Mughalatat Mantiqiyya
المغالطات المنطقية: فصول في المنطق غير الصوري
Genres
الإهداء
1 - المصادرة على المطلوب
2 - مغالطة المنشأ
3 - التعميم المتسرع
4 - تجاهل المطلوب (الحيد عن المسألة)
5 - الرنجة الحمراء
6 - الحجة الشخصية (الشخصنة)
7 - الاحتكام إلى سلطة
8 - مناشدة الشفقة (استدرار العطف)
9 - الاحتكام إلى عامة الناس
Unknown page
10 - الاحتكام إلى القوة (منطق العصا، اللجوء إلى التهديد)
11 - الاحتكام إلى النتائج
12 - الألفاظ الملقمة: الألفاظ المشحونة (المفخخة)
13 - المنحدر الزلق (أنف الجمل)
14 - الإحراج الزائف (القسمة الثنائية الزائفة)
15 - السبب الزائف (أخذ ما ليس بعلة علة)
16 - السؤال المشحون (المركب)
17 - التفكير التشبيهي (الأنالوجي الزائف)
18 - مهاجمة رجل من القش
19 - مغالطة التشييء
Unknown page
20 - انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد)
21 - إغفال المقيدات
22 - مغالطات الالتباس
23 - مغالطة التركيب والتقسيم
24 - إثبات التالي
25 - ذنب بالتداعي
26 - مغالطة التأثيل
27 - الاحتكام إلى الجهل
28 - سرير بروكرست (البروكرستية)
29 - مغالطة المقامر
Unknown page
30 - المظهر فوق الجوهر
31 - الاحتكام إلى القديم (الاحتكام إلى التقاليد)
32 - النبوءة المحققة لذاتها
33 - الخطأ المقولي (خلط المقولات، خلط الأوراق)
34 - الأنثروبومورفيزم
35 - الأمن المنطقي
الإهداء
1 - المصادرة على المطلوب
2 - مغالطة المنشأ
3 - التعميم المتسرع
Unknown page
4 - تجاهل المطلوب (الحيد عن المسألة)
5 - الرنجة الحمراء
6 - الحجة الشخصية (الشخصنة)
7 - الاحتكام إلى سلطة
8 - مناشدة الشفقة (استدرار العطف)
9 - الاحتكام إلى عامة الناس
10 - الاحتكام إلى القوة (منطق العصا، اللجوء إلى التهديد)
11 - الاحتكام إلى النتائج
12 - الألفاظ الملقمة: الألفاظ المشحونة (المفخخة)
13 - المنحدر الزلق (أنف الجمل)
Unknown page
14 - الإحراج الزائف (القسمة الثنائية الزائفة)
15 - السبب الزائف (أخذ ما ليس بعلة علة)
16 - السؤال المشحون (المركب)
17 - التفكير التشبيهي (الأنالوجي الزائف)
18 - مهاجمة رجل من القش
19 - مغالطة التشييء
20 - انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد)
21 - إغفال المقيدات
22 - مغالطات الالتباس
23 - مغالطة التركيب والتقسيم
Unknown page
24 - إثبات التالي
25 - ذنب بالتداعي
26 - مغالطة التأثيل
27 - الاحتكام إلى الجهل
28 - سرير بروكرست (البروكرستية)
29 - مغالطة المقامر
30 - المظهر فوق الجوهر
31 - الاحتكام إلى القديم (الاحتكام إلى التقاليد)
32 - النبوءة المحققة لذاتها
33 - الخطأ المقولي (خلط المقولات، خلط الأوراق)
Unknown page
34 - الأنثروبومورفيزم
35 - الأمن المنطقي
المغالطات المنطقية
المغالطات المنطقية
فصول في المنطق غير الصوري
تأليف
عادل مصطفى
شيء من المنطق
المغالطات المنطقية
طبيعتنا الثانية وخبزنا اليومي (فصول في المنطق غير الصوري)
Unknown page
الإهداء
إلى الأخ الكريم اللواء د. هاني مصطفى خضر نابغة جراحة الأنف والأذن والحنجرة صديق العمر وشريك الذكريات.
عادل مصطفى
كم يكون رائعا لو أمكننا أن نقيض لكل خدعة جدلية اسما مختصرا وبين الملاءمة، بحيث يتسنى لنا كلما ارتكب أحد هذه الخدعة المعينة أو تلك أن نوبخه عليها للتو واللحظة.
آرثر شوبنهاور
مقدمة
الحكيم هو من يفصل اعتقاده على قد البينة.
ديفيد هيوم ***
دفعني إلى كتابة هذه الفصول ما أشاهده كل يوم في الفضائيات التليفزيونية، ووسائل الإعلام الأخرى من أغلاط أساسية في منطق الحوار والجدل، تجعل المناقشات غير مجدية من الأصل، وتجعلها عقيمة أو مجهضة منذ البداية، فلم أجد بدا من العودة بالقارئ إلى أصول الحوار المثمر وقواعد الجدل الصحيح، التي أصبحت الآن مبحثا قائما بذاته هو «المنطق غير الصوري»
Informal logic (أو «المنطق العملي»
Unknown page
practical logic ).
وإذ أخذت نفسي دائما بأن أحاول، جهد ما أستطيع، أن «أعلم القارئ كيف يصطاد بدلا من أقدم إليه سمكا» - فقد رأيت أن أعود إلى هذا المبحث، الحديث نسبيا، وأسلط عليه الضوء، وأقدمه إلى القارئ بطريقة سائغة قريبة المأخذ، مرتكزا في ذلك على الجانب السلبي من المبحث، وهو «المغالطات المنطقية»: تعريفها وتشريحها، وكيف نكشفها ونتجنبها، والحالات التي تصح فيها ولا تعود مغالطة. (1) ما هو المنطق غير الصوري؟
المنطق غير الصوري هو استخدام المنطق في تعرف الحجج، وتحليلها وتقييمها، كما ترد في سياقات الحديث العادي ومداولات الحياة اليومية:
1
في المحادثات الشخصية، والإعلانات، والجدل السياسي والقضائي، وفي شتى ألوان التعليقات التي نصادفها في الصحف والإذاعة المرئية والمسموعة وشبكة الإنترنت وغير ذلك من وسائل الإعلام.
كان الدافع من وراء نشأة هذا المبحث الجديد هو الرغبة في إيجاد سبل لتحليل الاستدلال العادي وتقييمه، سبل يمكن أن تندرج كجزء من التعليم العام، ويمكن أن ترشد تفكير الناس وترتقي بالمناقشات والمساجلات اليومية، من هذه الوجهة تلتقي هموم المنطق غير الصوري بهموم «حركة التفكير النقدي»
Critical Thinking Movement
التي تهدف إلى تطوير نموذج للتعليم يولي اهتماما أكبر بالتساؤل النقدي، ويفضي إلى فهم علاقة اللغة بالمنطق، فيمكن الطالب من تحليل الأفكار ونقدها والدفاع عنها، ومن التفكير الاستقرائي والاستنباطي، ومن استخلاص نتائج وقائعية حصيفة قائمة على استدلالات سليمة مستقاة من قضايا، معرفية أو اعتقادية، واضحة لا لبس فيها.
2
ترتبط نشأة المنطق غير الصوري بالحركات الاجتماعية والسياسية في ستينيات القرن العشرين، وما صحبها من دعوة إلى تعليم عال أوثق اتصالا بالحياة والتصاقا بالواقع المعيش، هنالك ألحت الحاجة إلى تطبيق التحليل المنطقي على أمثلة حية ملموسة من تفكير الحياة اليومية، والتخلي عن الأمثلة المصطنعة والحجج المفتعلة التي تعج بها كتب المنطق القديمة، على أن المنطق غير الصوري لم يتأسس كفرع بحثي مستقل إلا في أواخر السبعينيات من أعمال رالف جونسون وأنتوني بلير، الفردية والمشتركة، وإصدارهما صحيفة «المنطق غير الصوري».
Unknown page
وعلى الرغم من مرور أكثر من ربع قرن على نشأة المنطق غير الصوري، فإنه ما زال في طور التكوين، تصطرع فيه تيارات متباينة وتتنازعه اتجاهات مختلفة، وما زال يتلمس طريقه ويفتش عن هويته، وما زال يتساءل عن جدوى نظرية المغالطات ومبادئ المنطق الصوري بالنسبة إليه، وعن أهمية استخدام الرسوم البيانية، وعن دور نظريات التواصل والاعتبارات الديالكتيكية والحوارية في تقييم الحجج، وما زال في كل ذلك يلتمس العون من أفرع بحثية قريبة ويتداخل معها: علم البلاغة (الخطابة)، علم اللغة، الذكاء الصناعي، علم النفس المعرفي، التواصل الكلامي ... إلخ.
كان اهتمام المنطق غير الصوري في بداياته منصبا على «المغالطات المنطقية»
logical fallacies ، غير أنه تجاوز مبحث المغالطات وجعل يوسع من حقله كلما تبين له أن دراسة الحجج المصوغة باللغة العادية تتطلب ارتياد أصقاع جديدة من البحث، تتضمن هذه الدراسة المكونات التالية:
التمييز بين الأصناف المختلفة من الحوار التي يمكن للحجة أن ترد فيه (النقاش العلمي مثلا غير التفاوض أو عقد الصفقات).
تحديد المعايير العامة للحجة الصائبة (الاستنباطية والاستقرائية ...)
دراسة مفهوم اللزوم - أو الترتب - المنطقي، الذي يفسر لنا متى يصح أن نقول إن هذه الجملة تترتب منطقيا عن تلك.
دراسة المغالطات المنطقية وأهميتها في تقييم الحجج.
دراسة المواضع التي يصح فيها ما نأخذه عادة مأخذ المغالطة (الاحتكام الصائب إلى السلطة، الهجوم المبرر على شخص الخصم، التفكير الدائري الصحيح ... إلخ).
تفهم الدور الذي تضطلع به المشاعر (الباثوس) والشخصية (الإيثوس) وغيرهما من المفاهيم البلاغية في تحليل الحجة وتقييمها.
تبيان الواجبات الجدلية المنوطة بالحجج في أنواع معينة من السياقات. (2) أهمية الإلمام بالمنطق غير الصوري
Unknown page
يقول أفلاطون في محاورة جورجياس: «في جدال حول الغذاء يدور أمام جمهور من الأطفال فإن الحلواني كفيل بأن يهزم الطبيب، وفي جدال أمام جمهور من الكبار فإن سياسيا تسلح بالقدرة الخطابية وحيل الإقناع كفيل بأن يهزم أي مهندس أو عسكري، حتى لو كان موضوع الجدال هو من تخصص هذين الأخيرين، وليكن تشييد الحصون أو الثغور! إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لأشد إقناعا من أي احتكام إلى العقل.»
حقا ... ليس بالحق وحده تكسب جدالا أو تقهر خصما أو تقنع الناس، من هنا يتبين لنا أهمية دراسة الحجة كما ترد في الحياة الحقيقية وتتجسد في اللغة العادية.
ذلك أن الحجة حين ترد في الواقع الحي لا تأتي مجردة مصفاة، ولا تكشف صيغتها المنطقية للمتلقي بسهولة وطواعية؛ إذن لكان تمحيصها أيسر عليه بما لا يحد، إنما تأتي الحجة دائما ممتزجة بلحم اللغة ودمها، متلفعة بانفعالات الناس وأعرافهم، مؤربة بتضاريس الواقع، وبشئون الناس وشجونها.
وما تشكل الصيغة المجردة للحجة (المقدمات المؤدية إلى نتائج) إلا لبا ضئيلا أو هيكلا نحيلا متواريا وراء طبقة كثيفة من الاعتبارات الدلالية
semantic
والتداولية
pragmatic
للغة،
3
ومن طبيعة الخصم وأيديولوجيته وسيكولوجيته، ومن مقام الحديث وسياق الجدل، ومن عواطف جمهور الحاضرين وانتماءاتهم وتحيزاتهم.
Unknown page
ونحن في مجال المنطق غير الصوري إنما ينصب جهدنا على هذه الطبقة الكثيفة التي تغلف اللب الصوري للحجة، نتلمسها ونتناولها بالتحليل والتفتيت، وننفذ منها إلى ذلك اللب الصوري المفترض. في مجال المغالطات، على سبيل المثال، يكون عملنا أشبه ب «أخذ صورة أشعة»
x-raying
للحجة المطروحة، عسانا نطلع على هيكلها الصوري المطمور، ونقدر نصيبه من الصواب والخطأ، ويكون معيارنا في ذلك هو المعيار المنطقي الصوري العتيد: صدق المقدمات وصواب الاستدلال، وكثيرا ما تجبهنا صورة الأشعة بغياب أي لب صوري وانعدام أي هيكل منطقي في الحجة! (2-1) أمثلة لعملية التجريد في المنطق غير الصوري
مثال 1
نقتبس هذا المثال من بين تلك «الحجج المندمجة»
coalescent arguments
التي أشار إليها ميشيل جلبرت، والتي تعبر في زعمه عن جملة من المواقف سئ والاعتقادات والمشاعر والحدوس التي تميز صاحب الحجة، فهذه طالبة جامعية تبكي في مكتب الأستاذ؛ كي تبثه قلقها للأهمية التي يوليها الأستاذ لحصول الطالب على درجة
A
في مادة معينة،
4
Unknown page
بوسعنا أن نؤول هذا على أنه «قياس مضمر»
enthymeme
5
تقديره:
إنه لمن أشد دواعي البؤس والجزع ألا أحصل على درجة
A . (مقدمة 1)
إن عليك ألا ترمي بي في حضيض البؤس والجزع. (مقدمة 2)
عليك، إذن، أن تمنحني درجة
A . (النتيجة)
ورغم أننا نسلم بأن هذه الحجة تندرج ضمن فئة «الحجج الانفعالية» التي تحدث عنها جلبرت، فليس ما يمنع أن نعاملها كغيرها من الحجج، فنفحص مقدماتها ونقيمها من حيث القبول والرفض، وننظر فيما إذا كانت النتيجة فيها تلزم عن المقدمات.
Unknown page
ولا يخفى على القارئ الآن أن المقدمة «2» فيها نظر! فالأستاذ، بعد كل شيء، يعمل بمرفق التعليم العالي وليس بمرفق الشئون الاجتماعية، إن عليه أن يعين الطالب ويدعمه بأن يقرب إليه مادته العلمية ويذلل قطفها، وليس بأي طريق آخر، والحجة من ثم تندرج في مغالطة «الاحتكام إلى الشفقة»
ad misericordiam .
مثال 2
هذا إعلان مصور عبارة عن رأس أسد يزأر مكتوب عليه «كينا بسليري الحديدية»، إذا تأملنا إعلانا كهذا وجدنا أنه لا يعدو أن يكون «استعارة بصرية»
visual metaphor
مفادها أن تناول كينا بسليري الحديدية بانتظام تجعل المرء قويا مفعما بالنشاط، وبالنظر إلى أنه إعلان تجاري فإن بوسعنا تأويله إلى «قياس مضمر» أيضا تقديره:
إذا تناولت كينا بسليري صرت قويا مفعما بالنشاط. (مقدمة 1)
النشاط والقوة أمران مرغوبان. (مقدمة 2)
إذن من المرغوب فيه أن تتناول كينا بسليري (تشتريها). (النتيجة)
فإذا ما أمعنا في التجريد خلصنا إلى الصورة التالية: «ق» تلزم عنها «ك»، «ك» مرغوبة؛
Unknown page
إذن «ق» مرغوبة.
وهو قياس مغلوط صوريا لأنه يقع في خطأ «إثبات التالي»
affirming the consequent ، بوسعنا تبيان خطأ هذا القياس بأمثلة كثيرة مثل: (1)
منع مباريات الكرة كفيل بمنع حوادث الشغب في الملاعب.
منع الشغب في الملاعب أمر مرغوب؛
إذن علينا منع مباريات الكرة. (2)
إلغاء خطوط السكك الحديدية يفضي إلى انتفاء تصادم القطارات.
انتفاء تصادم القطارات أمر مرغوب؛
إذن ينبغي إلغاء خطوط السكك الحديدية. (3)
وجودي في العتبة يعني أنني في القاهرة.
Unknown page
أنا الآن في القاهرة؛
إذن أنا الآن في العتبة. (3) أهمية دراسة المغالطات المنطقية
قلنا إن اهتمام المنطق غير الصوري كان متركزا في البداية على مبحث المغالطات، وكان التعريف التقليدي للمغالطات هو «تلك الأنماط من الحجج الباطلة التي تتخذ مظهر الحجج الصحيحة»، ولعل من الأصوب أن نقول إنها أنماط شائعة من الحجج الباطلة التي يمكن كشفها في عملية تقييم الاستدلال غير الصوري.
لمنطق المغالطات آباء قدامى، يأتي في مقدمتهم أفلاطون في محاورة «يوثيديموس»
Euthydemus
وأرسطو في كتابه
on sophistical refutations ، ويلحق بهما في القرون التالية فلاسفة كثيرون من أبرزهم جون لوك، وواتلي، وشوبنهاور، وجون ستيوارت مل، وجريمي بنتام، وما يزال مبحث المغالطات يثير اهتمام كثير من المناطقة حتى اليوم، غير أن هذا الاهتمام بدأ ينحسر بعض الشيء مع تطور المنطق غير الصوري وارتياده آفاقا جديدة من البحث. وقد ذهب بعض المناطقة، وبخاصة منهم من تأثر بنظرية التواصل، إلى أن دراسة المغالطات ليست بديلا عن دراسة مبادئ الاستدلال الصحيح، فما دامت المغالطات هي انحراف عن القواعد الضمنية التي تحكم شتى أصناف التداول الحواري فإن الأجدر بنا أن نركز على دراسة هذه القواعد وألا نقنع بدراسة الانحرافات، يرى هؤلاء أن دراسة المغالطات لا تكفي لإجادة التفكير الاستدلالي مثلما أن معرفة الأخطاء في لعبة كرة القدم مثلا لا تكفي لإجادة اللعب، إنما ينبغي أن نتجه مباشرة إلى دراسة قواعد الجدل الصحيح ومعايير الاستدلال الصائب.
ورغم وجاهة هذا الرأي فإن تفشي المغالطات المنطقية في واقعنا اليومي، وطغيانها على تفكيرنا كله، حقيق بأن يرد إلى نظرية المغالطات أهميتها الأولى ويعيدها إلى الصدارة من جديد، يقول مالبرانش: «لا يكفي أن يقال إن العقل قاصر، بل لا بد من إشعاره بما هو عليه من قصور، ولا يكفي أن يقال إنه عرضة للخطأ، بل يجب أن نكشف له عن حقيقة هذا الخطأ.» وهذا قول صادق، إذ لا يكفي من أجل تمييز الحق أن نحدد شروطه فحسب، بل لا بد أيضا لكي يكون التمييز واضحا كل الوضوح أن نبين أين يكون الغلط حتى يظهر الحق أجلى وأوضح، كالنور يكون أجلى بجوار الظلمة منه لو أخذ وسط فيض آخر من النور، ثم إن الأضداد إن لم تكن واحدة كما يقول هيجل، فهي على الأقل مرتبطة تمام الارتباط سواء من الناحية العقلية ومن الناحية الوجودية؛ ولهذا كان العلم بالأضداد كما يقول أرسطو علما واحدا، فإذا كان تمييز اليقين في التفكير الإنساني موضوع المنطق، فكذلك تمييز الخطأ فيه يدخل في بابه،
6
يؤثر عن الإمام الشافعي قوله: «مثل من يطلب العلم جزافا كمثل حاطب ليل يقطع حزمة حطب فيحملها، ولعل فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري.»
Unknown page
ويقول شوبنهاور: «يتوجب على من يدخل في مناظرة أن يعرف ما هي حيل الخداع، ذلك أن من المحتم عليه أن يصادفها ويتعامل معها.» عليك إذن أن تلم إلماما جيدا بالمغالطات المنطقية حتى يتسنى لك أن تتجنب الطرق المسدودة أثناء الحوار وتتعرف على «النقلات الخاطئة» في الجدل، وأن تظهر خصمك على الخطأ الاستدلالي الذي ارتكبه، بل أن تقيض لهذا الخطأ اسما؛ لكي يعلم الخصم أنك تجيد التفكير، وتفهم حجته ربما أكثر منه! كما أن كشف المغالطة وتسميتها وتحليلها من شأنه أن يقصي الحجة الباطلة من ساحة الجدل إقصاء نهائيا ولا يكتفي بإضعافها أو تحجيمها، ذلك أن الخصوم المتمرسين بالجدل والمراء لديهم من الخبرة والمهارة ما يمكنهم من إنعاش حجتهم الجريحة وإعادة تجنيدها في حلبة الصراع. (4) فن التعامل مع المغالطات
غير أن الناس - الخصم الفكري أو السياسي، والقضاة، وجمهور الحاضرين - ليسوا جميعا مناطقة ملمين بفقه المغالطات وسبل كشفها وإقصائها؛ ومن ثم فإن عليك أن تتقن فن التعامل مع المغالطات وكشفها وإقصائها؛ حتى لا تفشل حملتك وتأتي بعكس المرجو منها وتجعلك غرضا للتهكم والسخرية، عليك باختصار أن تجعل ردك جزءا من مساق الحديث، غير ناشز أو مستغرب، عليك أن تسمي المغالطة باسمها، بالعربية واللاتينية إن استطعت، وأن تبادر بتبيان ما تعنيه المغالطة، ولماذا هي مغالطة، وأن تفعل ذلك بليونة وخفة وإيجاز، دون أن تعلوك سيماء التعالم والتكلف والحذلقة، عليك أن تذكر اسم المغالطة وفحواها كما لو كنت تعيد على مسامع القاضي الذكي شيئا بسيطا يعرفه من الأصل، ثم تثني بمثال بالغ الوضوح يزيد مقصدك جلاء وسطوعا، ثم تختم حجتك وكأنك تداوي خصمك وتفتح له طريقا آخر للجدل غير مغالطته البائدة، قل شيئا كهذا: «إن توجهك يا سيدي يتكئ بشدة على التأييد الشعبي وعلى فوزه الساحق في الاستفتاء الأخير، لقد صوت أغلب الناس لهذا التوجه، نعم وهذا حقهم في بلد ديمقراطي يتولى فيه الشعب حكم نفسه وعلى مسئوليته، غير أنه لا يجعل من الرأي السائد حقا بالضرورة، إنه خطأ.. «الاحتكام إلى عامة الناس»
ad populum
كما تعلمون إن عدد الأصوات المؤيدة ليس معيارا للحق ولا يجعل الرأي حقا بالضرورة، فالحق والباطل لهما معايير أخرى تعرفونها، لقد قفز هتلر إلى السلطة من صناديق الاقتراع، وقاد ألمانيا إلى الهاوية بتأييد شعبي عارم، لقد حظي الرق يوما ما بتأييد الأغلبية في بعض الولايات الأمريكية، لقد كانت الأرض ذات يوم هي مركز الكون في اعتقاد الجميع عدا جاليليو، دعنا إذن من هذه الحجة المغالطة، ولننصرف الآن عن التفكير بصندوق الاقتراع إلى التفكير بالعقل، يبقى أن حجتك الأكثر وجاهة وسدادا هي ...» (5) التفكير النقدي مرحلة متقدمة من النمو المعرفي
يقسم جان بياجيه مراحل النمو المعرفي للإنسان إلى أربع مراحل، يعدها بيولوجية عمومية تشمل أفراد البشر جميعا: الأولى: هي المرحلة الحسية الحركية
sensorimotor «من الولادة إلى سن سنتين» حيث لا توجد بناءات ذهنية (مخططات)، وحيث يسعى الرضيع إلى تكوين هذه البناءات من خلال استكشاف البيئة. والمرحلة الثانية: هي مرحلة ما قبل العمليات
pre-operational «من سن سنتين إلى سبع»، وفيها يكتسب الطفل اللغة، ويكون بناءات ذهنية أكثر تعقيدا، وإن تكن قبل-منطقية
pre-logical ، فما يزال غير قادر على أن يفهم أن جوهر الشيء لا يتغير، وإن تغير شكله وهيئته، ولا يزال غير قادر على «فض المركزية»
decentering
أي الانفصال عن ذاته ورؤية الأشياء من منظور مختلف. والمرحلة الثالثة: هي مرحلة تفكير العمليات العيانية
Unknown page
concrete operational «من سن سبع سنوات وحتى المراهقة »، وفيها يتفهم ثبات الجوهر، ويتخذ منظورات مغايرة، ويبدأ في التساؤل عن الحياة ويحل المشكلات ولكن بشكل عشوائي، إنها عمليات منطقية ولكنها ما تزال لصيقة بالعالم المادي العياني والأفعال المادية العيانية. والمرحلة الرابعة: هي مرحلة العمليات الصورية
Formal operational ، وفيها تواتيه القدرة على التفكير المنطقي المعقد، والتفكير التجريدي غير المرتبط بالأشياء والأحداث المادية، والتفكير الافتراضي، والحل المنطقي للمشكلات.
يقترح بعض المنظرين إضافة مرحلة خامسة أرقى من هذه المراحل الأربع، هي مرحلة التفكير الجدلي
Dialectical thinking ، وهي مرحلة بعد - منطقية، إن صح التعبير، وفيها يكتسب المرء التفكير النقدي، ويدرك مفارقات الحياة، ويتناول الأسس التحتية التي يقوم عليها المنطق ويحللها ويضعها موضع التساؤل والنقد، وهي مرحلة غير عمومية وغير بيولوجية ولا يبلغها المرء إلا بالتعلم والتدريب والممارسة.
يتألف التفكير النقدي من ثلاث مراحل: (1) الوعي بوجود افتراضات
assumptions
7
أساسية. (2) التصريح بهذه الافتراضات وإخراجها إلى واضحة النهار. (3) تسليط أضواء النقد على هذه الافتراضات: هل هي ذات معنى؟ هل تنسجم مع الواقع كما نفهمه ونعيشه؟ متى تصح هذه الافتراضات ومتى تبطل؟
في غياب التفكير النقدي نكون رهائن للمؤثرات المحيطة: فلا يسعنا إلا أن نكرر، تكرارا أعمى، تلك الاستجابات التي تعلمناها من قبل، ولا يسعنا إلا أن نقبل، قبولا أعمى، كل ما يقال لنا في أبواق الدعاية السياسية والتجارية، وفي الصحافة والكتب، وكل رأي يصدر عن «سلطة».
إن التفكير النقدي والعلمي ليس شيئا فطريا نأتيه بالطبيعة ونعرفه بالسليقة، وإنما هو عمل حرفي يتطلب حذقا ومهارة، ليس من الصحيح أن لدينا قدرة طبيعية على التفكير الواضح والنقدي بغير تعلم وبغير ممارسة، ولا ينبغي أن نتوقع من غير المدرب أن يفكر تفكيرا واضحا أكثر مما نتوقع من غير المدرب أن يجيد لعب التنس أو الجولف أو العزف على البيانو.
Unknown page
ذلك أننا إذ نمارس التفكير العلمي والنقدي إنما نمضي ضد مقاومة شديدة ونسبح ضد تيار عارم من التحيزات المتأصلة والأوهام الجبلية، ونتجشم اجتياز العديد من العوائق «الطبيعية» التي تحول بيننا وبين التفكير الواضح: فنحن بطبيعتنا لا نتحمل الغموض ولا نطيق معايشة السر! وإن بنا نزوعا طبيعيا إلى طلب اليقين حيث لا يقين، والتماس الإجابات البسيطة عن الأسئلة المعقدة، وشغفا بالدعاوى العريضة و«نظريات كل شيء» محمولة على ظهر بينة ضامرة هزيلة، وميلا إلى الأخذ بالفرضيات التي ترضي رغائبنا وتدغدغ أمانينا، والالتفات إلى أضغاث من الأمثلة التي تؤيد فرضيتنا وغض الطرف عن تلال من الأمثلة المفندة، وإلى تذكر الرميات الصائبة وتناسي الرميات الخائبة، وإلى أخذ الاستعارات التوضيحية والتشبيهات المقربة مأخذ الدليل، وإلى الانضواء مع القطيع والتلفع بالرايات والانضمام إلى «الزفة»، وإلى قتل الرسل بدلا من تفنيد الرسالة، وإلى التخلص من عبء البرهان وإلقائه على عاتق الخصم، وإلى الاستدلالات الدائرية وتحصيلات الحاصل، وإلى التعويل الزائد على السلطة والانبهار الزائد بالمشاهير، وإلى التعميم الكاسح المتسرع، وإلى تحويل التعاقب أو الاقتران إلى علية، ... إلى آخر تلك الأغاليط التي نغرق فيها إلى الأذقان، والتي يتناولها هذا الكتاب بالتحليل والدرس.
يمضي التفكير النقدي ضد هذه المقاومات الشرسة، فيحتاج إلى طاقة نفسية كبيرة، غير مقصورة على الذكاء الذهني المحض ... يحتاج إلى شيء من «الذكاء الانفعالي»
emotional intelligence : إلى التسامح، والتعاطف، و«المواجدة»
empathy
أي قدرة المرء على أن يضع نفسه موضع الآخر، ويرى الأمور من وجهة نظر الآخر، ويتخذ الإطار المرجعي للآخر، القدرة على اكتشاف «ماذا يشبه أن يكون»
what it is like
أن يعتقد المرء تلك الأفكار التي يضعها موضع التساؤل
8
قبل أن يهم بتقويضها.
إنها رحلة طويلة شاقة، ليس لها خرائط محددة، غير أننا لا نعدم بعض المبادئ المرشدة:
Unknown page