وجاء دور محام عجوز مبيض الشعر مجعد الوجه ليس معه بنشه (رداء) لأن كاتبه لم يحضر معه.
فلما رآه القاضي كذلك إذ المحكمة اهتزت وظهر في عين الرئيس الغضب، فصاح في وجه المحامي وأرغى وأزبد وزايله كل أدب أو احترام لحرفة الرجل أو لسنه وكاد يسبه جهارا، والمحامي العجوز مبيض الشعور مجعد الوجه محترم الهيئة يرتجف هو الآخر ولكن خوفا وجبنا، وأخيرا استعار رداء زميل له وبصوت واجف ضئيل نطق بكليمات مرافعته، وانتهى ذلك كله والمحامون جميعا لا يبدون حراكا كأن لم يحدث شيء، وكأن من أهين واحتقر لم يكن زميلا وإهانته إهانة لهم جميعا.
مثل هذا الإرغاء والإزباد من المحكمة سمعته حين تهيج القاضي ضد شاهد ظنه يكذب في شهادته، وكان في هذا اليوم مضاعفا فظيعا مصحوبا بتقلب في عيون القاضي الذي كان يصيح بأعلى صوته ويخبط بيده على المنضدة أمامه فتدوي أركان قاعة الجلسة دويا مخيفا، وبلغ بالشاهد الخوف فلما أمره القاضي بالجلوس إذا هو وقع إلى الأرض يرتعش، وبعد كل ذلك قضت المحكمة بما يوافق الأقوال الأولى التي فاه بها هذا الشاهد.
رأيت حوادث أخرى اجتمعت في ذهني وذكرني بعضها بقول قاسم أمين: أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل.
وفي تلك المدة التي قضيت في المحاماة ثارت الحرب بين تركيا وإيطاليا في طرابلس، واختلطت بسبب هذه الحرب بالصحافة والصحافيين، وعرفت كثيرا عن هذه المهنة وأهلها ومبادئ الأكثرين منهم، وعرفت حقيقة كيف أن منهم «قروشيون» كما قال أحدهم بنفسه «قروشيون» لا مبدأ لهم وهم نصراء كل المبادئ.
ولا أدخل في تفصيلات هذه الحرفة، وكل ما أقول أن حكمي عليها ربما كان أقسى بعض الشيء من حكمي على القضاء والمحاماة.
كان من شأن ذلك كله أن يرهقني ويخرجني من طوقي، فأظهرت شديد رغبتي في مغادرة مصر لأوربا، واشتدت في نفسي هذه الرغبة وجاء يوم أصبحت فيه ضعيفا أمامها مستسلما لها عاجزا عن مقاومتها تصرفني هي كما تشاء، وهي التي دفعتني لأغادر مصر يوم الأربعاء 6 ديسمبر سنة 1911 على ظهر المركب الألمانية: برنس لويتبلد.
18 يونية سنة 1912
سأسافر بعد غد قاصدا مرسيليا فبورسعيد فكفر غنام، وأكون قد قضيت بذلك ستة أشهر في باريس ولندرة، فماذا عملت فيها؟
كتبت التيز
Unknown page