168

Mudhakkirat Shabab

مذكرات الشباب

Genres

كانت عائلة عطا الله بجوارنا على المائدة، ومسيو ميشيل عطا الله موظف بالبنك العقاري، وزوجه - مدام أديل عطا الله - أعرق منه في اللبنانية، ولهما ولدان وبنتان، فأما البنتان فطفلتان لم تبلغ إحداهما العامين وأما الأخرى فلم تبلغ الثالثة من عمرها، وهذه الأخرى واسمها جاكلين غاية في لطف الطفولة البريئة الباسمة.

لمدام عطا الله ميزة إحياء المجلس الذي تكون فيه، وهي تبالغ أحيانا في هذه الميزة، التي تعتبر من أجل ميزات الرجال والنساء إذا عرف صاحبها سبيل القصد فيها؛ لذلك لم نكد نأخذ مكاننا إلى جانبهم على المائدة حتى اتصل ما بيننا وبينهم، وسرعان ما توثقت رابطتهم بنا حتى كانت أساس تزاور بعد وصولنا جميعا إلى لبنان.

واتصل ما بيننا وبين باقي المسافرين شيئا فشيئا، وكان من بينهم جماعة من المصريين عرفناهم رجال كياسة وأدب ولطف، وصارت المركب أشبه بمنزل تقيم فيه عائلة واحدة، فارتفعت الكلفة إلى حد كبير ما بين الأشخاص، وأمضينا ثلاث ليال ويومين ناعمين مطمئنة نفوسنا بعيدين عن ضوضاء الناس وضجتهم، قانعين بدارنا المطمئنة فوق ظهر الماء، سعداء بالبحر المستسلم الهادئ، نتبادل أتفه الأحاديث لأنها أكثرها لذة فيروي بعضنا ما لاقى من قبل في لبنان، ويروي آخرون ما رأوا في غير لبنان، ثم يترك الأطفال أمهاتهم ليجيئوا إلينا، فيشعر كل منا بعطف على كل طفل ويأخذ معه في الحديث، وكذلك انقضى الوقت ولم نشعر بانقضائه، ومرت الأيام والليالي ولم يشك أحد سأم الفراغ.

تحركت كارينوليا في الساعة الثامنة مساء من بورسعيد، ولما تكد تتخطى أحجار المرفأ حتى هب نسيم البحر قويا رقيقا ينساب إلى نفوس متعبة وصدور مفعمة فينعش النفوس ويخفف أثقال الصدور، وابتعدت السفينة عن الشاطئ رويدا رويدا حتى غرقت أنوار المدينة المصرية في لجة الليل المدلهم، واستردتنا ظلمة ملأت ما بين السماء والماء، واختفى في ثناياها الأفق فجعلنا نلتمسه خلالها، وأرسل كل خيوط أحلامه وآماله تنادي حائرة في هذه المملكة الداجية لولا ما يتخللها من بريق النجوم في السماء ولمع الموج في استحياء، على أن لظلمة الدجى بين السماء والماء جمالا وجلالا لا مثال له في ظلمة جونا نحن أهل الأرض، ظلمة الأرض مملوءة بالأشباح وبالجرائم وبالشهوات وبالمخاوف، فيها الذئاب الضارية من وحش ومن بشر، وفيها هوس الشهوات وهواها وفيها الشر الحلو البريق، وفيها السوء يدبر وينظم، وينفذ أيضا، فهي ظلمة ثقيلة الظل كالحة عبوس الخير في اجتنابها والحذر منها، أما ظلمة ما بين السماء والمساء فمسرى الأرواح المنيرة تشعر بها وتكاد تلمسها، وتجد فيها دائما عزاء للنفس وسكينة للفؤاد وطمأنينة للقلب، هي أجنحة الملائكة حجبت الشمس لراحة ساكني الماء، وتركت أجنحة الشياطين تحجب الشمس لشقاء أهل الأرض.

غرقت أنوار بورسعيد في لجة الليل، وسرت السفينة تخترق أحشاء الليل، وبقي أهلها زمنا يمتعون بهواء الساعة العذب، ثم تسللوا إلى مضاجعهم واحدا بعد واحد، وطلع عليهم النهار والباخرة تسير وقد بدت تباشير الشاطئ فاتجهت الأنظار تجتلي طلائع يافا خلال ضوء النهار.

وكان على السفينة عدد جم من اليهود قضوا ليلهم في عنبر الدرجة الثالثة، لا يفكرون في أنوار بورسعيد ولا في أجنحة الملائكة وأجنحة الشياطين، ولا يطرق الكرى جفونهم إلا غرارا، وتخفق قلوبهم خفقة الطرب وهم في انتظار الصباح على جمر؛ لأنهم وحدهم أشد المسافرين حرصا على بلوغ يافا.

يافا، المرفأ السعيد، مدخل الوطن القومي، باب أرض الميعاد، إنك لن تقدر فلسطين في نظر اليهود كما تقدرها في هذه الساعة التي تنجلي فيها طلائع يافا، انظر إليهم! ... انظر إلى هؤلاء الفقراء في أسمالهم البالية وأطمارهم الرثة وقد طالت لحاهم وأرسلت شعورهم غدائر وغارت منهم الصدوغ والخدود، انظر إليهم يحدقون بعيونهم الحادة يفصل بينها أنفهم الطويل المصفر إلى ذلك الشاطئ المحبوب، انظر إليهم ترهم في نشوة وحشية وجذل مضطرب يصعدون معا فوق سطح المركب ويقفون في انتظار الشاطئ، فإذا بدا الشاطئ انفرجت شفاههم جميعا عن أغنية عبرية هي أغنية السلام لأرض الميعاد فرتلوها وأعادوها، ثم التمس كل واحد منهم إهابه وانتظر عند درج الباخرة لتقله (الشختورة) مع أصحابه فترده إلى التربة المقدسة وتعيده ليطأ في رفق رفات الأجداد، ولينبت من تراث هذه الرفات حياة ناضرة تتجلى فيما تراه إذا نزلت إلى يافا من كروم وبساتين.

رست كارينوليا ثم لم تكن إلا برهة حتى علمنا أن بين أحد اليهود في يافا وبين اللويد تريستينو تقاض حكم فيه ابتدائيا لمصلحة ذلك اليهودي، وقد انتهز مرسى الكارينوليا فأوقع عليها حجزا تحفظيا لم تكن لتستطيع معه أن تغادر مياه فلسطين لولا أن تداخل قنصل إيطاليا وأن قدم الضمان الكافي.

وقضينا يومنا على سطح السفينة ولم ينزل إلى الشاطئ إلا قليلون؛ لأن مينا يافا مشهورة باضطراب موجها مما يجعل العبور إلى الشاطئ فوق الفلائك غير ميسور.

وعاودت السفينة السير في الماء، ورست بنا في حيفا عندما بدت تباشير الصبح.

Unknown page