يوما وانحساره مائة وخمسين، والثانية: تجعل مدة الطوفان أربعين يوما وانحساره أربعين مضافا إليها فترات كل منها سبعة أيام. كما تختلف الروايتان في إطلاق الطيور ومكان الرسو. بينما تنص الأولى على رسو السفينة على جبل آراراط دون التعرض للطيور، تتحدث الثانية عن إطلاق الغراب والحمامتين، وتغفل مكان الرسو. (2) بين النص التوراتي والنصوص السومرية والبابلية
سنأتي الآن إلى إجراء المقارنة بين النص التوراتي والنصوص السومرية والبابلية السابقة عليه، وذلك بتتبع العناصر الرئيسية في رواية الطوفان. (2-1) إله الطوفان
في سفر التكوين يقوم إله اليهود يهوه بإرسال الطوفان، ولكن مجمع الآلهة السومري والأكادي من قبله هو الذي يقرر الطوفان. وهذا القرار ليس إجماعيا، بدليل أن إلهة الولادة ننتو في النص السومري تنوح على أولادها البشر، وإنكي الحكيم يقرر بينه وبين نفسه مد يد المعونة للناس وإنقاذ الحياة عن طريق زيوسودرا التقي الأثير لديه. كذلك الأمر بالنسبة للنص البابلي، فعشتار ندمت على انصياعها لقرار البعض في مجمع الآلهة، وإيا قام بكشف سر القرار الإلهي لأوتنابشتيم. ثم إننا بطريقة غير مباشرة نعرف في آخر النص أن إنليل هو المسئول الرئيسي عن الطوفان، شأنه في ذلك شأن يهوه، ويبدو أنه هو الذي اقترحه وحمل الآلهة للموافقة عليه، ومن ثم قام بإدارته حتى النهاية. وتبدو مسئولية الطوفان واقعة بكليتها على إنليل من كلام إيا: «كيف دونما تفكر جلبت هذا الطوفان؟» ومن كلام عشتار: «تقدموا جميعا وقربوا من الذبيحة. إلا إنليل وحده لن يقترب لأنه سبب الطوفان دونما ترو وأسلم شعبي للدمار.» (2-2) أسباب الطوفان
يؤكد التوراة صراحة على الأسباب الأخلاقية وراء قرار دمار الإنسان؛ فالأرض قد فسدت وامتلأت بالعنف والشر. أما النص البابلي فيعطي تلميحا بالأسباب الأخلاقية، حيث نجد إيا في آخر النص يخاطب إنليل قائلا: «حمل المذنب ذنبه والآثم إثمه ... أمهله كي لا يفنى ولا تهمله كي لا يفسد.» وهذا يدل بوضوح على أن غرض إنليل الأساسي من الطوفان كان القضاء على الشرور والآثام فدمر الجميع دون تمييز بين الصالح والطالح.
وعلى العكس من هذين النصين فإن ملحمة أتراحيسس تطرح سببا غريبا للطوفان يذكرنا بالسبب الأساسي للصراع بين الآلهة في أسطورة التكوين؛ فإنليل يشعر بالانزعاج من صخب البشر وضوضائهم فيقرر إفناءهم بعد أن أعيته الحيل في التقليل من عددهم. ولكنه بعمله هذا يناقض العلة الرئيسية لخلق البشر ، ألا وهي حمل عبء الكدح عن الآلهة. فهل كان يخطط لخلق جديد يعقب الطوفان، كما فعل زيوس في الأسطورة اليونانية؟ هذا ما لا تستطيع الأسطورة، بنصها الذي وصلنا، الإجابة عنه. (2-3) بطل الطوفان
كان بطل الطوفان السومري يدعى زيوسودرا. والكلمة تعني «الذي وضع يده على العمر المديد»، وذلك اعتمادا على ما أعطته له الآلهة من حياة سرمدية عقب الطوفان. أما اسم «أوتنابشتيم» بطل القصة البابلية يعني «الذي رأى الحياة»، والاسم مشتق هنا أيضا من طبيعة المكافأة التي نالها لإنقاذه الحياة على الأرض. وفي ملحمة أتراحيسس فإن الاسم يعني «الواسع الحكمة». أما سفر التكوين فلم يعن بإيجاد علاقة ما بين اسم نوح وبين التجربة التي مر بها البطل؛ فقد فسرت كلمة نوح أحيانا بأنها تعني الراحة. إلا أن الحياة المديدة التي عاشها نوح تضعه إلى جانب زيوسودرا الذي وضع يده على العمر المديد، وأوتنابشتيم الذي رأى الحياة، فلقد عاش نوح تسعمائة سنة.
عاش أوتنابشتيم في شوروباك وهي من أقدم المدن في جنوبي الرافدين، وقد ورد ذكرها بين المدن الخمس التي ظهرت للوجود عقب خلق الكون السومري. أما زيوسودرا فإن نقص النص يمنع من معرفة المدينة التي عاش فيها. ولم يخصص التوراة مدينة بذاتها عاش فيها نوح.
كانت نجاة زيوسودرا راجعة لكونه رجلا تقيا صالحا. وكذلك الأمر فيما يتعلق بإكسوتروس ونوح. ومن سياق النص البابلي نفهم أيضا أن أوتنابشتيم كان كذلك. (2-4) الإعلام عن الطوفان
تتفق جميع النصوص على أن الإعلام عن الطوفان قد جاء من جهة إلهية، وتختلف في كيفية إيصال الخبر؛ فزيوسودرا رأى حلما لم ير شبيها له قط، فأخذ يتضرع للآلهة عسى أن تظهر له معناه، ثم إنه سمع صوتا يأمره أن يقف خلف حائط ليتلقى من خلاله رسالة الإله الذي أنبأه القرار. كذلك أوتنابشتيم الذي رأى حلما يخاطبه فيه إيا من وراء جدار كوخه القصب، ويكشف له فيه سر الآلهة. ويؤكد نص بيروسوس كذلك على الحلم كواسطة للاتصال.
أما في التوراة فنجد الإله يتصل بنوح مباشرة دونما ستار أو حجاب ودون الحاجة لوساطة الحلم. وفي شخص يهوه تتحد شخصيتا إيل وإنليل، فيهوه هو الذي أمر بالطوفان، وهو الذي أبلغ نوح واختاره للنجاة، بينما يقوم بهذه المهمة في بقية الأساطير إلهان منفصلان؛ أحدهما يرسل الطوفان، والثاني يتولى إعلام من يختارهم للنجاة دون علم الأول. (2-5) السفينة
كما تباينت أسماء بطل الطوفان تباينت كذلك تسميات السفينة التي بناها؛ فالقصة السومرية أشارت للسفينة بأنها ماجور؛ أي السفينة العملاقة، ونص نيبور استعمل كلمة مشابهة. أما نص جلجامش فسماها إيليبو التي تعني مجرد سفينة أو مركب، ولكنه يصفها في أماكن متفرقة على أنها الهيكل العظيم. بينما لا يستعمل سفر التكوين سوى كلمة واحدة، يتبا التي تعني بالعبرية الصندوق أو التابوت.
تحتوي سفينة أوتنابشتيم على سبعة طوابق، وتنقسم عموديا إلى تسعة أقسام. وأثناء بنائها لا نعرف ما إذا قد جعل لها نوافذ وفتحات وأبواب، ولكننا نقرأ بعد انتهاء الطوفان أن أوتنابشتيم قد فتح نافذة فسقط النور منها على وجهه. أما سفينة نوح فتحتوي على ثلاثة طوابق وتتألف من عدد غير محدد من الأقسام، ولها باب في جانبها وفتحة للنور تحت السقف مباشرة تدور حول السفينة من كل الجوانب. وبينما ينفرد أوتنابشتيم باستعمال الزيت عندما قام بنقع مصدات المياه بوزنة واحدة وخزن الوزنتين الباقيتين، فإنه يتفق مع نوح على استعمال القار الذي طلى به السفينة. ولكنهما يعودان للاختلاف بشأن الشكل الخارجي والأبعاد.
وعلى كل فإن أبطال الطوفان يؤمرون كل بدوره ببناء سفينة عظيمة تحمل بذور الحياة، وتتدخل الشخصية الإلهية كثيرا أو قليلا بتحديد شروط بنائها، ويبدو أن أوتنابشتيم كان أكثرهم حرية في ذلك. (2-6) ركاب السفينة
بعد أن فرغ من عمله قام أوتنابشتيم بنقل كل ما يملكه من ذهب وفضة إلى السفينة، كما نقل إليها أهله وأقاربه وجميع أهل الحرف، ودفع إليها طرائد البرية ووحوشها، وأقام عليها ملاحا أسلمه قيادها. ويأتي عمل أوتنابشتيم في حمل أصحاب الحرف مشابها في مغزاه لعمل أكسوتروس في طمر الألواح الحاوية على سجلات لبداية كل شيء وتطوره. فالبطلان يحاولان حفظ حضارة الإنسان وثقافته من الضياع ونقلها للأجيال الآتية التي تعقب الطوفان؛ حتى لا تجد نفسها مضطرة للبدء من جديد. ويبدو من سياق النص أن أوتنابشتيم قد حمل معه طيورا لأنه قام بإطلاق بعضها على سبيل الاستطلاع، كما قام بحمل المؤن والذخائر.
ونستدل من المقاطع الباقية من النص السومري أن زيوسودرا قد حمل معه بعض الحيوانات، بدليل أنه قام بتقديم ذبائح الشكر للآلهة من الثيران والخرفان. وكذلك فعل أتراحيسس الذي حمل إلى السفينة طرائد البرية ووحوشها وما استطاع من آكلي الأعشاب، ونقل إليه أهله وأقاربه وأصحاب الحرف، وجرى أكسوتروس على المنوال نفسه فنقل زوجه وأولاده وأصدقاءه المقربين، وخزن فيها الطعام والشراب، وحمل فيها مخلوقات حية مجنحة وذوات أربع.
تتفق التوراة مع قصص أرض الرافدين من حيث نقل الأشخاص والطعام والحيوان، إلا أن العدد الهائل للأفراد يتقلص إلى ثمانية فقط؛ هم نوح وزوجته وأولاده الثلاثة وزوجات أولاده. أما الحيوانات المحمولة والأطعمة حسب أوامر الرب فكانت: «من كل حي، من كل ذي جسد اثنين، من كل تدخل الصندوق لتحيا معك، ذكرا وأنثى تكون. من الطير بأصنافها ومن البهائم بأصنافها ومن جميع دبابات الأرض بأصنافها يدخل إليك اثنان من كل لتحيا. وأنت فخذ لك من كل طعام يؤكل فيكون لك ولهم مأكلا.» ويتبع ذلك تفصيل بالحيوانات الطاهرة وغير الطاهرة.
أما كيف سيعمل بطل الطوفان على جمع كل هذه الحيوانات فيبدو أن الشخصية الإلهية هي التي تكفلت بدفعها إليه ليحملها إلى السفينة، على ما يبدو من ملحمة أتراحيسس ومن سفر التكوين. وفي ملحمة أتراحيسس نرى إيا يقول لعبده: «طرائد البرية ووحوشها وما استطعت من آكلي الأعشاب سأدفع بها إليك.» كذلك في سفر التكوين نجد أن الحيوانات تأتي إلى نوح دونما جهد منه لجمعها وحصرها: «وتدخل الصندوق لتحيا معك»، «يدخل إليك اثنان من كل لتحيا.» (2-7) يوم ابتداء الطوفان «في السنة الستمائة من عمر نوح، من الشهر الثاني في اليوم السابع عشر منه، في ذلك اليوم تفجرت عيون الغمر وتفتحت كوى السماء.» ومن المعروف أن السنة العبرية الزراعية تبدأ في الخريف في أواخر تشرين الأول، فيكون الشهر الثاني والحالة هذه هو كانون الأول بداية موسم الأمطار في سوريا.
أما قصة بيروسوس فتجعل الطوفان يبدأ في اليوم الخامس من شهر أيار/مايو، بينما تصمت بقية النصوص عن ذكر أي موعد معين لبدء الطوفان. (2-8) علل الطوفان
تسبب الطوفان في النص البابلي عن العاصفة والأمطار والمياه السفلية، فحدد إله الرعود والبروق والصواعق والأمطار قد انطلق يسبقه مساعداه. ونرجال فتح فوهات العالم الأسفل فانطلقت مياه الأعماق الحبيسة. وننورتا إله السدود والري فتح سدوده وقنواته ففاضت دونما ضابط. وفي التوراة كذلك تسبب الطوفان عن الأمطار الغزيرة وانبثاق المياه السفلية. أما النص السومري فيؤكد على الأمطار كعنصر أساسي.
وقد قام الجيولوجي النمساوي
E. SUESS
في نهاية القرن التاسع عشر بمحاولة إيجاد تفسير علمي لرواية الطوفان، فقال إن الطوفان ربما تسبب أساسا عن عاملين؛ أولهما موجات عملاقة من البحر سببها اضطراب زلزالي في إقليم الخليج العربي أو إلى الجنوب منه، وثانيهما إعصار عنيف نشأ في خليج البنغال، ثم عبر الهند متجها شمالا نحو الخليج العربي. وقد صادف ذلك كله موسم الفيضان السنوي في حوض الدجلة والفرات، وتشققت الأرض بتأثير الزلزال واندفعت منها المياه. وهكذا فإن الطوفان قد نشأ بتأثير مياه البحر الطاغية بصورة رئيسية، أما المياه السفلية ومياه الفيضان فلم تكن إلا عناصر مساعدة.
ولا نريد هنا أن نناقش هذه النظرية أو غيرها، بل نقول إن علل الطوفان كانت متشابهة في النصين البابلي والتوراتي، وذلك بصرف النظر عن تأكيد كل نص على عناصر معينة دون أخرى. (2-9) مدة الطوفان
أعطت التوراة فواصل زمنية محددة بين الحوادث المؤلفة للقصة؛ فلقد دام الطوفان أربعين يوما، ثم ابتدأت المياه بالتناقص بعد مائة وخمسين يوما ... إلخ. وبجمع الأزمنة بعضها إلى بعض نستنتج أن المدة الفاصلة بين بدء الطوفان وخروج نوح من السفينة قد امتدت قرابة السنة. أما النص البابلي فلم يأت على تفصيل للفواصل الزمنية، بل اكتفى بالقول إن الطوفان استمر سبعة أيام وسبع ليال. وكذلك الأمر في الأسطورة السومرية، حيث استمر الطوفان ستة أيام وست ليال؛ لذلك لا نستطيع استنتاج مدة معينة لدوام الطوفان البابلي، ولكنه قطعا قد دام مدة أقصر بكثير من طوفان نوح. (2-10) أين استقرت السفينة
استقرت سفينة أوتنابشتيم على جبل نصير؛ أي جبل الخلاص. وقد ورد اسم هذا الجبل في حوليات الملك آشور بانيبال التي حددت موقعه في جنوب نهر الزاب الأدنى، وهو أحد روافد الدجلة.
أما سفينة نوح فقد استقرت على جبل آراراط. وآراراط في الواقع ليس اسما لجبل، بل هو اسم يطلق على بلاد أرمينيا. ويبدو أن السفينة قد رست على أعلى قمة في بلاد آراراط، ومن هنا جاءت التسمية. وقد وردت كلمة آراراط في مواضع أخرى من التوراة للدلالة على قطر وبلاد، لا على جبل. من ذلك مثلا ما ورد في سفر إشعيا، 37: 38: «وفيما هو ساجد في بيت نصروك إلهه، قتله «أدرملك» و«شرآصر» ابناه بالسيف وهربا إلى أرض آراراط. وملك أسرحادون ابنه مكانه.» وما ورد في سفر أرميا الإصحاح الحادي والخمسين، 37: «انصبوا الراية في الأرض وانفخوا في البوق في الأمم قدسوا عليها الأمم، ونادوا عليها ممالك آراراط ومنى وأشنكار.» (2-11) إطلاق الطيور
في اليوم السابع لبدء الطوفان أطلق أوتنابشتيم حمامة لاستطلاع المحيط، وما لبثت أن عادت إليه لأنها لم تجد مستقرا لقدميها. وبعد فاصل زمني غير محدد أطلق سنونو فطار ثم عاد أيضا، فانتظر فترة أخرى، ثم أطلق غرابا فطار ولم يعد، فاستدل من ذلك على أن الأرض قد أصبحت صالحة للهبوط، فحرر سكان السفينة وأطلقهم للجهات الأربع. أما نوح فقد بدأ بالغراب، وقد أظهر بهذا التصرف حكمة أكثر من زميله أوتنابشتيم؛ ذلك أن الغراب يهوى المرتفعات دون السفوح والسهول؛ لذلك فإن غيابه لا يدل على انحسار الماء عن جميع الأرض. ثم إنه أرسل الحمامة ذلك الطائر الذي لا يطير إلا في السهول والمنخفضات، فحامت الحمامة ثم عادت، فانتظر سبعة أيام أطلق بعدها الحمامة الثانية فطارت وعادت في المساء وفي منقارها غصن زيتون طري. ويبدو أنها وجدت مكانا تهبط فيه وطعاما، إلا أن الوضع بشكل عام لم يكن مشجعا على قضاء الليل خارج السفينة، فانتظر سبعة أيام أخرى وأطلق الحمامة الثالثة فطارت ولم تعد؛ مما دل نهائيا على أن السهول قد غدت جافة كما المرتفعات.
وهكذا تتفق الروايتان في إرسال الطيور، ولكنها تختلف في نوعيتها وعددها؛ فبينما يرسل أوتنابشتيم حمامة وسنونو وغرابا، يقوم نوح بإرسال غراب وثلاث حمامات. ونستطيع أن نلمح تشابها من حيث المغزى بين عودة حمامة نوح وفي منقارها غصن زيتون، وعودة طيور أكسوتروس وعلى مخالبها آثار من طين. (2-12) مغادرة السفينة
انتظر نوح فترة أطول قبل الخروج من السفينة. وكانت هذه الفترة كافية لنمو النباتات من جديد لإعالة جيل ما بعد الطوفان من الناس والحيوان. أما خروج باقي أبطال الطوفان فقد كان سريعا؛ لأن دوام الطوفان لم يكن بالطول الكافي لدمار الطبيعة دمارا تاما كما هو الأمر في الطوفان التوراتي. وقد جاء خروج نوح بناء على أمر من الإله كما كان الحال لدى دخوله. أما أوتنابشتيم والآخرون فقد خرجوا بناء على تقديرهم الخاص. (2-13) تقديم الذبيحة والعهد الإلهي
يرفع كل أبطال الطوفان الشكر للآلهة على نجاتهم، ويقدمون الأضاحي والقرابين؛ فزيوسودرا خر ساجدا أمام أوتو ونحر ثورا وقدم ذبيحة من غنم، وأكسوتروس سجد على الأرض وبنى مذبحا وقدم قربانا للآلهة. وأوتنابشتيم أطلق الركاب للجهات الأربع وقدم أضحية. ونوح بنى مذبحا للرب، وأخذ من جميع البهائم الطاهرة، ومن جميع الطير الطاهرة، فأصعد محرقات على المذبح. وهنا يتطابق حرفيا النص البابلي مع التوراة، فبعد حرق الأضاحي نقرأ في نص أوتنابشتيم: «تنشق الآلهة الرائحة الزكية.» ونقرأ في التوراة: «فتنسم الرب رائحة الرضا.»
يتقبل الرب تقدمة نوح ويندم على فعلته، ويقطع على نفسه عهدا أبديا بألا يدمر الأرض ثانية بطوفان مماثل: «وقال الرب لا أعيد لعن الأرض ... ولا أعود أهلك كل حي كما صنعت ... وأقيم عهدي معكم ... تلك قوسي جعلتها في الغمام فتكون علامة عهد بيني وبين الأرض.» وفي نص أوتنابشتيم ينسى الآلهة غضبهم على البشر عندما يشمون رائحة الأضحية، ويتجمعون على صاحبها وقد سروا بنجاة الحياة على الأرض. ولا توجد هنا إشارة مباشرة لعهد ما مع الإنسان. إلا أن كلام عشتار يوحي لنا بشيء قريب جدا من العهد الإلهي، ومن إشارته التي كانت عند يهوه قوس قزح، كلما رآه تذكر عهده مع البشر. فعندما وصلت عشتار رفعت عقدها الكريم الذي صنعته آنو وفق رغبتها وقالت: «أيها الآلهة الحاضرون، كما أنني لا أنسى عقد اللازورد الذي يزين عنقي، فإنني لن أنسى هذه الأيام أبدا، سأذكرها دوما.» إن رفع عشتار لعقدها يقترب كثيرا في مضمونه من قوس قزح الذي يعطيه يهوه إشارة وعهدا.
أما عن الندم فتعبر عنه عشتار عندما تقول: «تقدموا جميعا وقربوا من الذبيحة، إلا إنليل وحده لن يقترب؛ لأنه سبب الطوفان دونما ترو، أسلم شعبي للطوفان.» كما يعبر عنه إيا عندما يخاطب إنليل: «كيف؟ ... آه كيف دونما تفكر جلبت هذا الطوفان.» وبالنهاية فإن إنليل نفسه يعبر عن ندمه عندما يهدأ غضبه، فيصعد أوتنابشتيم وزوجه ويمنحهما بركاته الإلهية وخلودا لنفسيهما، ويسكنها في القاصي البعيد عند فم الأنهار. وينال أبطال الطوفان الآخرون جزءا مماثلا؛ فيمنح زيوسودرا حياة أبدية في أرض دلمون، وأكسوتروس ينال النعمة نفسها، أما نوح فينال أيضا بركات إلهية من يهوه، ولكن هذه البركات لا تصل حد إسباغ نعمة الخلود: «وبارك الرب نوحا وبنيه، وقال لهم انموا واكثروا واملئوا الأرض.»
إلا أن نوحا يتكشف فيما بعد في التوراة عن إنسان سكير عربيد؛ فبعد أن غرس كرما، حصد وشرب من خمره فسكر وأخذ يرقص ويتعرى من ثيابه: «وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال: «ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لأخوته.» وقال: مبارك الرب إله سام. وليكن كنعان عبدا لهم» التكوين 9: 31-35.
ويلاحظ هنا أن العبرانيين قد أدخلوا هذا الفاصل في القصة لتسويغ امتلاكهم لأرض الكنعانيين وطردهم أهلها الذين لعنهم يهوه بسبب رؤية جدهم لعورة أبيه ... (3) نتيجة
لقد قمنا بسرد ما عثر عليه حتى الآن من أساطير الطوفان في المنطقة، وأجرينا مقابلة بين هذه النصوص، موجهين النظر أحيانا إلى نقاط اللقاء، وتاركين أحيانا أخرى لذهن القارئ أن يعقد المقارنة ويكشف نقاط اللقاء والخلاف. والسؤال الأخير الذي يطرح نفسه: هل اعتمد النص التوراتي على النص البابلي أو أي من النصوص الأخرى؟ والجواب الذي أراه بالدراسة الموضوعية للنصوص هو: نعم. مع بقاء الاحتمال قائما في رجوع النصوص جميعا إلى نص أقدم، أو إلى رواية بقيت في أذهان شعوب المنطقة من ديانة توحيدية سابقة. والواقع أن الهيكل العام للرواية التوراتية ينطبق بكل خطوطه العريضة، وبكثير من تفاصيله، على النص البابلي، حتى إن بعض التعابير تكاد تتطابق بحرفية تامة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن يهوه إنما يقوم في الرواية التوراتية بجميع الأدوار المتناقضة للآلهة؛ لزالت إلى حد كبير شقة الخلاف بين الروايتين. فيهوه يقرر منفردا إرسال الطوفان، ثم إنه هو الذي يتسبب في علله، من طغيان مياه السيول والأمطار، وانبثاق المياه السفلية، وهو الذي ينقذ بعض الأثيرين لديه، وهو الذي يندم ويعد بألا يفعل ذلك ثانية.
أما من ناحية الصياغة الأدبية فإن النص البابلي يتفوق بشكل واضح على نص التوراة. ويكفي أن نستعيد قراءة وصف أهوال الطوفان لنرى التصوير الفني البديع والصنعة الأدبية الرفيعة. ويبلغ النص قمة روعته في النهاية عندما يقترب إنليل من أوتنابشتيم وزوجته في مشهد درامي مؤثر فيصعدهما إلى السفينة، ويجعلهما يركعان أمامه، ثم يلمس جبهتيهما مباركا: ما كنت قبل اليوم إلا بشرا فانيا، ولكنك منذ الآن ستغدو وزوجتك مثلنا نحن الآلهة، وفي القاصي البعيد ستعيشان عند فم الأنهار.
الفصل الرابع
أساطير الدمار الشامل
لم تكن أساطير الطوفان وحدها هي التي أخبرتنا عن أحداث الدمار الشامل، والكوارث العامة التي حلت بإنسان الحضارات القديمة. فلقد وصلتنا مجموعة أخرى من الأساطير تروي أحداثا لا تقل رهبة وروعة عن أحداث الطوفان، ولكنها لا تقص عن دمار شامل يفني البشر والحيوان، بل عن دمار جزئي يتوقف في منتصف الطريق وقبل أن يقضي على الحياة قضاء مبرما. ربما كانت هذه الأساطير تسويغا وتعليلا لكوارث حقيقية حلت بالإنسان، وحار في أسبابها ودواعيها وأغراضها، فجاءت الأسطورة تروي تساؤلاته. فهذه أسطورة سومرية تعزو دمارا حل بالبلاد إلى انتقام الإلهة إنانا من بستاني اغتصبها، وهذه أسطورة بابلية تعزو العواصف التي اجتاحت البلاد طولا وعرضا إلى غضب إله العاصفة إنليل، وأخرى تعزو انتشار المرض الفتاك إلى إله الطاعون إيرا الذي يستفيق من كسله بين الآونة والأخرى ليمارس مهامه في نشر الأوبئة والأمراض السارية. (1) إنانا والبستاني
تروي أسطورة سومرية أن بستانيا اسمه شوكا ليتودا زرع شجرة وتعهدها بالرعاية والعناية حتى كبرت ونشرت ظلها الواسع على معظم أجزاء حقله الذي حمته من العواصف الهوجاء. إلى أن كان يوم:
وذات يوم، بعد أن عبرت سيدتي السماء وقطعت الأرض،
إنانا، بعد أن عبرت السماء وقطعت الأرض،
بعد أن قطعت أرض عيلام وبلاد شوبر،
بعد أن قطعت [...]
دخلت الكاهنة إنانا البستان وغلبها النوم تعبا،
فرآها شوكا ليتودا من طرف بستانه،
فقبلها وضاجعها وعاد إلى طرف بستانه.
لما صار الصبح وأشرقت الشمس
تلفتت الفتاة حولها خائفة،
تلفتت إنانا حولها فزعة.
فانظر الأذى الذي أوقعته الفتاة من أجل فرجها،
إنانا من أجل فرجها ماذا فعلت،
لقد ملأت جميع آبار البلاد بالدم،
فاضت كل الغابات والبساتين بالدم.
وصار الناس إذا أرادوا نضح الماء من آبارهم لا يجدون ما يشربونه سوى الدم، فتلفت المزروعات. ولما لم تجد الذي جامعها قامت بتسليط الرياح والعواصف المدمرة، ولكن دون جدوى.
لقد قالت سأجد الذي ضاجعني في أنحاء البلاد،
ولكنها لم تجد الذي ضاجعها.
ترسل كارثة ثالثة، إلا أن كسور اللوح الآجري وتشوهه تمنعنا من معرفة ماهية هذه الكارثة، ولا نعرف على أي وجه انتهت الأسطورة. (2) إنليل والعاصفة
عندما يسكن الهواء يكون إنليل في حالة هدوء ودعة واطمئنان، وإذا هب النسيم العليل فإن إنليل يسرح ويمرح. وإذا هبت العاصفة فإنليل في حالة حركة وانفعال. أما إذا اشتدت العاصفة وثار الإعصار فإن إنليل في حالة غضب وهياج . كما هو الأمر في الأسطورة السومرية الآتية:
1
دعا إنليل العاصفة،
والناس ينوحون.
أخذ من الأرض الرياح المنعشة،
والناس ينوحون،
أخذ من سومر الرياح الطيبة،
والناس ينوحون،
ودعا (بدلا منها) الرياح الشيطانية،
والناس ينوحون،
وأوكلها لكينغالودا راعي العواصف،
دعا العاصفة لتفني البلاد،
والناس ينوحون،
ودعا العواصف المدمرة،
والناس ينوحون،
عين الإله جيبيل
2
مساعدا له،
ودعا أعاصير السماء،
والناس ينوحون،
والأعاصير المعولة المنقضة من السموات،
والناس ينوحون،
العاصفة العتية تزمجر مكتسحة البلاد،
والناس ينوحون،
العاصفة القاسية كموج الطوفان
تهشم سفن المدينة وتلتهمها،
والناس ينوحون،
كل هذا جمعه عند أساس السماء،
والناس ينوحون،
أشعل نيرانا كانت نذير العاصفة،
والناس ينوحون،
وألهب جوانب الرياح الغاضبة
بحر الصحراء اللافح،
فكانت تحرق كهجير الظهيرة اللاهب،
والعاصفة التي أمرها إنليل في حقد، (العاصفة) التي تلتهم البلاد
غطت أور كما الثوب، ولفتها كما القماط
وفي اليوم الذي تركت فيه العاصفة البلاد
غادرتها والمدينة خراب.
آه يا أيها الأب نانا!
3
لقد ترك المدينة يبابا،
والناس ينوحون،
في اليوم الذي تركت فيه العاصفة البلاد،
والناس ينوحون، (جثث) البشر لا كسرات الجرار
كانت تغطي الطرقات،
والجدران كانت متصدعة،
البوابات العالية والمسالك
قد تكدست فيها الموتى،
وفي الشوارع العريضة حيث تعود الناس الاحتفال،
تكدست هناك الموتى،
وملأ دم البلاد ثقوبها،
وكمعدن في قالب
ذابت الأجسام كالدهن تحت الشمس. (3) إله الطاعون يجتاح العالم
وفي الأسطورة البابلية يقوم إيرا إله الطاعون والأوبئة الفتاكة بدور أساسي في الكوارث والبلايا العظيمة التي تحل على الأرض. فنراه مشغولا على الدوام بما يتوجب عليه تنفيذه من أعمال الخراب والإبادة. وفي الأسطورة التي سنأتي على ذكرها فيما يأتي نجد إيرا وقد مرت عليه فترة طويلة لم يلعب فيها دورا هاما على مسرح الأحداث، فنال منه الكسل وفترت همته. ولكن سيبي سلاحه الفتاك ذا الشعاب السبع، المرعب الذي ينفث الموت الزؤام يخاطبه وقد نال منه الملل والضجر:
4 «انهض وسر قدما يا إيرا،
أيها المتسكع في أرجاء المدينة كعجوز مريض،
أيها الزاحف في البيت كطفل مريض،
لقد بتنا نأكل طعام النساء كمن لم يركب السهل أبدا،
وصرنا نخشى الوغى كمن لم يعرف يوم كريهة قط.
انهض أيها البطل الراكب السهول،
اصرع الإنسان والحيوان،
أما الآلهة فستسمع (بفعالك) وتخشى (بأسك)،
والملوك ستسمع (عن بطولاتك) وتفزع (سطوتك)،
والعفاريت ستسمع (بمآثرك) وتتقي (جبروتك)،
ستسمع بك البحار المتلاطمة وتضطرب،
ستسمع بك الجبال الراسيات وتضطرب.
أي إيرا لقد قلت كلمتي فهل سمعت؟
مشدود هو القوس وحادة هي السهام،
ومسلول هو السيف قد تهيأ للفتك (فهلا نهضت).» (وهنا تشتد عزائم إيرا فيستدعي وزيره إيشوم صائحا به): «أوسعوا لي فإني سأقتحم الدروب
وإلى جانبي سيمشي سيبي البطل الذي لا قرين له،
ومن خلفي ستمشي أنت يا مساعدي.» (فاستمع إيشوم لكلمات إيرا بقلب حزين، وشعر بالأسى لما ينتظر البشر من مصير): «أيها الإله، لقد أزمعت شرا للبشر والآلهة،
لقد أضمرت للأرض دمارا،
فهل من وسيلة لردك (عما انتويت)».
ففتح إيرا فمه وقال
مخاطبا مساعده إيشوم: «صمتا يا إيشوم، وأنصت لما أقول.
دعني أنبئك بمصير الإنسان (وقدره).
أي مساعدي يا إيشوم الحكيم اسمع كلماتي:
في السماء أنا فأس وحشية،
في الأرض أن أسد (هصور)،
في البلاد أنا ملك فوق الجميع،
أنا الجليل بين الآلهة،
وأنا المقدام بين الإيجيجي،
وأنا القوي بين الأنوناكي.
لأن الإنسان لم يخش كلماتي،
ولم يأبه بتعاليم مردوخ،
5
بل عمل وفق مشيئة قلبه (ورغباته)؛
فإنني سأدعو مردوخ أن يخرج من مسكنه، (فإن فعل) سأقوم بتدمير الإنسان».
فلأن مردوخ سيد البشر والآلهة، لا يستطيع إيرا أن يتصرف وفق هواه ما لم يغض الطرف عنه، فيمضي إليه بخدعة ليترك مسكنه في معبد الإيزاجيلا ويمضي إلى مكان ستطهر ناره عباءته، فيستحم ويتجدد ويعود أقوى مما كان، وأقدر على تصريف شئون الكون والإنسان:
إلى بابل مدينة ملك الآلهة يمم إيرا شطره.
دخل الإيزاجيلا قصر السموات والأرض ومثل أمامه.
فتح فمه وقال مخاطبا ملك الآلهة: «أيها الرب إن الهالة النورانية رمز ألوهيتك
المشعة أبدا كنجم سماوي ،
قد كسدت وخبا لونها،
وتاج سيادتك قد مال (عن رأسك).
اترك مكان سكنك وانطلق،
ونحو الدار التي ستطهر نارها عباءتك شد الرحال.»
ولكن مردوخ يخشى إن هو ترك الإيزاجيلا مركز الكون في بابل أن يعود العالم إلى العماء وتطغى الفوضى الكونية التي تلجمها قوة مردوخ وجبروته، وتربعه على عرش الكون في معبده ذي البرج العالي. كما يخشى أن تخلو الساحة لآلهة العالم الأسفل فتنطلق لتلتهم جميع الأحياء دونما رادع أو وازع. ولكن إيرا يطمئنه بأنه سيأخذ عنه المسئولية كاملة خلال غيابه، وينوب عنه حتى عودته. فيترك مردوخ قصره ويمضي للاستجمام في المكان الذي اقترحه إيرا. وما إن يغيب الإله الأكبر حتى يستدعي إيرا وزيره إيشوم قائلا:
أوسعوا لي فإني سأقتحم الدروب.
لقد حان اليوم وأزفت الساعة.
سأهيب بالشمس فتترك شعاعها،
وأغطي بالظلام الدامس وجه النهار.
فمن ولدته أمه في يوم ماطر،
ستدفنه في يوم مسغبة.
ومن مضى من طريق مروية خضراء،
سيتخذ في عودته طريق غبار ورمال. (يتجه بالحديث لمردوخ الغائب): «ابق حيث أنت في الدار التي دخلت،
وسأسهر بإخلاص على تنفيذ شرائعك.
فإن سمعت أصوات ذوي الشعور السود
6
تناديك،
لا تعط توسلاتهم أذنا صاغية.»
سأضع نهاية لجميع مراكز الحياة
فأحيلها ركاما.
سأدمر كل المدن
فأحيلها خرابا.
سأهدم كل الجبال
وأمسح عنها القطعان.
سأزلزل المحيطات
وأفرغ منها الخيرات.
سأقتلع الأشجار وغيضات القصب.
سأسحق كل عظيم،
وأصرع الإنسان أرضا،
وأمحق كل شيء حي.
ثم ينطلق إله الطاعون والأوبئة الفتاكة والخراب غير عابئ بمحاولات إيشوم ليثنيه عن عزمه، فيدمر أولا بابل ويقضي على سكانها، ثم ينتقل إلى إيريك مدينة البغايا المقدسات والغلمان والمخصيين واللوطيين، حيث معبد عشتار بما فيه من مخنثين نالت عشتار من رجولتهم، فيهدم المدينة ولكنه يبقى متعطشا للفتك راغبا في المزيد من الخراب:
سأظهر مزيدا من الفتك والانتقام،
فأستلب روح الابن
ويدفنه أبوه.
ثم أستلب روح الأب،
ولا يجد أحدا ليدفنه. فمن بنى لنفسه بيتا وقال:
هذا مكان راحتي (وإقامتي)،
فإني جاعل بيته هذا مستقرا لي
عندما تحملني الأقدار إليه، فألبث في وسطه
حاملا الموت لصاحبه،
ثم أدمر بيت راحته وإقامته،
فإذا صار خرابا (يبابا )؛
وهبته لشخص آخر.
على أن إيشوم يفزع أشد الفزع من هذا الفتك الأعمى دون تمييز بين الصالح والطالح، فيتوجه لإيرا قائلا:
إيرا أيها الجليل،
قد سقيت التقي الردى،
كما سقيت الضال الردى.
قد سقيت الخاطئ الردى،
كما سقيت الطاهر الردى.
قد سلبت حياة من رفع الأضاحي للآلهة،
وسلبت حياة حاشية الملوك ورجالهم،
سلبت حياة كبير القوم،
وسلبت حياة الفتاة الغضة،
ومع هذا ترفض أن تستريح وتقول لنفسك:
سأسحق كل عظيم،
وأصرع أرضا كل ضعيف،
سأقتل سيد القوم
فأجعل قومه في حيرة من أمرهم.
سأهدم البيوت العالية ودعائم الجدران،
سأمحق كل ثروات المدينة،
سأخلع الصواري فتضل السفن سبيلها،
وأمزق الأشرعة فلا تصل سفينة شاطئها.
سأمزق الجبال إربا رافعا عنها راياتها.
سأجفف الصدور حتى يموت الصغار،
وأجفف الينابيع حتى تتوقف الأنهار عن الجريان.
سأطفئ نور الكواكب والنجوم وأتركها دونما رعاية.
7
سأتلف جذور الأشجار فلا تنمو بعد (ولا تورق).
سأخلع أساسات الجدران فتهتز أعاليها (وتتداعى).
وإلى مسكن ملك الآلهة سوف أمضي حيث لن يعارضني أحد. (ويبدو أن خطاب إيشوم قد طامن من ثورة إيرا قليلا، فيقرر العفو عن الأكاديين فقط وتدمير كل ما عداهم):
أرض أرض ومدينة مدينة.
كل بيت سيهاجم البيت لآخر.
ولن يعفو الأخ عن أخيه،
فيقتل بعضهم بعضا؛
وعند ذلك سينهض الأكاديون فيخضعونهم جميعا.
وبذلك يجد إيرا الهدوء والسكينة، ويخبر الآلهة بأن مخططه في البدء كان إفناء البشر جميعا بسبب خطاياهم، ولكن حديث إيشوم قد غير رأيه فأنقذ الأكاديين فقط وجعل لهم الغلبة على أعدائهم:
ستنقلب القلة الباقية في الأرض إلى كثرة،
وسيجد كل إنسان منهم فرجا.
سيقبض الأكاديون على أعدائهم العظماء،
فيحمل كل منهم سبعة كما تحمل الخرفان.
ستحولون مدنهم إلى خراب وتجعلون جبالهم ركاما،
وتئوبون إلى بابل بثمين الغنائم (والأسلاب)، (وتجعلون) آلهة البلاد الغضبى
ترجع إلى مساكنها (راضية) هادئة.
ستتكاثر القطعان وتنمو الحبوب،
والأرض التي تركت يبابا
ستجعلونها منتجة خصيبة.
وجميع الحكام من وسط مدائنهم
سيجلبون إلى بابل إتاواتهم.
أما معابد إيكور التي دمرت،
فستشع بالنور قممها كالشمس الصاعدة،
ويفيض الدجلة والفرات بالمياه الغزيرة،
ولأيام طويلة ستحكم بابل فوق البلاد.
وتنتهي القصيدة بخاتمة تؤكد على عنصر الوحي في الأسطورة، فكاتب النص يقول إنه قد دون ما أوحي إليه من قبل الآلهة دونما زيادة أو نقصان. وهذه الالتفاتة تكشف لنا أوجها هامة في الأسطورة ودورها ونظرة الجماعة لها. ليس مدون الأسطورة في نظر نفسه ونظر الجماعة المؤمنة به إلا كاتب وحي وإلهام يلعب دور الوسيط بين الإله والناس. (ألا) من أجل مجد إيرا
فلننشد هذه الأغنية سنوات لا عد لها.
وكيف ثار غضب إيرا
فقرر خراب البلاد،
وإفناء الناس والحيوان.
وكيف قام مستشاره إيشوم بتهدئته،
فجرى إنقاذ قلة قليلة.
وإلى كابتي-عيلاني مردوخ
8
حافظ الألواح ابن دابيبي،
عرضها (الأنشودة) إيشوم في حلم ليلي،
فعندما نهض من نومه صباحا لم ينس سطرا واحدا،
ولم يزد عليها سطرا واحدا. (وبعد أن سطر الكاتب هذه الأنشودة سمعها إيرا وإيشوم وبقية الآلهة فنالت استحسانهم):
لقد سمعها إيرا ونالت إعجابه.
راقت له أنشودة إيشوم،
وعظمها معه جميع الآلهة.
وهكذا نطق إيرا الجليل:
ستغمر الخيرات بيت من يقدس هذه الأنشودة،
ولن يتنسم من يهملها رائحة زكية أبدا.
سيحكم الجهات الأربع من يرفع اسمي من الملوك،
أما من يرتل أنشودتي من المغنين فلن يموت قتلا،
وتبقى كلماته حلوة الوقع في آذان الملوك والأمراء.
والكاتب الذي يعلمها عن ظهر قلب سينجو من أيدي العدو،
وفي مجمع المتعلمين حيث يذكر اسمي دون انقطاع،
سأفتح الآذان واسعا.
أما البيت الذي يخزن هذا اللوح،
فلن يلقى ثورة إيرا وغضب إيشوم،
ولن يقرب منه سيف القتل،
فنصيبه السلام والرغد.
ألا فلتبق هذه الأنشودة أبد الدهر،
ولتسمعها كل البلاد وتقدسها،
ولتنطق باسمي كل الأرض المسكونة وتبجله. (4) يهوه والكوارث الشاملة
ولعل إله العبرانيين يهوه من أكثر الآلهة ولعا بالدماء والكوارث الشاملة. في سفر الخروج نجد موسى يحاول إقناع فرعون عبثا بالسماح لشعبه بمغادرة أرض مصر إلى الأرض الموعودة في كنعان، وبعد أن ينال منه اليأس يلجأ إلى ربه الذي يشن حملة من الفتك الشامل بفرعون وقومه لإجباره على إطلاق العبرانيين؛ فهو يبدأ بما بدأت به إنانا السومرية ويملأ آبار المصريين بالدم: «خذ عصاك ومد يدك على مياه المصريين وأنهارهم وخلجهم ومناقعهم وسائر مجامع مياههم فتصير دما ويكون دم في جميع أرض مصر.» ثم ينتقل لفنون تدميرية أخرى: «فمد هارون يده على مياه مصر فصعدت الضفادع وغطت أرض مصر.» وبعد ذلك: «مد هارون يده بعصاه فضرب تراب الأرض فكان البعوض على الناس والبهائم. كل تراب الأرض صار بعوضا.» «ودخلت الذباب بيت فرعون وبيوت عبيده وجميع أرض مصر بكثرة وفسدت الأرض من قبل الذباب.» «فماتت مواشي المصريين بأسرها ومن مواشي بني إسرائيل لم يمت أحد.» «أخذ من رماد الآتون ووقف بين يدي فرعون وذراه موسى إلى السماء فصار قروحا وبثورا منتفخة في جميع أرض مصر.» «فكان برد ونار متواصلة، وبين البرد شيء عظيم جدا ... فضرب البرد في جميع أرض مصر جميع ما في الصحراء من الناس والبهائم، وضرب البرد جميع عشبها وكسر جميع أشجارها.» «وساق الرب ريحا شرقية على الأرض ذلك اليوم وطول الليل، وعند الصباح حملت الريح الشرقية الجراد على جميع أرض مصر ... فغطى جميع أوجه الأرض حتى أظلمت الأرض وأكل جميع عشبها وجميع ما تركه البرد من ثمر الشجر.» «فكان ظلام مدلهم في جميع أرض مصر ثلاثة أيام لم يكن الواحد يبصر أخاه.» «لما كان نصف الليل ضرب الرب كل بكر في جميع أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على عرشه، إلى بكر الأسير الذي في السجن وجميع أبكار البهائم. فقام فرعون ليلا هو وجميع عبيده وسائر المصريين، وكان صراخ عظيم في مصر حيث لم يكن بيت إلا وفيه ميت.» وعند هذا الحد فقط يقتنع فرعون بضرورة إطلاق بني إسرائيل فيفعل ذلك وهو مكره على أمره.
ومن عادة يهوه إفناء المدن بكاملها فلا يترك منها أحدا فينجو ليحدث بأهوال ما حدث لها.
نقرأ في سفر التكوين الإصحاح 19: 12-36: «وقال الرجلان للوط من لك أيضا هنا؟ أصهارك وبنوك وبناتك وكل من لك في المدينة أخرج من المكان؛ لأننا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب، فأرسلنا الرب لنهلكه. خرج لوط وكلم أصهاره الآخرين وبناته، وقال قوموا اخرجوا من هذا المكان؛ لأن الرب مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره. ولما طلع الفجر كان الملاكان يعجلان لوطا قائلين قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة. ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة. وكان لما أخرجاهم إلى الخارج أنه قال اهرب لحياتك، لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك. قال لهما لوط لا يا سيد. هو ذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك وعظمة لطفك الذي صنعت لي باستبقاء نفسي، وأنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل لعل الشر يدركني فأموت. ها هي المدينة هذه قريبة للهرب إليها وهي صغيرة أهرب إلى هناك. فقال له إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضا ألا أقلب المدينة التي تكلمت عنها. أسرع اهرب إلى هناك؛ لأني لا أستطيع شيئا حتى تجيء إلى هناك؛ لذلك دعي باسم المدينة صوغر. وإذ أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر. فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا من عند الرب من السماء، وقلب كل المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض. ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح.»
سفر التنين
«في ذلك الوقت ستقتل لوتان
الحية الهاربة، وتضع نهاية
للحية الملتوية، ذات الرءوس السبعة.»
أسطورة أوغاريتية «في ذلك اليوم، يعاقب الرب بسيفه
القاسي العظيم، لوياتان الحية الهاربة،
لوياتان الحية الملتوية، ويقتل التنين الذي في البحر.»
التوراة، إشعيا: 27: 1
لقد أقامت الآلهة الفتية نظام الكون، ودفعت عجلة الحضارة بعد أن قضت على قوى العماء البدئية، فأحلت النظام والترتيب محل الفوضى القديمة، وبدأ العالم معها عهدا جديدا، واضح المعنى والهدف والغاية. إلا أن قوى العماء لم تعلن بعد استسلامها الكامل. وها هي قوى جديدة تنتسب لها، تندفع بين الوقت والآخر؛ للهدم والخراب والقضاء على منجزات الإنسانية، في محاولة بائسة لإرجاع العالم إلى حالته السكونية الأولى. وهذه القوى الجديدة تلبس لبوس القوى القديمة، فتعيد إلى الذاكرة تعامة ووحوشها الرهيبة؛ فهي وحوش جبارة، وهولات ضخمة لا تنتمي للعالم البشري أو العالم الحيواني المعروف. نراها على شكل حيات هائلة ذات رءوس متعددة، أو تنانين بحرية مريعة، أو طيور عملاقة. وتكاد هذه القوى أن تثأر للعالم القديم الذي تنتمي إليه، لولا تصدي أحد الأبطال لقتالها وإرغامها على التراجع، والحفاظ، من ثم، على أمن العالم ونظامه واستقراره.
وأسطورة التنين شائعة في كل مناطق الشرق القديم، كما أنها شائعة في معظم الأساطير العالمية. الأمر الذي يجعل ربطها برمز معين على قدر كبير من الصعوبة، دون الوقوع في ورطة التعميم وأحادية النظرة. ولكن التفسير النفساني يبدو مغريا وجذابا، خصوصا إذا علمنا أن التفسير التاريخي لا تثبته الوقائع المستمدة من الأنثروبولوجيا والتاريخ الطبيعي؛ ذلك أن ظهور الإنسان قد تأخر فترة زمنية كبيرة عن زمن انقراض الديناصورات الضخمة، التي سيطرت على الأرض فترة لا بأس بها من الزمن، وشاء حسن حظه ألا يجتمع بها أو يراها، إلا هياكل عظمية في متاحف العصر الحديث.
وعلى هذا، إذا اتبعنا المنطق الفرويدي نستطيع النظر إلى هذه التنانين باعتبارها تمثيلا لقوى اللاشعور الفردي، الذي يضطرم على الدوام بكل ما يناقض الوضع الحضاري للإنسان، تلك القوى التي تحاول دوما اقتحام عالم الشعور. وهنا نستطيع اعتبار البطل الذي يقهر التنين بمثابة الفرد السوي داخل المجتمع الذي يستطيع كبح جماح لا شعوره والسيطرة عليه؛ ليحيا متوازنا مع قيم الجماعة. أما إذا اتبعنا المنطق اليونغي فإننا ننظر إلى عملية الصراع مع التنين باعتبارها عملية بناء للشخصية الفردية
individuation ، يتخلص الفرد من خلالها من تأثيرات الطفولة واعتماده على شخص الأم.
على أن حكاية البطل والتنين لا تقف عند حدود الأسطورة القديمة؛ فنحن نجدها في جميع حكايا الشعوب الفولكلورية، وقصص الأطفال، كما أنها محببة لنفوس الناس في العصر الحديث أيضا، حيث نرى الموضوع يتكرر في كثير من أفلام السينما التي تقص عن وحش مائي يخرج من أعماق المحيطات، أو قرد عملاق يأتي المدينة من جوف الغابات دون أن تستطيع أحدث الأسلحة القضاء عليه إلا بصعوبة بالغة.
الفصل الأول
التنين السومري
بعد أن تم تنظيم الكون السومري، وبعد فترة ليست طويلة من فصل السماء عن الأرض، يندفع من باطن الأرض تنين العالم الأسفل كور الإله المطلق لعالم الموت والظلام، في محاولة لمد نفوذه على بقية العالم، وإرجاع الحياة إلى جماد، والحركة إلى سكون، والنور إلى ظلمات. ولكن الآلهة الشابة التي وطدت حديثا سلطتها، تتصدى له وتعيده إلى عالمه. وقد تصدى لكور على التوالي، وفي مواقع مختلفة، كل من إنانا إلهة الحياة والحب والخصب، وإنكي إله الماء واهب الحياة، وننورتا بن إنليل إله الهواء والحركة.
والنصوص السومرية التي روت عن صراع آلهة الحياة والحركة، ضد تنين العالم الأسفل، وصلتنا في حالة سيئة من التشوه والنقص، الأمر الذي يمنع من معرفة مصير كور النهائي. إلا أن الأساطير السومرية تتحدث بعد ذلك عن كور باعتباره مكانا لا باعتباره تنينا أو إلها، مما يدل على أن كور التنين ربما قتل في إحدى هجماته، وترك اسمه يطلق على العالم الأسفل الذي كان يسكنه. (1) كور يختطف إريشكيجال
يتحدث هذا النص عن قيام الإله كور باختطاف إريشكيجال لتصبح زوجة له في العالم الأسفل، وعن تصدي الإله إنكي له والمعركة التي دارت بينهما.
1
بعد أن أبعدت السماء عن الأرض،
وفصلت الأرض عن السماء،
وتم خلق الإنسان،
وأخذ آن السماء،
وانفرد إنليل بالأرض،
أخذ الإله كور الإلهة إريشكيجال غنيمة.
ولكنه (إنكي) أبحر، لكنه أبحر،
أبحر الأب إنكي إلى كور،
قصد إلى كور مبحرا،
رماه بالحجارة الصغيرة،
كما رماه بالحجارة الكبيرة،
كان يرمي الحجارة الصغيرة باليد،
والحجارة الكبيرة ب (...) القصب.
وبما أن هذا النص لم يكن مكرسا لرواية قصة كور وإريشكيجال، فإنه لم يعن بإكمال القصة التي افترض أنها معروفة في ذلك الحين ومفصلة في نصوص أخرى؛ فقد ورد هذا النص كمقدمة لنص آخر هو نص جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل، حيث جرت العادة في معظم النصوص السومرية أن يبدأ الكاتب بفقرة تتحدث عن الأصول والبدايات والأحداث الجسام التي وقعت في تلك الأزمان الأولى. على أننا نعثر على إريشكيجال في النصوص اللاحقة، وخصوصا البابلية منها، وهي ربة للعالم الأسفل من دون كور. فهل يدل ذلك على إخفاق إنكي في إنقاذها، أم أن إنقاذها قد تم ثم هبطت إلى العالم الأسفل في وقت لاحق ومن خلال أحداث مختلفة؟ هذا ما لا تجيب عنه النصوص التي بين أيدينا. (2) كور وإنانا
بطل التنين هنا هو الإلهة إنانا، إلهة الخصب والحب، وإلهة الحرب والدمار أيضا. تتصدى للإله كور فتتغلب عليه، فتحمل لقب «قاهرة كور» الذي نعتها به كثير من الروايات السومرية. والنص غامض وبه كثير من النقص، ولكننا نستطيع اقتباس بعض فقراته.
2
سأرميه بالحربة الطويلة،
وسأوجه ضده كل أسلحتي،
وبالغابات المحيطة به سأضرم النار،
وفي [...] سوف أغرس فأسي البرونزي،
وكجبل آرارتا، سأنزع عنه هيبته،
وكما يفعل جيبيل إله النار المقدسة سأجفف ماءه،
وكمدينة لعنها آن لن تعود سيرته الأولى،
وكمدينة نبذها إنليل، لن ينهض ثانية.
ورغم أن آن يحذرها من مغبة المخاطرة، إلا أنها في حماسة شديدة، تشهر القتال وتوجه أسلحتها في صراع ناجح ضد كور لتطأه أخيرا بقدميها. (3) ننورتا يصارع آساج
ننورتا هو ابن إنليل إله الهواء والعاصفة، وهو إله الرياح الجنوبية الهوجاء، وأيضا إله القنوات والسدود والري. وهو في هذا النص يعتزم التصدي لآساج عفريت العالم الأسفل، وإله العلل والأمراض، والساعد الأيمن لكور. وقبل أن يتوجه للقتال يقوم سلاحه شارور (ولا يوضح لنا النص نوع هذا السلاح) بتشجيعه وحثه على بدء الهجوم. وعندما تبدأ المعمعة، يبدي أساج من الشدة والمراس، ما يجعل ننورتا يفر وكأنه طائر. ولكن سلاحه العنيد يعود لحثه على مواصلة القتال. وفي هذه المرة يستطيع ننورتا قهر آساج والتغلب عليه. إلا أن سلسلة من الكوارث تلي ذلك؛ فالعالم السفلي يتزعزع لهذه الحادثة، وتثور ثائرة كور، فيبتلع أولا المياه العذبة من الينابيع والآبار والأنهار:
سادت المجاعة واستحال الإنتاج.
غاضت الأنهار الصغيرة حتى لا تستطيع فيها غسل اليدين ،
وحرمت الحقول السقاية، ولم تجر قنوات للري،
واختفت الزراعة عن وجه الأرض، تاركة مكانها للطحالب.
بعد هذه المرحلة التخريبية الأولى يدفع كور بمياه الأعماق بقوة إلى سطح الأرض لتكتسح أمامها كل شيء. وهنا يتصدى ننورتا مرة أخرى لقوى العالم الأسفل، فيعمل على بناء سد عظيم من الحجارة في وجه المياه، وينجح في صد هجومها المدمر وينقذ سومر.
أما ما فاض فقد جمعه،
أما ما خرج من كور
فقد جمعه ودفعه إلى نهر دجلة،
من تلك المياه التي غمرت الحقول،
فانظر الآن تر كل شيء على الأرض
يبتهج بمآثر ننورتا، ملك البلاد.
الحقول تعطي حبوبا وافرة،
والبساتين والكروم تحمل الثمار،
والرب مسح الحزن عن البلاد،
وأبهج نفوس الآلهة.
3
وقد سمعت ننماخ بفعال ابنها ننورتا فقامت لرؤيته، وناجته من بعيد أن يأذن لها برؤيته، وعندما تحضر إليه يهديها جبل الحجارة الهائل الذي ردمه في وجه كور، فتحمل اسم سيدة الجبل أي ننخرساج، وهو اسم من أسماء الأم-الأرض.
يقيم بعض البحاثة في تفسير أساطير كور الثلاثة التي أوردناها تشابها بين كور السومري وتعامة البابلية. من هؤلاء السيد س. ن كريمر، الذي ندين له بمعظم ما نعرف من النصوص السومرية، والذي يطرح رأيا مفاده أن كور السومري هو أصل تعامة البابلية. وفي الحقيقة فإني لا أرى أية رابطة تجمع بين الاثنين للأسباب الآتية:
أولا:
في الأسطورة السومرية كان كور إلها للعالم الأسفل، وبعد زواله بقي اسمه للدلالة على عالم الظلمات والأموات. أما تعامة فلم يكن لها علاقة بالعالم الأسفل لا في حياتها ولا بعد مماتها.
ثانيا:
كانت تعامة في الأسطورة البابلية إلهة بدئية تمثل العماء الأول، وكان لا بد من القضاء عليها لبزوغ العالم المنظم. أما كور السومري فلم يكن كذلك.
ثالثا:
كانت تعامة إلهة كونية، صنع مردوخ من جسدها الكون. أما كور السومري فقد تلاشى ولم يبق منه سوى اسمه، يطلق على مملكته التي غادرها.
رابعا :
كان صراع مردوخ مع تعامة صراعا سبق الخلق والتكوين. أما قتل التنين كور فيحدث بعد التكوين بفترة لا بأس بها ولا قيمة لهذا الصراع بتاتا فيما يتعلق بعملية الخلق. (4) جلجامش وأرض الأحياء
جلجامش بطل أسطوري ورد اسمه في ثبت ملوك سومر كملك لمدينة أوروك، من الأسرة التي حكمت بعد الطوفان. ونراه في أحد النصوص التاريخية السومرية في حرب مع آجا ملك المدينة السومرية المجاورة كيش. إلا أن قصصا كثيرة حيكت حول هذه الشخصية التاريخية، فرفعتها من مقام الواقع إلى عالم الأسطورة. ونرى جلجامش، فيما بعد، وقد انتقل إلى الأدب البابلي، حيث قامت العبقرية الأدبية الأكادية بجمع حكايات جلجامش السومرية وحياكتها في نسيج رائع، مع إضافات من ابتكار الكتاب الأكاديين الذين خرجوا علينا بملحمة متكاملة، هي درة الأدب القديم.
والأسطورة التي سنقدمها هنا،
4
هي إحدى تلك الأساطير السورية التي دخلت في نسيج الملحمة البابلية. ونرى فيها جلجامش الملك يمضي لصراع وحش رهيب، سعيا وراء تخليد ذكره ورفع اسمه. فلقد أدرك جلجامش أن الموت قادم لا محالة، وأن نسبه الإلهي لن ينجبه من مصير البشر، فقرر القيام بفعل مجيد يخلد به اسمه بعد موته؛ لأن الخلود هو خلود الذكر وعمل الإنسان الصالح.
إلى أرض الأحياء، تاق السيد إلى السفر.
إلى أرض الأحياء، تاق جلجامش إلى السفر.
قال لتابعه إنكيدو: «أي إنكيدو، إن الختم والآجر لم يأتيا بعد بالمصير المحتوم،
ولسوف أدخل أرض الأحياء، وأخلد لنفسي هناك اسما،
في الأماكن التي رفعت فيها الأسماء سأرفع اسمي،
وفي الأماكن التي لم ترفع فيها الأسماء سأرفع اسمي.»
فأجابه تابعه إنكيدو: «بلغ أوتو، البطل أوتو،
فتلك الأرض في رعاية أوتو (= إله الشمس).
أرض الأرز المقطوع في رعاية أوتو، بلغ أوتو.»
فرفع جلجامش بيديه جديا تام البياض،
وضغط إلى صدره جديا أسمر قربانا،
وبيده أمسك العصا ال[...] الفضية.
وقال مخاطبا أوتو السموات: «أي أوتو، إني لداخل أرض الأحياء، فكن نصيري،
إني لداخل أرض الأرز المقطوع، فكن نصيري.»
فأجابه أوتو: «إنك ل[...] حقا، ولكن ما بغيتك من تلك الأرض؟» «أي أوتو، سأتوجه لك بكلمة علك تصغي إلي،
وكلاما أسمعه لك؛ علك تصغي إلي.
في مدينتي يموت الرجل كسير القلب،
يفنى الرجل حزين الفؤاد.
أنظر من فوق السور
فأرى الأجسام الميتة طافية في النهر،
وأرى أني سأغدو مثلها حقا.
فالإنسان مهما علا لن يبلغ السماء طولا،
ومهما اتسع، لن يغطي الأرض عرضا.
وإن الختم والآجر لم يأتيا بعد بالمصير المحتوم.
سأدخل أرض الأحياء وأخلد لنفسي هناك اسما،
في الأماكن التي رفعت فيها الأسماء سأرفع اسمي،
وفي الأماكن التي لم ترفع فيها الأسماء سأرفع اسمي.»
فتقبل أوتو دموعه قربانا،
وكرجل رحيم أظهر له من رحمته، (ثم أسلمه) سبعة جبابرة، أبناء من أم واحدة؛
الأول: [...] الذي [...].
الثاني: الأفعى السامة التي [...].
الثالث: التنين الذي [...].
الرابع: النار الحارقة التي [...].
الخامس: الحية الهائلة التي تخلع الأفئدة و[...].
السادس: الطوفان المدمر الذي يطغى.
السابع: البرق الوامض لا يصده شيء.
يلي ذلك تسعة وعشرون سطرا، معظمها يحتوي على نقص في موضع أو أكثر. ولكن المعنى الإجمالي كامل الوضوح؛ فبعد أن يضع أوتو تحت تصرفه تلك الجبابرة السبعة، ينطلق جلجامش إلى مدينته طالبا خمسين متطوعا لمرافقته في رحلته. ويشترط في مرافقيه أن يكونوا بلا بيوت يملكونها أو زوجات أو أولاد، فيكون له ما أراد. ثم يمضي إلى الحدادين فيصنعون له ولمرافقيه أجود أنواع الأسلحة. وعندما تكتمل عدته يشرع في مغامرته. يقطع جلجامش بجماعته ستة جبال هائلة، وعند عبور الجبل السابع يجلس الركب للراحة، فيقع جلجامش في سبات عميق طويل، وعبثا يحاول أنكيدو إيقاظه:
هزه لم يتحرك.
تحدث إليه فلم يلق جوابا: «أيها المضطجع، أيها المضطجع،
أي سيدي جلجامش إلى متى ترقد؟
أظلمت الأرض، وانتشر الليل في كل مكان،
وها هو الغسق يرسل شعاعه الأخير،
وأوتو قد مال رافع الرأس إلى حضن أمه نيجال،
5
فيا سيدي جلجامش إلى متى ترقد؟
هل تترك من رافقك من أبناء مدينتك
يقفون في انتظارك عند سفح الجبل؟
هل تترك أمك التي ولدتك تجرر أذيال الخيبة في ساح المدينة؟»
وهنا انتبه من غفوته .
نهض وقد جللته الهيبة كرداء،
ضم إلى صدره عباءته التي تزن ثلاثين شاقلا،
وانتصب على الأرض كثور عتي،
ثم انحنى حتى لامس فمه الأرض وبرزت أسنانه: «أقسم بحياة أمي ننسون التي ولدتني، وبأبي لوجال بندا المقدس
إني سأجابه ذلك الكائن رجلا كان أم إلها.
ستتوجه خطواتي قدما نحو الأمام، لا وراء نحو المدينة».
وهنا ناشده تابعه المخلص قائلا: «أي سيدي، أنت لم تر ذلك الرجل، ولم تعرف منه الخوف،
ولكني رأيته ونالني منه الهلع الشديد.
إن لذلك الرجل أسنانا كأسنان التنين،
ووجهه يشبه وجه الأسد،
وله انقضاض كسيل دافق،
من جبهته التي تلتهم القصب والأشجار لا ينجو أحد.
فيا سيدي تابع رحلتك نحو تلك الأرض فأنا عائد إلى المدينة
لأخبر أمك بأمجادك فتهلل (ابتهاجا)،
وأخبرها بموتك المتوقع فتذرف الدمع الغزير.»
ولكن جلجامش يشجعه ويحثه على المضي قدما فيما قدما من أجله، فيتابع الركب سيره حتى يصل إلى غابة حواوا وحش الأرز. فيشرع رجال الحملة بقطع الأشجار حول عرين حواوا الذي يخرج للانقضاض على مهاجميه، ولكنه سرعان ما يقع في قبضة البطلين، ويبدأ في الاستعطاف لكسب حياته: «أي أوتو، لم أعرف لي أما ولدتني، ولا أبا رعاني؛
فأنت من أوجدني وأقامني في هذه الأرض ورعاني.»
ثم التفت إلى جلجامش واستحلفه بالسماء والأرض والعالم الأسفل.
أخذه من يده وشده إليه،
فأخذت جلجامش الشفقة به،
وقال لتابعه إنكيدو: «أي إنكيدو، لندع الطائر الحبيس يرجع إلى مقره،
لندع الرجل الأسير يعود إلى حضن أمه.»
فقال إنكيدو لجلجامش: «إن من لا حصافة عنده
سرعان ما يلتهمه نمتار
6
الذي لا تمييز عنده.
إذا عاد الطائر الحبيس إلى حضن أمه،
فلن ترى ثانية مدينة أمك التي ولدتك.»
وهنا قال حواوا لإنكيدو: «لقد أوغرت صدره ضدي يا إنكيدو.
أيها الأجير [...] لقد أوغرت صدره ضدي.»
عندما صدر منه هذا القول
قطعا منه العنق،
وقدماه قربانا لإنليل وننليل. (5) جلجامش وثور السماء
وهذه أسطورة أخرى بطلها جلجامش أيضا، ولكن اللوح الذي حملها إلينا قد وجد على درجة كبيرة من التشوه والنقص ، الأمر الذي يمنع تقديم ترجمة كاملة لها؛ ولذا سأكتفي بإعطاء فكرة عامة عن هذه الأسطورة، مع الاستعانة بالنص البابلي المتأخر الذي أدمجها أيضا في نسيجه، كما أدمج أسطورة جلجامش وأرض الأحياء.
بعد النقص الحاصل في بداية اللوح نجد الإلهة إنانا وهي تخاطب جلجامش، وتعدد له الهدايا والأعطيات التي ستغدقها عليه. ونستطيع هنا أن نستنتج اعتمادا على النص البابلي اللاحق أن الإلهة تعرض عليه هنا حبها والمنافع التي ستعود عليه إن هو اتخذها زوجة له. وعندما يعود النص للوضوح نجد إنانا في حضرة أبيها آن رب السماء، تطلب منه أن يعطيها ثور السماء لتقتل به جلجامش. لذا نستطيع الاستنتاج أن جلجامش قد رفض حب الإلهة ورفض عرض الزواج الذي تقدمت به. ولكن الإله آن يتردد في إعطاء ابنته المتهورة ثور السماء، فتلجأ إلى تهديده بخلعه عن العرش وإدارة الكون مع بقية الآلهة من دونه. فيخضع آن للتهديد ويسلمها قياد ثور السماء الذي يهبط إلى الأرض يعيث فيها فسادا، وينشر الخوف والهلع بين ظهرانيها. وهنا ينتهي الكم الواضح من النص السومري، ولكن النص البابلي يؤكد انتصار جلجامش على ثور السماء حيث يواجهه مع صديقه إنكيدو، فيقطعان رأسه ويقدمانه هدية للإله شمش (أوتو).
ولعلنا واجدين في تهديد إنانا لآن رب السماء وسيد الآلهة في هذا النص شبها واضحا بالتهديد الذي وجهته صنوها عناة الأوغاريتية لإيل رب السماء وسيد الآلهة في معرض طلبها منه الموافقة على بناء بيت لحبيبها بعل عندما قالت: «سيهتم أبي، إيل الثور، بالأمر، وإلا رميته إلى الأرض كحمل صغير، وجعلت الدم يجري في شعره الأشيب وفي شعيرات لحيته البيضاء.»
الفصل الثاني
التنين البابلي
(1) قتل اللابو
تتحدث هذه الأسطورة عن وحش جبار يدعى باللابو. وقد خرج هذا الوحش من الأعماق المائية إلى ديار الحضارة محاولا تدمير كل ما بناه الإنسان، إلى أن ينجح أحد الآلهة في القضاء عليه. يجري النص على النحو الآتي:
1
تنهدت المدينة و[...] الناس،
تناقصت أعداد البشر [...]
ولم يكن لنواحهم أحد ل[...]،
ولا لصراعهم أحد ل[...].
من [الذي أنجب] الحية؟
تعامة [من أنجب الحية].
2
قام إنليل برسم شكل (التنين) في السماء،
3
كان طوله خمسين ساعة مضاعفة، وارتفاعه ساعة مضاعفة،
4
وكان اتساع فمه ست أذرع و[...] اثنتي عشرة ذراعا،
أما محيط أذنه فست أذرع.
كان يستطيع قنص الطيور عن بعد ستين ذراعا،
وتسع أذرع في العمق يستطيع الانسلال تحت الماء.
كان يرفع ذيله [...]
وجميع آلهة السماء [...]
سجد الآلهة أمام سن في السماء.
وبلهفة أمسكوا بأذيال ردائه: «من ذا الذي سيمضي لقتل اللابو
وتخليص الأرض الواسعة
فتكون له السيادة من بعد على الجميع؟» (فقال الإله سن):
5 «امض يا تيشباك واقتل اللابو.
خلص الأرض الواسعة من شره
فتكون لك السيادة من بعد على الجميع.» - «لقد أرسلني سيدي لقتال وحش النهر،
ولكني لا أعرف اللابو.»
وهنا يصيب اللوح كسور وتشوهات تمنع من فهم محتوياته. ونقف عند خوف تيشباك وتردده في قتال التنين. وهذا ما يعيد إلى أذهاننا أجواء التحضير لقتال تعامة في الإينوما إيليش، عندما تهيب البعض نزالها قبل أن يتطوع مردوخ. وعندما يعود النص للوضوح نجد أنفسنا في معمعان المعركة، دون أن نعرف أي إله قد تجرأ على المضي للقاء اللابو: [...] فتح فمه وقال للإله [...]: «حرك الغيوم، اصنع زوبعة،
وخاتم حياتك (ضعه) أمام وجهك.
أطلق سهما واصرع اللابو [...].»
فحرك الغيوم، وصنع زوبعة،
وخاتم حياته (وضعه) أمام وجهه.
أطلق سهما (وصرع) اللابو [...].
ولثلاث سنوات، وثلاثة أشهر، ليل نهار،
جرى دم اللابو [...].
ينطبق على هذه الأسطورة التفسير العام الذي تقدمت به في فاتحة هذا السفر؛ فالتنين هنا نتاج القوى البدئية السابقة لتنظيم الكون، دفعت به المياه التي ترمز في الأسطورة لقوى العماء والفوضى، إلى الكون المرتب لزعزعة بنيانه وإعادته إلى حالته السابقة. كما ينطبق على النص تفسيرنا للأسطورة باعتبارها مغامرة للعقل الباحث عن الأسباب والغايات، وذلك في جزئها الخاص بشكل التنين. فعندما أتى إنليل لشرح خطة المعركة للآلهة، قام برسم شكل اللابو في السماء، يوضح عظمته وقوته، فكان درب المجرة الذي يقطع السماء المعتمة من أقصاها إلى أقصاها. وقد بقي ذلك الرسم محفورا في الأعالي إلى يومنا هذا. ومن ناحية أخرى ينطبق على الأسطورة التفسير الذي يؤكد أن التنين ليس إلا قوى اللاشعور المكبوتة؛ ذلك أن اللابو قد اندفع من أعماق المياه التي ترمز في الأسطورة إلى أغوار اللاشعور.
ويذكرنا التفسير البابلي لوجود درب المجرة في السماء بأسطورة إغريقية عن طفولة هرقل. فعندما تأتي الإلهة هيرا زوجة زيوس لإرضاع الطفل الخارق، يمتص من ثديها مصة قوية كانت كافية ليندفع الحليب منه إلى السماء مشكلا درب المجرة المعروف في اللغات الأوروبية باسم درب اللبن
milkyway
نسبة إلى لبن الإلهة هيرا الذي انتثر في الأعالي وما زال عالقا هناك. (2) الطائر «زو»
كان الطائر العملاق زو من قوى العالم الأسفل المدمرة. نرى رسومه على العديد من الأختام التي عثر عليها في أرض الرافدين، ويبدو فيها في هيئة هي مزيج من الإنسان والطائر. كما ورد اسمه في كثير من النصوص الطقسية وهو في صراع مع بعض كبار الآلهة. فأحد النصوص يصف مردوخ بأنه من حطم رأس زو، بينما يعزو نص آخر هذا العمل إلى الإله ننورتا. أما النص الذي نحن بصدده الآن فقد وصلنا في روايتين متشابهتين؛ الأولى من نينوى، والثانية من سوسة.
وسأقوم فيما يأتي بترجمة نص نينوى لأنه الأوضح والأكمل، مع الاستعانة بنص سوسة لتوضيح مواضع النقص في الأول.
6
تتلخص الأسطورة في أن زو يرغب في السيطرة على الآلهة جميعا واحتلال مركز الصدارة. ولن يتيسر له ذلك إلا إذا سرق ألواح الأقدار التي يحملها إنليل، تلك الألواح التي تعطي حاملها سلطة مطلقة في الآلهة والبشر والأكوان. ينجح طائر العالم الأسفل في مسعاه ويهرب بالألواح بعيدا تاركا الآلهة في جزع شديد للحادث الجلل الذي أسلم مصائر الأكوان للقوى العمياء. وكما هو الأمر في أساطير التنين السابقة، فإن مهمة القضاء على الوحش توكل إلى العديد من الآلهة، ولكنهم يتنصلون منها، إلى أن يتطوع أحدهم ويحقق نصرا مؤزرا. إلا أن تشوه اللوح الفخاري ونقصه يمنعنا من معرفة اسم الإله الذي نجح في تلك المهمة. والنص بمجمله ذو أصل سومري واضح؛ نظرا إلى أن الإله إنليل يظهر فيه كرئيس لمجمع الآلهة وحامل لألواح الأقدار: (بداية النص تالفة)
لقد شهدت عيناه سر سيطرة إنليل وقوته.
رأى تاج ملكه ورداء ألوهيته،
ورأى ألواح الأقدار وتملاها مرارا،
وكلما رأى أبا الآلهة، رب الدورانكي؛
طمعت نفسه في مركز إنليل: «سأحصل على ألواح الأقدار
وأمسك بمصائرهم جميعا،
سأرسي دعائم ملكي وأتحكم في الأقدار،
سأحكم فوق جميع الإيجيجي.»
وهكذا بعد أن صمم على التحرك
انتظر طلوع النهار عند باب غرفة إنليل،
وعندما مضى إنليل ليستحم في الماء الصافي،
وخلع تاجه فوضعه على العرش.
خطف ألواح الأقدار،
فاغتصب السلطة والملك والسيادة،
ثم طار زو حيث اختفى في جباله،
فساد الوجوم وعم الصمت،
وإنليل أبو الآلهة قد شلت حركته؛
فالحرم المقدس قد سرقت هيبته وضاعت روعته.
انطلقت الآلهة هنا وهناك للمشاورة.
فتح آنو فمه وقال
مخاطبا أبناء الآلهة: «ليقم ذلك الإله فيصرع زو
ويجعل اسمه عاليا في العالم المعمور.»
فدعوا باسم الأمير حدد بن آنو،
ثم تكلم الآمر الناهي آنو: «حدد، أيها المنتصر الجليل، ليكن انقضاضك حاسما،
وبسلاحك فلترسل البرق يصرع زو،
فيغدو اسمك عاليا في مجمع الآلهة العظام،
ولا نظير لك بين إخوتك الآلهة.
وستبنى لك المعابد وتشاد،
وفي جهات الأرض الأربع ستقام هياكل لعبادتك،
وستبنى هذه الهياكل حتى في إيكور،
فتكون جليلا في حضرة الآلهة ويعلو اسمك.»
فأجاب حدد متحدثا إلى آنو أبيه: «أي أبت، من يستطيع الاقتراب من تلك الجبال الرهيبة؟
وهل بين الآلهة أبنائك شبيه لزو؟
لقد أمسك بين يديه بألواح الأقدار،
واغتصب السلطة والملك والسيادة،
وطار بعيدا مختبئا في جباله،
فكلمته اليوم نافذة ككلمة رب الدورانكي،
من يعترضه يئول إلى تراب،
ورؤيته تثير في الآلهة الرهبة والقنوط.»
وهنا طلب منه آنو ألا يمضي في الطريق. (يلي ذلك تشوه وكسور في اللوح، وعندما يتضح النص نجد آنو جادا في إقناع إله آخر في المضي إلى زو):
فدعوا إليه شارا بن عشتار،
فتكلم إليه الآمر الناهي: «شارا أيها المنتصر الجليل، ليكن انقضاضك حاسما،
فيغدو اسمك عاليا بين الآلهة العظام،
ولا نظير لك بين إخوتك الآلهة،
وستبنى لك المعابد وتشاد،
وفي جهات الأرض الأربع ستقام هياكل لعبادتك،
وستبنى هذه الهياكل حتى في إيكور،
فتكون جليلا في حضرة الآلهة ويعلو اسمك.»
فأجاب شارا متحدثا إلى أبيه آنو: «أي أبت، من يستطيع الاقتراب من تلك الجبال الرهيبة؟
وهل بين الآلهة أبنائك شبيه لزو؟
لقد أمسك بين يديه ألواح الأقدار،
واغتصب السلطة والسيادة.»
إلى هنا ينتهي الجزء المقروء من النص، إلا أننا نستطيع الاستنتاج بأن واحدا من الآلهة قد تطوع لقتال زو وأكمل مهمته بنجاح، ذلك أن لقب قاهر زو قد ألصق بأكثر من إله، وبأكثر من عمل فني صور مصرع ذلك الوحش الجبار.
الفصل الثالث
التنين التوراتي
لم يترك إله اليهود يهوه صفة من صفات آلهة السوريين أو فعلا من أفعالهم، أو صلاحية من صلاحياتهم، إلا وادعاها لنفسه، كما ألمحنا إلى ذلك في سفر البداية. فهو إيل نفسه إله السموات السوري، لم يكتف بنقل صفاته وصلاحياته، بل ادعى لنفسه الاسم ذاته، وهو أدون (أدونيس)، وناداه به عباده في مواضع كثيرة من الكتاب المقدس. وهو مذلل المياه الأولى كمردوخ وبعل. نقرأ في التوراة: «صوت الرب على المياه، إله المجد أرعد، الرب فوق المياه الكثيرة، وصوت الرب بالجلال.»
1 «أنت متسلط على كبرياء الماء.»
2
وهو يركب السحاب كما يفعل بعل: «والجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح.»
3
كما لم يتورع يهوه عن مصارعة الوحوش الهائلة والتنانين وحيات البحر. وهو في سبيل ذلك يتخلى عن الشمولية والإطلاق؛ لأن الخالق لا يصارع مخلوقاته، بل يصارع أنداده.
وبدافع عن غيرته العظيمة من الإله بعل، الذي بقي اليهود وملوكهم يعبدونه إلى فترات متأخرة جدا من تاريخهم، نجد يهوه يجدد مرة أخرى الصراع القديم الذي خاضه بعل مع التنين لوتان، وذلك في نص توراتي يتطابق حرفيا مع النص الأوغاريتي. وقد أوردنا النصين في فصل التكوين التوراتي، ونوردهما هنا مرة أخرى:
النص الأوغاريتي
سفر إشعيا، 1: 27
والآن تريد أن تقتل لوتان
في ذلك اليوم يعاقب الرب
الحية الهاربة
بسيفه القاسي العظيم الشديد
الآن تريد أن تجهز على الحية الملتوية
لوتان الحية الهاربة
شالياط العتية
لوتان الحية المتحوية
ذات الرءوس السبعة
ويقتل التنين الذي في البحر
وفي نصوص أوغاريتية أخرى تجد أن عناة، حبيبة بعل، تقوم أيضا بقتل التنين وسحق الحية الملتوية:
4
أي جوبار وأوغار، ما الذي أتى بكما إلى هنا؟
أي عدو قد قام في وجه بعل؟
وأي خصم ناهض راكب الغيوم؟
ألست التي محقت يم حبيب إيل؟
ألست التي قضت عل نهر الإله العظيم؟
ألست التي أفنت التنين؟
وسحقت الحية الملتوية ذات الرءوس السبعة؟
وفي أماكن أخرى من التوراة نجد إشارات إلى التنين نفسه:
5
أنت شققت البحر بقوتك،
كسرت رءوس التنانين على المياه.
أنت رضضت رءوس لوياتان،
جعلته طعاما للشعب، لأهل البرية.
أنت فجرت سيلا وعينا.
أنت يبست أنهارا دائمة الجريان،
لك النهار ولك الليل أيضا.
أنت هيأت النور والشمس.
أنت نصبت كل تخوم الأرض.
الصيف والشتاء أنت خلقتهما.
في هذا النص نجد قصة أخرى للتكوين؛ فعملية الخلق تلي التغلب على المياه وعلى لوياتان وبقية التنانين. هذا الجو يذكرنا بصراع مردوخ مع تعامة، وقهره لها ولجيشها المؤلف من تنانين وأفاع ومخلوقات عجيبة.
وفي نص توراتي آخر، نقرأ وصفا حيا للوياتان، يعيد إلى ذاكرتنا وصف تعامة وجبروتها:
6 «من يفتح مصراعي فمه، دائرة أسنانه مرعبة. عطاسه يبعث نورا، وعيناه كهدب الصبح. من فيه تخرج مصابيح، شرار نار تتطاير منه. من منخريه يخرج دخان كأنه من قدر منفوخ، أو من مرجل. نفسه يشعل حجرا، ولهيب يخرج من فيه. قلبه حجر وقاس كالرحى. عند نهوضه تفزع الأقوياء. يحسب الحديد كالتبن، والنحاس كالعود النخر. حجارة المقلاع ترجع عنه كالقش. يضيء السبيل وراءه، فيحسب اللج أشيب، ليس له في الأرض نظير.»
وإلى جانب لوياتان هناك تنانين أخرى يصارعها يهوه ويتغلب عليها. منها رهب الذي نقرأ عنه في أكثر من موضع في العهد القديم: «استيقظي، استيقظي، البسي قوة يا ذراع الرب. استيقظي كما في أيام القدم، كما في الأدوار القديمة. ألست أنت القاطعة رهب ، الطاعنة التنين. ألست أنت هي المنشفة البحر، مياه الغمر العظيم، الجاعلة أعماق البحر طريقا لعبور المفديين ؟»
7
وهذا النص يذكرنا بحديث عناة في النص الأوغاريتي السالف الذكر: ألست التي محقت يم ... إلخ.
وفي مكان آخر في العهد القديم نقرأ عن رهب أيضا: «من يشبه الرب بين أبناء الله؟ إله مهوب جدا في جماعة القديسين، ومخوف عند الذين حوله. يا رب، إله الجنود، من مثلك قوي؟ رب، وحقك من حولك. أنت متسلط على كبرياء البحر، عند ارتفاع لججه أنت تسكنها. أنت سحقت رهب مثل القتيل، بذراع قوتك بددت أعداءك. لك السموات، لك الأرض أيضا. المسكونة وملؤها أنت أسستها. الشمال والجنوب أنت خلقتهما.»
8
يحتوي هذا النص على أصداء وثنية واضحة؛ فالرب واقف في مجمع الآلهة؛ أي أبناء الله، ولا نظير له بينهم كبعل أو مردوخ. وهو عظيم لأنه انتصر على المياه، وعلى التنين رهب، ثم يتابع أعمال الخلق، تماما كمردوخ.
وعن رهب نقرأ أيضا: «الرب لا يرد غضبه، ينحني تحته أعوان رهب.»
9 «بقوته يزعج البحر وبفهمه يسحق رهب. بنفحته السموات مسفرة، ويداه أبادتا الحية الهاربة.»
10
هذا وقد انتقل رهب إلى الأساطير المسيحية فيما بعد. ولكن الإله هنا لا يباشر بنفسه قتال التنين، بل يترك ذلك لأحد القديسين، وهو القديس جاورجيوس الذي تمثله الأعمال الفنية المسيحية في القرون الوسطى وهو يطعن بحربته التنين الرهيب.
سفر الفردوس المفقود
«وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها. وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من شجر الجنة تأكل أكلا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها.»
العهد القديم، سفر التكوين، 2: 15-17
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين .
قرآن كريم، الأعراف: 1
الفصل الأول
الجنة السومرية
منذ أن زالت المشاعة الابتدائية تحول العمل من متعة وتحقيق للذات إلى عبودية واغتراب، ومن طقس جماعي مرض، إلى وحدة قاسية بلا هدف أو غاية إلا لقمة عيش يومية تدفع للاستمرار يوما آخر. ومع نضوج المجتمعات الأبوية التسلطية وإحكام حلقاتها على الأفراد، صار الإنسان إلى حالة إحباط دائمة هي شرطه الأساسي في حياة تبدو بلا معنى ولا تسعى إلى غاية، سوى موت يضع حدا لفصل مؤلم. ولكن المجتمع التسلطي استطاع أن يحرم الفرد من كل شيء إلا من رغبة في التغيير بادية أو كامنة و... حلم. تجلت رغبة التغيير في ثورات البشر عبر التاريخ في سبيل حياة أفضل وحرية أكثر. وتجلى الحلم، بديلا عن الفعل في أدبيات البشر التي تصف عالما قادما، هو حرية كاملة ومساواة مطلقة وراحة من لعنة العمل المفروض على الإنسان. عالم لا مرض فيه ولا عناء ولا شيخوخة ولا موت. فكانت أساطير الجنة لدى كل الشعوب تعبيرا سلبيا عن رغبة في التغيير لم تخرج إلى حيز الفعل، أو فعل تم إحباطه فصار حلما ينتظر. (1) أسطورة العصر الذهبي
عبر السومريون عن ذلك الحلم في نص جميل يصف العصر الذهبي للإنسان قبل هبوطه إلى دنيا العبودية والعمل المغترب، حيث كان سيدا لنفسه وسيد الطبيعة:
1
في تلك الأيام، لم يكن هناك حية ولا عقرب ولا ضبع.
لم يكن هناك أسد ولا كلب شرس ولا ذئب.
لم يكن هناك خوف ولا رعب.
لم يكن للإنسان من منافس.
في تلك الأيام كانت شوبور أرض المشرق، أرض الوفرة وشرائع العدل.
وسومر أرض الجنوب، ذات اللسان الواحد، أرض الشرائع الملكية.
وأورى أرض الشمال، الأرض التي يجد فيها كل حاجته.
ومارتو أرض الغرب، أرض الدعة والأمان.
وكان العالم أجمع يعيش في انسجام تام،
وبلسان واحد يسبح الكل بحمد إنليل. (2) أسطورة دلمون
أما الجنة، بمفهومها الذي تجلى فيما بعد في التوراة، فتحدثنا عنها أسطورة أخرى هي أسطورة دلمون:
2
أرض دلمون مكان طاهر، أرض دلمون مكان نظيف،
أرض دلمون مكان نظيف، أرض دلمون مكان مضيء،
في أرض دلمون لا تنعق الغربان،
ولا تصرخ الشوحة صراخها المعروف،
حيث الأسد لا يفترس أحدا،
ولا الذئب ينقض على الحمل،
ولا الكلب المتوحش على الجدي،
ولا الخنزير البري يلتهم الزرع،
والطير في الأعالي لا [...] صغارها،
والحمامة لا [...] رأسها.
حيث لا أحد يعرف رمد العين،
ولا أحد يعرف آلام الرأس،
حيث لا يشتكي الرجل من الشيخوخة،
ولا تشتكي المرأة من العجز،
حيث لا وجود لمنشد ينوح،
ولا لجوال يعول.
في هذا الفردوس كان يعيش إنكي إله الماء العظيم، وزوجته ننخرساج الأرض- الأم، كما عاش في الفردوس التوراتي فيما بعد آدم وحواء. وقد أخرج إنكي ماءه وسقى تربة زوجته الأرض، فحول دلمون إلى جنة إلهية خضراء. ومن اتحاد الماء (إنكي) بالتربة (ننخرساج) يمتلئ الفردوس بالحقول والأشجار والثمار، كما تظهر مجموعة من إلهات النبات يقوم إنكي بإغوائهن تاركا زوجته.
ثم إن ننخرساج تقوم بخلق ثمانية أنواع من النباتات العجيبة. وقبل أن تفرح بعملها يرسل إنكي رسوله إيسمند الذي يقطف له تلك النباتات فيأكلها جميعا. وما إن تعلم الخالقة بذلك، حتى تغضب غضبا شديدا، وترسل على إنكي لعنة مقيمة: «إلى أن يوافيك الموت، لن أنظر إليك بعين الحياة.» إلا أن الآلهة الآخرين يجزعون لهذا الأمر؛ ذلك أن اللعنة على إنكي تعني شح المياه وغوصها إلى باطن الأرض تدريجيا. ويحار مجمع الآلهة في كيفية معالجة الأمر، خصوصا وأن ننخرساج قد غابت عن الأنظار حتى لا تغير رأيها أو تخضع لضغط أحد. أما إنكي فتشتد عليه الأمراض وتهاجمه ثماني علل بعدد النباتات التي أكلها، وأخذ ينهار تدريجيا. وأخيرا ينقذ الثعلب الموقف عندما يتطوع للبحث عن ننخرساج ويجدها في النهاية. وتخضع ننخرساج لمشيئة الآلهة وتقوم بشفاء إنكي عن طريق خلق ثمانية آلهة. كل إله يختص بشفاء أحد أعضاء إنكي العليلة.
ننخرساج :
ما الذي يوجعك يا أخي؟
إنكي :
إن فكي هو الذي يوجعني.
ننخرساج :
لقد أوجدت لك الإله ننتول.
ننخرساج :
ما الذي يوجعك يا أخي؟
إنكي :
إن ضرسي هو الذي يوجعني.
ننخرساج :
لقد أوجدت من أجلك الإله ننسوتو.
وهكذا يتابع تعداد أوجاعه، وتتابع ننخرساج خلق آلهة الشفاء من أجله، إلى أن يصل إلى ضلعه:
ننخرساج :
ما الذي يوجعك يا أخي؟
إنكي :
إن ضلعي هو الذي يؤلمني.
ننخرساج :
لقد أوجدت من أجلك الإلهة ننتي.
هذا ويناقش بعض علماء السومريات في أن كلمة «تي» في السومرية تعني الضلع، ولكنها تعني أيضا «أحيا» أو «جعله يحيا». أما كلمة «نن» فتعني سيدة، كما رأينا سابقا من تحليل اسم ننخرساج التي تعني سيدة الجبل. وعلى هذا يكون اسم الإلهة «ننتي» يعني سيدة الضلع أو السيدة التي تحيي. وهذه السيدة شبيهة بحواء التوراة التي أخذت من ضلع آدم؛ فهي سيدة الضلع، وهي حواء بمعنى التي تحيي.
لقد أسست الأسطورة السومرية لأساطير الجنة اللاحقة في المنطقة، ولأسطورة سقوط الإنسان، وفقدانه عالمه الذهبي القديم. ورغم أنه لا توجد بين أيدينا أسطورة سومرية تحكي كيفية فقدان الإنسان عصره الذهبي وهبوطه إلى عالم الذل والهوان، إلا أننا نستطيع افتراض وجود مثل هذه الأسطورة استنادا لما تقصه أسطورة العصر الذهبي السومرية علينا من أوضاع الإنسان السابقة على الهبوط.
الفصل الثاني
الجنة البابلية
لم يعثر حتى الآن على أسطورة بابلية مشابهة لأسطورة دلمون، رغم الإشارات الدالة على وجود مثل هذه الأسطورة. فنحن نعلم من أسطورة الطوفان البابلية أن أرض دلمون هي مكان الخالدين؛ لأن أوتنابشتيم وزوجته بعد أن ينقذا الحياة على سطح الأرض من الطوفان، يكافئهما إنليل يجعلهما من الخالدين، وكانا قبلا من البشر الفانين، ويسكنهما في دلمون حيث منابع الأنهار. دلمون إذن هي الجنة السومرية البابلية، وهي مرتع الآلهة الخالدين، ولكنها في نفس الوقت مسكن البشر ممن أسبغت عليهم نعمة الخلود. وتحدثنا ألواح أوغاريت عن جنة مماثلة. فالإله إيل يسكن عند منبع الأنهار أيضا، كما هو الأمر في دلمون وفي فردوس التوراة حيث تنبع أنهار فيشون وجيحون وحداقل والفرات.
أما سقوط الإنسان فتنقله لنا أسطورة أخرى وهي أسطورة آدابا. وآدابا هنا هو الإنسان الأول الذي خسر الخلود بسبب غلطة، وهذه الغلطة رغم أنها ترجع إلى سوء تفاهم وإلى سوء نية الإله إياه الذي خلقه، إلا أنها في نتائجها تتلاقى مع نتائج خطيئة آدم؛ فكلاهما خسر الحياة الأبدية وجلب الموت على ذريته، ونلاحظ هنا تشابه الاسمين آدم- آدابا.
قام الإله إيا بخلق آدابا لخدمة معبده، وصيد السمك للآلهة، وجعله عاقلا وأسبغ عليه الحكمة الكاملة، غير أنه لم يهبه الحياة الأبدية. وفي أحد الأيام بينما كان آدابا يصطاد على شاطئ الخليج العربي، هبت رياح الجنوب وقلبت قاربه ورمت به في الماء. فغضب لذلك ولعنها على ما فعلت، فانكسر أحد جناحيها ولم تستطع الهبوب مرة أخرى. وبعد سبعة أيام من اختفاء ريح الجنوب، دعي آدابا للمثول أمام آنو كبير الآلهة لاستجوابه على ما فعله. وقبل صعوده زوده خالقه «إيا» بعدد من النصائح، وأشار عليه أن يطيل شعره، ويلبس ثياب الحداد؛ للتأثير على الإلهين تموز وجيزيدا حارسي بوابة السماء، عندما يسألان عن سبب حداده، فيجيب أنه حزنا على تموز وجيزيدا اللذين كانا يعيشان في الأرض ثم اختفيا؛ فإن ذلك سيسرهما وسيسمحان له بالمرور. كما قال له إن طعام الموت وماء الموت سيقدمان له في السماء، وعليه ألا يأخذ منهما شيئا.
وعندما مثل آدابا أمام آنو واستجوبه قام تموز وجيزيدا بالوقوف إلى جانبه، ويبدو أن المسألة سارت في صالحه، فلم يكتف آنو بالعفو عنه، بل قرر مكافأته بضمه إلى صف الخالدين، طالما أنه دعي للمحكمة واطلع على أسرار السماء. فأمر له بطعام الحياة ليأكل، إلا أن آدابا ملتزما بوصية إيا لم يمد يده إلى الطعام. وعندما أمر له بشراب الحياة امتنع عن الشرب. فدعاه آنو للاقتراب منه ضاحكا وقال له: لماذا فعلت ذلك يا آدابا؟ لماذا لم تأكل ولم تشرب؟ أليست صحتك على ما يرام؟ ثم التفت إلى حاشيته وقال: خذوه وأعيدوه إلى الأرض. وهكذا خسر آدابا الحياة الأبدية لأنه لم يأكل ولم يشرب مما قدم له، فأعيد إلى الأرض الفانية يعمل ويتعذب هو وذريته من بعده.
عثر على الأسطورة في نسختين في مكتبة آشور بانيبال، وكل نسخة مكتوبة بخط مغاير، وتختلف قليلا في روايتها عن الأخرى. كما عثر على نسخة منها بالخط المسماري في أرشيف الفرعون المصري أمنحوتب الثالث، إلى جانب النصوص السامية الأخرى التي وجدت هناك، والتي كانت تشكل جزءا من التبادل الثقافي بين الحضارتين. وقد كتبت كل من النسختين على لوحين إلا أن الألواح قد وصلتنا في حالة مشوهة مع فقدان معظم أجزائها. (1) أسطورة آدابا، النسخة الأولى
1 (1-1) اللوح الأول
لقد أعطي كل الحكمة [...]
وأمره من أمر آنو وكلمته [...].
لقد زود بالفهم الكامل لإنفاذ كلمة الآلهة على الأرض.
لقد أعطي الحكمة ولكنه لم يمنح الحياة الأبدية.
في تلك الأزمان ابن أريدو الحكيم.
إيا خلقه ليكون أول البشر ورائدا لهم،
وأمر إيا الحكيم كان نافذا لا راد له،
فهو البارع والفائق الحكمة بين الآلهة.
خلق آدابا الطاهر حافظا للمعبد وقيما على الشعائر،
فكان خبازا يصنع الخبز.
كان خبازا يقدم الخبز لإريدو (مدينة إيا).
كان يقدم الطعام والماء كل يوم لإريدو،
وبيده الكريمة خط الألواح المقدسة
التي لم تكن لتوجد لولاه.
كان يشرع مركبه ويصطاد السمك لإريدو.
في تلك الأزمان آدابا ابن إريدو،
آدابا ابن إيا كان يئوب مساء إلى بيته،
ويقصد بوابة المدينة في نهاية كل يوم،
ويرسي مركبه على رصيفها في ميناء القمر الجديد.
وذات مرة هبت الريح ودفعت بمركبه بعيدا،
فراح يضرب بمجذافيه بقوة [...] في البحر الواسع. (بقية اللوح مفقودة) (1-2) الكسرة الثانية (البداية مكسورة)
لقد هبت ريح الجنوب وأغرقته
دافعة إياه إلى عالم إيا.
ريح الجنوب [...] «سأكسر لك جناحك.» وما إن نطق فمه بذلك
حتى كسر جناح الريح، ولسبعة أيام
لم تهب على أرض آنو.
استدعى آنو وزيره لابرات قائلا: «لماذا لم تهب رياح الجنوب في الأيام السبعة الأخيرة؟»
فأجابه وزيره لابرات قائلا: «إن آدابا ابن إيا قد كسر جناح رياح الجنوب.»
فلما سمع آنو هذا القول
نهض عن عرشه وصاح قائلا: «ليأتوا إلي به!»
وهنا عرف إيا بالأمر، وهو المطلع على مجريات السماء،
فألبس آدابا شعرا طويلا،
وزوده بوشاح الحداد يضعه عليه،
وقال له: «أي آدابا، ستمضي إلى آنو، الملك،
وفي صعودك ستأخذ طريق السماء،
وتقترب من بوابة آنو.
وسيكون في حراستها تموز وجيزيدا،
وعندما يريانك سيسألانك قائلين: أيها الإنسان،
من أجل من تبدو في هذه الهيئة؟
من أجل من ترتدي وشاح الحزن؟ فتجيب:
لقد غاب عن الأرض إلهان؛
ولذا تجدانني حزينا عليهما. فيسألان:
ومن هما الإلهان الغائبان؟ فتجيب:
إنهما تموز وجيزيدا. وهنا سينظران لبعضهما
وسيبتسمان ويقولان لك قولا كريما،
وسيتحدثان من أجلك في حضرة آنو،
وسيقفان إلى جانبك لدى مثولك أمام آنو.
ولسوف يقدم لك طعام الموت
فلا تأكله، وشراب الموت سيقدم إليك
لا تشربه، وسيعطونك عباءة
فالبسها، وزيتا فادهن به نفسك.
هذه وصاياي فاعمل بها، والكلمات
التي أقولها لك فاحفظها.»
ثم وصل رسول آنو وقال: «لقد كسر آدابا
جناح ريح الجنوب، وعليه أن يمثل أمام آنو.»
ثم أعطاه طريق السماء، وإلى السماء دفع به.
وعندما وصل إلى بوابة آنو
كان تموز وجيزيدا يقفان على البوابة،
وما إن شاهداه حتى صاحا به: «أيها الإنسان، من أجل من تبدو في هذه الهيئة؟
آدابا، من أجل من ترتدي وشاح الحزن؟» - «لقد غاب عن الأرض إلهان ولذا فأنا حزين.» - «ومن هما هذان الإلهان؟» - «إنهما تموز وجيزيدا». فنظرا إلى بعضهما،
وابتسما. وعندما دخل آدابا على آنو الملك،
رفع آنو صوته لما رآه قائلا: «اقترب مني يا آدابا. لماذا كسرت جناح ريح الجنوب؟»
فأجاب آدابا قائلا: «مولاي،
لقد كنت أصطاد السمك في عرض البحر لبيت سيدي،
وكان البحر هادئا كأنه المرآة،
ثم هبت رياح الجنوب وأغرقتني،
دافعة بي إلى عالم سيدي،
2
وفي ثورة غضبي
لعنت رياح الجنوب.» تموز وجيزيدا
وقفا إلى جانبه وقالا لآنو كلمات حسنة،
فهدأت خواطر آنو ولبث ساكنا: «لماذا كشف إيا لإنسان غير مقدس
مكنونات السماء والأرض؟
3
لقد جعله قويا وجعل له اسما
فماذا نصنع به؟ هاتوا له
بطعام الحياة ليأكل منه.»
فجلبوا طعام الحياة ولكنه لم يقربه، وشراب الحياة
فلم يشرب منه. وعباءة
جلبوا له فلبسها، وزيتا
جلبوا له فدهن به نفسه،
فنظر آنو إليه وضحك منه: «تعال إلي يا آدابا. لماذا لم تأكل ولم تشر؟
أليست صحتك على ما يرام؟» - «لقد أمرني إيا سيدي
ألا آكل أو أشرب.» - «خذوه وأعيدوه إلى الأرض.»
وهكذا فعل إيا كما فعل يهوه في الأسطورة التوراتية. لقد خلق الإنسان وحجب عنه الخلود. صنعه كاملا وحكيما وسيدا، ولكنه دفعه للخطيئة المميتة؛ لأن الحياة الأبدية يجب أن تبقى وقفا على الآلهة وحدهم. ونستطيع أن نلمح تشابها بين العباءة التي أعطيت لآدابا ليلبسها وبين الرداءين اللذين أعطيا لآدم وزوجه ليلبساهما عشية خروجهما من الجنة (وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما). (2) النسخة الثانية (2-1) اللوح الأول (البداية تالفة)
عندما سمع آنو هذه الأمور [...] وفي سورة غضبه وحنقه [...] أرسل من عنده رسولا [...] غير أن إيا العليم بسرائر الآلهة العظيمة [...] أرسل كلمة لآدابا [...] فحضر آدابا إلى إيا الملك [...]
ثم إن إيا العليم بما تخفي صدور الآلهة
دله على معارج السماء،
وأسدل عليه شعرا طويلا، [...] وألبسه وشاح الحزن،
وأخذ ينصحه قائلا له: «أي آدابا ستمضي الآن إلى آنو الملك،
فاسمع وصاياي واحفظ كلماتي،
عندما تصعد إلى السماء وتقرب بوابة آنو،
ستجد تموز وجيزيدا على بوابة آنو.» (البقية مكسورة) (2-2) اللوح الثاني (البداية تالفة)
أمر له بالزيت فدهن به نفسه،
وطلب له العباءة فلبسها،
فضحك آنو عاليا من فعل آدابا:
يا آلهة السماء جميعا من حفزه على ذلك؟
ثم يمنع النقص الحاصل في السطور من إعطاء فكرة واضحة عن بقية اللوح، إلا أننا نعلم أن فعلة آدابا قد جرت الأمراض والعلل على جنسه. غير أن هذه الأمراض والعلل قابلة للشفاء عن طريق الإلهة نن كارا إلهة الشفاء. ويبدو أن هذه الأسطورة كانت تتلى كجزء من تعويذة لشفاء المرضى.
ولقد عثر على ختم بابلي أثار كثيرا من الجدال بسبب تمثيله لقصة شبيهة جدا بقصة سقوط الإنسان التوراتية. نجد في الرسم رجلا وامرأة يجلسان متقابلين وبينهما شجرة يمدان يديهما إلى ثمارها، وخلف المرأة تنتصب حية طويلة في وضع أشبه بوضع الهامس في أذن المرأة.
فهل يحكي لنا هذا الرسم فعلا أسطورة السقوط الأصلية؟ وهل سنجد في المستقبل النص الذي يحدثنا عنه؟ في الواقع إن شدة قرب الرسم للرواية التوراتية يجعلني أميل للرأي القائل بأن هذا الختم يصور لنا رواية فقدت نصوصها لتظهر في التوراة من جديد. (2-3) متوازيات في أساطير الشعوب
إن الحديث عن ابتلاء الإنسان بالشرور والأمراض والأوبئة نتيجة خطئه يحضر للأذهان عددا من الأمثلة الموازية في ميثولوجيا الحضارات الأخرى ، ومنها أسطورة باندورا اليونانية؛
4
فقد عهدت الآلهة إلى بروميثيوس وأخيه أمر تجهيز المخلوقات بما يلزمها لمواجهة عوامل الطبيعة، ومشاق الحياة على الأرض، فقام أخوه منفردا بهذه العملية وأعطى كل شيء للحيوانات من شعر وصوف وأنياب وأظفار ... إلخ ... وترك الإنسان عاريا لا سلاح ولا كساء. لكن بروميثيوس، إحساسا منه بالمسئولية، قام بسرقة النار الإلهية من السماء، وأفشى سرها لبني البشر. فغضب زيوس أشد الغضب لفعلة بروميثيوس وقرر الانتقام منه، فأوعز إلى ابنه هيفستوس (فولكانو) أن يصنع نموذجا من طين أعطاه زيوس الحياة ودعاه (المرأة)، ثم جاءت الإلهات فأعطينها من حسنهن وجمالهن وعذوبتهن، وأطلق عليها اسم (باندورا) أي سيدة النعم، وأرسل بها زيوس إلى بروميثيوس وأخيه. أما الأول فقد كان حذرا من هدية زيوس ولم يقبلها، بينما قبلها الثاني واتخذها زوجة له. فما كان منها بعد أن استقر بها المقام إلا أن جاءت إلى الجرة الكبيرة التي كان زيوس قد أودعها لدى الأخوين قائلا لهما ألا يفتحاها ففتحتها ... ومنها خرجت إلى الأرض كل الأوبئة والأمراض والشرور، التي ما زال الإنسان مبتلى بها حتى الآن بسبب المرأة.
وتشترك أساطير شعوب عديدة في القول بمسئولية المرأة عن فقدان الإنسان للحياة الأبدية وابتلائه بالأوبئة والأمراض، منها بعض الأساطير البدائية كأسطورة قبائل في مونتانا. تقول الأسطورة:
5
كان في قديم الزمان إله عجوز. ثم إن هذا الإله فكر في أن يخلق الأشياء والإنسان ومظاهر الطبيعة المختلفة، فقام إلى عمله مرتحلا من الجنوب إلى الشمال، صانعا في طريقه الحيوانات والطيور والجبال والأنهار والوديان والشلالات، مشكلا صورة العالم كما نراه الآن. ثم إنه صنع نموذجين من الطين على شكل امرأة وابنها، وغطاهما بغطاء قائلا يجب أن تصبحا بشرا. ثم تركهما وعاد إليهما في اليوم التالي، ورفع عنهما الغطاء، فوجد أنهما قد تغيرا قليلا، فتركهما وعاد في اليوم الثاني والثالث والرابع، حيث وجد أن التحول قد تم، وأن باستطاعتهما الآن أن يكونا رجلا وامرأة ، فقال لهما انهضا وامشيا، ففعلا ذلك وسارا إلى جانب صانعهما إلى ضفة النهر، وهناك تساءلت المرأة هل نعيش للأبد أم تكون هناك نهاية لهذه الحياة؟ قال الإله: في الواقع لم أفكر بذلك بعد. ولكن انظرا إلي، سأرمي بهذه القطعة من روث الجاموس، فإن هي عامت على سطح الماء فإن الإنسان سيموت أربعة أيام فقط ثم يعود للحياة مرة أخرى، وأما إذا غرقت فسيكون هناك نهاية لحياته. ورمى القطعة فعامت، ولكن المرأة كانت طماعة وشرهة للحياة، قالت: بل سأرمي هذه القطعة من الحجر، فإن هي عامت سنعيش أبدا، وإن غاصت سنموت. ورمت بالحجر فغاص إلى القاع. قال الإله: حسنا. لقد قمت بالاختيار وسيكون هناك نهاية للإنسان.
الفصل الثالث
الجنة التوراتية
في رواية الجنة التوراتية تعود للظهور معظم العناصر الأسطورية التي وجدناها في الأسطورة السومرية والبابلية والكنعانية؛ فالجنة في التصور التوراتي هي مكان زرعه الإله في شرقي عدن، مكان راحة له ونزهة، وأسكن فيه آدم الذي خلقه. ويتطابق هذا المكان في كثير من صفاته وخصائصه مع ما رأينا من وصف الأسطورة؛ فهو مكان أمن وسلام يعيش الإنسان فيه بدعة واطمئنان، غير مضطر للعمل من أجل تحصيل قوته اليومي، حيث لا يعرف مرضا ولا حزنا ولا موتا. ويقع هذا المكان عند فم الأنهار، تنبع منه أربعة أنهار هي فيشون وجيحون وحداقل والفرات، تماما كالجنة الكنعانية حيث يعيش الإله إيل، رب السموات، عند منبع النهرين العظيمين، في وسط التيارين. كما نجد العناصر الأسطورية الخاصة بخلق الإنسان الأول تدخل في الرواية التوراتية؛ فقد خلق آدم من طين ومنه خلقت زوجته حواء.
وتروي لنا حكاية آدم وحواء التوراتية عن العصر الذهبي للإنسان كما روته الأسطورة السومرية، وعن سقوطه وخسارته الخلود، كما روت أسطورة آدابا البابلية.
ولنأت الآن إلى الرواية التوراتية كما وردت في سفر التكوين، الإصحاحين الثاني والثالث: «وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حية، وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله . وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة ، وشجرة معرفة الخير والشر. وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس. اسم الواحد فيشون، وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع أرض كوش، واسم النهر الثالث حداقل، وهو الجاري شرقي آشور، والنهر الرابع الفرات.
وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها. وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من شجر الجنة تأكلان أكلا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها؛ لأنك يوم تأكل منها تموت. وقال الرب الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معه نظيره. وجلب الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا آدم ذات نفس فهو اسمها ... فأوقع الرب سباتا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما. وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم. قال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة لأنها من امرئ أخذت؛ لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدا واحدا. وكانا كلاهما عريانين، آدم وامرأته وهما لا يخجلان.
وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقا قال الرب لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ قالت المرأة للحية من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة في وسط الجنة، فقال الرب لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. قالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الرب عالم أنه يوم تأكلان منه تتفتح أعينكما وتكونان كالرب عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية المنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق التين وصنعا لأنفسهما مآزر.
وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم وقال له : أين أنت؟ قال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ قال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. قال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية أغرتني فأكلت. فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذه ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين، وترابا تأكلين كل أيام حياتك، وأصنع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأن تسحقين عقبه. وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك. وقال لآدم: لأنك سمعت أقوال امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك، تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها؛ لأنك تراب وإلى تراب تعود. ودعا آدم امرأته حواء لأنها أم كل حي. وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما. وقال الرب الإله هو ذا الإنسان صار كواحد منا عارفا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا، ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها.»
بالإضافة لما طرحناه سابقا من متوازيات مع الأسطورة البابلية، أريد فيما يأتي تحليل عنصرين هامين في الرواية التوراتية، كانا قد ظهرا في ملحمة جلجامش البابلية. العنصر الأول: فكرة الحصول على المعرفة عن طريق الفعل الجنسي (أكل الثمرة)، الذي يلعب دور طقس التعدية والعبور (initiation) . والعنصر الثاني: دخول الحية كمسئولة عن خسارة الخلود.
فيما يتعلق بالعنصر الأول، تحدثنا ملحمة جلجامش بأن أحد الرعاة قد شاهد وهو يسوق قطيعه نحو نبع المياه، رجلا متوحشا يضاهي جلجامش قوة وجبروتا، وهو إنكيدو ابن البرية الذي عاش حياته مع وحوش الفلاة دون أن يعرف له أبا أو أما. فمضى الراعي إلى جلجامش يخبره بأمر ذلك المخلوق الفريد. تاق جلجامش إلى رؤية ذلك الرجل، وهو الملك الفخور بقوته التي لا يضاهيها أحد، فتفتق ذهنه عن حيلة يروض بها إنكيدو ويأتي به إلى المدينة. أرسل له إحدى البغايا المحنكات بفنون العشق والغرام، فكمنت له عند نبع المياه، وعندما أتى إنكيدو مع قطيع الغزلان لشرب الماء برزت له المرأة كاشفة مفاتنها. ترك إنكيدو قطيعه ولبث مع المرأة أياما وليالي يطارحها الغرام، مما كان له كبير الأثر في تحويله عن حياته الوحشية السابقة، فيصف النص البابلي إنكيدو بعد الفعل الجنسي مع المرأة بأنه قد صار واسع الفهم والمعرفة:
تعثر إنكيدو في جريه. لم يعد كما كان،
ولكنه صار ذكيا واسع الفهم والمعرفة.
1
كذلك آدم، تحول عن حياة البداءة التي عاشها في الجنة إلى حياة الأرض، حياة الحضارة التي يتعب فيها الإنسان ويكد. تحول آدم بعد أكل الثمرة المحرمة، ومباشرة الفعل الجنسي مع حواء، من مغمض العينين، كليل الذهن، مغلقه، إلى كاشف البصيرة، عارف: «فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عارف أنه يوم تأكلان منه، تتفتح أعينكما وتكونان كالله.» وهكذا بعد مرور آدم بطقس التعدية (أكل الثمرة المحرمة، الجنس)؛ دفع بالعقل الإنساني إلى محنته الكبرى، إلى التساؤل، التفكير، الكشف، تجاوز المعطى، ارتياد الأرض المحرمة. لقد هبط آدم من الحلم إلى الواقع، باع روحه لقاء المعرفة والحقيقة.
أما العنصر الثاني، وهو ظهور الحية كمسئولة عن خسارة الخلود، فإن ملحمة جلجامش تحدثنا أن جلجامش العائد من سفره المضني ومعه نبتة الحياة التي تجدد الشباب قد:
رأى جلجامش بركة ماء بارد.
نزل فيها واستحم بمائها،
فتشممت الحية رائحة النبتة.
تسللت صاعدة من الماء وخطفتها،
وفيما هي عائدة تجدد جلدها.
وهنا جلس جلجامش وبكى.
2
فرحلته التي طاف خلالها أصقاع العالم قد انتهت إلى لا شيء، وسرقت الحية نبتة الخلود. ورغم أن الرواية التوراتية تختلف شكلا عن ملحمة جلجامش، إلا أن الروايتين تتفقان مضمونا على أن الخلود وقف على الآلهة، وخسارة الإنسان له ليست نتاج غلطة، كما يبدو ظاهرا، بل أمر مقدر منذ البداية. ولم يكن الإنسان ليرتكب غلطته تلك إلا تنفيذا لمشيئة إلهية سابقة، وفي كلتا الروايتين تلعب الحية دورا أساسيا في البناء الدرامي للقصة.
أخيرا أريد التوقف قليلا عند كلمة عدن الواردة في النص التوراتي على أنها المكان الذي زرع فيه يهوه جنته. فالكلمة ربما كانت تحويرا بسيطا لاسم الإله أدون السوري، رب النبات والخصب والخضرة. وتعبير جنة عدن ربما كان مشتقا من جنات أدون المعروفة تماما في طقوس الخصب السورية القديمة.
يحدثنا جيمس فريزر في كتابه «الغصن الذهبي»
3
عن ذلك بقوله إن النساء السوريات في أعياد أدونيس، كن يصنعن سلالا عريضة يملأنها بتراب ضحل، ويزرعن فيها أنواعا متعددة من النباتات والأزهار، ثم يأخذن في العناية بهذه الحدائق الصغيرة مدة ثمانية أيام، حتى تورق وتزهر. إلا أنها لا تلبث أن تموت نظرا لضحالة الطبقة الترابية، وعدم تمكن النبات من مد جذوره في العمق. وهنا تحمل النساء حدائق أدونيس هذه، وقد علقت عليها صورة الإله، نحو البحر أو الأنهار حيث ترمى هناك. والمغزى من هذا الطقس واضح؛ فالنمو السريع للنباتات في السلال هو رمز القوة الإخصابية الفائقة للإله أدون. وموت هذه النباتات السريع هو رمز لمصرع الإله الشاب، وتأثير ذلك على الحياة النباتية التي تتعطل بموته. أما رمي النباتات في الماء مع صورة الإله، فهو فعل من أفعال السحر التشاكلي، يقصد به الإيحاء للمطر كي يهطل ويروي الطبيعة التي ماتت، وبعث أدون من مرقده. هذا ويورد السيد فريزر طقوسا مسيحية مشابهة كانت ما تزال قائمة في أوروبا، وخصوصا في حوض البحر المتوسط، حيث كانت تقوم النساء في عيد الفصح ويوم الجمعة الحزينة بزرع حدائق صغيرة في أطباق، توضع عليها صورة السيد المسيح بدلا من صورة أدونيس.
وفي اللغة العربية نستعمل تعبير جنات عدن وجنات النعيم تبادليا، وهنا نستطيع أن نلمح تشابها بين كلمة «النعيم» وكلمة «النعمان». والنعمان من أسماء أدونيس، وبقي في العربية من أصوله الآرامية ، وتسمى به العرب وما زالوا. وعليه تكون جنات عدن «أدون»، وجنات النعيم «النعمان»، تسميتين لمسمى واحد هو جنات أدونيس.
ولكلمة النعيم والنعمان أصداء في القواميس العربية، حيث نجد كلمة «نعم» تعني نضر واخضوضر،
4
وكذلك كلمة «الناعمة»
5
التي تعني الروضة أو الحديقة، وكلها ربما اشتقاقا من النعمان أو أدونيس إله الزراعة والخضرة والخصب. وإلى يومنا هذا نطلق على بعض أنواع الزهور الربيعية الحمراء اسم «شقائق النعمان»؛ أي جراح أدونيس. وذلك بقية من الاعتقادات القديمة التي كانت ترى على هذه الأزهار دم الإله القتيل الذي افترسه الخنزير البري.
يفسر فرويد ومدرسة التحليل النفسي أسطورة الجنة على أنها انعكاس للحالة التي عاشها الفرد في رحم أمه. إن وضع الإنسان الأول في الجنة وعيشه السهل دونما مشقة أو جهد أو قلق، هو صورة لما كان عليه الطفل قبل الولادة ملتصقا برحم أمه، يأتيه غذاؤه عن طريق الحبل السري، في حالة من الاستقرار والدعة والطمأنينة، حالة سوف يفتقدها في حياته الآتية كلها وحتى مماته. وسوف يبقى في حالة حنين دائم لها. وقد تجلى حنينه هذا في كل ما أنتج لا شعوره من أساطير تتعلق بفردوس قادم سيئوب إليه بعد نهاية عناء هذه الحياة.
وهناك تفسير تاريخي للأسطورة يقول به أرنولد توينبي؛
6
فمنذ عهود سحيقة تحركت جماعات من المتوحشين العراة من موطنهم الدافئ في المنطقة الحارة، واندفعت قدما نحو الشمال، عند بداية الربيع وحتى نهاية الصيف. ولم يفطن هؤلاء إلى أنهم قد خلفوا أرض الدفء الدائم. وعندما انتهى شهر أيلول بدءوا يشعرون ببرد غير مستحب في الليل، واستمرت الحالة تسوء يوما بعد يوم. ولما كانوا لا يدركون علة هذا التغيير أخذوا يرتحلون في هذا الطريق أو ذاك هربا من البرد. اتجه بعضهم شطر الجنوب راجعا إلى موطنه الأصلي، وما زال جزء من ذرياتهم على حالتهم القديمة تلك إلى يومنا هذا. أما من بقي هائما على وجهه في الاتجاهات الأخرى، فقد هلك إلا جماعة صغيرة ارتأت ألا سبيل إلى الهرب من الهواء القارس، وأنه لا بد من مواجهة الموقف. فاستعان أفرادها بملكة الإبداع، وهي أسمى ملكات الإنسانية جمعاء، وحاول بعضهم أن يجد ملاذا بحفر الأرض، وجمع آخرون أغصانا وأوراقا لإقامة أكواخ دافئة، واكتسى آخرون بجلود الحيوانات. وما لبث هؤلاء المتوحشون أن نجحوا في اجتياز بضع خطوات، تعتبر من أكبر الخطوات في سبيل الحضارة. وهكذا نالوا البقاء حيث ظنوا في البداية أنهم هالكون. وفي غضون عملية تكييف أنفسهم للبيئة القاسية، تقدموا للأمام خطوات هائلة مخلفين وراءهم بعيدا الجانب المداري من الإنسانية.
إن صورة آدم وحواء في جنة عدن ما هي إلا ترديد للمرحلة الاقتصادية القائمة على التقاط الطعام في فترة ما قبل الحضارات. أما السقوط الناتج عن الأكل من شجرة المعرفة، فيرمز إلى قبول تحد يهدف إلى ترك هذا التكامل التام، والشروع في عملية تفاضل جديدة قد تسفر عن تكامل جديد. كما أن الطرد من الجنة إلى عالم غير صديق يفرض على المرأة فيه أن تلد بالحزن، وعلى الرجل أن يأكل بعرق جبينه، هو تجربة ترتبت على قبول تحدي الحية. وما المعاشرة الجنسية بين آدم وحواء، التي تلت ذلك، إلا فعل الخلق الاجتماعي أثمرت ثمرتها في إنجاب ولدين يمثلان حضارتين؛ هابيل راعي الغانم، وقابيل زارع الأرض.
سفر قابيل وهابيل
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين .
قرآن كريم، المائدة: 27 «وحدث بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب، وقدم هابيل أيضا من أبكار أغنامه ومن سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وتقدمته، وإلى قايين وتقدمته لم ينظر.»
العهد القديم، سفر التكوين، 4: 5
إلى عهد قريب جدا (أواخر الأربعينيات) كانت المجتمعات الزراعية في سوريا ما زالت تعاني من غزوات البدو المتكررة، وخصوصا تلك القرى الزراعية الواقعة على حافة الصحراء، في فصول القحط وشح الأمطار، عندما تختفي مراعي بادية الشام، موئل البداوة منذ فجر التاريخ. وما زلت شخصيا أذكر كيف كنا نتحلق صغارا حول جدي الذي كان يعود إلى المدينة في نهاية فصل البذار أو انتهاء الحصاد؛ ليحدثنا عن «الغزو». هكذا كانوا يسمون هجوم البدو السريع والصاعق على شريط الخضرة الممتد على حدود البادية المترامية. ولا شك أن ذلك «الغزو» لم يكن ليتكرر كل عام، وأن جدي كان مضطرا لابتكار قصص جديدة، بعضها وقع وبعضها لم يقع.
ولقد طوت سنوات الخمسينيات في مجتمعنا السوري فصلا داميا طوي في أوروبا منذ قرون طويلة، فصلا ابتدأ منذ مطلع التاريخ المكتوب عندما اختارت بعض القبائل البدوية الاستقرار على شطآن الدجلة والفرات والعاصي لتزرع الأرض وتبني المراكز الحضارية، وتوسع بالتدريج مساحات الأراضي المزروعة على حساب براري الرعاة. ولقد ساعد تراكم الثروة لدى المجتمعات الحضرية، نتيجة العمل المثمر في الأرض، على زيادة قوتها، وسيرها قدما أشواطا بعيدة في طريق التقدم التقني، مخلفة وراءها المجتمع البدوي يدور في حلقته المفرغة مع دورات الفصول إلى يومنا هذا. كما ساعدت ثروة وتكنولوجيا المجتمع الزراعي على إخلال توازن القوى لصالحه، فراح يزحف تدريجيا نحو أراضي الرعاة، كلما تناقصت غلة الأحواض الخصبة التي كان يزرعها، وكلما ضاقت تلك المساحات القديمة بسكانها. كان التقدم بطيئا ولكنه ثابت ومستمر، كلما ربح المزارع أرضا بنى عليها وثبت أقدامه ومواقعه بانتظار وثبة جديدة يقوم بها جيل قادم. عدوان مستمر دام آلاف السنين، ثم بهدوء ودون ضجيج، دون أن يسمع التاريخ أو يسطر صرخات البدو المنعزلة، وهم يذبحون فرادى أو جماعات، دفاعا عن أرضهم، أو أثناء طغيانهم على الأراضي المزروعة لإشباع قطعانهم الجائعة. أما صرخات المراكز الحضارية فقد سجلها التاريخ بأحرف من نار ودم. ذلك أن هجوم البدو اتسم دوما بالسرعة والمفاجأة والتدمير السريع، ولم يكن هجومهم الدفاعي ليهدف إلى استعادة ما فقد من أرض، بل كان هجوما انتقاميا، يتخذ شكل هجوم الحيوان الجريح المحاصر. لقد حدثنا التاريخ مطولا، وأثار إشفاقنا، عن غزوات البدو الكبرى على بابل ونينوى وروما ومصر، وفيما بعد على بغداد ودمشق، عندما تدفقت عليهما جموع التتار الجائعة من أعماق الصحاري الآسيوية. ولم يحدثنا عن صراخ البدوي المنعزل وهو يذبح على يد أخيه المزارع. حدثنا التاريخ عن قابيل وهو يذبح أخاه هابيل، ولم يحدثنا عما فعله هابيل بأخيه ليستحق منه ذلك . إن أذن التاريخ لا تسمع إلا الأصوات العالية، أما الأصوات الخافتة فلا تصل إلى أسماعه.
ولقد انعكس هذا الصراع الاجتماعي بين الثقافتين الزراعية والرعوية، بين قابيل المزارع وهابيل الراعي، في أسطورة المنطقة. وبين أيدينا الآن ثلاثة نصوص سومرية ونص توراتي، وكلها تبحث موضوعا واحدا.
الفصل الأول
ثلاثة نصوص سومرية
حلت الثقافة السومرية، كما يمكن أن نتوقع من أول ثقافة زراعية في التاريخ، حلت ذلك التناقض بين المزارع والراعي لصالح المزارع في ثلاث أساطير معروفة. وفي هذه الأساطير يذهب المزارع والراعي إلى الآلهة يحتكمان فيما شجر بينهما من خلاف، حيث تحكم الآلهة للمزارع بالغلبة والتفوق والأفضلية على أخيه الراعي. (1) إيميش وإنتين
وجد هذا النص في عدد من الألواح تحتوي على 308 أسطر، ولكن الألواح في حالة سيئة من التلف تمنع من سرد حوادثها بشكل متسلسل ومتصل. إلا أننا بربط الأجزاء الواضحة مع بعضها نستطيع التوصل إلى الخطوط العامة للأسطورة.
1
يرغب الإله إنليل في غمر الأرض بالخضرة والمزروعات والأشجار، وتربية الحيوان والماشية عليها، والإكثار من منتوجاتها، فيخلق لهذه الغاية الأخوين إيميش الراعي وإنتين المزارع. يقوم الأول بتكثير المواشي وإنتاج الحليب والسمن والبيض وما إليها، بينما يقوم الثاني بنشر المزارع على الأرض وتنمية الحبوب ورعاية الأشجار. ولكن خصاما مجهول المصدر والسبب (بنتيجة النقص الحاصل) ينشأ بينهما، ويدخلان في مشادات ومناظرات عديدة، تنتهي بأن يتحدى إيميش الراعي أخاه المزارع ويذهبا إلى إنليل ليعرفا من هو المفضل عنده. ويعرض كل منهما قضيته، إلا أن إنليل يعلن صراحة أنه يفضل المزارع:
لقد أجرى إنتين ماء الحياة في كل بقاع الأرض،
وأنتج للآلهة كل شيء. إنه مزارع الآلهة.
فيا إيميش يا بني، كيف تقارن نفسك بإنتين أخيك؟
هذه كانت كلمات إنليل المقدسة العميقة المعبرة،
فانحنى إيميش وركع إنتين.
ثم إن الأخوين يتعايشان معا ويتعاونان؛ لأن أي خصام بينهما لن يؤدي إلى نتيجة طالما أن إنليل قد اتخذ قرارا، وقراره لا راد له ، وينتهي النص بمديح للأب إنليل.
أي إنليل، أيها الأب، نسبح بحمدك. (2) لهار وأشنان
رأينا عندما بحثنا في التكوين السومري كيف أن الآلهة قد خلقت الإله لهار وأخته الإلهة أشنان لتأمين الغذاء والكساء لهم. ولكن الآلهة لم تستطع الاستفادة بشكل تام من خدماتهما إلا بعد أن خلقت الإنسان الذي استطاع أن يدير ما خلقه هذا الإلهان ويستثمره.
كالبشر لما خلقوا أول مرة
لم يعرف الأنوناكي أكل الخبز،
لا ولم يعرفوا لبس الثياب،
بل كانوا يأكلون النباتات بأفواههم،
ويشربون الماء من الينابيع والجداول.
في تلك الأيام في حجرة الخلق،
في دولكوج بيت الآلهة، خلق لهار وأشنان.
ومما أنتج لهار وأشنان
أكل آلهة الأنوناكي، ولكنهم لم يكتفوا،
ومن حظائرهما المقدسة شربوا اللبن،
ولكنهم لم يرتووا؛
لذا، من أجل العناية بطيبات حظائرها
جرى خلق الإنسان.
2
وهكذا فلهار وأشنان هما بطلان حضاريان بعثت بهما الآلهة إلى البشر لتعليمهم الزراعة وتربية الدواجن والماشية. هذه الأشياء وغيرها، كالكتابة والفنون والنار، اعتبرت دوما أسرارا إلهية جيء بها إلى الأرض إما كرما من الآلهة، كما هو الحال في أسطورتنا هذه، أو عنوة واغتصابا كما رأينا في أسطورة بروميثيوس الإغريقي سارق النار الإلهية.
كان لهار يكثر المواشي ومنتجاتها على الأرض، أما أشنان فكانت تزيد في غلال الأرض ومنتجاتها، ولكن الخصام وقع بينهما وراحا يتجادلان في أيهما أفضل من الآخر، ويبدي كل منهما مآثره وفعاله. وكما هو الأمر في أسطورة إيميش، فإن لهار وأشنان يحتكمان إلى الآلهة، فيحكم إنليل وإنكي لأشنان المزارعة بالغلبة والتفوق، وتنتصر الزراعة للمرة الثانية. (3) أنكمدو ودوموزي
وفي هذه الأسطورة
3
نجد إنانا تبحث عن زوج فيتقدم لطلب يدها دوموزي الراعي وأنكمدو المزارع. وهي كموقف أولي تفضل أنكمدو.
أنا العذراء سأتزوج المزارع.
الفلاح الذي يزرع النباتات ويعطي الغلال الوفيرة.
الفلاح الذي ينتج الحبوب الغزيرة. (إلا أن أخاها أوتو إله الشمس يحضها على الزواج من دوموزي الراعي وتفضيله على الفلاح، فيأخذ بتعداد محاسنه وصفاته):
أي أختاه عليك بالراعي
الكثير الأنعام.
إنانا أيتها العذراء لماذا تعرضين عنه؟
إنا زبدته لطيبة، وحليبه لسائغ،
وكل ما يمسه يغدو براقا.
أي إنانا إن دوموزي الكثير الأنعام
مليء بالجواهر والأحجار الكريمة ، فلماذا عنه تعرضين؟
ستأكلان معا من زبدته الطيبة،
وهو البطل حامي الملك، فلماذا عنه تعرضين؟
ويلي ذلك تشوه في النص، ولكننا نعلم من الكلمات المتفرقة الواضحة أن إنانا تتابع إبداء وجهة نظرها في السبب الذي من أجله تفضل المزارع. وبعد ذلك يتغير المشهد فيدخل المسرح دوموزي نفسه مناقشا إنانا في رأيها، ومعلنا عن نفسه وما يستطيع تقديمه لها:
أفضل مني؟ أفضل مني؟ ما لدى الفلاح أفضل مني؟
إذا أعطاني نبيذه أعطيته لبني،
وإذا أعاطني خبزه أعطيته الجبن اللذيذ.
ويتابع دوموزي ذكر ما لديه، وأفضليته على ما يستطيع خصمه تقديمه. وذلك في حوارية طريفة، تأخذ الطابع المسرحي. ويبدو أن إنانا قد اختارت أخيرا الراعي، ولا ندري السبب في ذلك، فهل أقنعتها حججه؟ أم خضعت لمشيئة أخيها أوتو، أم لغاية أخرى في نفسها؟ على أن الراعي دوموزي لا يكتفي بهذا الانتصار، بل نجده يذهب إلى حقل أنكمدو ويستفزه في عقر داره ساحبا مواشيه وراءه تفتك بالمزروعات. ولكن أنكمدو يترفع عن الدخول معه في خصام، ويظهر تجاهه تسامحا ومودة:
أيها الراعي لماذا تريد أن تبدأ خصاما؟
أي دوموزي لماذا تريد أن تبدأ معي خصاما؟
ولماذا نعقد بيننا المقارنة؟
ألا فلتدع مواشيك تأكل عشب الأرض،
وفي مروجي الخضراء فلترتع قطعانك،
وفي سهول زابالام فلتأكل الحبوب،
ولتشرب من ماء نهري أونم. (على أن هذا الموقف المتسامح من المزارع لا يقابله من الراعي إلا استمرار في العداء والبغضاء):
أنا الراعي، لن تحضر حفل زفافي يا أنكمدو كصديق.
أيها المزارع، كصديق لي أيها المزارع كصديق لي لا تأت. (ولكن أنكمدو يتابع موقفه فيعرض الهدايا على العروسين):
ما الذي أستطيع تقديمه؟ سأجلب عدسا لك،
عدس ال[...] سأجلب لك.
وأنت أيتها العذراء إنانا، فكل ما يسرك
أيتها العذراء إنانا سأقدمه لك.
وهكذا ينتهي النص بانتصار الراعي دوموزي على الفلاح أنكمدو، وتأخذه إنانا زوجا لها. إلا أن هذا الانتصار لم يكن إلا بداية الكارثة لدوموزي المسكين الذي أرسلت به إنانا فيما بعد إلى العالم الأسفل لينوب عنها هناك، كما سنرى في أسطورة هبوط إنانا للعالم الأسفل. وتغدو التضحية بالراعي شرط انتصار الزراعة واستكمال دورة الخصب على الأرض، كما سنرى في أسطورة هبوط عشتار للعالم الأسفل. وهكذا فإن انتصار الراعي لم يكن إلا مؤقتا وزائفا ومرحلة تحضيرية لخسارته النهائية، بل وللتضحية به لضمان استمرار الحضارة الزراعية. وفي مراميها الأخيرة فإن هذه الأسطورة تتفق مع بقية أساطير أرض الرافدين في سيادة الفلاح وغلبته على الراعي.
ولعل النص التوراتي لا يبتعد كثيرا عن هذه الفكرة عندما يقبل الإله تقدمات هابيل الراعي مفضلا إياه عن قابيل المزارع، ولكن قابيل يقوم فيما بعد بقتل أخيه انتقاما منه.
الفصل الثاني
قايين وهابيل
يسير النص التوراتي على خطى النصوص السومرية المقدمة سابقا؛ فبعد هبوط آدم وحواء إلى الأرض ليعملا فيها ويحصلا قوتهما بعرق جبينهما، أنجبت حواء من زوجها آدم ولدين؛ الأول قايين الذي اشتغل بالزراعة، والثاني هابيل الذي اشتغل بالرعي وتربية الماشية. وحدث بعد مدة من اشتغال كل منهما بعمله، أن قاما بتقديم قربان للرب، حيث قدم قايين من ثمار الأرض التي يزرعها، وقدم هابيل ذبائح من قطعانه، فتقبل الرب قربان هابيل الراعي ولم يتقبل قربان قايين المزارع، فدفعت الغيرة قايين لقتل هابيل ودفن جثته في الصحراء. ويجري النص على النحو الآتي:
1 «وعرف آدم حواء امرأته، فحملت وولدت قايين فقالت: قد رزقت رجلا من عند الرب. ثم عادت وولدت أخاه هابيل، فكان هابيل راعي الغنم، وقايين كان يحرث الأرض. وكان بعد أيام أن قايين قدم من ثمر الأرض تقدمة للرب، وقدم هابيل أيضا شيئا من أبكار غنمه ومن سمانها. فنظر الرب إلى هابيل وتقدمته، وإلى قايين وتقدمته لم ينظر، فشق على قايين جدا وسقط على وجهه. فقال الرب لقايين: لم شق عليك وسقطت على وجهك؟ ألا إنك إن أحسنت تنل. وقال قايين لهابيل أخيه: لنخرج إلى الصحراء. فلما كانا في الصحراء وثب قايين على هابيل أخيه فقتله. فقال الرب لقايين: أين هابيل أخوك؟ قال لا أعلم، ألعلي حارس لأخي؟ فقال: ماذا صنعت؟ إن صوت دماء أخيك صارخ إلي من الأرض. والآن فملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دماء أخيك من يدك.»
قد تبدو هذه الرواية التوراتية لأول وهلة وكأنها تعطي الغلبة والتفوق لهابيل الراعي؛ لأن يهوه قد تقبل قربانه ولم يتقبل من قايين المزارع. ولكن المرامي النهائية للنص تتفق مع مرامي بقية النصوص؛ ذلك أن مقتل الراعي على يد المزارع إن هو إلا تثبيت لغلبة المزارع وقوته وتفوقه على الراعي. ولم يكن بإمكان النص التوراتي إلا أن يسير على هذا المخطط؛ لأن العبرانيين كانوا قوما رعاة، ولكنهم استقروا فيما بعد وزرعوا الأرض وبنوا المدن، وبقوا يكنون احتراما لتاريخهم الرعوي القريب، فجاء قبول يهوه لقربان الراعي تعبيرا عن مرحلتهم الرعوية السابقة واحترامهم لها بسبب قراءاتهم اليومية للتوراة. أما موت الراعي على يد المزارع فجاء نتيجة للأمر الواقع الذي عاشوه من غلبة الزراعة على البداوة.
وقد وردت قصة الأخوين في القرآن الكريم دون ذكر اسميهما، ولكن التقاليد الإسلامية تدعوهما قابيل وهابيل. والقصة القرآنية تقوم على عناصر القصة التوراتية مع إضافة عنصر الغراب، الذي علم قابيل كيف يدفن أخاه القتيل:
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين
سورة المائدة: 27-31.
مات هابيل تاركا أحفاده الرعاة في أسر الدورة المناخية السنوية، بعيدين عن أية مساهمة في ثقافة البشر وحضارتهم؛ فبدوي اليوم لا يختلف في شيء عن بدوي فجر التاريخ. أما قابيل فقد تسلم زمام الحضارة ودفع بها أشواطا إلى الأمام. أنتج المجتمع الزراعي، فالمجتمع الصناعي، واستطاع قابيل الوصول إلى الفضاء الخارجي، فهل يعيش أحفاد هابيل ليروا قابيل وقد قضى عليه تقدمه العلمي والتكنولوجي ذاته.
سفر العالم الأسفل
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم .
قرآن كريم، الزمر 71
لم يلهب خيال الإنسان شيء كما ألهبته فكرة الموت، ولم يثر عقله من أفكار كفكرة انعدام العقل ذاته. فما الذي ستكون عليه الحال عندما يمضي إلى النوم ولا يفيق أبدا؟ وكيف كانت حاله قبل أن يحل ضيفا على هذا العالم؟
من هنا كانت دورة الحياة والموت والبعث هي الفكرة المركزية في الدين والأسطورة، والفكرة الأساسية التي يتمركز حولها لا شعور الفرد في الماضي والحاضر. إن دراسة أحلام البشر المعاصرين تكشف عن نماذج من أحلام لا تختلف، في كثير أو قليل، عن أساطير العهود الغابرة التي كانت تعبيرا لا واعيا بشكل ما، عما يكنه الفرد في صميمه نحو فكرة الموت. وقد حاول الإنسان، وما زال، الاقتراب من مسألة الموت عن طريق ابتكار مجموعة من الرموز عبرت عنها الأسطورة في القديم، وتعبر عنها أحلامه في الزمن الحديث. وبدراسة ما أنتجه فكر الإنسان عبر العصور، نجد أن الموت لم يكن أبدا مرحلة نهائية من شأنها وضع حد لوجود الفرد بجميع صوره، بل اعتبر دوما بمثابة عملية تؤمن عبور الإنسان لحالة أخرى من الوجود، تختلف في كليتها عن الحالة التي ألفها في حياته على الأرض.
وسواء كانت هذه الحالة أفضل من سابقتها أم أسوأ، فإن وجودها في فكر الإنسان وخيالاته ولا شعوره كان دائما مترافقا مع وجود فكرة الموت، ولا نجد مطلقا في أي نتاج إنساني فكري أن فكرة الموت تقوم وحدها باعتبارها النقطة التي ينتهي عندها مسار الإنسان. وعلى هذا فإن الخوف من الموت لم يكن أبدا خوفا من العدم، بل كان خوفا من المجهول، من مغادرة وضع نعرفه ونألفه إلى آخر نحن به جاهلون.
وفي أساطير المنطقة لعبت فكرة الموت دورا هاما، وخصوصا في ديانات الخصب التي تقوم أساسا على فكرة موت الطبيعة وبعثها المتكرر، الذي هو انعكاس لموت الإله وانبعاثه من جديد. إلا أن الأمر يتغير إذا انتقلنا بفكرة الموت من مستواها الكوني إلى مستوى الإنسان الفرد؛ فالفرد لا يحيا إلا مرة واحدة على هذه الأرض، ينتقل بعدها إلى عالم الأموات، وهو ليس كالطبيعة المتجددة التي تكرر حياتها وبعثها كل عام، وليس كآلهة الخصب يموت ويحيا في دورة أزلية. وعلى هذا فليس أمامه إلا نوعان من الحياة؛ قبل الموت، وبعد الموت. وحالة بعد الموت هي الحالة الدائمة التي لا أمل معها بالعودة إلى الحالة السابقة، ولا بأي نوع من أنواع التناسخ أو التقمص، كما هو الأمر في أسطورة الشرق الأقصى. فإذا كان العالم الآخر هو دار البقاء، فما هو شكله؟ وما هي حالته؟ وما هي أحوال سكانه؟ على هذه الأسئلة الحائرة تصدت أساطير العالم الأسفل للإجابة.
نظر الإنسان في سوريا وبلاد الرافدين لعالم الموتى باعتباره عالما سفليا يقوم تحت عالمنا القائم لمسافة ليست بالبعيدة. ويشكل طبقة وسطى بين سطح الأرض ومياه الغمر الأولى. أطلق السومريون عليه اسم كور. وكلمة كور تعني في الأصل الجبل. إلا أنها أطلقت أيضا على الوحش السفلي الجبار الذي اختطف الإلهة إريشكيجال غنيمة له بعد اكتمال الخلق والتكوين. وقد أعطى هذا الوحش اسمه للعالم الأسفل رغم أنه لم يعد للظهور في الأساطير ولا ورد له ذكر في العبادات. وإريشكيجال الإلهة المخطوفة التي أبحر إنكي لإنقاذها من براثن كور لم توفق في العودة للأرض مرة ثانية، ولا حتى على طريقة برسيفوني زميلتها اليونانية التي اختطفها هاديس، ولكنها بتوسط الآلهة الكبار كانت تعود للحياة إلى حضن أمها فترة محددة في كل عام، تقفل بانتهائها راجعة إلى مسكنها السفلي. وإريشكيجال هذه تغدو السيدة المطلقة لهذا العالم المرعب وتتزوج من آلهة آخرين تجعل لهم السيادة معها. أما كور فليس له من هذا العالم إلا الاسم فقط. كما أطلق السومريون على العالم الأسفل اسم كيجال؛ أي الأسفل العظيم. ومن هنا جاء اسم إريشكيجال؛ أي سيدة الأسفل العظيم، التي أطلق البابليون عليها فيما بعد اسم أراتكيجالي المشتق من الكلمة السومرية، كما أطلقوا عليهم اسم أرجالا. وأطلقوا على العالم الأسفل أسماء متعددة منها أريصتاتاري؛ أي الأرض التي لا عودة منها. ويلاحظ أن الشطر الأول من الكلمة وهو أريص مشابه للكلمة العربية أرض.
تمضي إلى هذا العالم أرواح الموتى دون تمييز، فيمضي إليه الصالح والطالح، الغني والفقير، العبد والأمير، إلا أن كل إنسان يحتفظ بالمكانة نفسها التي كانت له في الحياة الأولى. نستدل على ذلك من أحد الألواح السومرية الذي يحدثنا عن وفاة أحد ملوك سومر، وكيف أخذ يقوم هناك بتقديم القرابين إلى آلهة العالم السفلي والهدايا، وكيف أنه اقتيد إلى مكان هيئ له خصوصا. ويجري الدخول إلى عالم اللاعودة من فتحات في الأرض كتلك التي تشرق منها الشمس والفتحة التي تغرب منها، والفتحة التي أسقط منها جلجامش آلتيه الموسيقيتين كما سنرى في نص لاحق. إلا أن أي قبر يصلح للنزول أيضا؛ فأرواح الموتى تغادر أصحابها عبر القبر نفسه إلى سكناها الأخيرة. وأول ما يهبط الزائر الجديد يصادفه نهر هابور، وهو نهر العالم الأسفل، ويحييه ملاح النهر هامو طابال ذو الأربعة رءوس كرأس الطير، وينقله في قاربه إلى الطرف حيث بوابات مدينة الموتى.
ونعثر على أقدم مشاهد العالم الأسفل في أسطورة إنليل وننليل، التي أوردناها في فصل التكوين، حيث ينفى إنليل إلى العالم الأسفل بسبب اعتدائه على الإلهة ننليل. ولكن هذه تتبعه إلى منفاه فيجامعها أربع مرات وفي كل مرة تحمل منه بإله من آلهة العالم الأسفل، وهم؛ ميسلامتايا، ونرجال، وننازو، وإليجيبيل. ونعرف من الأسطورة شيئا عن نهر العالم الأسفل وملاحه وبواباته. إلا أن الأسطورة السومرية الأخرى: هبوط إنانا إلى العالم الأسفل، هي التي تقدم لنا إيضاحات مفصلة ووصفا دقيقا. وفي هذه الأسطورة تترك إنانا سيدة السماء وإلهة النور والحب كرسيها السماوي لتنزل إلى عالم الأموات، حيث مملكة أختها الكبرى وغريمتها إريشكيجال إلهة الظلام والموت، في زيارة مؤقتة تعود بعدها للحياة ثانية. ورحلة إنانا هذه تعطينا معلومات تفصيلية عن عالم اللاعودة؛ فهو عالم حصين خلف سبعة جدران عالية وسبع بوابات حصينة عليها حراس غلاظ شداد، وما إن يقترب القادم من البوابة الأولى حتى يعلن البواب اسمه لتسمعه إريشكيجال، ثم يقاد عبر البوابات السبع، وعند كل بوابة يتخلى عن شيء من متاعه وملبسه وزينته وفق القوانين الموضوعة لذلك العالم. إلى أن يمثل عاريا أمام إريشكيجال وبطانتها السبع، وهم كبار آلهة العالم الأسفل، لتقرير مصيره ومكانه ووضعه العام في عالم الأموات. إلا أن هذه الأسطورة ومتوازياتها البابلية والكنعانية لم تكن أساطير مكرسة أساسا للعالم الأسفل، بل لشرح الفكرة الأساسية في ديانات الخصب والمتعلقة بموت الإله وبعثه من جديد؛ لذلك فإننا سنبحثها مفصلا في «سفر الإله الميت» القادم، وسنقتصر في هذا السفر على بحث الأساطير التي وجدت أصلا للتعبير عن عالم الموتى.
الفصل الأول
الجحيم السومري
تقدم لنا الأسطورة السومرية: «جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل» وصفا مفصلا لعالم الموتى. وقد ذكرنا في فصل التكوين مقدمة الأسطورة في معرض حديثنا عن المفاهيم السومرية في الأصول.
وجدت ألواح الأسطورة في مدينتي نيبور وأور السومريتين، وعمل عدد من العلماء في استنساخ الألواح المكتشفة منها ونشرها. إلا أن الترجمة الكاملة للأسطورة لم تتم إلا على يد السيد س. ن كريمر. الذي عثر في متحف إسطنبول على عدد من كسرات الألواح التي تكمل ما استنسخ ونشر من الكسرات السابقة، فعمل على ترتيب النص كاملا بشكل مفهوم وترجمه للمرة الأولى عام 1938م.
وقد كان لترجمة هذه الأسطورة وفهم محتواها العام قيمة عظيمة؛ لأنها ألقت الضوء على مسألة لفها الغموض مدة طويلة؛ فهي توضح أن اللوح الثاني عشر من ملحمة جلجامش البابلية هو ترجمة شبه حرفية للجزء الثاني من الأسطورة السومرية. وبذلك تحققت توقعات مترجمي ودارسي الملحمة البابلية، عندما اعتقدوا بأن اللوح الثاني عشر ليس إلا قصة غريبة أدمجت في سياق الملحمة دون أن يكون لها علاقة وثيقة بها. وسأقوم هنا بتقديم نص الأسطورة اعتمادا على النصين السومري والبابلي؛ لأن النص البابلي يكمل كثيرا من النواقص والفجوات في النص السومري.
تجري القصة على النحو الآتي:
1
بعد المقدمة ينتقل النص للحديث عن شجرة الحلبو (ربما الصفصافة) التي نمت على ضفة نهر الفرات، وعاشت وكبرت بفضل مياهه زمنا. إلا أن ريح الجنوب هبت يوما واقتلعت الشجرة فحملتها مياه الفيضان. وكانت الإلهة إنانا تسير على مقربة، فمدت يدها وحملت الشجرة إلى أوروك مدينتها المفضلة وموضع حرمها المقدس، حيث زرعتها في حديقتها وأولتها كل عناية واهتمام؛ لتصنع من خشبها بعد أن تكبر كرسيا وسريرا.
ومرت السنون والشجرة تنمو وتكبر، إلا أن أفعى خبيثة اتخذت لنفسها مسكنا عند قاعدتها، وعلى أغصانها الضخمة بنى طائر الزو (الوارد ذكره في فصل التنين) عشا لصغاره، وفي وسطها اتخذت ليليث - شيطانة القفار - مقرا لها. وبذلك لم تعد إنانا المسكينة قادرة على الوصول لشجرتها الحبيبة، فوقعت في غمة وأسى، وراحت تبكي وهي الفتاة اللاهية أبدا، الفرحة دائما. ثم مضت إلى أخيها أوتو إله الشمس لدى خروجه الصباحي من غرفة نومه وسردت على مسامعه قصتها مع شجرة الحلبو، ولكن أوتو تلكأ في مساعدتها، فهرع إليها جلجامش ملك أوروك وبطلها المقدام (الذي رأيناه في أسطورة سومرية أخرى يقتل وحش غابة الأرز)، لابسا درعه السميك وحاملا فأسه الجبارة، فقتل الحية عند قاعدة الشجرة. فلما رأى طائر الزو هذا المشهد فر هاربا بصغاره إلى الجبال، أما ليليث فقوضت بيتها وعادت إلى القفار حيث اعتادت أن تصيد. عند ذلك عمد رجال أوروك ممن رافقوا جلجامش إلى قطع الشجرة وتقديمها لإنانا لتصنع لنفسها منها الكرسي والسرير. ولكن إنانا اعترافا منها بفضل جلجامش صنعت له من قاعدة الشجرة آلة موسيقية هي البكو، ومن قمتها صنعت له آلة أخرى هي المكو - ربما كانت الأولى طبلا والثانية عصاة - وقدمتها له هدية. ففرح البطل بالهدية، وراح مسرورا بها يعزف هنا وهناك إلى أن سقطت منه في كوة إلى العالم الأسفل، فمد يده وساقه لاسترجاعها دون طائل، فجلس هناك يندب ما ضاع منه:
أيا بكي من سيعيدك إلي من العالم الأسفل؟
ويا مكي من سيرجع بك من العالم الأسفل؟ (وهنا يسمعه خادمه إنكيدو الذي رافقه في الأسطورة السابقة إلى أرض الأحياء، وقاتل معه الوحش الرهيب، ويخف إليه ملهوفا):
لماذا يا سيدي تبكي؟ وعلام يتوجع قلبك؟
بكك سآتيك به من العالم الأسفل،
ومكك سأرجعه إليك من العالم الأسفل. (فينصرف جلجامش إلى تحذيره من مخاطر النزول إلى تلك الأرض، شارحا له قوانين عالم الموات، وما يجب عليه أن يفعل وألا يفعل هناك): «إذا عزمت على النزول إلى العالم الأسفل،
فإن لدي كلمة أقولها لك فاستمع لها،
ونصيحة أضعها أمامك فخذ بها:
لا تضع عليك ثيابا نظيفة وإلا خف إليك الأموات.
ولا تضمخ نفسك بالعطور الطيبة
كي لا تجذبهم الرائحة فيتجمعوا حولك.
ولا ترم رمحا (عند تجوالك) في العالم الأسفل
لئلا يتكأكأ عليك من أصابهم رمحك.
ولا تحمل بيدك هراوة كي لا تهيم حولك الأشباح.
لا تضع في قدميك صندلا.
وفي العالم الأسفل لا تصرخ ولا تبك.
لا تقبل زوجتك المحبوبة،
ولا تقبل ابنك الحبيب،
ولا تضرب ابنك الذي تكره
حتى لا يمسك بك صراخ العالم الأسفل، (صراخ) تلك المضطجعة أم ننازو، تلك المضطجعة
2
التي لا يغطي جسدها رداء،
ولا يستر صدرها الحرام غطاء.»
فلم يعط إنكيدو أذنا صاغية لمشورة سيده.
وضع عليه [حلة نظيفة]،
فهجم الأموات عليه وتصايحوا،
ودهن نفسه بالعطور الثمينة،
فتجمعوا لفوحانها حوله.
ورمى حربته في العالم الأسفل،
فحاق به من [أصابتهم] حرابه. [وأمسك] بيده هراوة،
فتراقصت أمامه الأشباح. [وانتعل] في قدميه صندلا، [وأحدث] جلبة [في العالم الأسفل].
قبل زوجته التي يحب،
وضرب زوجته التي يكره.
قبل ابنه الذي يحب،
وضرب ابنه الذي يكره.
فأمسك به صراخ العالم الأسفل، (صراخ) تلك المضطجعة أم ننازو، تلك المضطجعة
التي لا يغطي جسدها رداء،
ولا يستر صدرها الحرام غطاء،
ومنعت عنه الصعود من عالم الأموات.
ولدى تأخر إنكيدو في العودة عرف جلجامش ما حدث له، فاضطرب فؤاده وهرع إلى نيبور (إيكور في النص البابلي) مدينة الإله إنليل، فسجد أمامه وبكى طالبا معونته: [...] بكى السيد ابن ننسون خادمه إنكيدو: «أيها الأب إنليل، لقد سقط بكي إلى العالم الأسفل،
كما سقط مكي إلى العالم الأسفل (أيضا).
فأرسلت إنكيدو ليرجعهما، ولكن العالم الأسفل أمسكه.
لم يقبض عليه نمتار ولا أمسك به آشاك،
ولكن العالم الأسفل أمسكه.
لم يسقط في المعركة، في ساح البطولة،
ولكن العالم الأسفل أمسكه.»
فلم يجبه إنليل بكلمة، فمضى إلى إيكيشيرجال موطن سن: «أيها الأب، سن لقد سقط مكي إلى العالم الأسفل،
كما سقط بكي إلى العالم الأسفل (أيضا). (تكرارا لما سبق أن قاله للإله إنليل)
فلم يجبه سن بكلمة. فمضى إلى أيابسو موطن إيا: «أيها الأب إيا لقد سقط مكي إلى العالم الأسفل،
كما سقط بكي إلى العالم الأسفل (أيضا). (ويتكرر هنا للمرة الثالثة مقطع احتجاز إنكيدو)
وعندما [سمع] الأب إيا [ذلك] [قال لنرجال] البطل الصنديد: «نرجال يا أيها الصنديد، [يا ابن بيليتالي]،
فلتفتح الآن ثقبا في العالم الأسفل،
تستطيع منه روح إنكيدو الصعود من العالم الأسفل، [فيشرح مسالك العالم الآخر لأخيه].»
وعلى الفور فتح نرجال ثقبا في العالم الأسفل،
فانسلت من خلاله روح إنكيدو وكأنها الهواء،
وتعانق (الصديقان) وقبلا بعضهما بعضا،
ثم أخذا يتحدثان ويتحاوران: - أخبرني أيها الصديق، ألا أخبرني أيها الصديق،
حدثني عن مسالك العالم الذي شهدت. - لن أخبرك أيها الصديق، لن أخبرك،
ولكن إذا كان علي أن أخبرك بمسالك العالم الذي رأيت
اجلس (أولا) وابك. - سأجلس أولا وأبكي. [إن جسمي ...] الذي لم تلمسه في العناق وقلبك مبتهج،
تنهشه الهوام حتى غدا كالخرقة، (جثة) مليئة بالتراب.
فصرخ: يا ويلاه! وسقط على وجهه في التراب.
صرخ جلجامش: يا ويلاه! وسقط على وجهه في التراب: - هل رأيت الذي لم ينجب أولادا؟ - نعم، لقد رأيت. (سطران مكسوران) - هل رأيت الذي أنجب ولدا واحدا؟ - نعم، لقد رأيت.
إنه ساجد عند الجدار يبكي بحرقة. - هل رأيت الذي أنجب ولدين؟ - نعم، لقد رأيت.
إنه يسكن في بيت من الآجر ويأكل الخبز. - هل رأيت الذي أنجب ثلاثة أولاد؟ - نعم، لقد رأيت.
إنه يشرب الماء من ينابيع الأعماق. - هل رأيت الذي أنجب أربعة أولاد؟ - نعم، لقد رأيت.
فقلبه فرح كأنه [...]. - هل رأيت الذي أنجب خمسة أولاد؟ - نعم، لقد رأيت.
إن يده مبسوطة كالكاتب الطيب،
ويدلف إلى المكان (عالم الموتى) بيسر وسهولة. - هل رأيت الذي أنجب ستة أولاد؟ - نعم، لقد رأيت. [...] - هل رأيت الذي أنجب سبعة أولاد؟ - نعم، لقد رأيت.
إنه مقرب للآلهة وهو [...]. (عدد من الأسئلة غير واضح المضمون بسبب بعض النقص) - هل رأيت الذي قتل في ساح المعركة؟ - نعم، لقد رأيت.
إن أباه وأمه يمسكان جسده، وزوجه تبكي عند رأسه. - هل رأيت الميت الذي تركت جثته في العراء؟ - نعم، لقد رأيت.
إن روحه لا تجد راحة في العالم السفلي. - هل رأيت الميت الذي لا تجد روحه من يعتني بها؟ - نعم، لقد رأيت.
إنه يأكل الأقذار وما يرمى في الشوارع من فتات.
لقد حققت هذه الأسطورة مقاصد شتى؛ ففي مقدمتها أطلعتنا على آراء السومريين في التكوين، وعلى سبب وجود إريشكيجال في العالم الأسفل، ومنها عرفنا سبب تسمية عالم الأموات بكور وأحوال الموتى فيه. وبالإضافة إلى ذلك يبدو أن للأسطورة أهدافا تتعلق بإقرار عدد من الممارسات الدينية والاجتماعية؛ ففيها حض على الإكثار من الإنجاب لأن الفرد يعامل وفق عدد الأولاد الذين أنجبهم في الحياة. وفيها تأكيد على شعائر الدفن، وعلى ضرورة تقديم القرابين لأرواح الموتى لتجد ما تأكله في العالم الآخر.
الفصل الثاني
الجحيم البابلي
إذا انتقلنا إلى بابل وآشور وجدنا أن تصور الأكاديين للعالم الآخر وأحوال الموتى فيه هو استمرار للخيال السومري. ومن الأساطير التي تؤدي الغرض في هذا المجال أسطورة حلم أمير في العالم الأسفل، وأسطورة نرجال وإريشكيجال.
وجدت أسطورة حلم أمير في آشور على لوح كبير يرجع عهده للقرن السابع قبل الميلاد. ونص الأسطورة نثري مؤلف من أسطر طويلة. وهو نص ثمين جدا لاكتماله نسبيا ودقة وصفه ووضوح لغته. تحكي لنا الأسطورة عن أمير آشوري اسمه كومايا كان تواقا لرؤية العالم الأسفل. ولهذه الغاية كان يقدم القرابين لإريشكيجال وزوجها نرجال، ويرفع لهما الصلوات لتحقيق مراده. وأخيرا تحققت أمانيه ولكن في الحلم، فرأى فيما يشبه النائم أنه قد هبط إلى الدار الآخرة ، ورأى معالمها وكاد يغدو سجينا لها، ثم عاد ليقص ما عرض له من رؤى مروعة: (1) حلم أمير في العالم الأسفل
1
تمدد كومايا لينام مساء، فعرضت له رؤيا (عجيبة): لقد رأيت روعته المخيفة. رأيت نمتار وزير العالم الأسفل وسيد أقداره. كان يمسك بيده اليسرى لبدة رجل جاث أمامه، وبيده اليمنى كان يمسك سيفا [...]. (رأيت) نمتارتو زوجته. كان لها رأس الكوربيو، أما يداه وقدماه فكانت بشرية. أما إله الموت فكان له رأس تنين ويداه بشريتان وقدمان [...]. (رأيت) شيدد
2
الشرير. كان له رأس رجل ويداه. على رأسه عمامة، وقدماه قدما طائر. أما اللوجابو فكان له رأس أسد، وأربع أيد بشرية وقدمان. (رأيت) الموكيل ريش ليموتي. كان له رأس طير وجناحان مبسوطتان يطير بهما جيئة وذهابا. أما يداه وقدماه فكانت بشرية. ورأيت حمو طابال ملاح العالم الأسفل. كان له رأس طائر الزو، أما يداه وقدماه فكانت بشرية. [...] رأس ثور، ويداه يدا بشر وقدماه. رأيت أوتوكو الشرير. كان رأسه لأسد، ويداه وقدماه لطائر الزو، وشولاع الذي يملك رأس أسد أيضا، ولكنه ينتصب على ساقي أيل. (رأيت) ماميتو. كان لها رأس عنزة ويدان بشريتان وقدمان. ونيدو حارس بوابة العالم الأسفل. كان رأسه لأسد وأطرافه لطائر. وفيماليو ذا الرأسين؛ واحد لأسد والثاني ل[...]. [...] ثلاثة أرجل؛ اثنتان لطائر والثالثة لثور، وعليه مهابة وروعة. ورأيت إلهين لم أعرف اسميهما؛ أحدهما له رأس وأطراف طائر الزو، و[...].
والآخر له رأس إنسان عليه عمامة، بيده اليمين هراوة وباليسرى [...]، كان مجمل ما رأيت خمسة عشر إلها عبدتهم جميعا.
وبالإضافة إليهم كان هناك رجل، جسمه أسود كالقار، ووجهه كوجه الزو، وقد توشح بعباءة حمراء. بيده اليسرى قوس، وباليسرى كان يحمل سيفا، ورجله اليسرى كأنها أفعى.
رفعت بصري وإذا بي في حضرة نرجال الصنديد جالسا على عرش جلالته، على رأسه العمامة الملكية، وبيديه الاثنتين سلاحان رهيبان لكل سلاح رأسان. [...] من ذراعيه ينبعث البرق، وعلى يمينه وشماله جلس الأنوناكي الآلهة الكبار في انحناء. (نظرت حولي)، كان العالم الأسفل مليئا بالرعب والصمت. فمد (نرجال) يده وأمسك بجزتي وجرني إليه.
عندما تطلعت إليه ارتعدت فرائصي. غمرتني هيبته فوقعت على قدميه أقبلهما ساجدا. وعندما انتصبت تطلع إلي وهز رأسه.
وصرخ في وجهي صرخة هائلة، وزأر زئيرا غاضبا كأنه العاصفة الهادرة وصولجانه في يده، لائق بجلاله، مرعب كأفعى خبيثة.
اقترب مني قاصدا قتلي، غير أن مشاوره إيشوم الشفيع الذي يحفظ الأرواح ويحب الحقيقة (والعدالة) قال له: «أي ملك العالم الأسفل، لا تقتل الرجل. [أنقذ حياته] لتصل أخبار عظمتك إلى أنحاء الأرض، وجبروتك على الفسقة الظالمين.» فهدأ غضب نرجال كبركة باردة.
ثم قال: لماذا أزعجت زوجتي الحبيبة ملكة هذا العالم الأسفل؟ إن أمرها الذي لا راد له سيقضي بأن يسلمك بيبلو سفاح العالم الأسفل إلى البواب لوجال سولا فيقودك خارجا عبر بوابة عشتار.
ثم استفاق الأمير من رؤياه مذعورا، وانطلق كالسهم خارج بيته هائما في شوارع المدينة صارخا أواه! ... وا حسرتاه! ... وأخذ يحثو التراب على رأسه ويمضغه في فمه قائلا لأهل آشور الذين تجمعوا حوله أن يخشوا إريشكيجال ونرجال ويفعلوا وفق أوامرهما. (2) إبليس البابلي أو نرجال وإريشكيجال
اكتشف نص هذه الأسطورة في تل العمارنة بمصر مع أسطورة آدابا الواردة الذكر في فصل الفردوس. وكان هذان النصان يستعملان في صف لتدريس اللغة الأكادية للطلبة المصريين. والكسرات التي تضم الأسطورة موزعة بين المتحف البريطاني ومتحف برلين، وهذه الكسرات قد انفصمت عن لوح واحد.
تحكي الأسطورة عن سبب وجود نرجال في العالم الأسفل، وكيف صار ملكا هناك وزوجا لإريشكيجال الرهيبة:
3
عندما أقام الآلهة مأدبة (فاخرة)،
بعثوا رسولا عنهم
لأختهم إريشكيجال (يبلغها): «إذا كنا نستطيع الهبوط إليك،
فإنك لا تستطيعين الصعود إلينا،
فهلا أرسلت من لدنك رسولا لنعطيك نصيبك؟»
فبعثت إريشكيجال بوزيرها نمتار،
فصعد نمتار إلى السماء العليا الأخيرة،
ودخل المكان على الآلهة المجتمعين،
فنهضوا جميعا لتحية نمتار
رسول أختهم العظيمة.
إن الأسطر التي تلي حتى نهاية الكسرة مشوهة تماما، ولكننا من سياق النص نستطيع أن نستنتج أن جميع الآلهة نهضوا احتراما لنمتار، إلا واحدا منهم هو نرجال؛ فقد بقي جالسا. وقد نقل المبعوث لسيدته ذلك عندما عاد إليها، فثارت للإهانة البالغة، وأعادت نمتار على أعقابه إلى مجمع الآلهة السماوية طالبة أن يسلم إليها نرجال أسيرا لتصب عليه لعنة الموت قائلة: «إن الإله الذي لم يقف أمام رسولي
يجب أن يسلم إلي لأقتله.»
فمضى نمتار لينقل حديثها للآلهة،
فأدخله الالهة ليستمعوا له: «أمسكوا الإله الذي لم يقف أمامي،
وابعثوا به إلى سيدتي.»
ثم قام نمتار بعدهم فوجد إلها غائبا في المؤخرة: «إن الإله الذي لم يقم لي ليس هنا.»
فعاد (إلى سيدته) وأخبرها [...] عددتهم (يلي ذلك بضعة سطور مشوهة، نستنتج منها أن إريشكيجال كررت الضغط على مجمع الآلهة فنزلوا عند رغبتها.) «خذوه إلى إريشكيجال فبكى وناح
أمام أبيه إيا: «إن إريشكيجال في إثري،
وهي تأبى علي الحياة.» «لا يجزع فؤادك،
4
سأعطيك سبعة عفاريت وسبعة أخر،
فيذهبون معك؛ موتابريك
5
شارابدو، رابيصو، طيريد، إيديبتو
أومو، ليبو [هؤلاء العفاريت الأربعة عشر ستمضي معك].»» وهكذا
عندما وصل نرجال إلى بوابة
إريشكيجال صاح قائلا: «افتح بابك أيها البواب،
وارفع مزلاجه لأستطيع الدخول فأمثل أمام سيدتك
إريشكيجال، فقد أرسلت إليها.» فمضى البواب
وقال لنمتار: «إن إلها يقف عند البوابة،
فهلا أتيت لفحصه ليستطيع الدخول.» فمضى نمتار
وعندما رآه قال مبتهجا [...]
سيدتي إنه الإله الذي اختفى
لشهور خلت من أمامي ولم يعد للظهور. «أحضره لي، فإنني سأقتله حال مثوله أمامي.»
فمضى نمتار وقال لنرجال: ادخل يا مولاي
إلى بيت أختك، ومرحبا بقدومك (سطور تالفة) (ولكن مخطط نرجال الذي وضعه بمساعدة إيا كان يقضي بانقضاضه مع العفاريت المرافقة له، في لحظة الدخول، على ملكة العالم الأسفل وغلبها على أمرها): [...] يقف على الباب الثالث وموتابريك على الرابع،
شارابدو على الخامس ورابيصو على السادس.
طيريد على السابع،
إيديبتو على الثامن.
بينو على التاسع، وصيدانو على العاشر. ميكيت
على الحادي عشر، وبيلوبري على الثاني عشر،
أومو على الثالث عشر، وليبو على الرابع عشر.
وهكذا احتجزها داخل قصرها،
ولنمتار المحارب أعطى أمره أن افتح الأبواب،
6
وبغمضة عين سأسرع إليك.
وبداخل القصر قبض على إريشكيجال،
من شعرها نازلا بها عن عرشها
إلى الأرض ليقطع رأسها. «لا تقتلني يا أخي؛ فلدي كلمة أقولها لك.»
أنصت نرجال وتراخت قبضتاه، بينما هي تبكي
وتنتحب: «ستكون زوجي وأكون زوجتك، وسأجعل لك ملكا
وسلطانا على العالم الأسفل الكبير، وسأضع بين يديك
ألواح الحكمة، وتكون سيدا (معظما)،
وأكون امرأة لك.» عندما سمع نرجال هذا القول
رفعها إليه وقبلها ومسح دموعها: «إن ما أردت مني القيام به لشهور خلت
سيتحقق لك الآن.»
7
وهكذا تنتهي الأسطورة على نحو يثير الانتباه لتشابه بعض عناصرها مع أسطورة لوسيفر في التعاليم المسيحية؛ فكما كان نرجال إلها سماويا هبط إلى الأسفل بسبب رفضه إظهار الاحترام لرسل الآلهة إريشكيجال، وتحول بذلك إلى إله في عالم الظلام والموت، كذلك كان أمر لوسيفر الذي تحدثنا عنه تعاليم آباء الكنيسة، وكيف تحول من سيد بين الملائكة إلى إبليس سيد الشياطين. وهذا ملخص غير واف للأسطورة المسيحية: (بين الملائكة التي خلقها الله كان هناك ملاك فائق الجمال اسمه لوسيفر؛ أي حامل الضياء. وكان من صف الملائكة المقربين الذين يعكسون مجد الله وعظمته. ولما خلق الله آدم شعر لوسيفر بالمكانة الخاصة التي أفرد بها الله هذا المخلوق الجديد، وأمعن النظر في صميم الثالوث المقدس، وعرف أن الله يعد لهذا المخلوق مكانة أعلى فأعلى تهدد مكانة لوسيفر نفسه، الذي يعتقد بأنه الأعلى بين جميع المخلوقات، قطعة فريدة من صنع الخالق. ورأى لوسيفر ببصيرته أكثر من ذلك؛ فالإله نفسه سوف يتجلى في المستقبل في جسد إنساني من طينة آدم المخلوق.
ورغم أن لوسيفر يعرف تماما اللعنة الأبدية التي ستحيق به نتيجة الثورة على الإله، فقد فضل أن يتمرد ويتمرد إلى آخر الزمن على أن يتخلى عن كبريائه وكرامته الملائكية السامية، وذلك بتأدية فروض الولاء لمن هو أقل منه شأنا وسموا. وقد استخدم لوسيفر إرادته الحرة التي منحه الله إياها كاملة غير منقوصة، وأظهر العصيان بأن رفض إظهار الاحترام لآدم كما أمر الله جميع الملائكة. وقد عاضده فيما بعد آلاف من الملائكة. فلما أداروا ظهورهم لنور الله العظيم ، دفع بهم إلى عالم الظلام الأبدي، فتحول الملائكة إلى شياطين ولوسيفر على رأسهم سيدا مطلقا لمملكة الشر والظلام، عدوا لله والإنسان.)
8
هذا وقد عادت قصة إبليس ورفضه السجود لآدم للظهور في القرآن الكريم بصيغ متعددة. راجع: البقرة 34، الأعراف 11، الحجر 31، الإسراء 61، الكهف 50، طه 116، ص 74.
ولعل معرفة بعض عادات الدفن لدى سكان المنطقة القدماء تعطينا فكرة واضحة عن طبيعة تصورهم للعالم الآخر، وطبيعة الاستمرار فيه. ولعل أقدم نص يفيدنا في هذا المجال هو لوح من أيام الملك السومري أوروكاجينا ملك لكش، يتحدث فيه عن إصلاحاته. وقد خصص بعض هذا النص للعادات التي كانت سائدة في دفن الموتى، فنقرأ: «عندما كان يوضع الميت في قبره، توضع معه سبع جرار من الجعة، وأربعمائة وعشرون رغيفا من الخبز، ووزنتان من الحنطة، وعباءة، ووسادة». وقد تطابقت مكتشفات المقابر مع هذا النص إلى حد بعيد؛ ففي مدينة أور وكيش كشفت الحفريات عن عدد كبير من المقابر، وفي كل مقبرة نجد أطباق الطعام والملابس والحلي وعدة الحرب مدفونة مع الميت. وتتضاعف الأشياء المدفونة ويزداد عددها بارتفاع مكانة الميت الاجتماعية، حتى إن مقابر الملوك كانت تحتوي على جثث عدد من خدمه وحشمه الذين كان عليهم أن يموتوا معه لمرافقته للعالم الأسفل، ولم تعرف على وجه الدقة الطريقة التي مات بها هؤلاء الأتباع المخلصون، ولكن يرجح أنهم قد تجرعوا نوعا من السم الزعاف. إن وجود مثل هذه الأشياء يدل على أن موتى العالم الآخر إنما يستعملون لمعاشهم نفس ما يستعمله الإنسان في هذه الحياة؛ فهم يأكلون ويشربون ويهجعون بنفس الطريقة، ولكنه طعام لا تصحبه متعة، وشراب لا ترافقه بهجة، ونوم ثقيل كنوم الكوابيس، ووجودهم بكامله وجود سكوني لا حرارة فيه ولا حركة. وحتى طعامهم وشرابهم متوقف على ما يقدمه لهم سكان العالم الأعلى من قرابين وأضحيات، وإلا أكلوا التراب والغبار. وكذلك الأمر إذا لم تدفن أجسادهم في قبورها بالوسائل المعروفة وتركت في العراء ، فإن أرواحهم لن تعرف الراحة وتظل هائمة إلى أبد الآبدين. وربما تزعج هذه الأرواح الهائمة حياة الأحياء وتنغص عليهم عيشهم. نقرأ على سبيل المثال النص الآتي (مترجما عن
King ): «أي شمش يا إلهي ... إن شبحا مرعبا يجثم على ظهري. يلاحقني كظلي في الليل وفي النهار، جاعلا شعر رأسي ينتصب رعبا، ووجهي يلتهب خوفا ... ففمي جاف كالتراب، وجسدي خدر مشلول ... هل هو روح هائمة لا تجد مستقرا؟ سواء كان هذا أو ذاك. أي شمش، يا إلهي أتوسل إليك؛ هذه عباءة لملبسه، وهذا حذاء لقدميه، وقطعة جلد لمنطقته، وماء قراح لشرابه، وطعام مئونة لرحلته هذه جميعا ... فليمض إلى حيث مغرب الشمس فيسلم إلى نيدو كبير حراس العالم الأسفل ليدخله ويوصد خلفه».
من هنا كان لزاما على أهل الميت دفنه وفق الطقوس المتبعة وتزويده بما يلزم ريثما يصل للعالم الأسفل، ومن ثم الاستمرار في تقديم الطعام والشراب والكساء له بعد دفنه عن طريق التقدمات المختلفة، وتقديم القرابين لآلهة العالم الأسفل لتكون رفيقة به. وهذه الطقوس الجنائزية والأضاحي هي التي تعين الميت أكثر من أي شيء آخر.
ولكن ما فائدة العمل الصالح والحالة هذه إذا كان الجميع يهبطون إليها دون استثناء، فيعاملون على قدم المساواة بشكل عام مع بعض الاختلافات التي تفرضها المكانة الاجتماعية السابقة للمتوفى؟ في الواقع إن العمل الصالح من شأنه أن يفيد صاحبه في هذه الحياة. فخشية الآلهة وعبادتها وإقامة المعابد لها واتباع أوامرها، كلها أمور من شأنها إطالة حياة صاحبها والمد في عمره. وفي الأقوال الشائعة في هذا المجال قولهم: «إن القرابين تمد في العمر ... وخشية الأنوناكي تطيل أيامك على هذه الأرض.»
ومن صفات جولا إلهة الشفاء أنها تطيل عمر عبادها. كما نقرأ دعاء لأحد ملوك بابل يقول فيه: «أدعوك يا إلهي أن احفظني من الخطيئة نحو ذاتك العظيمة، وامنح لي حياة مديدة وعمرا طويلا، وازرع في فؤاد ابني وبكري بيلشازار مخافتك وخشيتك، فلا يقترف ذنبا ليمنح أياما كثيرة.»
وعن تغلات بلاصر الأول تقرأ قوله عن أبيه إن: «ما قدمته يداه من أفعال وقرابين قد سرت فؤاد الآلهة فعاش عمرا طويلا.» وعن صارغون الآشوري نقرأ قوله: «لدوام الصحة وطول العمر وامتداد الحكم والسلطان أسجد إليك أيتها الآلهة وأتعبد.» وعلى العكس من ذلك فإن الخطيئة تقصر العمر وتقطع سلسلة الأيام. وكما يقول أحد النصوص فإن: «من لا يخشى الآلهة سيكسر عوده كقضيب من قصب.»
الفصل الثالث
الجحيم التوراتي
كانت نظرة التوراة للموت والعالم الآخر انعكاسا لنظرة أهل الرافدين؛ فعالم الموتى هو عالم سفلي تذهب إليه أرواح الموتى جميعا دون تمييز، فنجد فيه القديسين والناس العاديين معا. وليست عملية الموت إلا مرحلة تقود الفرد من حالة إلى أخرى من أحوال الوجود عن طريق مفارقة الروح للجسد. وقد عبر كتاب التوراة عن مفارقة الروح للجسد بقولهم: اضطجع مع آبائه. وربما كانت هذه الجملة تعني في الأصل أن يدفن الميت في مقبرة آبائه وعشيرته، كما نرى في سفر التكوين:
1 «لما قربت أيام إسرائيل أن يموت دعا ابنه يوسف وقال له: إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فضع يدك تحت فخذي واصنع معي معروفا وأمانة، لا تدفني في مصر، بل اضطجع مع آبائي فتحملني من مصر وتدفنني في مقبرتهم.»
إلا أن هذا المعنى قد استعمل فيما بعد بمعنى مفارقة الروح للجسد أينما كان، وسواء دفن في مقبرة آبائه أم في أرض غريبة. فنقرأ في سفر أخبار الأيام الثاني:
2 «ثم اضطجع آحاز مع آبائه، فدفنوه في أورشليم لأنهم لم يأتوا به إلى قبور ملوك إسرائيل.» وكذلك الأمر مع ابن آحاز الذي لم يدفن في مقبرة آبائه، بل في حديقة بيته الملوك الثاني 21: 18. وفي أماكن كثيرة نقرأ أن فلانا قد اضطجع مع آبائه ثم دفن. كما هو الأمر في الملوك الثاني 8: 24 والملوك الأول 14: 31و 15: 8 وأماكن أخرى.
والأرواح متساوية في مصيرها كما هو الأمر في ثقافة أرض الرافدين؛ فلا بعث هناك ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب، بل وجود ثقيل راكد، واستمرار لا فرح فيه ولا نشوة. نقرأ في سفر الجامعة: وأيضا رأيت تحت الشمس موضع الحق هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور. فقلت في قلبي الرب يدين الصديق والشرير؛ لأن لكل أمر ولكل عمل وقتا هناك. وقلت في قلبي، من جهة أمور البشر إن الله يمتحنهم ليريهم أنه كما البهيمة هكذا هم؛ لأن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم. موت هذا كموت ذاك، وقسمة واحدة للكل. فليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل، يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما. من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق؟ وروح البهيمة هل هي تنزل إلى الأسفل؟ فرأيت أنه لا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله لأن ذلك نصيبه.»
3
كاتب هذا السفر هنا لا يعتقد بأي نوع من أنواع الاستمرار لوجود الإنسان بعد مماته؛ فحياته تنتهي عند لحظة الموت، حيث يعود جسده إلى التراب شأنه في ذلك شأن جميع الحيوانات، أما روحه فأمر مشكوك به. هل تصعد للأعلى أو تنزل للأسفل؟
وفي سفر إشعيا نجد الملك التقي الورع حزقيا ينخلع فؤاده لفكرة الموت ومغادرة عالم الأحياء عندما يخبره النبي إشعيا بقرب وفاته؛ فهو يعرف أن الحياة الآخرة لن تكون أفضل من الأولى، حتى للإنسان الذي أمضى حياته في خدمة الإله. وعندما بكى مذكرا ربه بكل ما فعله في سبيله طالبا منه أن يمد في عمره. كلمه الرب بواسطة النبي إشعيا: «اذهب وقل لحزقيا: هكذا قال الرب إله داود أبيك. إني قد سمعت صلاتك ورأيت دموعك. ها أنا ذا أزيد على أيامك خمس عشرة سنة.»
4
وهكذا فجزاء الصلاح ليس في الدار الآخرة، بل على هذه الأرض وفي هذه الحياة، والرب يمد يده في عمر الصالح ويزهق روح الطالح، تماما كما هو الأمر في الفكر الديني البابلي، وتتردد هذه الفكرة في مواضع كثيرة في التوراة: «أكرم أباك وأمك لكي يطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك.»
5 «مخافة الرب تزيد الأيام وسنو المنافقين تقصر.»
6 «يا بني لا تنس شريعتي، وليس قلبك وصاياي فإنها تزيدك طول أيام وسني حياة وسلاما.»
7
ولكن لماذا إذن نجد إنسانا صالحا يموت في زهرة الشباب، وآخر شريرا يمتد به العمر؟ يجيب التوراة على ذلك بطريقة طريفة فنقرأ في سفر إشعيا:
8 «هلك الصديق ولم يكن من تأمل في قلبه. وضم أهل التقوى، ولم يفطن أحد أنه من وجه الشر ضم الصديق»؛ أي إن موت الأتقياء المبكر هو تخليص لهم من كوارث وشرور قادمة قد تصيبهم. فموتهم والحالة هذه تخليص لهم على ما نقرأ في الملوك الثاني 21: 20 حديث الرب إلى يوشيا الصالح: «كذلك ها أنا ذا أضمك إلى آبائك، فتضم إلى قبرك بسلام، ولا ترى عيناك كل الشر الذي أنا جالبه على هذا الموضع.» أما حياة الأشرار وامتداد أعمارهم فإن الحكمة منها مهما كانت بالغة لم تقنع رجلا صالحا كأيوب عندما نسمعه يرفع عقيرته بالشكوى صارخا: «لماذا يحيا المنافقون ويسنون؟ ولماذا يعظم اقتدارهم؟ ذريتهم قائمة أمامهم، وقومهم وأعقابهم لدى أعينهم، بيوتهم آمنة من الفزع، وقضيب الرب لا يعلوهم.»
9
وهؤلاء الأشرار عندما يموتون يمضون مع الأخيار إلى دار واحدة، كما يمضي إليها من نعم في هذه الحياة ومن شقي. فأي حكمة في ذلك: «هذا يموت في معظم وفرة وقد عمته الدعة والطمأنينة، وذاك يموت في مرارة نفسه ولم يذق طيبا، وكلاهما يضجعان في التراب فيكسوهما الدود. إن الشرير يبقى إلى يوم العطب، وإلى يوم النقم يساقون. فمن الذي يبين له طريقه، ومن يكافئه على ما صنع.» أيوب، 21: 31. وفي المزمور 73 نلمح هذا التساؤل: «أما أنا فكادت تزل قدماي لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار؛ لأنه ليست في موتهم شدائد، وجسمهم سمين، وليسوا في تعب، ومع البشر لا يصابون. يستهزئون ويتكلمون بالشر ظلما، ومن العلاء يتكلمون. هو ذا هؤلاء الأشرار، ومستريحين إلى أبد الدهر يكثرون ثروة.»
وكما قلنا سابقا فإن التوراة قد تصور الدار الآخرة كما تصورتها أساطير المنطقة؛ فهي عالم أسفل يقع تحت عالمنا هذا. وعبر عن هذا العالم الأسفل بالاسم العبري شيئول الذي تعبر عن الترجمات العربية باسم الهاوية.
10
فلنسمع إلى أيوب يصف لنا هذا العالم:
11 «وكنت كأني لم أكن قط فأقاد من البطن إلى القبر. أليست أيامي إلى حين؟ فاكفف عني، فأرتاح قبل أن أنصرف انصراف من لا يئوب إلى أرض ظلمة وظلال موت. أرض دجية حالكة كالديجور، وظلال موت لا نظام فيها ونهارها كالديجور.» أيوب 10: 19-22. ومن أيوب أيضا نعرف عن هذه الهاوية وبواباتها التي تشبه بوابات العالم الأسفل في بابل:
12 «ما رجائي؟ إنما الهاوية بيتي وفي الظلام مهدت مضجعي. قلت للفساد أنت أبي، وللديدان أنت أمي وأختي. إذن أين رجائي؟ رجائي من يراه. إنه يهبط إلى أبواب الهاوية.» كما نقرأ عن أبواب الهاوية في إشعيا:
13 «قلت إني في منتصف أيامي ذاهب إلى أبواب الهاوية، وقد حرمت بقية سني.»
وتؤكد لنا النصوص الآتية الموقع السفلي للهاوية، فنقرأ في عاموس:
14 «إن نقبوا إلى الهاوية فمن هناك تأخذهم يدي، أو صعدوا إلى السماء، فمن هناك أنزلهم.» وفي التثنية:
15 «لأن النار تشب بغضبي فتتوقد إلى الهاوية السفلى.» ونقرأ في إشعيا:
16 «ولكنك انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب.» وفي سفر التكوين
17
نجد يعقوب الجد الأكبر لإسرائيل يبكي ابنه يوسف الغائب الذي يعتقد أنه قد مات ومضى إلى العالم الأسفل، فيأمل أن يموت ليلحق به: «وقام جميع بنيه وبناته يعزونه فأبى أن يتعزى، وقال إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية، وبكى عليه أبوه.» ومن سفر صموئيل الأول نعرف أن هذا النبي قد نزل بعد وفاته إلى شيئول كغيره من الناس. وعندما يتفق شاءول مع إحدى الساحرات على استحضار شبحه من العالم الآخر، نجد أن الشبح يصعد على حد تعبير التوراة إلى سطح الأرض: «فقال صموئيل: لماذا أقلقتني بإصعادك إياي؟» وفي سفر حزقيال:
18 «هناك عيلام وكل جنودها حول قبرها كلهم ساقطون بالسيف. الذين هبطوا غلفا إلى الأرض السفلى.» وفي رؤيا إشعيا يتخيل ملك بابل وقد هبط إلى العالم الأسفل فيهب لاستقباله عظماء الموتى وأكابرهم: «الهاوية من أسفل مهتزة لك لاستقبال قدومك، منهضة لك الأخيلة جميع عظماء الأرض، أقامت كل ملوك الأمم عن كراسيهم، كلهم يجيبون ويقولون لك أأنت قد ضعفت وصرت مثلنا.»
من هذه الفقرة الأخيرة لإشعيا نستنتج أن الموتى في العالم الآخر يحتفظون بمكانتهم التي كانت لهم، كما هو الأمر تماما في النظرة البابلية. فالملوك قد قاموا عن كراسيهم، والعظماء قد خفوا لاستقبال القادم الجديد، وهم عظماء في الآخرة كما كانوا عظماء في الأولى. ونستشف من نصوص أخرى متفرقة تأكيدا لذلك، فنجد المحاربين يهبطون إلى شيئول بكامل عدتهم وأسلحتهم في سفر حزقيال: «الجبارة الساقطين من الغلف، النازلين إلى الهاوية بأدوات حربهم.» وصموئيل عندما تستحضر الساحرة شبحه يخرج في الهيئة نفسها والثياب نفسها التي اعتاد استعمالها: «فقال لها ما صورته، فقالت رجل شيخ صاعد هو مغطى بجبة. فعلم شاول أنه صموئيل، فخر على وجهه إلى الأرض وسجد.» إلا أن هذه المكانة لا تفيد صاحبها كثيرا في شيئول؛ لأن هذه تبقى أرض الظلام والسكوت والنسيان. وكما كان العالم الأسفل صامتا عندما نزل إليه إنكيدو حاملا وصية جلجامش بألا يحدث صوتا هناك، كذلك شيئول. نقرأ في المزمور 94: «لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعا أرض السكوت.» والمزمور 115: «ليس الأموات يسبحون بالرب ولا من ينحدر إلى أرض السكوت.» وهي أرض خراب يباب: «الهاوية عريانة قدامه، والهلاك ليس له غطاء» أيوب، 26. وهي أرض النسيان: «هل تعرف في الظلمة عجائبك؟ وبرك في أرض النسيان» المزمور، 88.
وكان لأرض العالم السفلي في سومر وبابل آلهتها الخاصة التي تختلف عن آلهة السماء والأرض، ولم يكن هؤلاء الآخرون ليجرءوا على الدنو منها وإلا نالهم ما ينال البشر الفانين كما حدث لإنانا عند هبوطها إليها. أما التوراة فلا تحدثنا عن موكلين بتسيير شئون العالم السفلي، ولكننا نعلم مؤكدا أن هذا العالم لا يقع تحت سيطرة يهوه، وأن الموات هناك لا يعبدونه ولا يسبحون بحمده. ففي المزمور 6 نجد صاحب المزمور يطلب من الإله أن يخلصه من الموت ليطيل من حمده له وشكره على نعمه، ويذكره بأن أهل العالم الآخر لا يحمدونه: «عد يا رب. نج نفسي. خلصني من أجل رحمتك؛ لأنه ليس في الموت ذكرك، في الهاوية من يحمدك؟» «هل يحدث في القبر برحمتك أو بحقك في الهلاك؟ هل تعرف في الظلمة عجائبك وبرك في أرض النسيان؟»
ويحدثنا سفر الجامعة عن سيطرة القوى العمياء على شيئول، وعن ضرورة تزود الإنسان بما يستطيع من هذه الحياة؛ لأن بعدها يأتي النسيان. فنقرأ في الإصحاح التاسع كلمات تشبه إلى حد بعيد كلمات فتاة الحانة إلى جلجامش: «اذهب. كل خبزك بفرح، واشرب خمرك بقلب طيب ... لتكن ثيابك في كل حين بيضاء ... التذ عيشا مع المرأة التي أحببتها ... لأن ذلك نصيبك في الحياة وفي تعبك الذي تتعبه تحت الشمس. كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك؛ لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها.» سفر الجامعة، 9: 7-10.
واستقرار الإنسان في العالم أبدي؛ فلا بعث ولا نشور: «يضجعون معا لا يقومون، قد خمدوا كفتيلة انطفئوا.»
19 «ينامون نوما أبديا ولا يستيقظون.»
20
ولعل من أجمل المقاطع التي تحدثنا عن ذلك حديث أيوب في الإصحاح 14: «لأن للشجرة رجاء إن قطعت تخلف أيضا ولا تعدم خراعيبها. ولو قدم في الأرض أصلها ومات في التراب جذعها، فمن رائحة الماء تفرخ وتنبت فروعا كالغرس. أما الرجل فيموت ويبلى، الإنسان يسلم الروح فأين هو؟ قد تنفد المياه من البحرة، والنهر ينشف ويجف، والإنسان يضطجع ولا يقوم.»
ويمكن القول إن مسألة الموت والعالم الآخر قد عولجت في التوراة بكثير من الغموض والتناقض. فما تعطيه النصوص المتأخرة يختلف عما قدمته النصوص السابقة، والمسألة برمتها قد خضعت كغيرها من مسائل التوراة للتطور البطيء والمديد الذي طبع الفكر التوراتي عبر مسيرته الطويلة منذ الخروج وحتى السبي والعودة من بابل. ونستطيع أن نميز بوجه عام ثلاث مراحل اجتازتها فكرة الموت والعالم الآخر في التوراة؛ فالمرحلة الأولى تميزت بالسكوت المطبق عن عالم ما بعد الموت، وبالتلميح البعيد عن عالم أسفل لا تعرف ماهيته ولا أحوال العيش فيه. وقد كانت هذه المرحلة ضرورية إذا أخذنا بعين الاعتبار أن دين موسى في بدايته كان استمرارا للتوحيد الأخناتوني، وردة فعل على الديانة الآمونية الرسمية التي محت ذكر آتون واضطهدت عابديه وهدمت هياكل عبادته. ولما كانت الحياة الآخرة تلعب دورا كبيرا في الديانة الآتونية ، كان لا بد من إلغاء فكرة هذه الحياة الآخرة في الديانة الجديدة، التي تصارع جاهدة للفوز بقلوب الناس، وانتزاعهم من سيطرة أوزوريس إله العالم الأسفل، والقاضي الذي يقرر مصائر الأموات. فلقد كان لهذا الإله المكانة الأثيرة لدى الطبقات الشعبية في مصر القديمة، ولم يكن لانتزاع تأثيره من نفوس الناس من سبيل سوى إلغاء العالم الأسفل من أساسه واقتلاع فكرته جذريا.
ومع محاولات الاستقرار في الأرض الجديدة كادت الديانة الموسوية الأولى تنسى مع زوال الجيل الأول الذي عاصر موسى وأخذ عنه قبس التوحيد، وتحول آتون بالتدريج إلى يهوه، إلها وثنيا دونما وثن، وتسربت للدين معتقدات الفلسطينيين والكنعانيين والآراميين، وبدأت فكرة العالم الأسفل بالتوضح أكثر فأكثر لتأخذ شكلا قريبا من معتقدات السوريين والبابليين. أما المرحلة الثالثة فكانت السبي الطويل في بابل على يد نبوخذ نصر، وهناك احتك المسبيون بالديانة الزرادشتية - عند جيرانهم الفرس - التي تؤكد على الحياة الآخرة تأكيدا مطلقا؛ ففي اليوم الأخير يبعث الأموات من القبور، ويأتي كل واحد إلى ميزان الحساب الذي يزن حسناته وسيئاته، فمن زادت حسناته فإلى نعيم دائم، ومن كثرت سيئاته فإلى جحيم مقيم. وبعد المحاكمة يمشي كل واحد على درب يوصل للجنان وتحته تتوقد ألسنة اللهيب. فأما الظالمون فيضيق الدرب بهم حتى يغدو كالشعرة، وأما المفلحون فيتسع لهم فيسيرون الهوينى سالمين.
وهكذا وبدافع التأثيرات الفارسية أخذت فكرة الثواب والعقاب في الظهور ولكن بشكل غامض. وبقيت هذه الفكرة موضع أخذ ورد ومناقشات بين اللاهوتيين حتى مولد المسيح، دون أن يتم التوصل لرأي قاطع فيها. نقرأ في سفر دانيال:
21 «وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار، للازدراء الأبدي.» وهنا نجد أن النص يأبى إلا أن يترك مجالا للغموض والتأويل دون إعطاء رأي قاطع؛ فكلمة «كثيرون من الراقدين»، تركت فجوة تمنع من تفسير قاطع للنص بأنه دلالة على بعث حقيقي شامل. وكذلك الأمر في نصوص أخرى؛ نقرأ في إشعيا مثلا:
22 «تحيا أمواتك تقوم الجثث. استيقظوا وترنموا يا سكان التراب ... هلم يا شعبي ادخل مخادعك وأغلق أبوابك خلفك. اختبئ نحو لحيظة حتى يعبر الغضب؛ لأنه هو ذا الرب يخرج من مكانه ليعاقب إثم الأرض فيهم، فتكشف الأرض دماءها ولا تغطي قتلاها فيما بعد.»
وفي مسيرة المسيحية الأولى قبل أن تقطع روابطها مع اليهودية، تخبط الفكر اللاهوتي قبل أن يتوصل لقرار حاسم في البعث وخلود الروح وشمولية الثواب والعقاب، فكانت فكرة خلود الروح تقتصر على المؤمنين الذين اتحدوا بالمسيح فأعطيت لهم به الحياة، شأنها في ذلك شأن ديانات الأسرار التي كانت شائعة في الإمبراطورية الرومانية في تلك الآونة كالأوروفية وغيرها، حيث كان الالتصاق بمخلص هو ديونيسيوس أو غيره شرطا للخلاص وللحياة الجديدة. ولم تكن جيهينا أي الجحيم في بداية عهدها سوى أداة تدمير أكثر منها مكان تعذيب سرمدي. تحدثنا أسطورة مسيحية مبكرة عن نزول المسيح للعالم الأسفل وتخليصه عددا كبيرا من الأنبياء والقديسين، واصطحابهم معه إلى السماء. دعيت هذه الأسطورة بإنجيل نيكوديس، وجرى تداولها كأسطورة شعبية فترة طويلة من الزمن:
23
تبدأ القصة في منتصف الليل في العالم الأسفل حيث بزغ من غياهب الظلمة شيء أشبه ما يكون بنور الشمس، فابتهج الجميع وخصوصا إبراهيم الذي قال: إن هذا الشعاع يصدر عن ضوء عظيم. أما إشعيا ويوحنا المعمدان فقد عادا يرددان نبوءاتهما، يعقب ذلك حديث بين الموت وبين الشيطان، فيقوم الأخير بتحذير الموت من المسيح ودعواه الباطلة، مستغلا خوف الموت من فقدان جميع الموتى في عالمه بعد أن أفقده المسيح لعازر الذي أحياه بعد وفاته: «إنني لأشعر بمن ابتلعتهم منذ بدء الخليقة يضطربون في جوفي فبطني اليوم يؤلمني.» وبينما هما في ذلك إذ يجلجل صوت كقصف الرعد: «افتح أبوابك الأبدية ليدخل إليك ملك المجد.» ولكن الشيطان وأعوانه يهرعون إلى الأبواب محاولين تدعيمها مهتاجين فزعين متسائلين: من هو ملك المجد هذا؟ فيجيبهم الأنبياء وخصوصا إشعيا والملك داود: «إنه الرب الجليل في القتال، الذي سيحطم بوابات النحاس ويكسر قضبان الحديد ، فيحرر المأسورين وينير شعاب الموت المظلمة.» فيرد الشيطان وأعوانه: «ومن يكون هذا حتى تكون له مثل هذه القوة على الأحياء والأموات؟» وقبل أن يتم كلامه تعالجه يد المسيح فتمسك به ويسلمه للملائكة قائلا لهم أن يطبقوا فمه ويقيدوا يديه وقدميه، وعندما ينتهون من ذلك يسلمه للموت قائلا له: «احتفظ به إلى حين قدومي الثاني.» وبينما يأخذ الموت في صب سخريته وازدرائه على الشيطان، يقوم المسيح بتحرير آدم والأنبياء والقديسين ويرفعهم معه إلى السماء حيث جنات عدن، وقبل الصعود يعرج بعضهم إلى نهر الأردن فيتعمد بمائه.
سفر الإله الميت
«ومنذ ذلك الوقت ابتدأ يسوع يقول لتلاميذه إنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويقتل هناك، وفي اليوم الثالث يقوم.»
إنجيل متى، 16: 21 «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكيلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية؛ لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص به العالم.»
إنجيل يوحنا، 3: 16-17
لما كان الخلق هو الفعل الأساسي الذي يشف عن عظمة الألوهة وجوهرها، فقد كان على الدوام مهمة يضطلع بها أعظم الآلهة شأنا، ولما كانت السماء هي أسمى ما في هذا الكون وأكثره تعبيرا عن عظمة الصانع؛ فقد صارت مسكنا له ورمزا، ومنها استمد اسمه في معظم أساطير الشعوب، فأصبح الإله الأكبر دوما إلها للسماء، وصار اسمه يستعمل تبادليا مع اسمها، بل ربما اتحد الاسمان في واحد. ولكن قيام الإله الأكبر بسكنى السماء بعد إنهائه فعل الخلق قد جعله بعيد جدا عما يجري على الأرض، وأخذ تدريجيا بالاختفاء من الطقوس والعبادات، مفسحا المجال لآلهة أصغر وأقل شأنا في الأصل، ولكنها أكثر التصاقا بالناس وحياتهم وأمور معاشهم، وأكثر دينامية وفعالية. وقد وصل الأمر في بعض الديانات البدائية لاختفاء إله السماء تماما، وزوال عبادته والطقوس المتعلقة بها. فنجد لدى معظم القبائل الأفريقية أن إله السماء هو أكثر بعدا من أن يحتاج لأية عبادة، وأكثر طيبة من أن يحتاج لأي طقوس أو أضاح وتقدمات. فعند قبائل اليوربا قام إله السماء الأكبر بإيكال أحد الآلهة الصغرى بمهمة إتمام ما قام به من عمل الخلق، ثم انسحب إلى سمائه تاركا الأرض ومن عليها. ونرى الشيء نفسه لدى قبائل توكومبا وتشي؛ فالإله الأكبر في السماء هو أعظم من التدخل في تفاصيل حياة الإنسان؛ ولذا فلا نراهم يلجئون إليه إلا في الملمات الكبرى والأخطار العظيمة التي تحل بهم؛ كانتشار الطاعون والأوبئة وطغيان العواصف والأعاصير.
1
وفي ثقافة الشرق الأدنى القديم بدأ التحول عن إله السماء باكتشاف الزراعة وتزايد دورها والاعتماد عليها في حياة الإنسان ومعاشه، ومعرفته لمدى ما تستطيع الأرض أن تعطيه ولقوى الخصوبة أن تصنعه. وتدريجيا أخذ إله السماء العالية يترك أجزاء هامة من صلاحياته لآلهة قوى الطبيعة، وربما كان أول هذه القوى ظهورا هي الأرض؛ فإن التحول نهائيا للحياة الزراعية جر معه التحول الاقتصادي تحولا فكريا واجتماعيا، عندما بدأت الديانة شيئا فشيئا تتحول عن الآلهة الذكور القساة ممن عرفتهم إبان الفترات الرعوية إلى آلهة رفيقة وإلهات رءومات. فظهرت الأرض على أنها الأم الأولى التي انبثق منها كل الأحياء من بشر وحيوان ونبات، وعلى أنها النموذج الأمومي الأول الذي نتج عنه فيما بعد كل تكرار لفعل الأمومة. فإنجاب الأطفال وتوالد النباتات أمور هي في جوهرها تقليد لفعل الإنجاب الأولي الذي قامت به الأم الكبرى وتكرار له. وخصوبة النساء ليست إلا قبسا من الخصوبة الكونية المتمثلة في الأرض-الأم.
وهذه الإلهة إما أنها مخصبة إخصابا ذاتيا دونما حاجة لقوة خارجية كما هو الأمر في الميثولوجيا اليونانية حيث أنجبت الأرض جيا إلها جديرا بها هو أورانوس السماء الذي غطاها تماما من جميع جهاتها. أو أنها بحاجة لقرين يساعدها على الإنجاب. وهذا الدور يلعبه إله السماء نفسه كما بحثنا ذلك سلفا في فصل التكوين، حيث يقوم الإلهان بفعل القران الأول الذي يقلده الأحياء منذ تلك الأيام: «أنا السماء وأنت الأرض.» هذا ما يهمس به العريس الهندوسي ليلة زواجه في أذن عروسه؛ لهذا السبب فقد رافقت - في أحيان كثيرة - طقوس واحتفالات الإلهة الأم ممارسات الجنس الجماعي الذي من شأنه في هذه المناسبة المقدسة تحريض القوى الإخصابية الكامنة في الأرض اعتمادا على مبدأ السحر التشاكلي حيث الشبيه ينتج الشبيه.
وقد دعيت الأرض بأسماء متعددة في بلاد النهرين، وأول اسم معروف لها هو كي قرينة آن إله السماء، وهي فيما بعد ننماخ وننخرساج، وهي مامي أو ماما، وهي ننتو أو نيسابا. وقد مرت معنا هذه الأسماء جميعا في أساطير متعددة الغرض والغاية، فكان الاسم يختلف وفق المهمة التي تقوم بها الإلهة. فتحت اسم ننتو كانت إلهة للولادة والمخاض، وتحت اسم ماما أو مامي كانت تقوم بفعل خلق الكائنات البشرية، وتحت اسم ننماخ أو ننخرساج كانت تتبارى مع إنكي في صنع مخلوقات ونباتات ... إلخ. أما لدى الكنعانيين فهي عشيرة زوجة الإله الأكبر إيل، وأم الآلهة، وهي في آسيا الصغرى سيبيل أم آتيس، الذي سيلعب دورا كبيرا في ديانات الأسرار كما سيأتي تفصيل ذلك.
إلا أنه بمرور الوقت علا إلى جانب الأم الكبرى شأن إلهات أخريات أخذن كثيرا من صلاحياتها. وبشكل أساسي فقد انفصلت عن الأرض «روح الخصوبة»، وكان هذا الانفصال تطورا في المقدرة على التجريد لدى العقل الإنساني. فالخصب ليس خاصة في التربة نفسها، ولكنه قوة كونية جرى تجسيدها في إلهة أنثى هي إنانا السومرية أو عشتار البابلية أو عناة الكنعانية. ولما كانت خصوبة الأرض والمرأة هي محور حياة الإنسان في هذا العالم، فإن عشتار كانت قوة أساسية كبرى في هذا الكون ومحركا ديناميا فعالا لأحداثه. والعذراء لقبها، والعذرية جوهرها، رغم أنها رمز للجنس والحب والخصب؛ فهذا الجوهر لا يبدله لقاء عابر ولا حمل ولا ولادة، وتبقى عذريتها رمز إخصابها الأبدي الذي لا يمسه عرض زائل.
2
ولعشتار عشاق أشهرهم تموز التعيس الذي كان موته الفاجع ثمنا لحبها وعشرتها في الأسطورة السومرية، والذي كانت زيارته للعالم الأسفل جزءا من السنة، شرطا ضروريا لاستمرار الدورة الزراعية في الأسطورة البابلية والكنعانية.
وإلى جانب قوى الخصب تأصلت عبادة قوى الطبيعة الجبارة كالعواصف والأعاصير والصواعق، والقوى النافعة كالشمس والماء وغيرهما. فظهر إنليل إله سومر الأكبر الذي اغتصب صلاحيات إله السماء آن، وظهر مردوخ إله بابل الذي حل محل آنو إله السماء الأكادي، وفي كنعان كان بعل أقوى الآلهة وأكثرهم قربا لقلوب العباد رغم بقاء إيل إله السماء إلها أكبر ولكن بالاسم فقط.
أما العبرانيون فلم يشذوا بدورهم عن القاعدة؛ فهم حال استقرارهم في أرض كنعان الخصبة وتخليهم عن الحياة الرعوية القديمة، تركوا يهوه واتجهوا إلى آلهة الخصب الكنعانية، فعبدوا البعليم والعشتاروت كما حدثنا العهد القديم في مواضع كثيرة أوردنا بعضا منها في فصول سابقة. ونجدهم لا يتذكرون إلههم الكبير إلا إبان المحن العظيمة والكوارث الفاجعة التي تحل بهم، فنقرأ في سفر صموئيل: «فالآن أنقذنا من يد أعدائنا فنعبدك.»
إلا أنه في ضمير الوعي الشعبي كانت الأم الكبرى وابنها (ونموذجهما الأساسي سيبيل الحثية وابنها آتيس) أو القوة الإخصابية وحبيبها القتيل (ونموذجهما الأساسي عشتار وتموز)، هما ألصق الآلهة جميعا بقلوب الناس لالتصاقهما بحياتهم ومعاشهم. فما يجري في الطبيعة من خصب وقحط، وأمطار وجفاف، وخضرة ويباس، هو في صميمه انعكاس لدرام إلهي أبطاله الآلهة أنفسهم. وهذه الطبيعة بما أنها انعكاس لقوى الآلهة المختلفة وشفافية عن كينونتهم القدسية، فإن كل مظاهرها والتغيرات التي تطرأ عليها والتحركات الظاهرة والخافية فيها، إن هي إلا انعكاس وترجمة لأحداث ومظاهر وتغيرات تقع فيما وراء الطبيعة، حيث عاش الآلهة بحياتهم وعواطفهم ونزعاتهم.
لقد أثار تفكير الإنسان دوما التغيير الدوري الذي يطرأ على الطبيعة؛ فمن فصل بارد وماطر، إلى آخر أخضر معتدل، فثالث حار وجاف، فرابع أصفر ذابل. ولم يكن الفكر الأسطوري ليتوصل إلى لتفسير يربط ذلك كله بتحركات معينة للآلهة المعنية. فإذا كانت قوة الإخصاب الكونية مسئولة بشكل رئيسي عن الإثبات ورعاية الحياة الزراعية، فما الذي يحدو بها للتخلي عن مهامها هذه وترك الطبيعة لقوى الجفاف؟ إن أمرا جللا ما قد حدث. لقد غابت قوة الإخصاب الكونية في هذا العالم كليا إلى عالم آخر، ولكنها جاهدت من أجل الرجوع مرة أخرى. وعملية الغياب والعودة هذه هي النموذج للمسار الدوري الأزلي الذي دخلت فيه حياة الطبيعة .
إن الجفاف ضروري للحياة الزراعية كما هي الرطوبة وحرارة الصيف ضرورية كما هي برودة الشتاء؛ فالمطر يروي الحبة ، والربيع يجعلها نبتة خضراء. أما حرارة الصيف فتساعد على نضوجها؛ لذا فالموت هو الوجه الآخر للحياة، وهو رغم الفاجعة والألم نقيض لا غنى عنه. وموت الطبيعة استعداد لانبعاثها، وتجددها لن يحصل إلا بموت إله وتضحيته بنفسه من أجل استمرار حياة الإنسان؛ ولهذا هبطت إنانا من عليائها وذاقت طعم الموت. ولما كانت الحياة على هذه الأرض هي أفضل حياة ممكنة كما رأينا في فصل العالم الأسفل، ولما كانت الدار الآخرة هي دار شقاء وأحزان، فإن عمر الإنسان على هذه الأرض وإمتاعه بها، هو نوع من الخلاص يحمله الإله الميت لبني البشر. وليس موته وآلامه إلا ضريبة يدفعها عن الإنسان، ونوعا من الفداء السامي الذي يقدمه لعباده؛ فإله الخصب الميت هو إله فادي، وهو إله مخلص دافع حياته ثمنا لحياة الإنسان، وآلامه ثمنا للمد في عمره وإبعاد شبح مملكة العالم الأسفل عنه بنزوله شخصيا إلى العالم الأسفل.
وبهذا المعنى نكون قد أقمنا جسرا طويلا مباشرا بين إنانا السومرية والسيد المسيح آخر المخلصين. ومن إنانا إلى السيد المسيح، كان على الإله الميت أن يسير طريقا طويلة شاقة ملأى بالألم والشقاء. ومن مخلص أرضي إلى مخلص لحياة أفضل وأسعد في عالم سماوي، كان عليه أن يقطع مسافات زرعت بالشوك والصخور. وسنقوم في هذا الفصل بمرافقته ومعايشته في آلامه وموته وصعوده.
وفكرة تضحية الإله من أجل الإنسان لا تظهر فقط مع نماء ديانات الخصب وتطورها، بل هي أسبق من ذلك العهد؛ فالإنسان نفسه لم يخلق ويأت إلى هذه الحياة إلا عن طريق التضحية ببعض الآلهة بقتلها واستعمال دمها ممزوجا بالتراب لصنعه. فرأينا في أسطورة التكوين البابلية مثلا كيف قتل الإله كنغو زوج تعامة وفصد دمه ثم مزج بالتراب لصنع الإنسان. كما رأينا في أساطير أخرى كيف جرى قتل اثنين من آلهة اللامجا للغاية نفسها. وإذا ارتفعنا بالفكرة إلى مستوى كوني وجدنا أن تكوين العالم كله كان مشروطا بقتل إله بدئي، واستعمال أجزائه لغرض التكوين، كما حصل عندما استلب مردوخ حياة تعامة وصنع من أعضائها عالمنا الذي نعيش فيه.
الفصل الأول
هبوط إنانا إلى العالم الأسفل
لعل النص السومري «هبوط إنانا إلى العالم الأسفل» هو أول ملحمة خطتها يد الإنسان في موضوع الإله الفادي؛ فإنانا في هذه الأسطورة تقوم بتضحية اختيارية وتنزل إلى عالم الأموات حيث تلبث ثلاثة أيام، يبدأ بعدها تابعها الأمين بالسعي لاستعادتها إلى عالم الأحياء. ولما كانت هذه الإلهة تجسيدا لقوة الإخصاب الكونية، فإن غيابها وعودتها يمثلان دورة الطبيعة من اختفاء للحياة النباتية وسيادة الحر والجفاف، ثم الانتعاش والبعث الجديد.
وفي معرض حديثهم عن الأسطورة ومقارنتهم لها بالأسطورة البابلية اللاحقة «هبوط عشتار إلى العالم الأسفل» تحدث معظم الكتاب عن سبب غامض دعا الإلهة في النص السومري للهبوط. السيد س. ن كريمر الذي كان له الفضل الأكبر في جمع الأجزاء المنشورة سابقا.
لهذه الأسطورة واكتشاف أجزاء جديدة مكملة، لم يستطع أن يقدم تفسيرا للهبوط وسببا له، كسبب عشتار التي هبطت فيما بعد لتحرر حبيبها تموز. وجرى على منواله في ذلك كثيرون، رغم أن السبب يبدو واضحا وجليا إن نحن وضعنا نصب أعيننا فكرة التضحية والفداء ودورهما في فكر المنطقة.
ولسنوات قليلة خلت كان الجزء المعروف من الأسطورة يقف عند صعود الآلهة من العالم الأسفل، رغم أن النص ينتهي في موضع حرج يشير إلى وجود نهاية ليست بالقصيرة. ولكننا مرة أخرى ندين بالشكر للسيد كريمر الذي كان له الفضل في إعطاء صيغة نهائية لنص آخر أمكن جمعه ونشره وترجمته في أواخر الخمسينيات، يكمل النص الأول ويضع له نهاية منطقية. (1) النص الأول
1
من الأعلى العظيم تاقت إلى الأسفل العظيم.
من الأعلى العظيم تاقت الربة إلى الأسفل العظيم.
من الأعلى العظيم تاقت إنانا إلى الأسفل العظيم.
هجرت سيدتي السماء وتركت الأرض.
إنانا هجرت السماء وتركت الأرض.
إلى العالم الأسفل قد هبطت.
تركت الملك والسلطان.
إلى العالم الأسفل قد هبطت.
شدت إلى وسطها ألواح الأقدار القدس السبع،
وبقية الأقدار المقدسة جعلتها إلى يدها. [...]
وعلى رأسها وضعت الشوغارا تاج السهول،
فمن محياها يشع الألق والبهاء،
وبيدها قبضت على الصولجان اللازوردي،
وجيدها قد زينت بعقد أحجار كريمة،
وعلى صدرها ثبتت جواهر متلألئة،
وكفها قد رصعت بخاتم ذهبي،
وجسدها وشحت بأثواب السيادة والسلطان،
ومسحت وجهها بالزيت والطيوب.
ثم مشت إنانا في طريقها للعالم الأسفل،
وإلى جانبها مشى ننشوبور رسولها،
فقالت له إنانا المقدسة:
أنت يا مصدر عوني الدائم،
يا رسولي ذا الكلمات الطيبة،
وناقل كلماتي الحقة،
إني لهابطة إلى العالم الأسفل،
فإذا ما بلغت العالم الأسفل
املأ السماء صراخا من أجلي،
وفي حرم المجمع ابك علي،
وفي بيت الآلهة اركض هنا وهناك من أجلي.
ألا فلتكفهر عيناك ويعبس فمك من أجلي، [...] من أجلي،
وكفقير شريد البس ثوبا واحدا من أجلي.
وإلى إيكور بيت إنليل اتجه وحيدا،
فإذا دخلت بيت إنليل
انتحب في حضرته (قائلا): «أيها الأب إنليل، لا تدع ابنتك للموت في العالم الأسفل.
لا تترك معدنك الثمين يلقى على التراب في العالم الأسفل.
لا تترك لازوردك الغالي يكسر كحجارة البنائين،
ولا صندوقك الخشبي يقطع كخشب النجارين.
لا تترك الفتاة إنانا للموت في العالم الأسفل.»
فإذا خذلك إنليل في هذه القضية امض إلى أور،
وفي أور لدى دخولك بيت ... البلاد،
إيكيشرجال بيت نانا
2
ابك أمام «نانا» (قائلا): «أيها الأب نانا، لا تدع ابنتك للموت في العالم الأسفل.
لا تترك معدنك الثمين يلقى على التراب في العالم الأسفل.
لا تترك لازوردك الغالي يكسر كحجارة البنائين،
ولا صندوقك الخشبي يقطع كخشب النجارين.
لا تترك الفتاة إنانا للموت في العالم الأسفل.»
فإذا خذلك نانا في هذه القضية امض إلى أريدو،
وفي أريدو لدى دخولك بيت إنكي
ابك أمام إنكي (قائلا): «أيها الأب إنكي لا تدع ... (تكرار للمقطع السابق).»
إن الأب إنكي هو رب الحكمة،
الذي يعرف طعام الحياة، والذي يعرف ماء الحياة ولسوف يعيدني
للحياة بكل تأكيد.
ثم سلكت إنانا طريقها نحو العالم الأسفل،
وإلى رسولها ننشوبار قالت: امض يا ننشوبار.
لا تنس ما أمرتك به ولا تهمله.
ولدى وصول إنانا إلى قصر العالم الأسفل اللازوردي،
تصرفت عند البوابة بطريقة أوقعتها في الإثم.
وفي قصر العالم الأسفل تكلمت بشكل أوقعها في الخطيئة: «افتح يا حارس البوابة. افتح البيت.
افتح الباب يا نيتي افتح الباب. وحيدة سوف ألج.»
ونيتي كبير حجاب العالم الأسفل
أجاب إنانا الطاهرة:
من يا ترى تكونين؟ - أنا ملكة السماء. ذلك المكان الذي تشرق فيه الشمس. - فما الذي أتى بك إلى الأرض التي لا عودة منها؟
وإلى الطريق الذي لا يئوب منه مسافر كيف حفزك قلبك؟
فأجابته إنانا الطاهرة: «إن أختي الكبرى إريشكيجال
قد مات زوجها الرب كولاجانا،
فجئت أحضر مراسم الجنازة، ... وصدقا ما أقول.»
نيتي كبير حجاب العالم الأسفل
أجاب إنانا الطاهرة: «أي إنانا ابقي حيث أنت،
ومليكتي إريشكيجال دعيني أكلم.»
نيتي كبير حجاب العالم الأسفل
دخل بيت مليكته إريشكيجال، وقال لها: «أي مليكتي. إن فتاة ...
كأنها إلهة ...
في الباب ... ...
في إيانا ...
لقد شدت إلى وسطها ألواح الأقدار القدس السبعة،
وبقية الأقدار المقدسة جعلتها إلى يدها ...
وعلى رأسها وضعت الشوغارا تاج السهول،
فمن محياها يشع الألق والبهاء،
وبيدها قبضت على الصولجان اللازوردي،
وجيدها قد زينت بعقد أحجار كريمة،
وعلى صدرها ثبتت جواهر متلألئة،
وكفها قد رصعت بخاتم ذهبي،
وصدرها قد أحاطت بدرع ...
ووشحت جسدها بأثواب السيادة والسلطان،
ومسحت وجهها بالزيت والطيوب.»
عند ذلك إريشكيجال ...
أجابت نيتي كبير حجابها (قائلة): «أي نيتي يا كبير حجاب العالم الأسفل اقترب مني
وأعط أذنا صاغية لما آمرك به.
ارفع مزاليج بوابات العالم الأسفل السبع،
وعند بوابة جانزير واجهة العالم الأسفل أعلن قوانيننا،
ولدى دخول إنانا
منحنية حتى الأرض ... دعها ...»
نيتي كبير حجاب العالم الأسفل
أطاع ما تفوهت به مليكته من أوامر،
فرفع مزاليج بوابات العالم الأسفل السبعة،
ولدى بوابة جانزير واجهة العالم الأسفل أعلن قوانينه،
وقال لإنانا الطاهرة: «تعالي فادخلي يا إنانا.»
ولدى دخولها من البوابة الأولى
خلع عن رأسها الشوجار تاج السهول. - ما هذا الذي تفعلون؟ - أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.
ولدى دخولها من البوابة الثانية
اقتلع من يدها الصولجان اللازوردي. - ما هذا الذي تفعلون؟ - أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.
ولدى دخولها من البوابة الثالثة
انتزعت عن جيدها الأحجار الكريمة. - ما هذا الذي تفعلون؟ - أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بكمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.»
ولدى دخولها من البوابة الرابعة،
التقطت من صدرها الجواهر المتلألئة. - «ما هذا الذي تفعلون؟ - أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بكمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.»
ولدى دخولها من البوابة الخامسة
استل من يدها الخاتم الذهبي. - «ما هذا الذي تفعلون؟ - أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.»
ولدى دخولها من البوابة السادسة
نزع عن صدرها الدرع ال... - «ما هذا الذي تفعلون؟ - أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.»
ولدى دخولها من البوابة السابعة
رفعت عنها جميع أثواب السيادة والسلطان. - «ما هذا الذي تفعلون؟ - أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.» ...
إريشكيجال المقدسة كانت مستوية على عرشها،
يحيط بها الأنوناكي القضاة السبعة الذين يصدرون الأحكام.
ركزوا أنظارهم عليها، أنظار الموت،
وبكلمة منهم، الكلمة التي تعذب الروح،
تحولت المرأة المتعبة إلى جثة،
ثم شدت هذه الجثة إلى وتد مغروس.
وبمرور ثلاثة أيام وثلاث ليال،
رسولها ننشوبور
ذو الكلمات الطيبة،
وحامل كلماتها الحقة،
أخذ يملأ السماء صراخا من أجلها،
وبكى عليها في حرم المجمع،
وفي بيت الآلهة ركض هنا وهناك من أجلها.
اكفهرت عيناه وعبس فمه من أجلها،
وكفقير شريد لبس ثوبا واحدا من أجلها،
وإلى إيكور بيت إنليل اتجه وحيدا،
ولدى دخوله إيكور بيت إنليل
بكى في حضرته قائلا: «أيها الأب إنليل لا تدع ابنتك للموت في العالم الأسفل.
لا تترك معدنك الثمين يلقى على التراب في العالم الأسفل.
لا تترك لازوردك الغالي يكسر كحجارة البنائين،
ولا صندوقك الخشبي يقطع كخشب النجارين.
لا تترك الفتاة إنانا للموت في العالم الأسفل.»
فأجاب الأب إنليل ننشوبور قائلا: «ابنتي في الأعلى العظيم سارت بقدميها إلى الأسفل العظيم.
3
إنانا في الأعلى العظيم سارت بقدميها إلى الأسفل العظيم.
وشرائع العالم الأسفل، أنت تعرف ما شرائع العالم الأسفل،
ومن يا ترى قادر على الوصول إلى ذلك المكان؟»
وهكذا لم يقف الأب إنليل إلى جانبه، بل خذله؛ فمضى إلى أور،
وفي أور لدى دخوله بيت ... البلاد،
الإيكيشيرجال منزل نانا
انتحب أمام نانا قائلا: (تكرار لنفس الكلام الموجه إلى إنليل)
وهكذا لم يقف الأب نانا إلى جانبه بل خذله، فمضى إلى أريدو،
وفي أريدو لدى دخوله بيت إنكي
انتحب أمام إنكي قائلا: (تكرار للكلام نفسه)
فأجاب الأب إنكي ننشوبور قائلا: «إنني قلق على ابنتي، فما الذي حدث لها؟
إنني قلق على إنانا فما الذي حدث لها؟
إنني قلق على سيدة جميع البلاد فما الذي حدث لها؟
إنني قلق على كاهنة السموات فما الذي حدث لها؟»
ثم أخرج طينا من تحت أظافره
4
فصنع منه الكوجارو،
وأخرج من تحت الظفر المصبوغ بالأحمر طينا فصنع منه
الكالاتورو،
فأعطى الكوجارو طعام الحياة،
وأعطى الكالاتورو ماء الحياة،
وقال الأب إنكي لهما: (تسعة عشر سطرا تالفة) «وعلى الجثة المشدودة إلى وتدها وجهوا أشعة النار،
وانثروا عليها من ماء الحياة ستين مرة، ومن طعام الحياة ستين؛
فتنهض إنانا من مرقدها حقا وصدقا.» (أربعة وعشرون سطرا تالفة)
على الجثة المشدودة إلى وتدها وجهوا أشعة النار،
ونثروا عليها من ماء الحياة ستين مرة، ومن طعام الحياة ستين،
فنهضت إنانا
وصعدت إنانا من عالم الأموات.
ولما كانت العودة من الموت أمرا جللا وحادثا خارقا، فإنه لم يكن ليتم ببساطة وسهولة. وكان على الإلهة إنانا لقاء قيامتها من بين الأموات أن ترسل أحد الأحياء بدلا عنها. ولضمان تنفيذ هذا الشرط قام جمع من أشباح العالم الأسفل وعفاريته من جند إريشكيجال بمرافقة إنانا ليعودوا بمن يقع عليها اختياره:
عفاريت صغيرة كأنها [من القصب]،
وعفاريت هائلة كأنها [...]
مشت معها (جميعا)،
فالماشون أمامها كانوا بلا [...]، وفي أيديهم العصي
والماشون إلى جانبها كانوا بلا [...]، وفي مناطقهم السلاح.
والذين تقدموها،
الذين تقدموا إنانا
كانوا مخلوقات لا تعرف الطعام ولا تعرف الشراب
ولا تأكل خبز القمح المذرور،
5
ولا تشرب من خمر القرابين.
تخطف الزوجة من حضن زوجها،
وتنزع الطفل عن صدر أمه الرءوم،
هكذا صعدت إنانا من العالم الأسفل.
وأول خروجها من عالم الأموات
قام ننشوبور يرمي نفسه على قدميها،
واقعا على التراب، كاسيا نفسه بالطين،
فقالت العفاريت لإنانا:
أي إنانا امضي إلى مدينتك، دعينا نحمله معنا.
فأجابت إنانا الطاهرة العفاريت قائلة: «إنه رسولي ذو الكلمات الطيبة،
وحامل كلماتي الحقة،
لم ينس يوما وصاياي،
لا ولم يخن يوما أوامري.
لقد ملأ السموات صراخا من أجلي،
وفي حرم المجمع بكى من أجلي،
وفي بيت الآلهة ركض هنا وهناك من أجلي.
لقد اكفهرت عيناه وعبس فمه من أجلي،
و[...] من أجلي،
وكفقير شريد لبس ثوبا واحدا من أجلي،
وإلى إيكور بيت إنليل،
وإلى أور بيت نانا،
وإلى إريدو بيت إنكي (مضى) ليرد إلي الحياة.»
فلنمض إذن إلى السيجورشاكا في أوما،
وهناك رمى شارا نفسه عند قدميها،
واقعا على التراب، كاسيا نفسه بالطين،
فقالت العفاريت لإنانا الطاهرة:
أي إنانا المقدسة امضي إلى مدينتك ودعينا نأخذه معنا.
فأجابتهم إنانا الطاهرة قائلة: (الجواب مكسور)
فلنمض إذن إلى إيموشكالاما في بادتيبيرا،
وفي بادتيبيرا رمى لتراك نفسه من الإيموشكالاما عند قدميها،
واقعا في التراب، كاسيا نفسه بالطين،
فقالت العفاريت لإنانا الطاهرة:
أي إنانا امضي إلى مدينتك ودعينا نأخذه معنا. (جواب إنانا وبضعة أسطر تالية مكسورة)
فلنمض إذن إلى كولاب مدينة دوموزي،
6 (وفي كولاب) وضع دوموزي عليه ثيابا فاخرة واعتلى عرشه،
فانقضت عليه العفاريت وجرته من ساقيه.
انقضت عليه العفاريت السبع كما يفعلون مع الرجل العليل،
فانقطع الراعي عن نفخ نايه ومزماره
7
ثم ركزت (إنانا) أنظارها عليه. ركزت أنظار الموت،
ونطقت ضده بالكلمة. نطقت بالكلمة التي تعذب الروح،
وصرخت فيه صرخة الاتهام قائلة:
أما هذا فخذوه.
وبذلك أسلمت إنانا دوموزي الراعي إلى أيديهم.
إن من رافقه،
إن من رافق دوموزي،
كانوا مخلوقات لا تأكل الطعام ولا تعرف الشراب،
ولا تأكل من خبز القمح المذرور،
ولا تشرب من خمر القرابين.
تخطف الزوجة من حضن زوجها،
وتنزع الطفل عن صدر أمه الرءوم.
فبكى دوموزي حتى ازرق وجهه،
ورفع يديه إلى السماء نحو أوتو قائلا:
أي أوتو، أنت أخو زوجتي وأنا زوج أختك،
وأنا من يحمل الزبدة إلى بيت أمك،
وأنا من يحمل اللبن إلى بيت ننجال،
فحول يدي إلى حية وحول قدمي إلى حية.
أنقذني من العفاريت ولا تدعهم يأخذونني.
عند هذه الضراعة تنتهي الكسرة الأخيرة التي تكمل ما كنا نعرفه عن هذا النص. إلا أن نصا آخر يحكي لنا مصير الإله دوموزي وجد موزعا على ثمانية وعشرين لوحا وكسرة، جرى اكتشافها وتجميعها من متاحف العالم تدريجيا. ورغم أن الكسرة الأولى قد نشرت منذ عام 1915م، فإن شكلا واضحا وذا معنى للنص لم يمكن الحصول عليه حتى عام 1952م، عندما استطاع عالم السومريات الكبير السيد
Thorkild Jacobson
نشر الجزء الأكبر من النص، وبعده قام بإكمال المهمة السيد
S. N. Kramer
الذي عثر في متحف إسطنبول على باقي القطع فاستنسخها ونشرها، ثم قام بإعطاء لمحة عامة عن النص.
يعود النص إلى عام 1750ق.م.، ويمكن القول إنه مستلهم من نص هبوط إنانا؛ وذلك للتشابه الحرفي في بعض المقاطع. ولربما كان نسخة من الجزء الأخير الضائع للنص قامت يد الناسخ بإجراء بعض التعديلات عليه. وأنا من المرجحين لهذا الاحتمال؛ ولذا فإني أدعو قرائي لاعتبار هذا النص بمثابة تكملة طبيعية للنص السابق. وهو في رأيي من أجمل ما خطته يد الكاتب السومري. (1-1) مصير دوموزي
8
لقد امتلأ قلبه (حزنا) ودموعا،
فمضى إلى السهول (الواسعة).
امتلأ قلب الراعي (حزنا) ودموعا،
فمضى إلى السهول (الواسعة.)
امتلأ قلب دوموزي (حزنا) ودموعا،
فمضى إلى السهول (الواسعة).
علق نايه حول عنقه
وراح يبكي وينوح: «رددي بكائي، رددي بكائي،
أيتها السهول ألا فلتبك معي،
أيتها السهول ألا فابك معي ونوحي علي.
أسمعي بكائي سراطين النهر،
وأسمعي نواحي ضفادع الساقية،
دعي أمي تندب فقدي،
أمي التي لا تملك خمسة أرغفة فلتبكي علي،
أمي التي لا تملك عشرة أرغفة فلتبكي علي؛
لأنها لن تلقى من يعنى بها يوم أموت.
وأنت يا عيني، تائهة في السهول، فلتدمعي كعين أمي.
وأنت يا عيني، تائهة في السهول، فلتدمعي كعين أختي.»
بين الأزاهير استلقى، بين الأزاهير استلقى،
بين الأزاهير استلقى الراعي دوموزي،
وبينما هو نائم بين الأزاهير رأى حلما،
فنهض من نومه مذعورا مما رأى،
وعرك عينيه بكفيه ورأسه يدور. (ثم يمضي دوموزي المذهول إلى أخته جشتينانا الشاعرة والمغنية ومفسرة الأحلام، فيقص عليها رؤياه): «أختاه. سأقص عليك ما رأيت، سأقص عليك الحلم الذي رأيت:
من حولي كان السمار
9
ينمو ويندفع بسرعة من باطن التربة.
وسمارة وقفت وحيدة وحنت رأسها أمامي.
كل السمار وقف في أزواج إلا واحدة أزيلت من مكانها،
وفي الغيضة انتصبت حولي، انتصبت من الأرض أشجار طوال مرعبة،
وعلى مرقدي المقدس انسكب ماء بارد،
وممخضتي
10
خاوية قد أزيل ما بها،
وكوبي المقدس قط سقط من مشجب تعليقه،
وعصا الراعي قد تلاشت وذهبت ريحها،
وهناك كانت بومة ...
وصقر يحمل حملا بين مخالبه،
وماعزي الفتية تجرجر لحالها اللازوردية في التراب،
أما شياه حظيرتي فقد لمست الأرض قوائمها المنحنية. (نعم) ممخضتي محطمة لا لبن فيها،
وكوبي قد انكسر. فدوموزي لم يعد بين الأحياء،
وحظيرته قد راحت نهبا للرياح.» (فتجيبه أخته): «أواه يا أخي. إن الحلم الذي قصصت ليس حلما طيبا.
أواه يا دوموزي. إن الحلم الذي قصصت ليس حلما طيبا:
من حولك كان السمار ينمو ويندفع بسرعة من باطن التربة، (وهذا يعني) أن عصبة من السفاحين ستنقض عليك، (أما عن) السمارة الوحيدة (التي) وقفت وحنت رأسها أمامك؛ (فهذا يعني) أن أمك التي ولدتك ستحني رأسها من أجلك. (وعن) كل السمار الذي وقف أزواجا إلا واحدة أزيلت من مكانها. (فذلك يعني) أنها تقول لك: أحدنا يجب أن يغيب.»
ثم تمضي جشتنانا في تفسير حلم أخيها فقرة فقرة إلى أن تنتهي بتحذير أخيها من الجالا، وهم عفاريت العالم الأسفل، سيطبقون عليه ويحملونه إلى هناك. وأن عليه الاختفاء من وجههم. فيعمل دوموزي بنصيحة أخته ويغادرها موصيا إياها ألا تبوح بمكان اختبائه. «أي صفيتي، سأختبئ بين الأعشاب
فلا تخبري أحدا بمكمني.
سأختبئ بين الأعشاب القصيرة،
فلا تخبري أحدا بمكمني.
سأختبئ بين الأعشاب الطويلة،
فلا تخبري أحدا بمكمني.
سأختبئ بين القنوات والترع،
فلا تخبري أحدا بمكمني.»
فتجيبه أخته: «لتنهشني كلابك الضارية إن بحت بمكمنك،
الكلاب السوداء، كلاب حراسة قطعانك،
الكلاب المتوحشة، رمز سلطانك،
نعم فلتنهشني كلابك.»
ثم تأتي العفاريت التي
لا تأكل الطعام ولا تعرف الشراب
ولا تقرب ماء القرابين،
لا تقبل الأعطيات التي تهدئ الخواطر،
ولا تسكن لحضن زوجة،
ولا تقبل الطفل الجميل.
فيحاولون استمالة الأخت وحثها بشتى الوسائل على إفشاء سر دوموزي، ولكن عبثا. إلا أن دوموزي الذي يخشى أن ينال أخته شر على يد الأشباح القساة يعود من تلقاء ذاته ويسلم نفسه، فينقضون عليه ويوثقون يديه وقدميه، ثم يوسعونه ضربا بالعصي والسياط، ويهيئونه للرحيل معهم. وهنا يتجه بالدعاء إلى أوتو
11
يستغيثه: «أي أوتو أنت أخو زوجتي وأنا زوج أختك،
أنا الذي يحمل الطعام لإيانا،
12
في إيريك قد أتممت زواجي،
فأنا من قبل الشفاه الطاهرة،
وعانق الجسد المقدس، جسد إنانا،
فحول يدي إلى يدي غزال
13
وحول قدمي إلى قدمي غزال،
حتى لا تطالني أيدي عفاريت الجالا،
وأنجو بنفسي إلى شوبيريلا.»
فتلقى أوتو دمعه قربانا،
وكإله رحمة واسعة أراه من رحمته؛
حول يديه إلى يدي غزال،
وحول قدميه إلى قدمي غزال،
فلم تطله أيدي عفاريت الجالا،
ونجا بنفسه إلى شوبيريلا.
إلا أن الأشباح القاسية تدركه مرة أخرى وتأخذ بضربه وتعذيبه، فيطلب من أوتو مجددا أن يحول يديه ورجليه إلى قوائم غزال فيفر هاربا. ومجددا يستجيب له أوتو، فيهرع دوموزي إلى بيت إلهة اسمها بيليلي: «أيتها السيدة العجوز الحكيمة. لست بشرا ولكنني زوج إلهة،
فدعيني أشرب من ماء القرابين قليلا،
ومن الطحين المذرور دعيني آكل بعضا.»
ولم يكد دوموزي يلتقط أنفاسه ويتناول بعض الطعام والشراب حتى تتسلل الأشباح إلى بيت السيدة العجوز، وأخذوا بضرب الإله المنكود للمرة الثالثة. ولكنه أيضا بمساعدة أوتو هرب إلى حظيرة أخته، وهناك كانت نهايته حيث:
دخل الحظيرة العفريت الأول،
وضرب خدود دوموزي بمسمار طويل نفاذ،
وتبعه إلى الحظيرة العفريت الثاني،
فراح بضرب وجه دوموزي بعصا الراعي،
ثم دخل إلى الحظيرة العفريت الثالث،
وأزال ما في الممخضة ورماها خاوية،
وتبعه إلى الحظيرة العفريت الرابع،
فرمى الكوب المقدس عن مشجب تعليقه،
ثم دخل الحظيرة العفريت الخامس،
فحطم الممخضة الخاوية من لبنها،
وكسر الكوب. فدوموزي لم يعد بين الأحياء،
وحظيرته قد راحت نهبا للرياح.
وعلى هذه الصورة تنتهي أسطورة هبوط إنانا بمشهد يخلع الأفئدة حتى وقتنا هذا. لقد تنعم الإله الراعي بحب إنانا فترة طويلة، ولكن كان عليه أن يدفع ثمن عدم اكتراثه بزوجه والحداد عليها. وكان ثمنا فادحا جدا، فدوموزي قد حمل مرغما إلى عالم الأموات بديلا عن الإلهة الوحيدة التي تغلبت على الموت وقهرته، وخرجت منه ظافرة منتصرة لحياة جديدة. وهنا تكتمل أسطورة قابيل وهابيل؛ فالراعي الذي فضلته إنانا على الفلاح أنكمدو في أسطورة سابقة وتزوجت منه تعود لتقضي عليه بنفسها، ويصبح موته شرطا لعودة القوة الإخصابية من عالم الأموات لتنعش الأرض من جديد، وتنتصر الزراعة على الرعوية على أصوات صرخات دوموزي القتيل الذي تجره عفاريت العالم الأسفل، وصرخات قابيل الذي هوت على رأسه ضربات أخيه الفلاح، وصوت الرب المدوي يلاحقه أينما ذهب: «أين قابيل أخوك؟ ...» وبصعود إنانا يكتمل درام الفداء الإلهي. لقد تركت سيدة السموات عرشها ونزلت مختارة درجات الموت السبع مضحية بكل شيء في مقابل نتائج غير أكيدة وأمل ضعيف في العودة إلى الحياة، ولكن الحياة تنتصر، وتقهر إلهة الحياة قوى الموت، فتنقض من مرقدها حيث علقت جثة هامدة على وتد، وتنبعث في عودة مستحيلة متجددة شابة كأنها الفينيق، ذلك الطائر العجائبي الذي يحرق نفسه كلما شاخ لينبعث من رماده مجددا فينيق آخر غض وقوي وشاب. هكذا الطبيعة المتجددة التي تموت وتجف، ولكنها ما تلبث أن تنبعث بشكل مذهل. لقد ظهرت الحياة على الأرض نتيجة لتضحية إله، وهي تستمر نتيجة لتضحية إله آخر وفدائه .
على أن دوموزي الذي كان ذهابه إلى العالم الأسفل ضروريا للإفراج عن إنانا، لم يبق في ضمير العباد مجرد ضحية مسكينة، بل تحول إلى بطل؛ فهو شريك في ملحمة الفداء، وطرف هام لا تكتمل الملحمة دونه؛ ولذا تراه في نصوص أخرى يمضي إلى الموت ببطولة لينجز دوره:
انهض أيها البطل وامض في طريق اللارجوع.
ها هو يغيب، ها هو يغيب في حضن الأرض،
سيغمر أرض الأموات بالخيرات العميمة.
امض أيها البطل إلى الأرض البعيدة خلف مدى الأبصار.
14
وموقف إنانا من تموز، ذلك الذي يحتوي على تركيب لنقيضين هما الحب والكراهية، رغبة الحياة ورغبة الموت، نجد له متوازيات في ميثولوجيا الشعوب الأخرى؛ فبعض الإلهات لم يكن يجدن غضاضة في إهلاك محبيهن، ثم استردادهم للحياة مرة أخرى، وللحب. ففي الأسطورة اليونانية نجد أن أدونيس يقتل من قبل الخنزير البري، وهو الحيوان المقدس لدى حبيبته أفروديت وأحد رموزها. وبذلك يكون أدونيس قد قتل من قبل حبيبته بصورة غير مباشرة. غير أن الرعب الذي تلقيه أمثال هذه القصص في قلوب قراء العصر الحديث هو آخر ما كانت الأسطورة تهدف إليه؛ فبدون الموت لم تكن هناك حياة جديدة تحل محل الأولى التي غدت بائسة رتيبة وبلا معنى باعتمادها على الخير وحده.
لقد أوردت إنانا عشيرها موارد التهلكة، ولكنها هي بالذات من سيقوم بتخليصه من أسره واسترجاعه من العالم الأسفل. وسيكون حبها له والتصاقه بها العنصرين الأساسيين في عملية الاستعادة. لقد حققت إنانا لنفسها عودة مستحيلة من عالم الأموات، وهذه العودة ستصبح نموذجا بدئيا لكل عودة إلى الحياة، نموذجا سينظر إليه البشر بأمل طالما بقي هناك حياة وموت. وسيحاولون الاتحاد بذلك الإله الميت الذي بعث، والالتصاق به في مجموعة من الطقوس السرية التي من شأنها، في اعتقادهم، جعلهم جزءا متوحدا معه، فيسيرون على طريقه، وينشلون معه من الموت المؤقت، إلى حياة جديدة ثانية بعيدة عن العالم الأسفل: «من آمن بي وإن مات فسيحيا» يقول السيد المسيح.
والبعث الجديد سيصبح فيما بعد وقفا على أتباع الإله الميت ممن دخلوا في عبادته وأدوا الطقوس الإدخالية المفروضة واتحدوا به عبر مجموعة من الطقوس والعبادات.
وهكذا نجد أن إنانا في الأسطورة السومرية ترسل بدوموزي إلى الموت، ولكنها في الأسطورة البابلية تقوم بتخليصه من الموت. وتشرع برحلتها إلى العالم الأسفل لهذه الغاية. وتحقق لحبيبها العودة المستحيلة كما حققتها لنفسها قبلا، وكما ستحققها للأتباع المخلصين ممن سيلتصقون بها في الفترات المتأخرة لتطور الديانات الشرقية.
الفصل الثاني
هبوط عشتار إلى العالم الأسفل
تحذو الأسطورة الأكادية حذو نموذجها السومري، ويغدو الهيكل العام للنزول الثاني صورة تكاد تكون طبق الأصل عن النزول الأول، بحيث يشكل النص بمجموعه مثالا ناطقا عن التأثر الشديد للفكر والأدب الأكادي بالنماذج السومرية السابقة، وسيطرة الفكر السومري على ثقافة المنطقة؛ فدوموزي في النص البابلي هو تموز كما صار يدعى، أما إنانا فتبدو باسمها الأكادي الجديد: عشتار.
إلى الأرض التي لا عودة منها، إلى أرض [إريشكيجال]
1
اتجهت عشتار ابنة سن بأفكارها.
نعم، ابنة سن اتجهت بأفكارها
إلى دار الظلام ومسكن أركالا،
2
إلى الدار التي لا يرجع منها الداخل،
إلى الدرب الذي لا يقود صاحبه من حيث أتى،
إلى المكان الذي لا يرى سكانه نورا ولا ضياء،
حيث الغبار طعامهم والتراب معاشهم،
يسبحون في الظلام فلا بصيص ولا شعاع،
عليهم أجنحة تنقلهم كالطيور،
بين أرجاء مسكنهم الذي علا الغبار أبوابه ومزاليجه.
وعندما وصلت عشتار إلى بوابة الأرض اللارجوع
نادت حارسة البوابة: «افتح بابك يا حارس البوابة،
افتح بابك ودعني أدخل،
فإن لم تفتح بابك لأدخل منه؛
فسأحطمه وأكسر مزاليجه،
سأخلع عوارضه وأرمي مصاريعه،
وأطلق الموتى إلى سطح الأرض فيأكلون سكانها،
ويزداد عدد الأحياء على عدد الأموات.»
ففتح حارس البوابة فمه وقال: «رويدك سيدتي لا تلقي بالباب أرضا،
سأهرع وأعلن قدومك للملكة إريشكيجال.» (ثم مضى) ودخل على إريشكيجال قائلا:
إن أختك عشتار [واقفة بالباب]، (تلك) التي تقود الاحتفالات، وتحرك المياه السفلية أمام إيا .
فلما سمعت إريشكيجال هذا؛
شحب لونها حتى غدا كلون شجرة مجتثة،
واسودت شفتاها حتى غدتا بلون الكينينو المقطوع: «ما الذي حفزها لتحضر إلي؟ ما الذي وجه أفكارها إلي؟
إني إذن سأشرب الماء مع بقية الأنوناكي،
وبدل الطعام سألتهم التراب، وبدل الجعة ماء العكر
3
إني إذن سأبكي الفتيات اللواتي انتزعن من أحضان الأحبة،
وأندب الطفل الضعيف الذي قضى قبل أوانه،
والرجال الذين خلفوا وراءهم زوجاتهم.
امض يا حارس البوابة وافتح لها الأبواب،
ثم عاملها وفقا للشرائع القديمة.»
فمضى البواب وفتح لها: «ادخلي سيدتي؛ فالعالم الأسفل يحييك بسرور،
وسيبتهج من أمامك قصر اللارجوع.»
ولما مر بها عبر البوابة الأولى، رفع عن رأسها التاج العظيم. - «لماذا يا حارس البوابة أزحت عن رأسي التاج العظيم؟ - ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة العالم الأسفل.»
ولما مر بها عبر البوابة الثالثة رفع عن جيدها العقود. - «لماذا يا حارس البوابة رفعت عن جيدي العقود؟ - ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة العالم الأسفل.»
ولما مر بها عبر البوابة الرابعة نزع عن صدرها الحلي. - «لماذا يا حارس البوابة نزعت عن صدري الحلي؟ - ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة العالم الأسفل.»
ولما مر بها عبر البوابة الخامسة انتزع عن وركها تعويذة الولادة المرصعة بجواهر الميلاد.
4 - «لماذا يا حارس البوابة انتزعت عن وركي تعويذة الولادة المرصعة؟ - ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة العالم الأسفل.»
ولما مر بها عبر البوابة السادسة نزع الأساور عن يديها وقدميها. - «لماذا يا حارس البوابة نزعت الأساور عن يدي وقدمي؟ - ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة العالم الأسفل.»
ولما مر بها عبر البوابة السابعة نزع عنها ثياب جسدها. - «لماذا يا حارس البوابة نزعت عن جسدي ثيابي؟ - ادخلي سيدتي فهذه شرائع ربة العالم الأسفل.»
فلما صارت عشتار في قلب العالم الأسفل
وقع عليها نظر إريشكيجال فاستعر غضبها.
ولكن عشتار اندفعت دونما تفكر نحوها.
ففتحت إريشكيجال فمها قائلة لوزيرها نمتار: «امض يا نمتار، اصعد بها قصري وأغلق عليها هناك،
ثم أطلق ضدها. أطلق ضد عشتار ستين علة.
ضد عينيها أطلق علل العيون،
ضد أضلاعها أطلق علل الأضلاع،
ضد أقدامها أطلق علل الأقدام،
ضد أحشائها أطلق علل الأحشاء،
ضد رأسها أطلق علل الرأس.
ضد كل أجزائها ، ضد كل جسدها (فلتطلق العلل).»
بعد أن هبطت السيدة عشتار إلى أرض اللاعودة ... ...
اضطجع الرجل وحيدا في غرفته، ونامت المرأة على جنبها وحيدة.
5
بابسوكال وزير الإلهة العظيمة
ارتدى وشاحا، وشعرا طويلا،
ومضى باكيا إلى أبيه سن،
وفاضت دموعه أمام إيا الملك:
لقد مضت عشتار إلى العالم الأسفل ولم تصعد ثانية.
ومنذ أن غابت عشتار في العالم الأسفل [...] [...]
اضطجع الرجل وحيدا في غرفته، ونامت المرأة على جنبها وحيدة. [...]
قلب إيا الحكيم الأمر على وجوهه فخطر له خاطر؛
صنع أصوشونامير المخلوق الخصي (وقال له): «امض يا أصوشونامير إلى بوابة عالم اللارجوع.
يمم شطرك يا أصوشونامير نحو بوابة عالم اللارجوع،
وستفتح أمامك بوابات ذلك العالم السبع،
وتراك إريشكيجال وتبتهج لحضورك.
فإذا هدأت خواطرها نحوك واستقرت نفسها لك،
دعها تقسم بجميع الآلهة العظيمة،
ثم ارفع رأسك وحول نظرك إلى قربة ماء الحالزاكو
قائلا:
6 «سيدتي. هلا أمرت لي بقربة ماء الحالزاكو فأشرب منها.»
فلما سمعت إريشكيجال هذا القول
7
ضربت حجرها (بكفيها)، وعضت على أصابعها: «لقد أبديت رغبة ما كان لك أن تبديها،
والآن يا أصوشونامير سألعنك لعنة عظيمة،
فيكون طعامك من مجارير المدينة (أبد الدهر)،
وترد بالوعات البلدة لأجل شرابك،
من ظلال الحيطان تتخذ لك مسكنا (دون البيوت)،
ومن عتبات الأبواب ملجأ (وملاذا).
عطشان لا تجد ما تتبلل به، فإذا وجدت تتفجر ولا ترتوي.»
8
ثم التفتت إلى وزيرها نمتار قائلة: «امض يا نمتار واقرع باب ال (إيجالينا)،
9
زين العتبة بحجر الإيريتو،
استدع الأنوناكي ودعهم يجلسون على عروشهم الذهبية،
ثم انضح عشتار بماء الحياة وخذها بعيدا عني.»
10
فمضى نمتار وقرع باب الإيجالينا،
وزين العتبة بحجر الإيريتو،
استدعى الأنوناكي وجعلهم يجلسون على عروشهم الذهبية،
ثم نضح عشتار بماء الحياة وأخذها بعيدا عن إريشكيجال،
ولما مر بها عبر البوابة الأولى أعاد إليها ثياب جسدها.
ولما مر بها عبر البوابة الثانية أعاد الأساور إلى يديها وقدميها.
ولما مر بها عبر البوابة الثالثة أعاد إلى وركها تعويذة الولادة المرصعة.
ولما مر بها عبر البوابة الرابعة أعاد إلى صدرها جميع الحلي .
ولما مر بها عبر البوابة الخامسة أعاد إلى جيدها العقود.
ولما مر بها عبر البوابة السادسة أعاد إلى أذنيها أقراطها.
ولما مر بها عبر البوابة السابعة أعاد إلى رأسها التاج العظيم.
فإن لم تعطه الفدية المقررة كان عليه إرجاعها من حيث أتت.
أما تموز زوجها الشاب: «(فخذوه)
11
واغسلوه بماء طهور، وضمخوه بالعطور الطيبة.
ألبسوه عباءة حمراء ودعوه يعزف بنايه اللازوردي.
ولتحط به كاهنات عشتار يهدئن من خواطره.»
ثم يلتقي الزوجان على سطح الأرض مرة أخرى في المقطع الأخير لهذه الأسطورة. وهذا المقطع ما زال غامضا رغم كماله وعدم وجود نقص أو خرم في اللوح. وهو يشكل الأسطر العشرة الأخيرة من النص الذي ينتهي بالتذييل الآتي:
قصر آشور بانيبال، ملك العالم وآشور،
الذي وهبه نابو وتاشميتو فهما عظيما.
لقد هبطت إنانا وحيدة درجات الموت السبع، ثم عادت وحيدة منتصرة وقد حققت ولادة ذاتية وتجددا فريدا بقواها الخاصة، مؤكدة بشكل رمزي طاقتها الإخصابية الكونية وماهيتها الأبدية المتجددة في صراعها مع قوى الفناء والزوال. فإنانا ليست خصيبة ولكنها الخصب. إنها جوهر هذه القوة، الحافظة للحياة، التي تقف أبدا في مقابل القوة الهادمة للحياة. إنها الوجود في مقابل العدم، وجود حركي دينامي يثبت نفسه أبدا، ويحقق ذاته باستمرار في حركة جدلية دائبة. ثم هبطت ثانية تحت اسم عشتار لتنقذ تموز القتيل وتهبه من لدنها حياة، وصعدت به معها درجات الحياة السبع ليغدو صعودهما معا نموذجا يتطلع إليه الإنسان أبدا لما يستطيع إلهه الحامي أن يفعل من أجله، وصورة للخلاص من ربقة الموت بمعونة الفادي الذي يقبل أن يذوق الموت ليهب من يؤمن به الحياة.
وفي كلا الهبوطين كانت عشتار مثالا منهجيا للإلهة الأم. الأم الكونية المخصبة بذاتها، الغامرة بظلها الرحيب عالم الإنسان بجنسيه. وفي كلا الهبوطين كانت صورة مستعادة، في الضمير المبدع للأسطورة لخيال الأم في عهود سحيقة عندما كانت مركز الجماعة ومنبع قيمها وجمالاتها، وعندما كان الذكر تابعا في مجتمع تتخذ فيه الأم لا الأب دور القائد. لقد أرسل تموز في المرة الأولى إلى الموت بناء على أوامرها، ثم عاد في المرة الثانية بدافع من رغبتها العارمة في استعادته. وفي كلا الحالين كانت هي المرأة المسيطرة القوية، المكتفية. وكان هو الذكر الضعيف المعتمد عليها اللائذ بأحضانها.
إن هبوط عشتار توكيد لحق الأنوثة ودورها في مجتمع يتجه نحو «الأبوية» المطلقة في كل مظاهره العامة المعلنة، ولكنه مع ذلك يحتوي في صميمه على تلك العناصر «الأمومية» التي تؤكد نفسها بشكل لا شعوري في قالب من أكثر القوالب تعبيرا عن لا شعور الفرد والجماعة؛ ألا وهو الأسطورة. إن صراع عنصري الأنوثة والذكورة في نفس الإنسان، ذلك الصراع غير المعلن وغير المعترف به، وصراع العناصر الأمومية والعناصر الأبوية في المجتمع، ذلك الصراع العفوي والتلقائي، والذي يجري بمعزل عن تدخل الذوات الواعية، هما صراعان يعلنان عن نفسيهما في هبوط عشتار للعالم الأسفل، وجميع التكرارات الموازية في أساطير المنطقة التي سنأتي على دراستها في هذا الفصل.
وأود أن ألفت النظر لخطأ شائع يقع فيه الكثيرون عندما يتحدثون عن الإله «تموز»، فيصفونه بأنه الحياة الزراعية المتجددة، أو الدورة الطبيعية السنوية. والواقع أن غياب الحياة عن الزراعة وجفاف الأرض هو تعبير عن غياب القوة الإخصابية الواهبة للحياة والمتمثلة بإنانا أو عشتار، عندما بدأت رحلتها بعيدا عن هذا العالم مسلمة إياه لقوى الموت والجفاف. وفي اعتقادي فإن الإله تموز لا يلعب في هذه المأساة إلا دورا ثانويا؛ فهو على أية حال راع، ونحن لا نستطيع أن نطلب من راع أن يلعب دورا أكثر أهمية في مأساة محورها الزراعة. وفي الواقع فإن الطقوس والعبادات التي سميت تموزية من قبل الباحثين خطأ، هي طقوس وعبادات عشتارية، وليس النواح على تموز في مواسم أعياده إلا مشاركة من العباد لعشتار في أحزانها. ولا نستطيع والحالة هذه أن نطلق على تموز - كما جرى الاصطلاح العام - صفة إله الخصب إلا مجازا وكناية، ونوعا من إيفائه حقه لمساهمته بنوع ما في إكمال المأساة. إلا أن دور تموز الثانوي هذا لا يتدخل إطلاقا في التقليل من شأنه في قلوب العباد ، بل على العكس تماما؛ لقد كان تموز من أحب الآلهة لدى الجماهير، فلقد تألم وعانى عذابات الموت كأنه بشر فان، ثم بعث من بين الأموات وصعد إلى السماء في النهاية، كما نستدل على ذلك من أسطورة آدابا السابق ذكرها في فصل التكوين، عندما التقى به هناك آدابا عند بوابة السماء السابعة. وكان البكاء عليه في الشهر المدعو باسمه يتخذ شكلا مأسويا فاجعا، عندما تنفجر جماهير عباده في موجة هستيرية من التعبير عن الحزن والألم؛ بلطم الخدود وتمزيق الثياب وإيذاء الجسد بشتى الوسائل. والواقع أن هذا التعبير كان يحمل في طياته نوعا من إفراغ الشحنات الانفعالية المكبوتة لجماهير ترزح تحت شتى أنواع الضغوط النفسية والاجتماعية. لقد كان تموز مشجبا نعلق عليه أحزاننا سنويا ونستريح.
الفصل الثالث
هبوط بعل إلى العالم الأسفل
عندما ننتقل إلى آرام وفينيقيا يحصل تبدل طفيف في أدوار الأبطال الرئيسيين في المأساة، ولكن جوهرها يبقى واحدا؛ ففي أوغاريت يتكافأ تماما في أسطورة الخصب ولدرجة مدهشة دورا الإلهة الأنثى الممثلة للقوة الإخصابية الكونية، والإله الذكر الذي يمثل هنا قوى لا غنى عنها للقوة الأولى؛ ألا وهي قوى السحاب والمطر والندى، مدعومة بقوة البرق والصاعقة والرعد. إنه بعل أو حدد أو أدون وقرينته عناة. فلأن قوى الخصوبة لا تستطيع أن تكون فاعلة دون مساعدة الأمطار في الشتاء والندى في الصيف، كانت علاقة عناة ببعل علاقة وثقى لا تنفصم، وكان حبهما الأبدي ووثاقهما الجسدي ضرورة لا غنى عنها للحياة الزراعية. ولقد غذى هذه الفكرة نوعية المناخ والإقليم في سوريا حيث لا غنى عن الأمطار للزراعة، وحيث لا تشكل الأراضي المروية بواسطة الأنهار إلا نسبة ضئيلة. على عكس وادي النيل ووادي الرافدين، وحيث معظم الأراضي هي ملك لبعل يسقيها كيف يشاء وعندما يشاء. ولا تزال الكلمة مستعملة في سوريا حتى الآن عندما يقال «أرض بعل»، بمعنى أنها الأرض التي تسقى بمياه الأمطار. وبعل في الأسطورة الأوغاريتية ليس مغلوبا على أمره كما كان تموز، ولكنه قوي جبار تغلب على يم المياه الأولى، كما رأينا في فصل التكوين ونظم أحوال العالم، وخذلانه أمام إله العالم الأسفل، كما سنرى فيما يأتي لم يكن إلا خذلانا مؤقتا. إلا أن هذه الصورة لبعل تتلاشى فيما بعد وخصوصا لدى فينيقيي الجنوب، فيغدو أدون أو أدوني نسخة قريبة الشبه جدا من تموز، بينما يحتفظ حدد الآرامي برموز سلطة بعل وقوته؛ وهي البرق والصاعقة والرعد.
لم يكن يم هو العدو الأخير الذي يتصدى لبعل، فما زال أمامه الكثير من الصعاب قبل أن يحقق انتصارا مطلقا وكاملا، وما زالت هناك قوى تعاكس النظام الذي خلقه بعل بانتصاره على مياه العماء البدئية، وقوى الحياة الإنسانية والنباتية التي ظهرت ببناء مملكته وتشييد بيته. وهذه القوى يمثلها الإله موت سيد العالم الأسفل. وإذا كان بعل يمثل انتصار قوى الحضارة والبناء والنظام والخصب، فإن موت ومملكته يمثلان الموت والجفاف والدمار والفوضى. وموت ضد الإنسان يتبعه طيلة حياته لاقتناص روحه التي يحاول بعل كل جهده الحفاظ عليها بإغداقه من الخيرات والثمار والأمطار وبث الخصب في التربة المعطاء. وموت ضد النبات يرسل عليه الحرارة والجفاف فيذبل ويذوي، بعد أن بذل بعل غايته في حفظه وإنمائه. وهو ضد النور والشمس والوضوح والحركة؛ ولذا فإن عالمه هو عالم سفلي يسوده الظلام والصمت والسكون، في مقابل عالم بعل المليء بالفعالية والحركة والحياة. وسيكون على هاتين القوتين الكبيرتين أن تتصارعا طويلا قبل أن يكتب لإحداهما الانتصار. وسيجد بعل نفسه في المعركة مرات لا حصر لها؛ ففي كل سبع سنوات سينبري له موت ويتحداه فيسلم بعل نفسه له، ويهبط إلى العالم الأسفل، ولكنه يعود منتصرا إلى الحياة بعد معركة عنيفة بين بعل وعناة من جهة، وموت وأتباعه من جهة ثانية، حيث تقوم عناة بقتل موت وتقطيعه ونثر جسده في الحقول، ويقوم بعل من جهته بالقضاء على بقية القوى الموالية لموت؛ وبهذا الانتصار تنبعث الطبيعة من جديد، وتعود الأمطار لتروي الأرض المجدبة ، وترجع الحياة الزراعية سيرتها الأولى.
وهكذا نجد أن هذه الأسطورة لا تهدف بالدرجة الأولى إلى تفسير الدورة الزراعية السنوية، بل إلى تفسير تناوب دوري الخصب والجفاف الذي يميز مناخ المنطقة، والذي ما نزال حتى الوقت الحاضر في سوريا نعاني من آثاره. ويبدو أن هذا التناوب كان واضحا في أرض كنعان قديما لدرجة كان يمكن معها حصره في سبع سنوات خصيبة تليها فترة من القحط تطول أو تقصر، ثم تعود الحالة سيرتها الأولى وهكذا.
تحدثنا النصوص 51-67-62-49 من ألواح أوغاريت عن قصة هذا الصراع التي تشكل حجر الأساس في اللاهوت الكنعاني. وهذه النصوص إلى جانب ما تعانيه من نقص وتشويه جعل ترجمتها من أشق مهام علماء الأوغاريتية، فإنها لم تصلنا في الأساس وفق تسلسل معين يعطينا صورة عن القصة كما أرادها كتابها، كما لم يمكن التوصل إلى تسلسل يمكن الركون إليه باعتباره استعادة للتسلسل الأصلي كما أراده كهنة بعل ومدوني وحيه.
وسأقدم فيما يأتي ترجمة لأكثر المقاطع وضوحا في النص، مع إعطاء ملخصات لما يجري في المقاطع المشوهة والناقصة اعتمادا على شذرات الأسطر الناقصة، وعلى المحاكمة المنطقية لسير الأحداث.
بعد أن يستقر بعل فوق عرشه ويشرف على مملكته يبدأ أعداؤه في التآمر ضده، ويعلن موت باسمهم جميعا:
1
أنا وحدي من سيحكم فوق جميع الآلهة،
من سيأمر الناس والآلهة،
ويسيطر على جميع من في الأرض. (فيبعث بعل رسوليه جوبارا وأوغار للتفاوض مع موت)
قوما برفع الجبل على أيديكم،
والتل على أعالي رءوس النخيل،
واهبطا إلى أقاصي الأرض العميقة
حتى تصبحا مع من غادر هذه الأرض.
ومن هناك يمما وجهيكما شطر مدينة موت،
توجها إلى مدينته حمرى،
وارقبا العرش الذي يجلس عليه، [... أرض أملاكه]، [... جنود حراسة الآلهة]،
ولا تقربا كثيرا من موت الإله
حتى لا يجعلكما إلى فمه كما الحمل،
ويسحقكما بين فكيه كما الولد الصغير.
اقطعا آلاف الميال،
عشرات ألوف الهكتارات.
وعلى قدمي موت قفا واركعا،
اسجدا له وعظماه،
وقولا له، لموت،
أعلنا للبطل حبيب الإله إيل
رسالة عليان بعل،
2
وكلمة علي
3
المحارب :
لقد بنيت بيتي من [الفضة]،
وقصري من ذهب [...]
ولا نعرف بقية نص الرسالة، ولكن يمكن الاستنتاج أن الإلهين لم يتفقا على التعايش بسلام؛ الأمر الذي حدا بالإله موت إلى تحريض بعض القوى الشريرة التي تنتمي إلى عالم العماء المائي الذي زال وانقضى بزوال مملكة يم، فيخرج التنين الهائل لوتان ذو الرءوس السبعة لصراع بعل. ولكن الإله يقضي عليه ويسحقه بسهولة كما سحقه فيما بعد يهوه تحت اسم لوياتان في المزمور 74 وأماكن أخرى من العهد القديم. فيثور موت ثورة عظيمة، ويدرك أن لا خلاص من بعل إلا بالمواجهة الشخصية الحاسمة، فيرسل له قائلا:
لأنك قتلت «لوتان» الحية الشريرة،
لأنك سحقت الحية الخبيثة،
العظيمة ذات الرءوس السبعة،
فالسموات [...] [...] (يلي ذلك ثلاثون سطرا ناقصة نجد بعدها وصفا مريعا لموت وفمه الفاغر لابتلاع بعل)
فشفة في الأرض،
وشفة في السماء،
واللسان بين النجوم،
ليدخل بعل في أعماق جوفه،
هابطا إليه من فمه؛
فتجف أشجار الزيتون،
وكل منتجات الأرض،
وثمار جميع الأشجار.
خاف عليان بعل منه (وارتجف)، (نعم) لقد فزع منه راكب الغيوم:
اذهبا وقولا للإله موت،
أعلنا للبطل حبيب الإله إيل،
رسالة بعل العلي،
وكلمة علي المحارب: «تحية لك يا موت الإله،
عبدك أنا سأكون،
نعم عبد لك إلى الأبد.»
وهكذا يقبل بعل مختارا المضي إلى عالم اللارجوع. وقبل أن يسلم نفسه يولم وليمة لجمع من الآلهة، ويأكل معهم ويشرب قبل أن يغادر الحياة، ثم تأتيه تعليمات موت لما يجب عليه القيام به:
عليك أن تأخذ معك غيومك
ورياحك وعواصفك وأمطارك،
وتأخذ معك أتباعك السبعة،
وخنازيرك الثمانية،
ومعك أيضا بدرية ابنة النور،
ومعك طلية ابنة المطر،
ثم توجه شطر جبل كنكيني،
فارفع الجبل على يديك،
والتل على أعالي رءوس النخيل،
واهبط إلى أقاصي الأرض العميقة،
حتى تصبح مع من غادر هذه الأرض.
فيسرع بعل إلى تنفيذ تعليمات موت، ولكنه قبل هبوطه يقوم بمضاجعة عجلة سبعا وسبعين مرة متوالية، فتحمل منه العجلة. ولا يتضح من النص طبيعة هذه العجلة وحقيقة دورها، فربما كانت هي الإلهة عناة في شكل تحولي من أشكالها، أو ربما نابت الصفة عن الاسم في سياق النص؛ فنحن نعرف أن من صفات الإله إيل أنه الثور إيل، وعلى هذا ربما كانت العجلة عناة رغم أننا لا نجد للإلهة صفة بهذا الاسم في نصوص أخرى. وبعد أن يضمن بعل لنفسه الاستمرار عن طريق الغلام الذي زرع بذرته في رحم العجلة ينزل إلى أعماق العالم الأسفل. وهناك يستلب منه موت روحه ويرمي بجثته إلى سطح الأرض:
مات بعل العلي،
هلك الأمير سيد الأرض،
فقام لطبان
4
إله الرحمة،
وتهاوى على مسند القدمين،
ومنه خر واقعا على الأرض،
وأخذ يحثو التراب على رأسه،
ويمرغ نفسه في الأديم،
صارخا وا حسرتاه، لقد هلك بعل، لقد مات ابن داغون.
5
فتجزع عناة لصراخ إيل وتعرف أن بعلها قد قضى نحبه، فتهيم مثله نادبة نائحة، إلى أن تعثر على الجثة التي لفظها موت من أعماقه:
فرفعته على كتفها
وصعدت به أعالي جبل صفون،
6
وهناك بكت عليه وقامت بدفنه،
واضعة إياه في مقبرة آلهة الأرض.
ثم ذبحت سبعين رأسا من الجاموس
تقدمة لبعل العلي.
وضحت بسبعين رأسا من الثيران،
تقدمة لبعل العلي.
وبعد أن تنتهي من مراسم الدفن وتقديم الأضاحي، تمضي عناة إلى مقر إيل عند نبع النهرين، وتدخل عليه وهي تعرف أن زوجته عشيرة قد فرحت بموت بعل لأن موته سيعطيها الفرصة لتنصيب أحد أولادها مكانه. وتقول:
فلتفرح عشيرة ولتبتهج مع أبنائها؛
لأن عليان بعل قد قضى،
لأن الأمير سيد الأرض قد هلك.
فصاح إيل إلى عشيرة سيد البحر:
أي عشيرة يا سيدة البحر أصغي إلي،
ادفعي إلي بأحد أبنائك فاجعل منه ملكا.
فأجابت عشيرة سيدة البحر قائلة:
فلنجعل ملكا من يعرف كيف يحكم.
لنرفع (إلى العرش) أثتر الملك المخيف.
فيصعد أثتر إلى أعالي جبل صفون ويجلس على عرش بعل، ولكنه لم يستطع أن يملأه فرأسه لم يصل قمة الكرسي، ولم تستند قدماه على مسند القدمين، فاعترف بعجزه عن سد الفراغ الذي خلفه الإله الكبير، ونزل راجعا من حيث أتى . وفي هذه الأثناء يتضاعف حزن عناة على بعلها فتطلب من موت مرارا أن يرده لها ولكن عبثا، مما يجعلها تقرر التصدي لموت ومواجهته وجها لوجه:
كقلب البقرة على عجلها،
وكقلب الشاة على حملها،
كذلك هو قلب عناة على بعل.
لقد أمسكت بالإله موت،
بالسيف تقطعه،
وبالمذراة تذروه،
وبالنار تشويه،
وبالطاحون تطحنه،
وفي الحقل تدفنه،
حتى لا تأكل لحمه الطيور،
ولا تنهش جسمه الجوارح. (بعد ذلك يرى الإله الأكبر إيل في نومه حلما عجيبا، فيستفيق من نومه فرحا مستبشرا):
في حلم لطبان إله الرحمة،
في رؤيا خالق الكائنات الحية،
كانت السموات تقطر زيتا،
والوديان تجري بالعسل.
فابتهج لطبان إله الرحمة،
واستقام على كرسيه واضعا قدميه على المسند،
ضاحكا من أعماق قلبه،
ورفع صوته صائحا:
دعوني الآن أستقر وأستريح
وتهدأ نفسي بين ضلوعي؛
لأن عليان بعل حي،
لأن سيد الأرض حي.
وعندما تسمع عناة ذلك تهرع إلى الحقول باحثة منقبة حتى تعثر على بعل وهو يثأر بنفسه من أعدائه، فيعودان معا ويصعد عرشه من جديد، وتعود له مملكته وحبيبته. ويحدثنا أحد النصوص عن الغرام المستعر الذي عاد فربط بين الإلهين: [...] في توق شديد أمسك بفرجها، [...] في توق شديد أمسكت بقضيبه، [... عليان] بعل قام بفعل الحب آلاف المرات، [... أل] عذراء عناة (إلا أن الوضع لا يدوم على هذا المنوال) (وهكذا) من أيام إلى شهور،
ومن شهور إلى سنين.
ولكن في السنة السابعة
نهض الإله موت معلنا نفسه لعليان بعل.
رفع صوته وصاح:
أي بعل، بسببك أنت جللني العار.
بسببك أنت قد ذقت السيف،
بسببك أنت وردت النار،
بسببك أنت عرفت حجر الطاحون،
بسببك أنت عرفت ... [...]،
بسببك أنت عرفت [...] في الحقول. (ومن جديد تعود القوتان الكونيتان للتصارع):
تشابكا كأنهما جاموسان،
قوى موت، وقوى بعل،
تصارعا كأنهما ثوران،
قوى موت، وقوى بعل
تعاضا كأنهما ثعبانان،
قوى موت، وقوى بعل
ترافسا كأنهما حيوانا سباق،
قوى موت، وقوى بعل،
وقع موت، ووقع بعل (فوقه).
ولكن هل تحسم هذه المعركة نهائيا الخلاف بين القوتين؟ كلا بالطبع؛ فما دام هناك خصب وجفاف، حياة وموت، خير وشر، فإن القوتين ستبقيان في كر وفر إلى أن تحل المملكة البعلية نهائيا على الأرض ، فلا موت ولا مرض ولا قلق.
لقد نافست إذن القوة الفاعلة الحركية القوة المجردة الكونية المتعالية، وظهر الإله الابن الشاب كند للأب الشيخ ساكن السماء وخالق الأكوان. ولكنه ند بمعنى مختلف ومفهوم جديد، فعظمته ليست مستمدة من قدرة الخلق؛ لأنه في معظم الأحيان ليس على مستوى الخلق، بما تتطلبه هذه العملية من قوى جبارة وقدرات خاصة. كما أنها ليست مستمدة من سلطانه على الناس والطبيعة والآلهة، لا ولا من بعده عن ذلك الإنسان الصغير وهمومه الحياتية، بل إن عين عظمته في قربه لعواطف الإنسان وأحاسيسه وانفعالاته، ومشاركته للبشر آلامهم ومصيرهم المحزن، ومحاولته تقديم الخلاص لهم، خلاصا حياتيا كما رأينا في الأساطير الثلاث السابقة، وخلاصا روحيا كما سنرى في أساطير لاحقة. وعظمته ليست في خلود أصيل في طبيعته، بل في قهره، ولأول مرة سلطان الموت وانبعاثه من جديد قوة شابة، مجسدا حلما من أحلام الإنسان الأولى، ورغبة من أكثر الرغبات إلحاحا عليه في حياته.
ولكن تصاعد قوة الابن وتزايدها لم يلغ قوة الأب ولم يفت في عضده، وبقيت ديانات السماء وديانات الخصب في تصارع لم ينته حتى في الديانة اليهودية التي تعد انتصارا مؤزرا للأب. فرغم أن اليهودية قد استبعدت كل الآلهة من أرض العبرانيين، كان الشعب كان في كل مرة يحن لآلهة الخصب المجاورة فيعبدها ويقيم لها الأنصاب والتماثيل، وذلك إلى أن جاءت المسيحية لتحل الإشكال، وتدخل الليونة والطراوة على شخصية الإله الأب؛ فظهر مجددا الإله الابن، وهبط إلى البشر فعاش معهم وشاركهم خبزهم وعرقهم وموتهم.
الفصل الرابع
هجرة الإله الميت
تتنوع الأسطورة الواحدة بتنوع الزمان والمكان والناس، وبانتقالها من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، يضيف عليها ناقلوها أو يحذفون منها أو يغيرون من تسلسل أحداثها، ولكنها من حيث الجوهر تبقى واحدة لأنها في الأصل تعبير عن دوافع دفينة واحدة وحاجات نفسية وعقلية واحدة. وهكذا انتقلت أسطورة الأم الكبرى أو الروح الإخصابية الكونية وحبيبها المفقود في سوريا وأرض الرافدين إلى بقية أنحاء العالم المتمدن القديم؛ ففي مصر نجد أسطورة إيزيس وأوزوريس، وفي آسيا الصغرى وفرجيا نجد سيبيل وآتيس، وفي بلاد الإغريق نجد أفروديت وأدونيس الذي احتفظ باسمه السوري أدون دون تغيير، إلا ما فرضته طبيعة التحوير اللغوي، كما نجد ديونيسوس وسيميلي. قصة واحدة ولكن الأمكنة متعددة والأزمنة متنوعة. (1) أدونيس وأفروديت
1
انتشرت عبادة بعل في جميع أنحاء سوريا وآسيا الصغرى، وكان اسمه يسبق بلقب أدون وتعني السيد أو الرب. وقد ناب هذا اللقب عن الاسم الأصلي وصار يعبد تحت اسم أدون أو أدوني، وخصوصا لدى فينيقيي بيبلوس وبانو في قبرص، وهما المدينتان الرئيسيتان اللتان ازدهرت فيهما عبادة هذا الإله. إلا أن تحويرا وقع على أسطورة بعل هنا؛ فالرب لم يمت في صراعه مع موت، وإنما قام خنزير بري بافتراسه في غابات لبنان أثناء الصيد. أما حبيبته والبطلة الرئيسية في سير الأحداث، القوة الإخصابية الكونية، فلم تعد عناة الأوغاريتية، بل زميلتها عستارت التي ظهرت بدور ثانوي في ملحمة بعل. والواقع أن هاتين الإلهتين هما إما أصل أو انعكاس للإلهتين إنانا وعشتار في بلاد الرافدين. وكما كانت إنانا وعشتار إلهتين في واحدة، كذلك الأمر فيما يتعلق بعناة وعستارت حيث الشخصية واحدة ولكن التسمية اختلفت تبعا للمكان والزمان. وكما مضت عناة تبحث عن بعلها، كذلك مضت عستارت تبحث عن أدوني، إلى أن أثمرت جهودها ونهض من بين الأموات على مرأى من عباده الذين قضوا فترة موته في ندب وعويل. وهكذا يمضي عباد أدون في كل ربيع عند فيضان نهر إبراهيم (نهر أدون سابقا) بالبكاء ولطم الخدود والصدور على الإله الغائب، ويجري النهر الغاضب بمياه حمراء من جراء الأتربة التي تنجرف مع الثلوج الذائبة من المرتفعات، فيعتقدون أن دماء الإله القتيل هي التي أعطت للمياه صبغتها، كما أعطت لشقائق النعمان المتفتحة لونها. وفي اليوم التالي كانت تعم الاحتفالات بقيامة أدوني فيرفع الناس الحداد ويأخذون بالرقص والشراب والممارسات الجنسية التي من شأنها تقليد لقاء الإله والإلهة والإحياء للتربة بالخصب والعطاء.
ولقد حمل الكنعانيون (الفينيقيون) في ترحالهم معهم آلهتهم، وكان أدوني من أشهر الآلهة المرتحلة . وصل إلى اليونان حيث أغرم به الناس هناك وزوجوه أفروديت إلهة الحياة والجمال، والنسخة اليونانية عن إنانا أو عشتار.
2
وأضافوا لاسمه حرف ال «س» وفق ما هو معمول به في معظم الأسماء اليونانية فصار «أدونيس». وتحكي الأسطورة اليونانية قصة أدونيس السوري مع بعض التحوير في التفاصيل. فشجرة المر كانت في الماضي إلهة شابة أغرمت بأبيها وتاقت إلى وصاله جنسيا، مدفوعة إلى ذلك بعاطفة جارفة زرعتها فيها الإلهة أفروديت انتقاما لإساءة سابقة. وقد استطاعت بحيلة ما أن تشبع رغبتها من أبيها دون معرفته بمساعدة وصيفة لها. ولكن الأب ما لبث أن أدرك الخدعة وعرف ما فعلت به ابنته، فاستل سيفه وجاء إليها ليغسل ذنبها بدمها. ولكن الفتاة صلت للآلهة وتضرعت إليهم بحرارة لإنقاذها؛ فاستجيب لها وأخفيت عن أنظار الأب بتحويلها إلى شجرة. وبعد عشرة أشهر انفتحت شجرة المر ليخرج منها أدونيس الشاب الذي حملت به من أبيها، فلما وقع عليه بصر أفروديت بهرها جماله الأخاذ وهامت به حبا، فأودعته في صندوق حديدي وسلمته إلى برسيفوني إلهة العالم الأسفل لتخفيه عن أنظار الآلهة. ولكن برسيفوني بدورها تغرم به وترفض إرجاعه إلى أفروديت، وترفع الإلهتان القضية إلى كبير الآلهة زوس الذي قضى بأن يقسم أدونيس وقته في السنة إلى ثلاثة أجزاء؛ فواحد لنفسه، وآخر لبرسيفوني، وثالث لأفروديت. وبذلك كان أدونيس يهبط مدة أربعة أشهر في كل سنة إلى العالم الأسفل ليعيش مع إلهته، ثم يغادر صاعدا إلى الحياة ثمانية أشهر أخرى، وهكذا دواليك. إلى أن أساء في إحدى المرات للإلهة أرتميس ربة الغابات والصيد، فأرسلت إليه خنزيرا بريا صرعه، ففاض دمه مضرجا الورود بحمرة أزلية باقية. (2) آتيس وسيبيل
من الآلهة الميتة التي ولدت في آسيا الغربية بتأثير تموز وبعل، ثم ارتحلت غربا. الإله آتيس الذي نشأت عبادته في فرجيا بآسيا الصغرى. وكان موته وبعثه موضع احتفالات ربيعية سنوية؛ ولهذا بلغ من تشابه هذا الإله مع أدونيس أن القدماء كانوا في كثير من الأحيان يطلقون عليهما الاسمين تبادليا. كان آتيس راعيا شابا غض الإهاب ، وكان محبوبا للأم الكبرى سيبيل أحيانا، وابنا لها أحيانا أخرى. ويحكى عن مولده
3
أن أمه نانا (واسمها يذكرنا بإنانا السومرية) قد حملت به وهي عذراء، وذلك عن طريق احتضان غصن من شجرة اللوز (أو الرمان)، ولكن عنزة أرضعته حتى شب وكبر، ومن هنا جاءه الاسم آتيس أي التيس.
4
وتحكى عن وفاته روايتان؛ فتراه في الأولى ضحية لغدر خنزير بري تماما كأدونيس، وفي الثانية ضحية لعمل عنيف قام به هو نحو ذاته عندما خصى نفسه تحت شجرة صنوبر ونزف حتى يموت. وقد حذا حذوه في ذلك جميع كهان أمه سيبيل الذين كانوا يفقدون ذكورتهم قبل الالتحاق بخدمة هذه الإلهة.
وصل آتيس إلى روما حوالي سنة 200 قبل الميلاد بعد دخول عبادة الإلهة الأم إليها. وقد مضى إلى مدينة «بيسينوس» في فرجيا - وهي المقر الرئيسي لعبادة سيبيل - سفراء دينيون وأحضروا إلى روما الحجر الأسود المقدس الذي يرمز للإلهة العظيمة. وبذلك تكون عبادتها قد انتقلت رسميا إلى الغرب حيث استقبلت بحماس منقطع النظير، مبرهنة على أن الشرق الذي أخفق في غزوه العسكري حوالي ذلك التاريخ عقب تراجع جيوش هانيبعل القرطاجني، لم تعوزه الحيلة لغزو من نوع آخر أمر وأدهى؛ ألا وهو الغزو الروحي.
وقد وصلت إلينا صورة حية عن احتفالات الربيع الخاصة بسيبيل وآتيس كما كانت تجري في روما، ولا شك أن هذه الاحتفالات هي صورة عن الاحتفالات والطقوس التي كانت تقام في آسيا الغربية. ففي اليوم الثاني من آذار تبدأ الطقوس باقتطاع غصن كبير من شجرة الصنوبر، ثم يغطى بأزهار البنفسج التي يقال بأن دماء الإله الميت هي التي أعطتها لونها، ويحمل من قبل ثلة من الكهان وقد ربطت إليه صورة لرجل شاب هو آتيس، ويسيرون به طوافا في الشوارع. إلا أن الاحتفالات لا تحافظ على هذا الطابع الهادئ؛ ففي اليوم الثالث - ويدعى يوم الدم - يبدأ كبير الكهنة بالطقوس الدامية فيجرح ذراعه ويخرج منها الدم كالنافورة قربانا للآلهة، ويبدأ العازفون بعزف الموسيقى المجنونة بواسطة الأبواق والمزامير والصنوج والطبول، ويروح بقية الكهنة في رقص عنيف وحركات هائجة على إيقاع الموسيقى إلى أن تستبد بهم النشوة الدينية الجامحة فيأخذون بتجريح أنفسهم بالآلات الحادة، فتبعث منها الدماء وتغطي المذبح والغصن المقدس. وهنا يقوم الكهنة المبتدئون بإخصاء أنفسهم ورمي قضبانهم المفصولة تحت قدمي تمثال الإله المنتصب. وربما قام آخرون من المتعبدين المشاركين بالاحتفالات بالفعل نفسه في نوبة هستيرية من الوجد والانجذاب، فيقوم الواحد منهم بإخصاء نفسه ويركض في شوارع المدينة نازفا متألما لا يلوي على شيء. كل هذه الأفعال تهدف إلى إظهار الحزن على الإله الغائب وحث له على الرجوع من العالم الأسفل. وما إن يحل المساء حتى ينقلب جزع المتعبدين فرحا وحزنهم بشرا. فلقد فتح باب القبر ونهض الإله من بين الأموات. وفي صباح يوم 22 آذار تنفجر الجموع في فرح جنوني في شوارع روما في كرنفال صاخب، حيث يفعل كل امرئ ما يحلو له في يوم سنوي مشهود. ومن الجدير بالملاحظة أن توقيت هذه الاحتفالات بقيامة آتيس يقارب توقيت الاحتفالات المسيحية بالجمعة الحزينة يوم موت السيد المسيح، ويوم الفصح، حيث قام من بين الأموات، وسنعود إلى هذه النقطة في مكان آخر من هذا الفصل. (3) ديونيسيوس
5
إذا كان آتيس وأدونيس قد جاءا إلى العالم الهيليني من الشرق، فإن آلهة أخرى قد ولدت غربية هيلينية، ولكن بروح شرقية وبتأثيرات سوريا وبابلية. من هذه الآلهة ديونيسيوس، وهو إله ابن يهبط إلى الأرض ويموت ميتة شنيعة، ثم يبعث من جديد ويصعد إلى السماء ليحكم في مملكة أبيه. قام زوس كبير آلهة الأوليمب بزيارة الإلهة بيرسيفوني وهو في هيئة الأفعى فضاجعها وانسحب، فحملت منه وولدت الإله زاغروس أو ديونيسيوس الذي اعتلى عرش أبيه وهو طفل صغير. وكانت الولادة في كهف صغير كانت ديمتر قد خبأت فيه ابنتها بيرسيفوني. ويظهر لنا نحت بارز من العصر المتأخر شكلا واضحا للكهف، حيث ولد الإله الطفل، وصورة للمهد الذي وضعته فيه أمه، وهذه الولادة تحضر في أذهاننا صورة ولادة المسيح في المغارة الصغيرة.
غير أن هيرا زوجة زوس قد أكلتها الغيرة لاعتلاء أحد أبناء زوس من امرأة أخرى عرش أبيه؛ فقامت بتحريض التيتان، وهم قوم متوحشون من آلهة الدرجة الثانية، كانوا في خصام مع زوس على قتل الطفل، فهاجموه محاولين تمزيقه، ولكن الإله كان يغير من شكله هربا بنفسه منهم، فصار أسدا فحصانا فأفعى، ولكن دون جدوى؛ لأن التيتان قد نالوا منه أخيرا وهو في صورة الثور، فقتلوه وقطعوا جسده سبع قطع أكلوها جميعا، ولم تجد محاولة زوس لإنقاذ ابنه لأن التيتان كانوا قد أتوا عليه قبل أن يصلهم برق كبير الآلهة ويحيلهم إلى رماد. وكانت الإلهة أثينا حاضرة على مقربة من المأدبة، فقامت بإنقاذ قلب ديونيسيوس وأسلمته لأبيه. وكان زوس في تلك الأثناء على علاقة بسيميلي يزورها بهيئة عادية وينام معها، تاركا وراءه البرق والصواعق وكل رموز سلطته وجبروته. فصنع من قلب ابنه شرابا دفع به إلى سيميلي لتشربه فحملت بديونيسيوس. ولكن هيرا لم تكن لتترك الإله الطفل يولد مرة أخرى، فتنكرت في زي وصيفة وحرضت سيميلي على أن تطلب من زوس أن يتجلى أمامها على صورته الحقيقية كما يفعل أمام زوجته هيرا، فلما استجاب لها صعقها البرق وهبطت إلى العالم الأسفل، ولكن زوس استطاع أن ينقذ من بطنها الطفل الذي لم يصل بعد إلى مرحلة النمو الكامل، ثم قام بشق فخذه وزرعه فيها وخاط عليه تاركا إياه ليستكمل نموه. وعندما آن أوان ولادته فتح ساقه واستخرجه طفلا تاما مكتملا.
ولكن الإله الذي لم ير أمه سيميلي هبط إلى العالم الأسفل باحثا عنها، وكان بحاجة إلى مرشد ودليل، غير أن المساعدة لم تقدم إلا بشرط واحد، وهو أن يخضع لفعل جنسي خضوعا أنثويا كاملا؛ فقام ديونيسيوس بصنع قضيب من غصن شجر التين وأولجه في استه. وقد اعتبر هذا الفعل رمزا للخضوع المطلوب، قدمت على إثره له المعونة المطلوبة وعاد بأمه من العالم الأسفل وأصعدها إلى السماء
6
بقي أن نقول إن التيتان بعد أن صعقهم زوس ببرقه وتحولوا إلى رماد، قد قام من رمادهم الجنس البشري.
وفي الاحتفالات الدينية الربيعية بديونيسيوس كان يجري تمثيل عذابات الإله الميت في لحظاته الأخيرة بدقائقها مصحوبا بالأناشيد الحزينة والموسيقى، ثم يؤتى بثور يمثل الإله القتيل الذي التهمه التيتان وهو على هذه الصورة فيمزقونه ويلتهمون لحمه ويشربون دمه على أصوات الموسيقى المجنونة، معبرين بذلك رمزيا عن رغبتهم في الاتحاد بالإله القتيل بواسطة أكل جسده وشرب دمه. تماما كما علمنا السيد المسيح، فيما بعد. نقرأ في العهد الجديد من الإصحاح 36: «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلا اشربوا منها كلكم؛ لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل الكثيرين لمغفرة الخطايا.» وبعد تناول القربان كانت الطقوس تستمر فيجري تمثيل ولادة ديونيسيوس الثانية وبعثه من بين الأموات. وبالإضافة إلى الثور فإن ديونيسيوس كان يمثل بشكل التيس أو الجدي تماما كالإله آتيس؛ ولذا فإن الجدي كان في أحيان أخرى هو الضحية التي تؤكل ويشرب دمها كرمز للإله القتيل، وكان الراقصون يرتدون ثيابا من جلد الماعز في احتفالاتهم تلك.
وتدعى الديونوسيسية أحيانا بالأورفية نسبة إلى أورفيسوس، وهو الرجل الذي أوجدها. ولا نستطيع البت في حقيقة وجود هذا الشخص؛ لأن الأساطير والخوارق قد غللت حياته وسيرته، شأنه في ذلك شأن بوذا وآخرين من مؤسسي الديانات الكبرى. (4) ديمتر وبيرسيفوني
7
من الأساطير اليونانية الأخرى ذات المادة الشرقية والحياكة الهيلينية، أسطورة ديمتر الأم اليونانية الكبرى وربة القمح والمحاصيل وابنتها بيرسيفوني. فبينما كانت بيرسيفوني تجمع الأزهار من الحقول، انشقت الأرض فجأة وظهر من باطنها هاديس إله العالم الأسفل في عربته الذهبية، فاختطفها وأخذها معه إلى مملكته السفلى زوجة له وملكة. ولما طال غيابها ارتاعت الأم ديمتر وراحت تذرع الأرض بحثا عن ابنتها المفقودة ولكن دون جدوى. وما لبثت أن علمت أن زوس قد أعطى بيرسيفوني لأخيه هاديس هدية. فراحت تهيم على وجهها دونما هدف ولا غاية، إلى أن تعاظم حقدها وغلبها الحنين لابنتها، فراحت في عمل استفزازي لآلهة الأوليمب ترسل الأمراض والأوبئة على بني البشر، ومنعت عن الأرض شجرها ومحاصيلها. فجزع زوس لعملها هذا وأرسل الآلهة واحدا بعد الآخر لإقناعها بالتوقف عن فعلها ورد غضبها ولكن عبثا. فما كان منه سوى أن أقنع هاديس بأن يحرر بيرسيفوني، ولكن بعد فوات الأوان، وبعد أن جعلها تأكل من نبات معين يجعل صاحبه يعود إلى العالم الأسفل إن هو خرج منه ثلاثة أشهر كل عام. فرحت ديمتر بلقاء ابنتها وكفت بلواها عن البشر، وأفرجت عن روح الخصوبة المحتجزة، فعادت الأرض سيرتها الأولى ولكن إلى حين؛ لأن بيرسيفوني ستعود ثانية إلى العالم الأسفل. وفي كل سنة ستحزن الأم على فقد ابنتها وستجف لحزنها المزروعات وتحجب الأرض غلالها.
وقد عاشت ديمتر حية في قلوب عبادها فترة طويلة جدا بعد تحول أوروبا إلى المسيحية، فاتخذت في مدينة إيلوسيس موطن عبادتها الأساسي اسم القديسة ديمترا، وبقي تمثالها هناك معززا مكرما حتى عام 1810م، عندما حمله إلى لندن رجلان إنجليزيان وقدماه للمتحف البريطاني. ومنذ ذلك الحين وأهل إيلوسيس يعزون جدب الأرض وشح المحاصيل إلى غياب تمثال القديسة عن المنطقة. (5) إيزيس وأوزوريس
8
وفي اتجاه آخر ارتحل الإله الميت نحو الجنوب إلى مصر، فتحدثنا أسطورة إيزيس وأوزوريس عن ولادة أوزوريس وموته وبعثه. ووفق هذه الأسطورة نجد الإله أوزوريس بطلا حضريا يعلم المصريين الزراعة والحصاد والأعمال اليدوية النافعة، تساعده في ذلك أخته وزوجته إيزيس. وفي إحدى المرات قام أخوه الإله سيت أو طيفون بحيلة خبيثة جعلته سجين صندوق خشبي، فسمر عليه وقذفه في مياه النيل، فطاف الصندوق حتى صب مع مياه النهر في البحر المتوسط، وهناك تدافعته الأمواج حتى وصل إلى مدينة بيبلوس الكنعانية حيث علق بإحدى أشجار الشاطئ الوارفة. وقد راحت إيزيس تبحث في جميع الأنحاء عن حبيبها الضائع إلى أن وجدته، فعادت بالصندوق والجثة إلى بلدها لتعيد له الحياة. ولكن سيت عثر على الصندوق فقام بتقطيع جسد أوزوريس، ووزع القطع في جميع أنحاء البلاد حتى يصبح من المستحيل إعادة الحياة إليها مرة ثانية. ولكن إيزيس، وبدون يأس، تابعت البحث مرة أخرى إلى أن وجدت الأجزاء جميعا عدا عضو الذكورة الذي بقي مفقودا . ثم أعادت له الحياة بمعونة أختها الإلهة نفتيس.
وتشابه طقوس أوزوريس طقوس الآلهة الميتة الأخرى من بكاء على الإله وتمثيل لعذاباته، ومن ثم الفرح ببعثه وانتصاره على الموت. وقد رحل أوزوريس إلى روما تحت اسم سارابيس وشاعت عبادته هناك شيوعا عظيما.
الفصل الخامس
الإله المخلص
إن تاريخ الدين والأسطورة هو تاريخ صراع الذات مع الموت؛ ففي المراحل الأولى كانت الذات مسحوقة تجاه الموت، والعالم الأسفل مسيطرا جبارا لا مهرب منه ولا فكاك من أسره الأبدي، وكان هم الإله الميت أن يحفظ البشر أحياء طيلة الفترة المقررة لهم في العالم الفاني؛ لذلك كان هذا الإله في مراحله الأولى إله خصب وقوى طبيعية، تنحصر جهوده في دعم الإنسان في صراعه مع الجوع والفناء، دون أن يكون قادرا على تحريره من ربقة الموت ومنحه خلودا أبديا حقيقيا. إلا أن حياته وموته وبعثه كانت أمورا موحية بأمل غامض وبعيد بإمكانية الخلاص من سيطرة الموت كما تخلص منها إله الخصب. فكان تعلق قلوب العباد بهذا المخلص الحياتي، تعبيرا عن النزوع الإنساني الأبدي نحو الخلود، ولم يكن ظهوره في ضمير البشر إلا مظهرا من مظاهر صراع الظاهرتين الكونيتين في داخل الإنسان وخارجه، صراع الموت والحياة.
ونستطيع القول إن نمو الديانات البعلية (ديانات الخصب) واكتسابها غلبة شعبية على الديانات الإيلية (ديانات الآلهة السماوية البعيدة)، هو حالة تالية في تطور الدين والأسطورة، وحالة وسط تحتوي على شيء من التوازن بين الحياة والموت.
أما المرحلة الثالثة فتمثل عن حق مرحلة انتصار الحياة على الموت في الدين والأسطورة؛ فما حصل لإله الخصب مرة سيحصل لكل عباده المخلصين ممن سيدخلون في ديانته، ويلتحقون به من دون بقية الآلهة. قال السيد المسيح: «من آمن بي وإن مات فسيحيا.» وتحولت ديانة الخصب إلى ديانة سرية، وتحول مخلصها الأرضي الحياتي إلى مخلص روحي، باسطا سيطرته من عالم الحياة إلى عالم الموت أيضا ، مقدما لعباده خلاصا لروحهم من سطوة العالم الأسفل. وبعد أن كان الفرد حرا في الماضي في اختيار الآلهة التي يعبدها ويكرس لها طاعته، وحرا في التنقل من إله إلى آخر كلما حلا له ذلك، فقد أصبحت الآن الجماهير المسحوقة التي ضاقت ذرعا بالبهارج الزائفة للتطور المادي، ترنو للالتصاق بإله أقرب إلى طينة البشر وألصق بعواطفهم وأعلم ببواطن أمورهم. إله لا يعيش في السماء ويرنو من عل ممثلا كمال الأشياء، بل يعيش بين الناس ويعاني مثلما يعانون، ثم إنه يموت كما يموتون، ولكنه يصعد من عالم الموتى ويصعد معه عباده المؤمنين الملتصقين به، المتحدين معه، واهبا الخلاص الروحي لأولئك الذين اختاروه عن قصد ورغبة، ومروا عبر جميع الطقوس السرية اللازمة للانتماء للجماعة والاتحاد بالإله. ولقد بلغ الانتصار على الموت قمته في المسيحية التي أعطت الإنسان بعثا كاملا غير منقوص، حيث يعود الجسد سيرته الأولى بكل تفاصيله وأجزائه.
شاعت ديانات الأسرار شيوعا عظيما عقب فتح الإسكندر الكبير للشرق وتأسيس الدولة العالمية التي ضمت معظم الحضارات القديمة، وبلغت أوجها في عهد الإمبراطورية الرومانية التي كانت تمثيلا وتجسيدا لانتصار الحضارة المادية التي لا تبنى إلا على أشلاء الحرية الفردية، وسيطرة الدولة بأجهزتها القمعية كافة. وقد تماثلت هذه الديانات وتشابهت لدرجة أصبح معها من الصعب تفريق واحدة من الأخرى وإرجاع العناصر الخاصة بكل منها إلى أصولها. وأهم ما يميز الديانة السرية كونها تضم مجتمعا منغلقا على ذاته لا يدخله إلا الأفراد الراغبون عن حق في الانخراط بهذه العبادة. عند ذلك سيمر المنتسب الجديد عبر مجموعة من طقوس التنسيب، من شأنها تهيئته جسديا وروحيا وتطهيره من أدران حياته السابقة وخلقه من جديد.
من جملة هذه الطقوس الاعتراف بين يدي كاهن الديانة بالخطايا الماضيات، والتعميد بالماء، والصيام. وفي بعض الأحيان كان يوضع المنتسب الجديد في حفرة ثم يذبح عند فوهتها ثور ينسال دمه مدرارا إلى داخل الحفرة، حيث يغتسل به ويأخذ بعضه في فمه ثم يخرج وقد غسل ماضيه.
وفي ديانة ميثرا، وهو الإله الذي جلبه معهم جنود روما من فارس وشاعت عبادته شيوعا عظيما في أرجاء الإمبراطورية، نجد مجموعة من الاختبارات التي يتعرض لها المنتسب الجديد؛ منها المرور عبر نار متأججة، والسباحة في تيارات مائية والقفز من أعلى جرف خطر ... وما إلى ذلك. ونستطيع أن نتخيل أن مثل هذه الاختبارات كانت حقيقية، ولكن أفعالا رمزية تدل عليها استبدلت بها تدريجيا. وبعد اجتياز هذه الاختبارات بنجاح لا يصبح العضو الجديد ضمن الجماعة مباشرة، بل لا بد له من المرور بثلاث مراحل تستغرق فترة من الزمن يمتحن خلالها تطوره الروحي.
ولقد بقيت عبادات وطقوس الديانات السرية خفية. وباستثناء الأعياد الربيعية السنوية التي سبق تفصيلها، لا نكاد نعرف إلا القليل عما كان يجري بالفعل. من هذا القليل الذي نعرفه أن معظم هذه الديانات كان تمارس نوعا من العشاء السري؛ حيث يؤتى بحيوان هو رمز الإله الميت، فيقتل ويؤكل لحمه ويشرب دمه كفعل رمزي للاتحاد الحقيقي بالإله. وفي غير هذه المناسبة فإن قتل هذا الحيوان وأكله يحرم تحريما باتا، كما هو شأن حيوان الخنزير المحرم أكله لدى السوريين من عباد أدونيس إلا في طقس العشاء السري، ولدى المصريين أيضا إلا خلال الطقوس المشابهة الخاصة بأوزوريس. وقد تبنى اليهود هذا التحريم اقتداء بأسيادهم المصريين وجيرانهم السوريين دونما سبب واضح.
الفصل السادس
السيد المسيح «آخر المخلصين»
في هذا الجو الثقافي المشبع بديانات الأسرار وجيش الآلهة المخلصين، ظهرت المسيحية إلى الوجود. وكان الأتباع الأولون للسيد المسيح هم قلة من اليهود المشبعين بالأفكار المهدية التي كانت من القوة في تلك الآونة بين جماعة اليهود لدرجة كان معها ظهور المسيح المرتقب متوقعا في أي لحظة وساعة؛ لينقذ الشعب من اضطهاد الرومان، ويبني ملكوت الرب على الأرض. ولم يعتقد هؤلاء في البداية بأنهم ينتسبون لدين جديد، بل نظروا لأنفسهم دوما على أنهم فرقة متميزة في الدين اليهودي القديم. ورغم أن المسيح قد خيب آمال الكثيرين في ذلك الوقت عندما ترك نفسه للصلب والموت، فإن من بقوا على إيمانهم رأوا أن المسيح قد غادرهم لأن الناس ليسوا بعد على مرحلة تؤهلهم للدخول في ملكوت الرب، وأن عليهم أن يتطهروا قبل أن يعود المسيح إليهم مرة ثانية.
إلا أن المسيحية لم تحافظ على وضعها هذا كفرقة يهودية صغيرة لأسباب متعددة: فأولا: لم يتحول للإيمان الجديد سوى قلة من اليهود. وثانيا: تأخرت عودة المسيح إلى درجة كبيرة. ثالثا: تدمير مدينة أورشليم إثر ثورة مسلحة قام بها اليهود على الرومان، وتم بذلك توجيه ضربة قاضية لآمالهم القومية. أخيرا: فقد أثبتت تعاليم السيد المسيح أنها أشمل وأوسع من التفسيرات اليهودية الضيقة، فبدأت بالانتشار في الأصقاع المجاورة والبعيدة. وقد انتشرت المسيحية أولا لدى بعض أفراد الجاليات اليهودية في أصقاع الإمبراطورية الرومانية، ولكنها ما لبثت أن انتقلت إلى أفراد من غير اليهود، وأخذت تشكل تدريجيا دينا قائما بذاته منفصلا عن اليهودية. وقد ساعدت تعاليم بولص الرسول إلى حد كبير في تدعيم هذا الانفصال؛ فكان يؤكد دوما على أن الخلاص سيأتي عن طريق الإيمان بالسيد المسيح بالدرجة الأولى، لا عن اتباع ما تقول به الشريعة اليهودية. وهكذا، وبدخول الغرباء إلى المسيحية، أخذت المسيحية تغدو غريبة عن اليهودية. ولما كان هؤلاء الغرباء بعيدين كل البعد عن فكرة المسيح المنتظر الذي ينقذ شعبه من الاضطهاد ويعيد بناء أمجاده، فقد قاموا بصياغة فكرتهم الخاصة عن المسيح وطبيعته ودوره. ولأن معظم من دخلوا في الدين الجديد كانوا أتباعا لديانات سرية، ولأن الجوهر العام لهذه الديانات هو المسيطر على أفئدة الناس في تلك الآونة، ولأن الرسل الأوائل أرادوا اجتذاب الجماهير بأسلوب يألفونه وصيغ اعتادوا عليها؛ لهذا كله فقد نحت المسيحية منحى الديانات السرية وتبنت كل ما استطاعت أن تتبناه وما يتلاءم معها من طقوسها ومعتقداتها؛ فتحول المسيح من مبشر يهودي إلى إله ميت. وهو كمن سبقه من الآلهة المخلصة إله ابن يولد من عذراء ويبشر برسالة جديدة، ثم يعاني ويتألم ويموت، ولكنه يتغلب على الموت ويصعد منتصرا من عالم الأموات حاملا الخلاص والحياة الأبدية لمن آمن به.
وقد كافح الدين الجديد كفاحا مريرا ضد الديانات الرسمية للإمبراطورية، ولكن كفاحه الأقوى والأمر كان كفاحا صامتا لا عراك فيه ولا دماء ضد الديانات السرية. ولعل أقوى تلك الديانات التي نازعت المسيحية فترة طويلة من الزمن على الفوز بقلوب الناس. كانت ديانة ميثرا الشديدة الشبه بالمسيحية والواسعة الانتشار في شتى أنحاء الإمبراطورية الرومانية. وهذا التشابه الغريب بين الديانتين أذهل المسيحيين أنفسهم فاعتبروه من صنع شيطان رجيم. وكان الميثرويون يتهمون المسيحيين باقتفاء أثرهم واقتباس معتقداتهم، والمسيحيون بدورهم يردون الاتهام بمثله. ولعل أثرا من آثار ذلك العراك الطويل ما زال ماثلا حتى أيامنا هذه؛ فالعالم المسيحي ومن ورائه العالم الحديث الذي يتبع في تاريخه التقويم المسيحي، يحتفل بميلاد المسيح يوم 25 من كانون الأول، وهو يوم الانقلاب الشتوي حيث تصل الشمس إلى آخر مدى لها في الميلان عن كبد السماء، وحيث يصل النهار آخر أشواطه في القصر، ويبدأ بعد ذلك بالامتداد على حساب الليل. فهذا اليوم بالذات اعتبر دوما في الديانات الشمسية عيد ميلاد للشمس فيه تتجدد قوتها وتستعيد عزمها لمقارعة قوى الظلام. وقد اقترنت عبادة أدونيس في سوريا وأوزوريس في مصر في فترات متأخرة بالشمس؛ فيحدثنا السيد
J. Frazer
في كتابه
The Golden Bough
1
أن السوريين ليلة 25 من كانون الأول يحتفلون بمولد أدونيس، فيجتمعون في المعابد ويصرخون عند منتصف الليل: «لقد أنجبت العذراء ابنا. والنور ينتشر.» والمقصود بالعذراء طبعا هو إلهة الشرق الكبرى عشتار أو عستارت التي يدعوها الساميون بالسيدة السماوية أو ملكة السموات؛ فالعذراء لقبها والعذرية جوهرها رغم كونها إلهة الحب؛ لأنها تعطي دون أن تنقص.
ويوم 25 كانون الأول هو بالذات عيد ميلاد ميثرا، فهو إله الضوء والخير والشمس رمزه، الشمس التي لا تقهر والتي تبدأ في هذا اليوم بالصعود إلى كبد السماء دافعة قوى الشر والظلام أمامها.
أما فيما يتعلق بميلاد المسيح فإن الأناجيل لم تذكر تاريخا محددا له؛ ولذلك فإن الكنيسة الأولى لم تحتفل بميلاده. ولكن لسبب ما بدأ مسيحيو مصر يحتفلون بميلاد المسيح يوم 6 من كانون الثاني. وانتشرت هذه العادة حتى عمت في إبان القرن الثالث للميلاد الأصقاع الشرقية كافة للإمبراطورية الرومانية. ولكن مع نهاية القرن الثالث قامت الكنيسة الغربية التي لم تحتفل حتى ذلك التاريخ بميلاد المسيح بتبني يوم 25 كانون الأول تاريخا رسميا لعيد الميلاد، وتبعتها في ذلك الكنيسة الشرقية، وجرى الاحتفاظ بيوم السادس من كانون الثاني على أنه «عيد الغطاس». إن تبني الكنيسة لهذا التاريخ بالذات لا يمكن تفسيره إلا على ضوء صراعها مع الديانة الميثروية، والتكتيك الذي اتبعته في صراعها مع الديانات القائمة في ذلك الوقت.
ولعل عيد الفصح يعطينا مثلا آخر على تبني المسيحية للمناسبات والأعياد الخاصة بديانات الأسرار؛ فعيد الفصح هو عيد قيامة المسيح من بين الأموات بعد أن عانى ما عاناه في يوم الجمعة الحزينة على درب الآلام. وقد تبنت الكنيسة تاريخا لهذا العيد يقع في اليوم الأول لاكتمال القمر بعد الانقلاب الربيعي؛ وبذلك يكون بعث السيد المسيح هو بعث ربيعي، شأنه في ذلك شأن آلهة الخصب القديمة والمخلصين الأوائل.
وبعيدا عن هذين العيدين الرئيسيين فإننا نجد أعيادا وثنية أخرى قد حورت وأسبغت عليها الصفة المسيحية؛ فعيد الإلهة ديانا قد أصبح عيد صعود السيدة العذراء، وعيد الأموات قد أصبح عيد جميع القديسين، والأمثلة على ذلك كثيرة.
أما الأم الكبرى أو القوة الإخصابية الكونية المتمثلة بإلهة الحب العذراء، فقد حلت محلها السيدة مريم العذراء التي دعيت بسيدة السموات، وهو اللقب الرئيسي للإلهة عشتار. وحتى وقت قريب كانت السيدة مريم تدعى في بعض المناطق الريفية في إيطاليا الجنوبية بأفروديتسا نسبة إلى أفروديت، كما كانت تماثيل الإلهة ديمتر الباقية في بعض الخرائب العتيقة تعبد على أنها السيدة مريم ذاتها. وليس الصليب نفسه كرمز للسيد المسيح بالرمز الجديد في عالم الديانات القديمة؛ فقد اقترن الصليب بعدد من آلهة الخصب الشرقية القديمة؛ مثل بارات إلهة مدينة بيروت، وتانيت إلهة قرطاجة. وفي مصر كانت شارة العنخ، وهي عبارة عن دائرة متصلة بصليب، رمزا للحياة الأبدية. وفي الكتابة السومرية المسمارية كان الرمز الكتابي الذي يدل على الخصب عبارة عن صليب.
إن الذي أعطى للمسيحية هذا الطابع الجديد المنفصل عن اليهودية والقريب من الديانات الشرقية السرية هو القديس بولص، الذي كان كلما تعمق بالتفكير، وكلما ازداد بالتبشير والاحتكاك بجماهير الناس في الإمبراطورية الرومانية؛ اتجه في تفسيراته للمسيحية نحو الأفكار التي تعرفنا عليها سابقا في الديانات الشرقية البعلية والمتعلقة بالخلاص والفداء والدرام الإلهي. إلا أن هذا لم يمنع مطلقا من أن بولص كان ناقدا واعيا لديانات الأسرار السائدة في ذلك الحين، وعلى وجه الخصوص تلك الديانات التي كانت تضع أمور الطقوس والقواعد الشكلية قبل قضايا الحياة الأخلاقية القويمة، وكان يقول دوما إنه من غير المعقول أن ينال الخلاص إنسان دون آخر لمجرد مروره عبر مجموعة من طقوس التنصيب.
ولقد أخبرنا بولص القليل جدا عن المسيح باعتباره مسيحا يهوديا منتظرا لتحرير شعبه، بينما أخبرنا الكثير عن المسيح باعتباره مخلصا للإنسان أينما وجد ومن أي عرق كان. نقرأ في رسالته إلى أهل غلاطية 3: 26-22: «لأنكم جميعا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح. ليس يهوديا ولا يونانيا، ليس عبدا ولا حرا، ليس ذكرا وأنثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع.» وقد ركز كثيرا في تبشيره على حادث الصلب والقيامة من بين الأموات. لقد كان المسيح مخلصا هبط إلى الحياة وتألم ثم مات من أجل خطايا الإنسان، ولكنه بعث من جديد وصعد إلى السماء، وهذا البعث هو النقطة المحورية في كل الديانة المسيحية. نقرأ في رسالة بولص إلى أهل كورنثة 15: 14: «وإن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا وباطل أيضا إيمانكم.» وأهمية هذه القيامة لا تكمن في أن المسيح قد حقق الآمال المهدية للشعب اليهودي بمقدار ما تكمن في أنه قد ضمن الخلود لأتباعه المتحدين معه، وخلاصا من ربقة الموت لمن آمن به.
ولعل أقرب الناس إلى القديس بولص كان القديس يوحنا الذي التقى في كثير من أفكاره مع بولص الرسول. نظر يوحنا إلى المسيح أيضا باعتباره مخلصا وفاديا أكثر منه محققا للآمال المهدية لدى الشعب اليهودي. ولكنه على خلاف بولص كان أقل تركيزا على الاتحاد الطقسي بالإله المعبود، وأكثر تركيزا على أن الاتحاد إنما هو نتيجة المعرفة بالمسيح واتباع تعاليمه. فتكرار كلمة «أنا أومن» وحده لن يكفي لتحقيق الخلاص، بل لا بد من العمل بما يمليه هذا الإيمان. نقرأ في الإصحاح 13: 24: «الحق أقول لكم من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها هو أيضا يعملها ويعمل أعظم منها أيضا لأني ماض إلى أبي»، «وإن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي.»
هذا وقد التقت المسيحية أيضا في كثير من طقوسها بطقوس الديانات السرية السابقة عليها، كطقس المعمودية بالماء الذي كان يقصد إلى تجديد الفرد وغسل ماضيه لإدخاله في النحلة الجديدة. وطقس القربان المقدس الذي كان يقصد إلى الاتحاد بالإله عن طريق أكل جسده وشرب دمه رمزيا كما رأينا بوضوح في طقوس الديانة الديونوسيسية. يقول السيد المسيح: «أنا هو خبز الحياة»، «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية.» كما تعطينا بعض العبارات الطقسية المسيحية دليلا حيا على انبثاق المسيحية من ديانات الخصب القديمة في الشرق الأوسط؛ فصيحة هيلولويا المستعلمة في الأناشيد الطقسية، ليست إلا الصيحة التي كانت رمزا لعباد الإله ديونيسيوس، والتي كانت على فمهم دائما: إيلوليو
ELELEU ، حتى لقد دعاهم الناس في أحيان كثيرة ب «الإيلوليين» نسبة لصيحتهم المتعبدة هذه. «بارات» كما يصورها عمل فني مصري وبيدها اليسرى صليب صغير.
تعريف بأهم الآلهة
وفق تسلسل أبجدي (1) أبسو
أحد ثلاثة آلهة بدائية، تحدر منها فيما بعد جميع الآلهة في الأسطورة البابلية، كما تشكلت منها المادة الأساسية للكون. فأبسو هو الماء العذب البدئي. وتعامة زوجته الماء المالح البدئي. يمزجان أمواههما معا في دعة واطمئنان وسكون أزلي، وفوقهما ينتشر الضباب المنبعث منهما، وهو الإله البدئي الثالث ممو.
وقد قتل أبسو فيما بعد على يد الإله إنكي في ثورة قام بها الآلهة الشابة. (2) أدونيس
اسم آخر للإله السوري بعل إله المطر والسحاب والبرق والرعد وكل مظاهر الخصب الأخرى. والكلمة آرامية، وأصلها أدون؛ أي الرب أو السيد، أو أدوني بمعنى ربي أو سيدي. وهي من الصفات التي كانت تسبق اسم الإله بعل. أما حرف ال «س» فهو إضافة من اللغة اليونانية لاسم الإله بعد أن وصلت عبادته إلى بلاد الإغريق. وقد عبد بعل تحت هذا الاسم لدى الفينيقيين. إلا أن تحويرا قد وقع هنا على الأسطورة ؛ فأدونيس لم يمت كبعل في صراعه مع الإله موت كما تحدثنا ألواح شمرا، وإنما قام خنزير بري بقتله في غابات لبنان. أما حبيبته والبطلة الرئيسية في هذه المأساة فلم تعد عناة الأوغاريتية، بل زميلتها عستارت التي ظهرت بدور ثانوي في ملحمة بعل. وكما كانت إنانا السومرية وعشتار البابلية إلهتين في واحدة، كذلك كان الأمر فيما يتعلق بعناة وعستارت، حيث الشخصية واحدة، والتسمية اختلفت تبعا للزمان والمكان. وكما مضت عناة تبحث عن بعل، كذلك تمضي عستارت (أو عشتاروت كما صارت تدعى أيضا) تبحث عن أدوني إلى أن أثمرت جهودها ونهض من بين الأموات. ويترافق رجوع الإله من عالم الأموات باحتفالات عظيمة؛ حيث يأخذ الناس بالرقص والشراب، بعد أن قضوا فترة غيابه في ندب وعويل. كما تتخلل هذه الاحتفالات الممارسات الجنسية التي من شأنها تقليد لقاء أدوني وعستارت، والإيحاء للتربة والزرع بالخصب والنماء، بعد أن عاد إله الخصب من موته ليعيد للطبيعة مظاهر الخصب التي غابت باحتجابه (راجع بعل). (3) أثتر
أحد أولاد عشيرة زوجة إيل كبيرة آلهة الكنعانيين. رفع إلى عرش بعل بعد وفاته، ولكنه لم يقدر على ملئه فنزل خائبا، وبقي العرش شاغرا إلى أن بعث بعل من بين الأموات. (4) إريشكيجال
إلهة العالم الأسفل في بلاد الرافدين. كانت من قبل فتاة عذبة وإلهة سماوية. ولكن الإله كور وحش العالم الأسفل اختطفها غنيمة لتعيش معه هناك، كما اختطف هاديس إله عالم الموتى اليوناني الفتاة بيرسيفوني من أمها ديمتر. ويبدو أن كور قد قتل في إحدى معاركه الكثيرة؛ لأننا لا نعثر له على ذكر فيما تبقى من الأساطير والعبادات، وتبقى إريشكيجال سيدة مطلقة للعالم الأسفل.
ولإريشكيجال أسماء أخرى منها «أرجالا» و«كيجال». (5) آشور
كبير آلهة الآشوريين، وهو صورة عن الإله البابلي مردوخ، وقد قام الآشوريون بتبديل اسم مردوخ إلى آشور في معظم الأساطير التي ورثوها. (6) إنكي-إيا
إنكي إله المياه العذبة الباطنية عند البابليين، واسمه عند السومريين «إيا». تحكي لنا ملحمة التكوين البابلية كيف تغلب على أبسو المياه العذبة البدئية والتي كانت تشكل مع تعامة المياه الملحة البدئية، هيولى الكون، والوجود البدئي اللامتشكل. وبعد أن قهره، حبسه في مسكن سفلي وبنى فوقه مسكنه. ومنذ ذلك الوقت والمياه العذبة خاضعة للإله إنكي، يفجرها أنهارا أو ينابيع في نظام محكم بديع.
وإنكي إلى جانب ذلك إله للمكر والدهاء والحيلة، تماما كالماء الذي يعرف طرقه وقنواته متحايلا على الحواجز والعوائق. كما أنه إله الحكمة والمعرفة العميقة، تماما كالماء الساكن، حيث تنظر إليه لا تدرك له قرارا. وإلى جانب هذا وذاك فإنكي إله السحر والقوى الغامضة، وإليه تعزى معظم أساطير خلق الإنسان، أو الدور الرئيسي المباشر في خلقه. (7) إنانا
إلهة الحب والخصب عند السومريين. وبها ارتبطت مظاهر تبدل الطبيعة لأنها رضيت مختارة أن تهبط درجات الموت السبع إلى العالم السفلي؛ لتضمن للطبيعة نظاما تتعاقب فيه الفصول تعاقبا يحفظ استمرار الحياة النباتية على الأرض. إن الطقس الحار والجاف الذي ينضج القمح والفاكهة ليس بأقل أهمية من الشتاء البارد والماطر، وموت الخريف ليس إلا مرحلة تحضيرية للبعث في الربيع؛ ففي نزول إنانا لعالم الموتى غياب لمظاهر الخصوبة في التربة، وعري للأشجار وموت للنبات. وفي صعودها من العالم الأسفل، بعد أن قهرت الموت، انتعاش لقوى الخصوبة الممثلة فيها وانبثاق للخضرة والحياة في مملكة الزرع والنبات.
وعند البابليين تتخذ إنانا اسم عشتار وتهبط للعالم الأسفل من أجل تحرير زوجها تموز الأسير هناك. وذلك بعكس إنانا السومرية التي أرسلت زوجها دوموزي للموت مكانها بعد أن صعدت، وذلك كشرط أساسي لتحريرها. ولما كان الإنسان القديم ينظر لخصب الأرض وخصب الإنسان على أنهما مظهران لجوهر واحد، فقد كانت إنانا-عشتار إلهة للحب أيضا. وارتبط بعبادتها كثير من الطقوس الجنسية والاحتفالات الإباحية، وخصوصا عندما كان عبادها يحتفلون بعودتها من العالم الأسفل في أعياد الربيع المشهورة، بعد أن أمضوا أياما في البكاء والعويل مشاركة لها في أحزانها على تموز الغائب، وخوفا من ألا تعود من عالم الموتى حيث مضت.
اسمها لدى الكنعانيين عناة في أوغاريت، وعستارت أو عشتروت في بيبلوس، وصيدون وغيرهما من مدن فينيقيا. ولها أشكال كثيرة؛ فنراها تحت اسم «أتاغاتيس» أو «بارات» وغيرهما، وذلك في الفترات المتأخرة.
وعشتار هي كوكب الزهرة ابنة الإله القمر سن، ويعادلها عند الإغريق أفروديت، وعند الرومان فينوس. وهي إلى جانب كونها إلهة للحب والخصب، فإنها إلهة للحرب والمعارك، شجاعة تغشى الوغى مع عبادها لتنصرهم على أعدائهم، تمثلها بعض الأعمال الفنية مدججة بالسلاح على أسد متوثب. وهي رغم كل غرامياتها وممارساتها الجنسية فإن لقب العذراء لم يفارقها أبدا. (8) إنليل
إله الهواء والعاصفة عند السومريين. يأتي في المرتبة الثانية رسميا بعد آن إله السماء ورئيس مجمع الآلهة. إلا أن قيام إنليل بفصل السماء عن الأرض بعد أن كانتا ملتصقتين، وتنظيمه لعالم الطبيعة الأرضية بعد ذلك، جعله في المقام الأول في مجمع الآلهة السومرية. استمر إنليل فيما بعد عضوا في مجمع الآلهة البابلية، وكان في المرتبة الثانية بعد مردوخ. (9) إيرا
إله الطاعون والأوبئة الفتاكة والدمار لدى البابليين. همه الدائم إشاعة الخراب والفوضى في العالم. (10) إيل
إله السماء لدى السوريين، ورئيس مجمع الآلهة، ويعادل آنو لدى أهل الرافدين. عبده العبرانيون في مطلع عهدهم؛ ولذا فقد ورد اسمه تبادليا مع اسم إلههم يهوه في أكثر من موضع في العهد القديم، وهو أصل اسم إيلوهيم الذي يستعمله العبرانيون أيضا تبادليا مع يهوه. وإيل هو الاسم الذي نطق به المسيح قبل أن يسلم الروح عندما صرخ باللغة الآرامية وفق مرقس: «إيلوي، إيلوي، لم شبقتني؟ أي إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟» (11) أوتو
إله الشمس عند السومريين. وهو ابن القمر سن وحفيد إنليل الهواء الذي أنجب القمر من حبيبته ننليل، والقمر بدوره أنجب الشمس من زوجته ننجال. وأوتو اسمه عند البابليين «شمش» وعند الكنعانيين «شبش»، ولكنه هنا مؤنث لا مذكر. (12) بارات
إلهة مدينة بيروت الفينيقية، وهي أحد أشكال الآلهة عشتاروت. حملها الفينيقيون معهم عبر مضيق جبل طارق، فأعطت اسمها للجزيرة البريطانية. كان الصليب رمزها الأساسي نراه ممسكة بيدها أحيانا، وأحيانا أخرى نراه محفورا على كرسيها. (13) بعل
إله المطر والسحاب والصواعق وكل مظاهر الخصب عند السوريين. واسمه أيضا «حدد». وتحت هذا الاسم الأخير دخل مجمع الآلهة البابلية. ورغم أنه بقي من الناحية الرسمية الإله الثاني بعد إيل رئيس مجمع الآلهة الكنعانية، إلا أنه كان الإله المفضل والمحبوب لدى الناس عامة؛ فهو الذي نظم الكون بعد تغلبه على المياه الأولى الممثلة بالإله يم المحيط البدئي والعماء. وهو الذي دخل بعد ذلك في صراع كوني آخر مع موت إله مملكة الظلام والموت والعالم الأسفل، انتهى بخسارته المبدئية وتسليم نفسه لموت. ولكنه ما لبث بمعونة حبيبته عناة أن بعث من بين الأموات وقهر الإله موت. إلا أن عودته هذه ليست عودة أبدية؛ لأنه سيعود بعد سبع سنوات للصراع مع موت من جديد. وهذا الصراع سيتكرر للأبد ممثلا تعاقب سنوات الخصب وسنوات القحط، هذا التعاقب المميز للمناخ السوري.
ولبعل أيضا أسماء أخرى منها حدد، ومنها أدون الذي ارتحل إلى بلاد الإغريق فأسموه أدونيس وزوجوه من أفروديت إلهة الحب والجمال، ومنها أيضا النعمان. (14) حدد
إله المطر والصواعق والسحاب والرعد وكل مظاهر الخصب عند السوريين (راجع بعل). وفي بلاد الرافدين يدعى آداد. (15) داجون
والد الإله بعل. وهو في أصله إله زراعي ذو علاقة بالقمح والحبوب بصورة رئيسية. ولكننا نجده فيما بعد وقد تحول إلى إله بحري لدى الفلسطينيين، فيصوره لنا كتاب التوراة على هيئة إله له ذيل سمكة.
وربما كان تحول زراع القمح إلى ملاحين قد جلب معه تحولا في إله القمح وهو الغذاء الرئيسي للمزارع، إلى إله بحري ذي علاقة بالأسماك، وهي الغذاء الرئيسي لدى البحارة والصيادين من سكان الشواطئ. (16) دوموزي-تموز
دوموزي إله راع، تقدم لخطبة إنانا إلهة الحب والخصب لدى السومريين، ونافسه في ذلك الإله المزارع إنكمدو، حيث تقدم كل منهما بقربان للإلهة إنانا من منتجاته، فقبلت إنانا تقدمة دوموزي الراعي وتزوجته، ولم تنظر إلى تقدمة إنكمدو المزارع.
ولما كانت إنانا إلهة للخصب، فقد اقترن اسم زوجها أيضا بقضية الخصب والزراعة دون أن يكون هو نفسه إلها زراعيا، واعتبره كثيرون خطأ إلها للخصب. والحقيقة فإن السبب في هذا الالتباس راجع إلى الخطأ في فهم الطقوس الخاصة بدرام هبوط إنانا ومن بعدها عشتار للعالم الأسفل؛ فإنانا تهبط للعالم الأسفل في الأسطورة السومرية، وهناك تقبض عليها إريشكيجال إلهة ذلك العالم وتسلبها روحها. وبموت إنانا تغيب مظاهر الإخصاب عن الطبيعة، وتجف المزروعات، وتزول الخضرة عن وجه الأرض، فيمضي عبادها في حزن وندب وعويل، حتى تقهر الموت وتصعد إلى عالم الحياة مرة ثانية. ولكن هذه العودة مرهونة بشرط واحد هو أن ترسل بديلا عنها للعالم الأسفل، فتقرر إنانا إرسال زوجها دوموزي الذي تخطفه الأشباح التي رافقت إنانا في صعودها وتمضي به إلى مملكة الموتى.
ولكن عشتار وهي التسمية البابلية لإنانا هي التي تمضي لفك أسر دوموزي من العالم الأسفل، وقد أصبح اسمه البابلي تموز، ولدى غيبتها تغيب مظاهر الإخصاب من الطبيعة، وترجع برجوعها ظافرة من الموت مصطحبة معها حبيبها تموز القتيل إلى الحياة، فينقلب حزن العباد فرحا واحتفالا بعودتها وعودة زوجها.
من هنا نلاحظ أن دور تموز الراعي هو دور ثانوي في ديانة الخصب السومرية والبابلية، وأن الضحية الرئيسية هي عشتار التي يقوم تموز إلى جانبها بدور المساعد على تحريك الأحداث. وفي الحقيقة فإن بكاء الناس على تموز ليس مقصودا لشخص تموز بالذات، بمقدار ما هو مشاركة للإلهة عشتار في حزنها على الإله الغائب. (17) تعامة
المياه الأولى، والمحيط البدئي، تنين العماء لدى البابليين. كانت منذ الأزل مع زوجها أبسو المياه العذبة البدئية تعيش بدعة وطمأنينة يمزجان أمواههما معا، وفوقهما ينتشر الضباب ممو الإله البدئي الثالث.
ولكن الحال لا يدوم على هذا المنوال؛ فهذه الآلهة البدئية تبدأ في التناسل وتنجب عددا كبيرا من الآلهة الشابة التي تتناسل بدورها ليأتي جيل من الآلهة يقوم بالثورة على هذه الآلهة البدئية، حيث يموت أبسو في الثورة على يد إنكي (إله الماء فيما بعد)، وتموت تعامة في الثورة الثانية على يد مردوخ الذي يغدو سيد الآلهة جميعا. يقوم مردوخ بشطر تعامة إلى شطرين، يرفع الأول سماء، ويجعل الثاني أرضا، ويلتفت بعد ذلك لخلق بقية الكون وتنظيمه. (18) شمش
إله الشمس عند البابليين (راجع أوتو). وقد اعتبر إلها للعدالة. وهو الذي أوحى لحمورابي بشريعته الشهيرة. (19) شبش
إلهة الشمس عند الكنعانيين، وهي أنثى على عكس شمش البابلي وأوتو السومري. (20) سن
إله القمر لدى أهل الرافدين. وهو ابن الإله إنليل الهواء من حبيبته ننليل. ولسن اسم آخر هو نانا. (21) عشتار
إلهة الحب والخصب لدى البابليين (راجع إنانا). (22) عشيرة
زوجة «إيل» إله السماء ورئيس مجمع آلهة الكنعانيين. وهي شكل من أشكال الإلهة الأم-الأرض، ولا علاقة لها بتاتا بالإلهة عشتار. (23) عستارت-عشتاروت
كانت عستارت إلهة ثانوية في أوغاريت، ولكنها تغدو رئيسية لدى فينيقيي الجنوب، وتأخذ سلطات وصلاحيات الإلهة عناة الأوغاريتية. من أسمائها أيضا عشتاروت. (24) مردوخ
السيد الفعلي لمجمع الآلهة في بابل والأعلى بينهم جميعا؛ ذلك أنه الوحيد الذي تجرأ على التصدي لتعامة الإلهة البدئية الأولى وأم جميع الآلهة، عندما شنت على ذريتها من الآلهة الفتية حربا شعواء لإبادتهم. فتعامة التي تمثل الماء المالح الأول، والعماء، والسكون، وقد ساءها وأقلق راحتها صخب الآلهة الشابة التي تروح وتجيء في داخلها، فقررت إفناءهم لتستطيع الركون ثانية، والعودة إلى سلام الأيام السالفة حيث كانت تعيش في سكون تام مع زوجها أبسو الماء الحلو وممو السحب المنخفضة المنبعثة من هذا المزيج، ولكن مردوخ تصدى لهم وشتت شمل جيشها ثم شقها نصفين؛ فصنع من النصف الأول السماء، ومن النصف الثاني صنع الأرض، وتابع بعد ذلك عمليات الخلق الأخرى، فخرج الكون من بين يديه بالصورة التي نراه عليها الآن.
ومردوخ هو سيد احتفالات رأس السنة البابلية (الإيكيتو)، حيث يقوم الكهنة بتمثيل قصة انتصاره على العماء وإحلال النظام وخلق الأكوان كل عام، في أعياد مشهورة. ومردوخ هو كوكب المشتري، أما ابنه فهو كوكب المريخ. (25) موت
إله الحرارة والجفاف والعالم الأسفل عند الكنعانيين. يدخل في صراع دائم مع بعل إله المطر والسحاب ومظاهر الخصب الأخرى، فيغلب موت بعل آنا، ويغلبه بعل آنا آخر. وغلبة أحدهما هي التي تقرر سيادة الخصب أو سيادة الجفاف؛ فكان بعل يموت كل سبع سنوات، ولكنه ما يلبث أن يتغلب على خصمه . (26) ننخرساج
الأرض-الأم لدى البابليين. انبثق عنها كل الأحياء من بشر ونبات وحيوان، وهي النموذج الأمومي الأول الذي نتج عنه فيما بعد كل تكرار لفعل الأمومة. فإنجاب الأطفال وتوالد النبات أمور هي في جوهرها تقليد لفعل الإنجاب الأولي الذي قامت به الأم الكبرى. اسمها السومري كي، ولها أسماء أخرى منها ننماخ وننتو ومامي وماما. وهي لدى الكنعانيين عشيرة زوجة إيل إله السماء. ولدى الحثيين سيبيل. ورغم أن الأرض في البداية هي زوجة للسماء، إلا أنها تغدو فيما بعد زوجة للماء إنكي، وعن اتحادهما يحيا النبات والإنسان. (27) نيسابا
إلهة المحاصيل عند البابليين، فيقال «لقد أدارت نيسابا صدرها للخصب»؛ أي إن الأرض لم تعد تعطي محصولا وفيرا، وهي أحد أشكال الأرض الأم. (28) نرجال
زوج إلهة العالم الأسفل إريشكيجال، ويحكم معها مملكة الموتى. كان إلها سماويا، ولكنه هبط إلى العالم الأسفل بأمر من ملكته، عقوبة له لرفضه إظهار الاحترام والتبجيل لرسلها الذين أرسلتهم إلى مجمع آلهة السماء، حيث وقف لهم الجميع احتراما إلا هو، ولكنها أحبته وتزوجته نظرا للشجاعة التي أظهرها عند نزوله فغدا سيدا لمملكة الظلام. (29) نمو
المياه الأولى التي انبثق عنها كل شيء عند السومريين. (30) ننورتا
ابن الإله إنليل، وإله الرياح الجنوبية العاصفة، وهو أيضا رب القنوات والسدود والري.
مراجع الكتاب
Allegro John, The Sacred Mushroom and the Cross, Abacus, N. Y 1974 .
Delaporte L., Phoenician Mythology (in Larousse Encyclopedia of Mythology) .
Eliade M., The Sacred And the Profanc. Harvest Book, N.Y .
Every G., Christian Mythology, Hamlyn, London, 1970 .
Frazer James, The Golden Bough, Macmillan, New York 1971 .
Freund Philip, Myths of Creation, W.H. Allen, London 1964 .
Fromm Erich, The Forgotten Language, New York 1970 .
Frankfort Henri, Befor Philosophy, Pelican, London 1964 .
Guirard F., Greek Mythology, Hamlyn, London 1963 .
Gray John, Near Eastern Mythology, Hamlyn, London 1969 .
Gordon C.H., Ugarit, Norton Library, New York 1967 .
Graves Robert, Greek Myths, Penguin, London 1974 .
Hiedel Alexander, The Babylonian Genesis, Phoenix, Chicago 1969 .
Hook S.H., Middle Eastern Mythology, Pelican, London 1968 .
Harding M.E., Woman’s Mysteries, Harper, New York 1976 .
Henderson J.L., The Wisdom of the Serpent, Collier, N.Y. 1971 .
Jung C.G., Man and his Symbols, New York 1964 .
Kramer S.N., Mythology of the Ancient World, Anchor, N.Y .
Kramer S.N., Sumerian Mythology, Harper and Row, N.Y. 1961 .
Kramer S.N., Sumerian Myths and Epic Tales (in Ancient Near Eastern Texts) .
Kirk G.S., Greek Myths, Pelican Book, London 1977 .
Malinowski., Magic, Science and Religion, Garden City, N.Y. 1954 .
McNeill. The Ancient Near East, Oxford, London 1968 .
Neumann Erich, The Great Mother, Princeton, N.Y. 1974 .
Jersey 1969 .
Speiser E.A., Akkadian Myths (in Ancient Near Easter Texts) .
Sheban Joseph, Following the Gods, Philosophical Library N.Y. 1963 .
Viaud. J., Egyption Mythology (in Larousse Encyclopedia of Mythology) .
Watts Allen, Myths and Ritual in Christianity, Thames and Hudson, London 1954 .
المراجع العربية
سيجموند فرويد، تفسير الأحلام، مكتبة التحليل النفسي، القاهرة، 1970م.
سيجموند فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت.
مسند ابن حنبل، المطبعة الميمنية، القاهرة.
الثعالبي، عرائس المجالس.
الطبري، تاريخ الرسل والملوك.
ابن عربي، الفتوحات المكية.
يوسف اليوسف، قراءة في ملحمة التكوين البابلية، مجلة المعرفة العدد 197، 1978م.
نسيب وهيبة الخازن، أوغاريت.
توينبي، مختصر دراسة للتاريخ، الجامعة العربية، القاهرة، 1962م.
Unknown page