تصدع الرابطة العربية العجمية
على أنه لما جاء العصر الأخير والذي قبله، حدث شيء من التحور زلزل تلك الرابطة الجامعة بين العربي والعجمي؛ فمنشور التنظيمات الخيرية الصادر في عهد السلطان محمود الثاني كان أول مرقاة للخروج على التعاليم العربية المستمدة من قرآنها وسنة نبيها إلى الشكل الغربي الغريب الذي لم يفهمه منتحلوه أنفسهم؛ فكانت النكسات والاختلافات والتعثر في السير والتلكؤ في العمل. ومن ذلك تحوير شكل الجيش والإدارة فجأة والقضاء على العسكرية الينيشارية وإيجاد الجند المسمى «بالنظام الجديد»، وحوادث مورة التي استخدم فيها الجيش المصري بأمر من السلطان إلى والي مصر محمد علي باشا آنذاك، وما كان هناك وفي كريت من فواجع وخاصة على الأسطول التركي المصري في ناوارين، ثم صدور الأمر السلطاني إلى والي مصر بالتوجه إلى الجزيرة العربية أيام محمد بن عبد الوهاب، وقد حدث ذلك، وتكلل الجهد المصري بالنجاح في الحجاز ونجد وعسير حتى صنعاء.
بوادر الانفصال
بعد ذلك تراءى لوالي مصر الوهن في الجسم العثماني، فاقتحم إلى سوريا والأناضول، وكانت هزيمة الجيش العثماني المشهورة أمام الجيش المصري، ثم تدخل روسيا وإنكلترا في الأمر وإرجاع الجيوش المصرية إلى مصر مخلية الأناضول وبلاد العرب بأجمعها، وإرضاء والي مصر بأن تكون ولايته فيه وفي أعقابه باسم والي مصر وبفرمان سلطاني، ومشى به الأمر كذلك حتى زمن الخديوي إسماعيل الذي حصر الإرث في نسله على أصول الوراثة الأورباوية وسمي «الخديوي».
وكانت هذه الظاهرة أول صبغة عربية استقلالية بدت في مصر، عقبتها محاولة الشريف عبد المطلب بن غالب - الذي كان أميرا على مكة بعد الشريف محمد بن عون رأس الأسرة الهاشمية الحاضرة، والصديق الحميم لمحمد علي باشا والي مصر - فقد انتهز ذلك الشريف الفرصة السانحة بسبب الحرب الروسية العثمانية المعروفة بحرب القرم، فحاول إعادة استقلال الحجاز إليه إلا أنه لم يتوفق إلى ذلك.
وعند الانقلاب العثماني الأخير الذى أعيد بسببه الدستور العثماني لسنة 1293 تحولت الحاكمية السلطانية إلى حاكمية ملية محصورة في العنصر الذي منه السلطان، وغدت سائر العناصر والأقاليم تبعا للعنصر الحاكم ، وشرع في تتريك العناصر الأخرى لتغيير صبغتها القومية ودفع الخطر عن السلطنة الدستورية التركية، الشاعرة بوجود أجناس أخرى في الإمبراطورية هي أكثر عددا وتدين بالإسلام. وبدأت الأحزاب المختلفة والأندية المتعددة لكل أمة تتشكل وتتكيف وتناضل عن حقها وتطالب. وأحس بالضغط من فرقة الاتحاد والترقي التركية في الانتخابات للبرلمان العثماني كي لا ينجح في عضوية البرلمان إلا من كان تركيا أو اتحاديا. عند ذلك شعر العرب، وشعر معهم بقية الأقوام الأخرى ممن تتكون منهم الإمبراطورية، أنهم على خطر الزوال؛ فحدثت الثورات في بلاد الأرناؤوط وفي جبل الدروز وفي الكرك، وتولى إخماد الثورة العربية سامي باشا الفاروقي المعروف، وكانت الثورة في عسير وقد أخمدها أمير مكة الشريف الحسين بن علي، وثورة اليمن وقد أخمدها المشير عبد الله باشا وأتم أمرها المشير عزت باشا.
وكان الشريف متمسكا حينذاك بالرابطة العثمانية، يفضلها ويرى بقاءها ويؤثرها على انهيار وتصدع لا يعرف مداه ولا تؤمن عاقبته، إلى أن بلغ الصلف الاتحادي ذراه وشوهد أن أمر انفصال العرب عن الأتراك الذين تعادوا وتهوروا وازدروا كل ما سواهم أمر لا بد منه. فطالبت سوريا بإدارة لامركزية واستولى ابن سعود على الأحساء واتفق الإمام في اليمن مع الاتحاديين على شكل معين، وشد الأمر بين السيد الإدريسي والترك على طريقة خاصة؛ وكانت هذه أول مرقاة أيضا إلى الانفصال والقلوب مفعمة بالعداء ورجال الدولة من الاتحاديين يحرقون الأرم على كل عربي نابه.
الوفود إلى الحجاز والمساعي العربية
ثم ترامت الوفود إلى الحجاز من القطر الشامي، وعرضوا على الشريف في مكة ما الناس فيه من سوء حال ومستقبل مظلم مع الظلم والاضطهاد والنفي والإبعاد، حتى جاءت الحرب السابقة وجاء جمال باشا بسلطانه وعدوانه إلى دمشق، فضاقت الأرض بما رحبت وخاف بأسه كل عزيز وذليل. وفي غضون ذلك كانت مذاكرات القضية العربية بين الشريف وبين رجال الاتحاد والترقي تجري بالمخابرة أحيانا، وأحيانا بواسطة الأمير فيصل بن الحسين ملك سوريا أخيرا وملك العراق فيما بعد ذلك. وكانت المكاتبات تدور من الناحية الأخرى مع بريطانيا العظمى لإيجاد الحلول الموصلة العرب إلى حقهم الأكبر فيما إذا أخفق العرب والترك في الاتفاق.
تحديدات
Unknown page