142

Mudhakkirat Shabab

مذكرات الشباب

Genres

على أن هذا الموجود الحي الجديد لا تبقى حياته ولا يضمن استمراره إلا يوم تتفق الجماعة على التسليم به كائنا بينها، فإن هي لم تسلم به فإما أن تشهر عليه حربا عوانا تنتهي دائما بانتصارها واستئصاله، وإما أن تهمله وتتركه فيبقى ضعيفا ضئيلا يتطلع للحياة ولا يصل إليه من شعاعها إلا مقدار ما يستمهله في الحياة حتى يموت أو حتى ينشر عظيما قويا، وإما تطول الحرب بينه وبين الجماعة بإسعاد بعض قوى تعارض الجماعة وتناضلها وتشغلها بعض الشيء عن إماتة هذا الخلق الجديد وإفنائه.

وهذا الحال الأخير هو شأن المبادئ والمدنيات التي يدخلها متحكم أجنبي في بلاد محكومة، تبقى روح الجماعة تناضل هذه المبادئ والمدنيات إلا ما كان منها متفقا مع أي إيمانها الخاصة، أو مرتبا لأحياء موجودة فيها ومستعدة للظهور، هذه الأجزاء من المدنية الجديد تبقى وتندمج في نظام الجمعية المحكومة، ولكن ما سوى ذلك لا يمكن أن يألفه الناس أو أن يدخلوه في أي إيمانهم؛ لتتحكم مدنية الغرب ما شاءت في أقطار الشرق، فلكل أمة من أمم الشرق عقائد وآي إيمان ومبادئ وأنظمة حيوية مهما قسرتها القوة فهي تبقى تناضل ولا يمكن أن تموت أبدا؛ فإن طبيعة الأرض والجو وآلاف الأجيال التي مرت بالناس تضمن حياة هذه المبادئ. بلى، ولئن استئصل السكان الأولون وأحل محلهم سكان آخرون فإن بقايا مهما قلت من المبادئ القديمة تبقى وتقوى، ولكن إذا لم يتم الاستئصال فإن النواة لا يمكن تغييرها؛ ولهذا نرى الشرقي إلى اليوم مهما كان متورطا في الربا أو في الخمر أو في بعض ما لا تشمئز منه المدنية الأوروبية، ولكنه محرم بقواعد اجتماعنا نحن يشعر دائما في أعماق قلبه كأن صوتا يناديه: تعسا لك أيها الشقي، أفما ترجع عن غوايتك! هذا الصوت هو الضمير المنطبعة فيه آي الاجتماع ويتوارثه الأجيال خلف عن سلف حتى آخر الدهر.

ولو أن المدنية التي تحمل الحرب الحاضرة بين جنبيها وهي تتمخض اليوم عنها ضمنت ما يقوله أنصار التقدم من حرية الشعوب؛ لقامت هذه المبادئ المضغوطة في الأمم المحكومة تستعيد نفسها وتضمن معها الأمم صاحبتها تقدما مبنيا على قانون التطور المعقول.

من ذلك كله يظهر أن احتجاجات بعض الذين يتقدمون للكتابة في مسائل الاجتماع، ويتعرضون لقانون سلطة الجمعية على الفرد منكرين هذه السلطة وحكمها العام ليست إلا صيحات شعرية مبنية على ملاحظات مبعثرة، لم يستطيعوا خلق الصلة بينها وبين غيرها فأخطأ استنتاجهم منها وفسد الأساس الذي أقاموا عليه رأيهم.

والآن نرجع بعض الشيء إلى إثبات نظريتنا المتعلقة بالمسؤولية من طريق النظر والتاريخ، وغرضنا من ذلك أن نصل إلى موقف فكرة المسؤولية الحاضرة في مصر وفي أوروبا، حتى إذا درسناه من طريق الفلسفتين الاجتماعية والجنائية تبين لنا أن حقيقة هذه الفكرة هي دفاع الاجتماع عن نفسه بالطرق التي يراها منتجة ومفيدة.

وخير ما يبين لنا الطريق الذي تطورت فيه فكرة المسؤولية تاريخ المبادئ الفلسفية وتطور قانون العقوبات؛ فالأول يدلنا على الاتجاه النظرى للفكرة العليا في الجمعيات المختلفة والثاني يبين لنا الطرائق العملية التي كانت تتخذها الجمعيات للدفاع عن نفسها ضد الأفراد الذين يخرجون عليها، وتصور هذه الجمعيات لمسئولية أولئك الأفراد.

ولسنا نرمي لوضع بحث مستوفي في كل من هذين السبيلين؛ فإن ذلك - فوق أنه ليس الغرض من أبحاثنا الحاضرة - هو ينزع بنا منازع تبعدنا عن الفكرة الأصلية فكرة المسؤولية، وإنما الذي نرمي إليه بيان بسيط للاتجاهات العقلية والعملية التي كانت تعد في الماضي، والتي تعد اليوم أساء بناء الاجتماع، وبكلمة أخرى الاتجاهات في هذين الوجهين التي كانت تحدد الصلة ما بين الفرد والمجموع.

الفصل الثالث

كتاب مفتوح إلى لجنة تنقيح قانون الأحوال الشخصية

صديقي مدير جريدة السفور:

Unknown page