Mudhakkirat Pickwick

Cabbas Hafiz d. 1378 AH
166

Mudhakkirat Pickwick

مذكرات بكوك

Genres

وكذلك فعلت عدة سنين، أي والله عدة سنين طوال؛ إن الليالي هنا طويلة أحيانا، طويلة مفرطة في الطول، ولكنها ليست شيئا يذكر إذا قيست بتلك الليالي القلقة التي كانت تتخللها الأحلام المفزعة، والرؤى البشعة، التي كلما ذكرتها الآن جعلت الدم يجمد في عروقي، لقد كانت تتراءى لي في زوايا الحجرة صور ضخمة مهزوزة، ذوات وجوه ماكرة، وسحنات مستهزئة ساخرة، تقترب مني فتنحني ليلا فوق مضجعي، لتغريني بالجنون وتزينه لخاطري. لقد مضت تحدثني في همس خافت أن أرض البيت القديم الذي مات فيه جدي لأبي ملطخة بدمه، وأنه هو الذي أراقه بيده في ثورة جنون استولت عليه، فكنت أدخل أناملي العشر في أذني حتى لا أستمع إلى حديثها، ولكنها كانت تصرخ في رأسي حتى تدوي أرجاء الحجرة بصراخها، وكانت تقول لي: إن الجنون كان قد هجع وسكن قبل جدي لأبي بجيل من الزمان، ولكن جده هو عاش أعواما مقيد اليدين بالأصفاد؛ حتى لا يتمكن من تمزيق جسده بهما، وتقطيع أوصاله إربا. وكنت أعلم أن الحق هو ما قالت ... كنت أعرف ذلك حق المعرفة، وقد اهتديت إليه قبل ذلك بسنين، وإن حاولوا إخفاء هذه الحقيقة عني. ها، ها، لقد كنت أمكر منهم وأدهى، وإن حسبوني يومئذ مجنونا.

وأخيرا استولي الجنون علي، فعجبت لنفسي كيف كنت من قبل أتوجس منه خوفا، وأنا الآن أستطيع أن أشق طريقي في هذا العالم، وأضحك وأصرخ بين خيار أهله وصفوة بنيه؛ لقد أدركت أنني مجنون، ولكن الناس لم تخطر بأذهانهم شبهة ولا ريبة في أنني كذلك، ولكم رحت أعانق نفسي من فرط السرور كلما فكرت في الخدعة البديعة التي مضيت أخدعهم بها بعد تلك الإشارات التي كانوا يشيرون بها نحوي، والسخرية التي ينظرون بها صوبي، حين لم أكن مجنونا، بل كنت موجسا فقط من أن أصبح كذلك في يوم من الأيام، ولكم كنت أضحك فرحا واغتباطا كلما وجدتني منفردا، وتمثلت في خاطري كيف كتمت عنهم سري، وكم تخيلت أصدقائي المشفقين وهم مسارعون إلى الابتعاد عني، والانفضاض من حولي، إذا هم عرفوا الحقيقة وأدركوها، ولكم هممت بأن أصرخ من فرط اللذة كلما خلوت إلى طعام برجل منهم ضحوك ممراح، وتصورت كيف سينقلب وجهه شاحبا مسفوعا، وكيف سيطلق للريح ساقيه إذا هو عرف أن هذا الصديق العزيز الذي يجلس بقربه، ويشحذ سكينا لامع النصل في يده ... مجنون، أوتي كل القوة ، ونصف الإرادة، في تغييبه ذلك النصل في صميم قلبه. أواه، لقد كانت حياة مرحة مليئة بالبهجة واللذات!

لقد أصبح اليسار في هذا العالم لي، والثراء يتدفق علي تدفقا، وأنا أعربد وألهو بنعم ومتع زادها أضعافا مضاعفة شعوري بسري المكتوم، لقد ورثت عقارا، وخدعت القانون، القانون ذاته المديد البصر كعين النسر، فأين كل ذكاء أصحاب العقول السليمة الحداد الأبصار؟ أين براعة المحامين المدارية الذين لا ينثنون عن اكتشاف نقص ولو يسير، أو البحث عن أقل مخالفة للقانون؟ إن مكر المجنون قد فاق مكرهم جميعا ...

وكان المال في يدي، فكم تملقني الناس وكم تلطفوا، وجروا في أذيالي، ومضيت أنفق بسخاء وأفرط في البذل، ولكم مدحني الناس وأشادوا بي! وكيف ذهب أولئك الإخوة الثلاثة المتكبرون المتغطرسون يتطامنون، ويذلون لي، ويقفون خاشعين أمامي، وكيف جعل أبوهم الشيخ الأشيب أيضا يوليني الإجلال، ويخاطبني بالاحترام والصداقة المتفانية. لقد كان يعبدني عبادة! وكانت للشيخ ابنة، هي للإخوة الثلاثة أخت، وكان الخمسة فقراء وكنت غنيا، فلما تزوجت الفتاة رأيت ابتسامة انتصار تخطف على وجوه أهلها المحاويج، حين رأوا خطتهم المرسومة قد نجحت، وأدركوا أنني وقعت لهم غنيمة باردة، ولكن كان الابتسام أولى به أن يكون من جانبي، فقد كنت أحق منهم بأن أبتسم وأضحك وأقهقه، وأقطع شعري تقطيعا، وأتمرغ فوق الأرض صارخا من المرح والسرور؛ لأنهم لم يكونوا يدرون أنهم زوجوا الفتاة لرجل مجنون.

ولنقف هنا لحظة لنسأل: هل تظنونهم كانوا منقذيها، إذا هم عرفوا خافية أمري؟ أسعادة أختهم أولى، أم ذهب زوجها؟ إن أقل ريشة أنفخها في الهواء لتعدل السلاسل البهيجة التي تعذب بدني.

ولكني على فرط مكري وخداعي كنت في أمر واحد مخدوعا، فلو لم أكن مجنونا؛ لأننا معاشر المجانين على حدة ذكائنا، وشدة فطانتنا، نضل أحيانا وتفوتنا أشياء كثيرة - لأدركت أن الفتاة كانت تؤثر أن توسد تابوتا مظلما، وهي متخشية باردة خامدة الأنفاس، على أن يساق بها عروسا محسودة إلى بيتي الفخم المتوهج الأضواء، لقد كان أولى بي أن أعرف أن قلبها يهفو إلى ذلك الشاب الأسود العينين الذي سمعت اسمه مرة، وهي تلفظه في نومها المضطرب، لقد ضحى بها عروسا لي، لتنقذ من الفاقة ذلك الرجل العجوز الأشيب وإخوتها المتكبرين.

ولست أتذكر الآن شخوصا ووجوها، ولكني أعرف أن الفتاة كانت حسناء، لقد كنت أعرف عن يقين أنها كذلك، فقد كنت في الليالي الصافية القمراء، أستيقظ من نومي، فأشهد قواما نحيلا، وقدا أهيف واقفا حيالي ساكنا، لا يعير حراكا في ركن من هذا المحبس الانفرادي، قوام امرأة ذات شعر فاحم مستطيل، تتدلى ذوائبه على ظهرها، ولا تحركه ريح من رياح هذه الدنيا، وعينين مستقرتين على وجهي، لا تطرفان ولا تغمضان. صه! إن الدم ليبرد في عروقي وأنا أكتب هذه السطور، إن ذلك القوام هو «قوامها»، وإن الوجه الشاحب، والعينين زجاجيتان، ولكني أعرفهما حق المعرفة، إن ذلك القوام لا يتحرك أبدا، كما تفعل الأشباح الأخرى التي تملأ هذا المكان أحيانا، إن ذلك القوام لأشد رهبا، وأكثر رعبا لي من تلك الأرواح التي كانت تغريني بالجنون منذ عدة سنين، إنه قادم من القبر لتوه وساعته، فهو أشبه بالموت كل الشبه.

ولبثت قرابة عام كامل أرى ذلك الوجه يزداد شحوبا، وأبصر العبرات تتسلل إلى خديها الحزينين، ولا أدري لذلك سببا، ولكني اهتديت أخيرا إليه؛ لأنه كان من المستحيل أن يظل خافيا علي طويلا، لم تكن تطيقني، ولم يخطر ذلك يوما بخلدي، لقد كانت تحتقر ثرائي، وتمقت الفخفخة التي كانت تعيش فيها، ولم أكن أتوقع ذلك، لقد كانت تحب غيري، وما كان ذلك ليدور يوما في خاطري، واستولت على نفسي أحاسيس غريبة، وتملكتني أفكار تدفعها إلى خاطري قوة خفية مجهولة، فتدور كالدوامة حول عقلي، لم أكن أكرهها، وإن كنت قد كرهت الفتى الذي ظلت تبكي من أجله، لقد رثيت، نعم لقد رثيت لها، في تلك الحياة التعسة التي قضى بها عليها أهلها الجامدون القساة الأنانيون، وكنت أعلم أنها لن تعيش طويلا، ولكني تصورت أنها قبل أن يدركها الموت قد تلد مخلوقا منحوسا مقدرا عليه أن يورث أبناءه من بعده الجنون المتنقل في ذرارينا، فكان تصوري لهذا كله دافعا دفعني إلى تقرير خطتي، لقد اعتزمت أن أقتلها.

فكرت عدة أسابيع في استخدام السم، ثم الإلقاء في اليم، وبعدئذ في الإحراق، وراقني مشهد البيت الكبير ولهب النيران مندلعة في جنباته، وزوجة المجنون محترقة في ناحية منه مستحيلة رمادا، وتصورت أيضا أضحوكة دفع مكافأة كبيرة، ومنظر إنسان عاقل يترنح في الفضاء عقابا على فعلة لم يأتها؛ وذلك كله نتيجة مكر مجنون. فكرت كثيرا في هذا، ولكني عدلت أخيرا عنه. آه! ما أشد اللذة التي كنت أحسها، وأنا أشحذ الموسى يوما بعد آخر، وأتحسس نصلها المرهف، وأتمثل الدم المتحبس الذي ستحدثه ضربة واحدة من نصلها الرفيع!

وجاءتني أخيرا تلك الأرواح القديمة التي كانت من قبل توافيني، فهمست في أذني أن الوقت قد حان، ودست الموسى المفتوحة في كفي، فأمسكتها بقوة، ونهضت برفق من فراشي، وانحنيت فوق زوجتي النائمة، وكان وجهها مدفونا في راحتيها، فأزحتهما عنه بلطف، فسقطتا متراخيتين فوق صدرها، لقد كانت تبكي؛ لأني رأيت العبرات لا تزال ندية على خدها، وكان محياها ساكنا هادئا، بل حين أطللت عليه أشرقت ابتسامه ساجية على قسماته المصفرة، فألقيت يدي برفق على كتفها، فأجفلت، كأنه حلم عابر ... فعدت أنحني فوقها، وعندئذ صرخت واستيقظت ...

Unknown page