لا أريد أن أخوض في عيوب دستور سنة 1923، التي دلت تجارب السنوات الماضية على وجوب إصلاحها، وحملتني على تنقيحه دون المساس بأصوله الثابتة، ولكني أشير هنا إلى أنه ما كادت تبدو الرغبة في إصلاح الدستور، وما كاد دستور سنة 1930 يظهر للوجود حتى شن الوفد على هذا الإصلاح حملات شعواء! وكان طبيعيا أن يشن الوفد هذه الحملات؛ لأنه وجد في الدستور الجديد حدا من سلطانه الحزبي والبرلماني، ولكن لم يكن من الطبيعي في ذلك الحين أن يقف الأحرار الدستوريون من الدستور الجديد موقف المعارضة، فقد كانوا يشكون كما يشكو سائر العقلاء والمحبين لمصلحة البلاد من الطغيان الحزبي، وكانوا يبحثون كما أبحث عن طرق العلاج، وقد هدى التفكير إلى صنفين من العلاج لا مندوحة من اختيار أحدهما إذا أريد المخرج؛ الأول: علاج يقضي بإلغاء الحياة النيابية إلغاء تاما، أو تعطيلها إلى أجل غير مسمى، حتى تجري الأمور في مجاريها الطبيعية، ويلتفت رجال السياسة إلى مصالح البلاد، ويتعهدوها بالخدمة الخالصة.
إسماعيل صدقي باشا، وعبد الخالق ثروت باشا بطلا تصريح 28 فبراير سنة 1922.
وأما الثاني، فعلاج يراد به تلمس أرفق الوسائل لإصلاح ما ظهر من عيوب النظم النيابية في مصر، إصلاحا يتم في هوادة وفق ناموس التطور، وتنعدم منه كل أسباب الشكوى، وتستقر به الأمور.
كان علينا أن نختار أحد هذين العلاجين، وكانت أمامنا تجربة الأحرار الدستوريين، وهم الذين فضلوا العلاج الأول، وطبقوه سنة 1928، ولكنه كان علاجا قاسيا، وظالما في الوقت نفسه؛ لأنه أشبه شيء بعملية البتر التي لا يجوز الالتجاء إليها إلا عند الضرورة القصوى، حين لا تكون هناك مندوحة عنها.
ولذلك اخترت أنا العلاج الثاني، وهدفي إنقاذ الوطن من سوء المصير، وكان موقف الأحرار الدستوريين من هذا العلاج من أعجب المواقف!
الملك فؤاد كما عرفته
عرفت المرحوم الملك فؤاد أميرا، وسلطانا، وملكا ... فعرفت فيه صفات الإمارة والقيادة، والعظمة، والملك، وعرفت فيه حبه للعلم، وإيمانه برسالته في تقدم الأمم، وتعشقه للرقي والحضارة، وتشجيعه للعلماء، وميله للتعرف بكبار النابهين من رجال العلم والسياسة.
وقد كان أول اتصالي به - كما بينت في كلمة سابقة - حينما اخترناه رئيسا للجامعة المصرية الأهلية بعيد تأسيسها في سنة 1906، وهو يومئذ أمير معروف بهذه الشمائل الغراء التي أكسبته تقدير العلماء، واحترام رجال السياسة في مصر والخارج، ذلك الاحترام الذي هيأ له مركزا ممتازا في الأندية السياسية في أوروبا، وجعله من الأمراء المعدودين الذين تتجه إليهم الأنظار إذا ما أريد لبلد أن يتبوأ عرشها ملك، حتى في البلاد الأوروبية؛ أي إن منزلة الأمير فؤاد ومواهبه كانت تسمو على منزلة الأمراء العاديين ... ولكن الله أراد ألا يكون عرشه غريبا عن بلده، بل عرش مصر.
ومن حسن الطالع أنه لما مات السلطان حسين كامل تنحى نجله الأمير كمال الدين حسين عن العرش، على الرغم من إلحاح الإنجليز عليه بتبوئه، فانتقل إلى فؤاد، وكان ذلك من فضل الله عليه؛ لأن مواهبه كلها لم تكن معروفة، ومن فضل الله على مصر؛ لأنه - رحمه الله - نهض بها في طريق الحضارة نهضة مباركة موفقة، وكان يميل إلى تقليد والده المرحوم الخديو إسماعيل في هذه الناحية المفيدة، التي تجعل بلاده في الطليعة، متجنبا ما وقع فيه غيره من أخطاء أو عيوب.
ويشرفني أن أعود بالذكريات إلى هذا الحادث السعيد - حادث تولي الأمير فؤاد عرش مصر بعد وفاة السلطان حسين - فقد كان مقيما بمحطة جليمونوبلو برمل الإسكندرية في ذلك الحين، وكنت أقطن أنا بمنزلي بمحطة قريبة، وكنا نتقابل على الدوام للحديث في مختلف الشئون ... وذات يوم، وقد انتهيت من الغداء، دق جرس التليفون، وإذا بالمتكلم «الأمير»، وإذا به يقول: أود أن أراك.
Unknown page