إلى الأستاذ فكري بك أباظة
من الأستاذ فكري بك أباظة
المذكرة الأولى
المذكرة الثانية
المذكرة الثالثة
المذكرة الرابعة
حول مذكراتي
المذكرة الخامسة
المذكرة السادسة
المذكرة السابعة
المذكرة الثامنة
المذكرة التاسعة
المذكرة العاشرة
المذكرة الحادية عشر
المذكرة الثانية عشر
المذكرة الثالثة عشر
المذكرة الرابعة عشر
المذكرة الخامسة عشر
المذكرة السادسة عشر
فين أنت يا حنفي
وفي الختام
إلى الأستاذ فكري بك أباظة
من الأستاذ فكري بك أباظة
المذكرة الأولى
المذكرة الثانية
المذكرة الثالثة
المذكرة الرابعة
حول مذكراتي
المذكرة الخامسة
المذكرة السادسة
المذكرة السابعة
المذكرة الثامنة
المذكرة التاسعة
المذكرة العاشرة
المذكرة الحادية عشر
المذكرة الثانية عشر
المذكرة الثالثة عشر
المذكرة الرابعة عشر
المذكرة الخامسة عشر
المذكرة السادسة عشر
فين أنت يا حنفي
وفي الختام
مذكرات عربجي
مذكرات عربجي
تأليف
سليمان نجيب
إلى الأستاذ فكري بك أباظة
سيدي الأستاذ النابغة
محسوبك كاتب هذا - الأسطى حنفي أبو محمود - من كان له الشرف أن يقلك في عربته مرارا، إما منفردا أو مع زمرة من إخوانك ومحبيك، يرجوك ويتوسل إليك أن تكتب له كلمة صغيرة يضعها في مقدمة مذكراته التي ظن بعضهم أنها جديرة بالنشر.
وأنا لا أرجو ولا أتوسل إلا لأني من المعجبين بقلمك وأدبك، وأنك باعتراف الكل الكاتب الذي تقرأ كتاباته كل الأفراد بلهف وشغف، وأستصرخ ديمقراطيتك أن تحن على حوذيك بكلمة تجعل لهذه المذكرات قيمة.
إنك كريم يا أستاذ، طالما جدت علي بضعف ما أستحقه في «التوصيلة»؛ لأن نظرك البعيد يرى أن بجانب أكل البهايم أكل العيال، ومن كان من أخلاقه الكرم والبحبحة فلا أظن أن يضن على حوذيه القديم بما يطلبه، أبقاك الله وجعلك ظلا لأمثالي المساكين الغلابة، وأنا يا سيدي عبدك المطيع المخلص.
حنفي أبو محمود
سليمان نجيب
18 رمضان سنة 1341
من الأستاذ فكري بك أباظة
عزيزي الأسطى حنفي
أشكرك كل الشكر على حسن ظنك بي، وما كان الأمر يحتاج إلى «الطلب» يا أسطى، كان يكفي أن تأمر فنجيب؛ لأن لك علينا «أفضالا» لن ننساها؛ لأنك لست حوذيا فقط، بل أنت «فيلسوف »، والفلسفة مبجلة في حد ذاتها، برفع النظر عن حيثية المتصفين بها!
حقا، إني لأكتب بعواطفي، لا أتكلف ولا أتصنع، فدعني أهنئك من صميم فؤادي، ولو كان كرباجك كقلمك لفاخرنا بك أعظم الأسطوات في جميع القارات!
تتبعت كلماتك كلها، وكلما قرأت واحدة استفزني الشغف بأسلوبها إلى انتظار الأخرى على أحر من الجمر، فرأيت «خفة الروح» تنساب بين السطور انسيابا، ورشاقة العبارات تتدفق تدفقا، فلما أخذتني الغيرة من ذلك الابتكار والتفنن؛ واسيت نفسي قائلا: «إن الأسطى حنفي لم يأت بشيء من عنده؛ لأن هذه «نفثات» الأنفاس بلا جدال، وهو مشغول «بالكر» نهارا وليلا «وبالشد» صباحا ومساء، ومن كانت هذه أدواته وحواشيه فمن يستطيع أن يماشيه؟!» «يمينا» يا أسطى، لست أحابيك ولا أداجيك، إنما أقرر الواقع، لقد «لذعت» بكرباجك العظيم ظهور المتهتكين والمتهتكات، المتحذلقين والمتحذلقات، وقديما كان الكرباج أداة التهذيب والتأديب، ولكن كرباج العهد الغابر كان يسيل الدم ولا يجرح النفس، أما كرباجك أنت فلا يسيل الدماء، ولكن يجرح النفوس، ونحن إنما نريد معالجة الأرواح لا الأبدان، فشكرا لك يا طبيب النفوس.
لا تفكر كثيرا في الأزمة يا أسطى، ولا تطمع، وما دام علفك وعلف أولادك ومواشيك موجودا فاحمد الله، وما دمت فليسوفا فليكن جيبك «فاضيا» كقلبك، ألا تعلم أن من تصدى لتهذيب الجمهور وجب أن «يدوسه الجمهور»؟ انظر «يمينك وشمالك» بسكوت، «وطبق» النظرية تجدها صحيحة، «فسر» في طريقك هادئا، ولا تجمد في «موقفك»، وأسمعنا «طرقعة كرباجك» فقد اختفى صوته من زمن بعيد، ولكن حذار أن تدفع أو «تجمح» فتكون التوصيلة «للواحات»!
أي عزيزي الأسطى: إن أمة حوذيتها مثلك لجديرة بأن «تركض» ركضا، و«تربع» إلى مطامعها لا تلوي على شيء في الطريق.
إني لفي غاية الشوق إلى كتابك، فهيا و«حضر» الملازم بسرعة فينتفع الجمهور، وأنا في انتظارك فلا تتأخر علي.
فكري أباظة المحامي
حاشية: طيه «اللي فيه القسمة» أرجو قبوله مساعدة في الطبع.
فكري
وصلني المبلغ، قدها وقدود يا سي فكري، مش جايب الكرم من بره، والعرق دساس يا أستاذ.
محسوبك حنفي
المذكرة الأولى
لم يكن الأدب أو صنعة الكتابة قاصرة يوما ما على طبقة دون غيرها، فلا تظن أيها القارئ أو يتسرب إلى ذهنك الشريف ساعة ترى إمضائي تحت هذه المقالة أن أديبا تعدى الحد فتنكر تحت نمرة موهومة، ورخصة غير موجودة، فتبوأ مقعد سياسة البهائم، وابتدأ يروي للقراء ما مر عليه وهو جالس على كرسيه مفتوح العين لما هو أمامه، منصتا بأذنه إلى ما يدور داخل العربة، مشاهدا في توصيلاته المختلفة غرائب الغرائز ومتباين الأخلاق.
صحيح أني نشأت في وسط كله عربات وخيول «بلدي ومسكوفي» وجو لا تسمع فيه إلا طرقعة الكرابيج وإصلاح «الحداوي»، ولكن ذلك لم يمنعني أن أنشأ ميالا إلى الأدب والكتابة والمطالعة وقراءة الأخبار السياسية، فلا أنسى أن أبتاع مع شعير البهائم وبرسيمها جرائد المساء، بل أكثر من ذلك أيها القارئ، طالما فاتني في كثير من الأوقات زباين سقع لانشغالي بالسياسة والأدب في الموقف، بينما رفاقي عيونهم متطلعة تصطاد الزبون من آخر الشارع.
والأدهى من ذلك أنني كثيرا ما كنت أهم بالمناقشة مع بعض الزبائن أيام الاضطرابات والإضرابات، تلك الأيام التي كنا - نحن العربجية - نسمع فيها كل ساعة رأيا على اختلاف المبادئ والنزعات، لولا خوفي أولا من عمال قلم المرور، ورذالة سحب الرخصة، والنتائج التي تجرها على رأس مسكين مثلي من «تفويت وغيره» وثانيا اعتقالي ومحاكمتي وسجني ولا من شاف ولا من دري.
نهايته، كان حكم الوسط علي قاسيا، فقد أجبرت لأسباب - لا لزوم لذكرها - أن أخلف والدي - رحمه الله - في الانتفاع بعرباته العديدة وامتطاء إحداها، كان ذلك منذ عشر سنين، أي قبل الحرب أو «الحماية» على الأصح، وقد تمكنت من طريق مهنتي أن أطلع على أسرار كثيرة منها المضحك ومنها المبكي، بل لقد شاهدت من الروايات التي تمثل كل يوم أمامنا ما هو حقيقي، ليس للوهم أو الخيال أثر فيه، ومحادثات «تزانيق وخلافه» كنت مجبرا على سماعها.
وكثيرا ما كان يودي بي انتباهي لسماع ما يدور داخل العربة من حديث مسموع، وحديث صامت، وهذا الحديث الأخير ينتهي عادة «بطرقعة» بسيطة هي نتيجة تقابل العيون والأنف وما تحتهما، وأن هذه الحوادث مثلها في عربتي أشخاص كثيرون من الجنس الخشن والجنس اللطيف، وآه وألف آه - أيها القارئ - من هذا العنوان الذي يضم تحته «الملايات اللف والحبر والمناديل الإسطامبولي والمنتوهات والبرانيط» ووالله لقد شاهدت عيناي من فصول رواياته الممتعة ما كان ينسيني في بعض الأحايين نفسي، وتكون النتيجة مخالفة «وكع يا حنفي».
وبما أن عربة الواحد منا «كبرج بابل» طالما امتطاها الآلاف، فقد تعودت بنظرة واحدة للزبون أن أعرف قيمته الأخلاقية، وبما أن حكمي هذا أصدرته عن تجربة واختبار، فاقرأه - أيها القارئ - بعين العظة واسمعه بأذن الاعتبار:
فكم راكب في المركبات تجره
ولو تنصف الأيام كان يجرها
وإليك أيها القارئ العزيز أصناف الزبائن المختلفة، فقد يحدث في بعض الأحايين أن ألتفت فأرى زبوني جالسا مستقيما، كأنه ينتظر حكم القاضي عليه مصوبا نظره إلى آخر سترتي، فأحكم عليه أنه ركب عربة للمرة الأولى أو الثانية على الأكثر، وإذا رأيت سعادته جالسا على يمين العربة فهو متكبر متعجرف، أما أسيادنا الذين إذا ركبوا معنا أرسلوا رجلا في ظهورنا وعكفوا الأخرى عليها واستلقوا على ظهورهم، فهؤلاء مخنثون ينسى الواحد منهم أنه في طريق عمومي له آداب يجب أن يراعيها.
وكثيرا ما تصادف عربة تسير وراكبها سارح يشخص بعينه إلى السماء، فهو أحد اثنين: إما حبيب «واقع طاظة» أو بخيل يحسب المسافة بالمتر والياردة ليحاسبني بالبارة والمليم، أما إذا رأيتنا - نحن العربجية - نتسابق إلى واحد من أسيادنا وقد أشرف علينا في الموقف، فاعلم أنه وارث يبعثر ماله ذات اليمين وذات اليسار.
هذا ما أمكنني نشره كمقدمة بسيطة لمذكرات، إذا وسعها صدر الكشكول، فستصدر كل أسبوع بإذن الله بدون انقطاع «سواقة جد»، أمهرها بإمضائي واسمي الصحيح «الأسطى حنفي».
وهكذا أصبحت في بعض الأوقات أجمع في عربتي بين زبائني وقرائي، وأكتب لهم بكل حرية بدون قيود المخالفات وأوامر «ولع فانوس ورا» و«إوعى الملف».
فإلى الملتقى، إلى الأسبوع المقبل يا حضرة الزبون الفاضل، ولا تنس أنك تقرأ حقيقة كتبها لك في ساعة فراغه العربجي الأديب.
الأسطى حنفي أبو محمود
المذكرة الثانية
ابتدأت حياة المهنة بالعمل نهارا؛ لأن تعرضي وأنا جديد للخدمة الليلية لا يمكن احتماله بالنسبة لما كنت أسمعه من زملائي عما يصادفونه من الحوادث التي تضيق منها الصدور، وتحتاج إلى «نفس طويل» وبال هادئ، وتمرين على البهدلة من كل لون.
فكم يخفي الليل تحت ستاره، سكران «ألسطة»، يركب مع الواحد منا ويأمره بالسير، وبعد ذلك «يتلوق» فلا يمكن حتى الإسعاف أن تعرف منطق لسانه ولا أين يسكن، بل إلى أي جهة يقصد، والواحد منا حيران بين الالتجاء إلى البوليس وتفويق صاحبنا على حساب الحكمدارية أو «دلق» هذا الزبون الفاضل على أقرب رصيف، وفي كلا الحالتين لا يعلم إلا الله كيف يمكن أن نتحصل على الأجرة.
وأما إذا كان «نصف لبة» فانتظر منه أن يتداخل معك أو مع من هو في صحبته في كل شيء في السياسة والأخلاق والآداب والغراميات وصلاحية الفول عن البرسيم بالنسبة للبهائم.
وإذا توقفت إلى خدمة شاب من شباب العصر الأغنياء، فيجب أن أحتمل ممن يسيرون وراءه من سكرتارية وهواشين وأونطجية أنواع النكت الباردة والتعرض لما لا يعنيهم، وأما إذا كنت ممن غضب الله عليهم، وحنن عليك بنفر من جنود جلالة الملك «أيام الحرب طبعا» وهم «مشقعين» وأمروك بتوصيلهم إلى ضاحية من الضواحي «العباسية أو الجيزة مثلا» فثق أنك ستتعلم منهم في فن الزوغان أحدث الطرق، وإذا خطر لك أن تتعرض لأحدهم طالبا حقك أعطاك إياه لكما ورفصا، وجعلك تتعلم آداب المطالبة بطريقة إنكليزية، بعد هذا كله يا حضرة القارئ الكريم كنت أفضل عمل النهار، وكم في النهار يا سيدنا من حوادث وروايات! ففي الصباح تشتغل على أسيادنا الموظفين «السقع طبعا» وهؤلاء فيهم الجواد الذي يعطيك فوق ما تستحق، وفيهم المدقق الذي يدفع لك بالمليم، وإن تكلمت كانت الداهية السوداء، وبتداخل عسكري البوليس تنتهي المسألة على أخذ الأجرة من عسكري النقطة أقل من الأول؛ لأن الفرق أخذه جنابه قيمة أتعاب .
وفيهم من يناديك بكل كبرياء وعجرفة، وهو لا يملك في جيبه الأجرة، فكم حصل كثيرا أن يركب معي بعض هؤلاء ويأمرني بالسير إلى المالية أو الحقانية، وفي الطريق يصطاد هذا الوجيه «الذي أحس بأطراف حذائه في نصف ظهري» موظفا آخر يكون سائرا على قدميه وفي حاله، فيدعوه للركوب معه، وبطريقة غريبة ينتقل معه من حديث إلى حديث إلى أن يداهمه بطلب جنيه «سلف لله» وإن اعتذر فنصف ريال هو أجرتي طبعا.
وأنا في هذه الآونة متردد بين السير إلى وزارة البيك أو إلى القسم، وفي الوقت نفسه أدعو بالخير لمن دفع، والله يعلم إلى أي نتيجة كانت المسألة تصل لو لم تصادف «المجني عليه» في طريقنا.
وبعد الظهر وفي العصاري إذا كان الواحد منا سعيد الحظ وصادفته توصيلة «مجوز» إلى الجزيرة أو الجيزة أو حدائق القبة يسمع فيها لمبدع مطرب، ويتعلم من الحديث فن السبك كيف يكون، بل كيف يضطر الواحد منا بحكم الصنعة والوظيفة «ورقبته تحت رجليه» أن يترك لهما حرية الحديث والتنهد والتقبيل والبكاء والهمس والعتاب.
واسمع ما شئت من أقسام الحب «الطاهر» وأنه يقاسي الموت في البعد عنها، ويسهر ليله وينام نهاره، أما هي فإنها أصبحت «بالرغم من 95 كيلو وزن» مريضة بسببه وانسأمت وربما ماتت ضحية لهذا الغرام الشريف.
وفي أثناء الحديث يا حضرة القارئ تمر على ألفاظ جديدة في اللغة، فأسمعها تقول «حبوب» «وتوتو» وهو يقول «قطقوطة» ولا أفهم لها معنى، ولكني علمت أن لكل مقام مقال، بل قد تعودت إذا سمعت أحدهما يتنهد أن أقلده، وهكذا يصبح الجو كله غرام وحب، وينطبق علينا قول القائل «كلنا في الهوى سوى» ولكن المصيبة أنني أجهل من أحب.
ولا أراك الله أيها القارئ الكريم الحوادث التى تنتهي «بغم»، وربنا ما يوقعك في يد البوليس إلا طارف، فكثيرا ما تتفق قلة الحوادث مع قلة الأدب، فيضطر إما أن يأخذ إجراءته أو يأخذ ... وتنتهي الحادثة على خير وسلامة.
وكما أن للاجتماع آداب وللحديث آداب، فلنا معشر العربجية آداب أيضا نتبعها في أمثال هذه التوصيلات، فيجب أولا السير بهدوء في الشوارع الخالية ليظهر الفرق الكبير بين الفسحة في عربة ومثيلتها في أتوموبيل أجرة، بل يجب أيضا الانتباه إلى أوامر الزبون، فربما كانت غلطة صغيرة كافية لعكننة مزاجه فينتقم جنابه من الأجرة في شخصي، وتنتهي الرواية على حسب الظروف إما بمأساة أو بفصل مضحك يتداخل فيه الجمهور، وتحلو وقتئذ النكت الرائقة «وعينك ما تشوف إلا النور».
هذا ما عن لي أن أدونه هذا الأسبوع، فإلى الملتقى يا حضرة الزبون الفاضل، فسأوافيك في القريب العاجل بأخبارنا أيام إضرابات الترام «رحم الله تلك الأيام!» وتقبل احترامات عمك الأسطى.
حنفي أبو محمود
المذكرة الثالثة
وعدتك أيها الزبون الفاضل بحوادث الاضطرابات والاعتصامات، وبالاختصار أيام العز والمكسب «والنغنغة» أيام أقفرت الطرقات من «التراموايات» وأخذ عزرائيل إجازة غير اعتيادية من الشركة وتهيأت لنا الفرصة، وامتلكنا نواصي الشوارع، وبعد أن كنا نرجو الزبون ونتمسح وننادي بأعلى صوت «آجي يا بيه؟» أصبحنا محط الرجاء، وفي بعض الأحايين كنا نرفض بشدة ما دامت الخيل تعبانة، والجيوب مليانة، والزباين كفرانة.
كانت اضطرابات الترام ربيع أيامنا، فيها كان محسوبك الأسطى حنفي زايط؛ لأن الشغل ماشي والحالة «فل» ولم نكن بعد قد فوجئنا بمصائب الأتوموبيل «التاكس» و«تزانيقه اللي زي الهباب» وثانيا لأني بصفتي صاحب «عجل» في البلد، كنت أفتخر إذا ركب معي بعض كبار رجالاتنا إلى بيت الأمة أو إلى «كلوب محمد علي» فحفظت في هذه الأوقات أسماء معظمهم على حسب الجودة في التوصيلة، أو على حسب الخلقة «والسحنة».
وبالرغم من انتباه الواحد منا «للخواذيق» التي اعتاد فريق الأونطجية أن يلبسونا إياها، فقد حدث كثيرا أنني أوصل نفرا من هؤلاء المزيفين الذين تبدو عليهم الوجاهة من الظاهر فقط إلى «جروبي» ثم أنتظر عبثا؛ لأن حضرة الوجيه «فك» من الباب الآخر، وبما أن المؤمن و«خدامك أولهم» لا يلبس الخازوق مرتين، فقد تنبهت إلى واحد منهم، وبعد أن نزل من باب انتظرته على الباب الآخر، وأثبت له في هذه المرة أنني على الأقل متعلم أفهم أن الدنيا «دايرة».
في هذه الأوقات كان بيت الأمة محط الرحال، وشارع الرئيس المحبوب موقف مختلط من عربات أجرة وأتوموبيلات خصوصية وعربات ملاكي، وقد اختلط صوت النفير بصوت الزمامير، وبين هذا المجموع الهائل الذي كان يغدو ويروح كانت عربة الدكتور محجوب بحصانها «القروشي» كالزنبلك، لا تهدأ دقيقة واحدة في خدمة الوفد وزوار بيت الأمة وطلبة المدارس، وأخيرا كانت سببا في «عكننة مزاج أغلب إخواني» وكثيرا ما كنا «ولا مؤاخذة يا دكتور» ندعو على حصانك بمأمورية في السلطة فنأمن بعد ذلك مضايقاته.
ولا نظن يا سيدي القارئ أنني كعربجي لا أعرف للحنو معنى لأني أحمل أداة التعذيب في يمناي، فلي قلب وإحساس «زي أحسن زبون يعجبك» فقد تألمت لسائق عربة الدكتور، فقد رأيته يأكل على كرسيه وينام أثناء تأدية وظيفته، ويتداخل كالزوبعة في أي مناقشة يسمع فيها لفظة «السودان» وقد كان يقول في أثناء أحاديثه مفتخرا: «أنا سوداني، وفرسي هذا سوداني، وسيدي مدين للسودان بمولده، ومصر حياتها في السودان، ولا حياة لنا إلا من السودان، فليحي السودان ومصر معا.»
في هذه الأيام أيضا جمعتني الصدف بالأستاذ «المقلفط» تشريفاتي استقبالات معالي الرئيس
1
وسكرتير لجنة استقبال دولة الرئيس،
2
وخطيب وفود دولة الرئيس،
3
هل عرفته أيها القارئ؟ إنه «مثال القوة الناطقة من غير إرادة سابقة» ألم تعرفه بعد؟ هيه، إنه أحمد بك الشيخ، بطل مجلس المديرية في إقليم الغربية.
ظهر صاحبنا على ما أظن في الأيام الأخيرة، ولدته الأيام:
والليالي من الزمان حبالى
مثقلات يلدن كل عجيبة
فوصل إلى رتبته من طريق مجلس المديرية، وعرف كيف يظهر على صفحات جريدة الأهرام «باللت والعجن» وأخيرا بالدخول في غمار «ليحي الاستقلال».
ابتدأت حياته السياسية «بلا رئيس إلا سعد» ثم تحول قليلا إلى صيحته «عدلي فوق الجميع» ثم ظهر في خطبته بعد ذلك أن لا حياة إلا لثروت، وهناك وقف؛ لأن «التالتة تابتة» والله أعلم أن المسألة ستنتهي على ما يرى نظري القصير «بلا رئيس إلا ما تقتضيه الأحوال».
ركب معي من بار اللواء، وقد كان خارجا من إدارة الأهرام بعد أن «تمطع» طبعا، وسخ الجمهور مقالة من أفكاره «وربنا يسامح داود بك بركات» قال لي بصوته الرنان الذي يصلح لترتيل سورة الكهف يوم الأحد. - فاضي يا عربجي، سوق على بيت سعد باشا، وسكت هنيهة ثم نظر إلي بتأن وقال: بسرعة ألا مفيش وقت. فلهلبت الخيل، وفي أقل من لمح البصر كنت أمام بيت الأمة، نزل البيك بدون أن يدفع الأجرة، وانتظرت وأنا - وهنا يحلو الحديث والمسامرة - ومرت ساعة بدون أن يخرج فضيلته، وضاع مني زبائن كثيرة، وأخيرا طلبت بواسطة أحد الخدم أجرتي لأنصرف على الأقل، فأخبرني أن أحمد بك ليس له أثر في بيت الأمة، كيف خرج؟ بل كيف زاغ؟ هذا ما لا أدريه بالرغم من أني لم أنم مع وجود عربجي الدكتور محجوب نائما بجانبي؛ لأنه - على ما قاله لي - أوصل سيده متأخرا ليلة البارحة، وأخيرا خرج فراش معالي الرئيس، ودفع الأجرة أكثر مما أستحق، وهكذا كان بيت الأمة يدفع من مال الأمة «لجدعان» القضية الوطنية حتى أجرة عرباتهم.
تصادف بعد ذلك أنني أركبته مرارا بعد ذلك، وأذكر من أطيبها موقفا أيام كان الخلاف بين معالي سعد باشا ودولة عدلي باشا وأحمد بك معروف حتى في دوائرنا نحن أنه سعدي صميم.
ناداني في ميدان الأوبرا، وقد كان ساهما مفكرا، وقال لي بصوته الرخيم: سوق على بيت سعد باشا، لا يا أسطى بيت عدلي باشا، أيوه أنا قلت لك سعد باشا.
فظننت، ولست من أولياء الله، أنه يريد بيت الأمة، ولم أعلم أنه يستفهم مني بسؤاله الأخير، فما وقفت أمام بيت سعد باشا إلا وأحمد بك قد رفع الكبوت، وهو يقول بصوت واطي ولكن بحدة: يا ابني ... أنا قلت لك بيت عدلي باشا مش سعد باشا، سوق بلاش فضيحة، الله يفضحك يا غبي، فسرت وأنا أضحك في سري، أضحك؛ لأن وجود هذه الشخصيات الجوفاء على مسرح السياسة في كل أمة لازم لتفريج الهم عند نزول الضيق:
وإذا كانت النفوس كبارا ... ... ... ... «وكمل يا أحمد بك».
وصلنا إلى منزل دولة عدلي باشا، وأخذت الأجرة بطلوع الروح؛ لأنه أراد أن أنتظر، وتشبثت بعدم الانتظار، «فكع» التوصيلة بكل هدوء؛ لأن قصر الدوبارة ليس كشارع عماد الدين، وكما أن هناك أحياء مباح فيها الصريخ والعويل، فهناك أحياء لا يجوز فيها حتى الهمس، وأحمد بك زكي ونبيه يعرف كيف يتخلص.
وقد دفع بعد أن نظر إلى نمرة العربة، وأنا أراهن أنه نسيها في دقيقة لانشغال باله بتحضير ما سيقوله لدولة الرئيس.
سرت وأنا متأكد أن الأزمة ستنفرج «زي كل أزمة» وستنجلي عن رئيس آخر غير عدلي باشا طبعا، وسيكون من يوصل أحمد بك إلى منزل صاحب الدولة الجديد إلى بولاق الدكرور محسوبكم الأسطى حنفي، وقد كان - أيها القارئ الأديب - هذا آخر عهدي به، فلم أره إلا في أوتوموبيلات «فينو» وكان يمر علي بدون أن يعرفني وأنا في موقفي كما يمر الغزال الفريد.
والآن إلى الملتقى أيها القارئ الأديب، ففي هذا الكفاية وإلى الأسبوع المقبل.
المذكرة الرابعة
رمضان كريم أيها القارئ الأديب، والزبون «الفينو» رمضان الخير وفسح «الضلمة» شهر الحرية وتزاور الليل، وما ينطوي تحت ذلك كله من أسرار تقع في يد مثلي، فلا يصونها ويعرضها عليكم، فكل عام وأنتم بخير.
هذه تهنئة محسوبك حنفي يا زبوني الفاضل، أرجو أن تقبلها بنية حسنة، ولو أنها صادرة من قلبي «الديمقراطي» إلى سادتي وأسيادي بين مذكر ومؤنث، وأنا لا أطالبهم إلا بدعوات صالحات، تقيني من خوازيق قلم المرور وقسم الرخص.
حديثي اليوم كله يختص تقريبا بسيداتي أبطال كل قصة في العالم، والتي لا تروق حكاية، إلا إذا كان لهن فيها أثر، وبالاختصار بالجنس اللطيف، بالملايات اللف «المنقرشة» والحبر «الكريشة والأبلسيه» والبرانيط من مختلف النحل والملل، ولا يحلو الحديث إلا بذكر ...
تصور معي الدنيا في العصاري، والوقت رايق «بلوزة» وموقف الست «الباتعة» أم هاشم به خمس عربات أنا على إحداها، استلفت الأنظار بنشاط خيلي ونظافة مركبتي، وإذا بثلاث سيدات «يا سيدنا» قام لهن الميدان وقعد، تقاسمن الجمال والخفة «والشخلعة» وقصدن عربتي بكل تأن، ويا سيدي على التلاقيح والنكت من رايق وبارد حتى من زملائي، فقد سمعت واحد منهم يقول: حلال عليك يا حنفي مين زيك يا أخويا!
وآخر يرد عليه قائلا: على مهلك يا عم، معلوم يحق لك مركب الأنس واللطافة!
وبالاختصار خرجت من الموقف في «وسط زفة» إلى شارع خيرت طبعا، وأنا أظن أني ذاهب بحضرات «الدرر المصونات» إلى زيارة أو على الأكثر إلى شيكوريل، وإذا بإحداهن تأمرني أن أقصد تيرو روض الفرج.
التيرو؟ أقسم لك أيها القارئ أني غالطت سمعي، وسألت مرة ثانية قائلا بعد أن أحنيت رأسي لأسمع: سيادتك بتقولي على فين؟ - شيء غريب! على التيرو، أنت ما بتسمعش؟
والله ما كان يخطر لي على بال أنا العربجي الذي أقضي أكثر أوقاتي في معاشرة البهائم أنه يقصد سيداتنا عمدا مع توفر «سوء القصد أو النية».
وفي عصرية من رمضان هذه البؤر التي أولها «أونطة» وآخرها موت وخراب ديار مع ما يتخلل ذلك من إراقة ماء الوجه، وبالاختصار يسدل الستار أخيرا على بيع العرض، و«طيران» العقل، وخراب البيوت المستعجل.
سارت الخيل تسابق الريح حسب الأمر، وأنا أحدث نفسي قائلا: والله طيب يا حنفي، ياما لسة نشوف، ثلاث سيدات من صميم الأحياء الوطنية يخرجن من بيوتهن، ويسافرن إلى آخر القاهرة بقصد المقامرة، ومهما كسبت الواحدة منهن فهي أولا وأخيرا «خسرانة خسرانة» ولكن أنا مالي «سيبك» الأجرة مدفوعة «وليحيا الرجال العاملون».
ووصلن التيرو أخيرا، ونزلن بسرعة، وأمرتني بالانتظار، ولا أطول عليك، فقد خرجن «يا ربي كما خلقتني» ويظهر أن ترمومتر الخسارة هبط إلى درجة عدم وجود أجرتي؛ لأني سمعت واحدة من الثلاثة تقول: نفوت بقى على ... هانم في شكولاني ناخد منها جنيه «ثم بصوت واطي» نديله أجرته ونصرفه، وقد كان، وسترها ربك، وخلصت بأجرتي من مال السلف.
إني أحس بالاندهاش يعلو أساريرك أيها القارئ؛ لأن ربات البيوت عندنا وصل بهن الأمر إلى المجازفة حتى بمصروف البيت مثلا، ولكن يظهر أننا تقدمنا في كل شيء حتى في الجراءة «والوقاحة» إذا شئت، وإليك الحادثة الآتية دليلا لا أنساه على ما نحن فيه وما وصلنا إليه.
كنت سائرا في شارع خيرت، فنادتني سيدة «بملاية لف» هي مثال الحشمة والأدب، تظهر عليها آثار النعمة والوجاهة، وبيدها نسخة من مقطم المساء، ركبت معي بكل تؤدة، وأمرتني أن أسير بها إلى شارع بولاق، وهناك أمام دكان شملا، والعالم يموج موجا، نزلت سيدتي المهذبة صاحبة العفة.
ولكنها لم تكن هي التي ركبت معي، فقد تغيرت كل المعالم فاختفت الملاية اللف، ولم يبق أثر للبرقع الأسود ولا القصبة المذهبة، ورأيتها بحبرة وبرقع أبيض، وفي يمينها جرنال المقطم ملفوف فيه رداء التنكر الذي خلعته.
ولاحظت هي دهشتي، وتكذبني عيناي وخوفي من أنها ربما كانت من قلم المخابرات، فنظرت إلي قائلة: خذ الأجرة، الله! جرى لك إيه يا أسطى؟ - أنا ما جراليش حاجة يا ستي، لكن أنت إيه اللي جرالك؟ - امسك أجرتك وبلاش قلة حيا، أما مجنون!
واختفت من أمامي داخل محل شملا، وأنا لا أزال منذهلا! أفكر وأبحث عن الأسباب التي ألجأت هذه السيدة إلى تغيير وتبديل شكلها، وأخيرا نبهني زميل لي لاحظ الحادثة قائلا: ما لك مبلم يا بو محمود؟ يظهر إن الست اللي معاك عصبية قوي! - عصبية إيه يا عبد الغني، دي ركبت بملاية لف، ونزلت بحبرة، خذ بالك منها، يمكن تطلع لابسة برنيطة، أما الستات دول نكتة قوي، سعيدة.
نعود إلى سيداتنا بطلات التيرو، لقد تركتهن ومدفع رمضان على وشك أن يؤذن لعباد الله الصائمين بالإفطار، فركنت بجانب كوبري شبرا، وغيرت ريقي على اللي فيه القسمة، وبعد السيجارة صعدت متمهلا جسر شوبرا، ووقفت بجانب محطة المترو، وما مرت دقائق حتى شعرت بمركبتي تهتز قليلا، فالتفت وإذا «بآنسة» من اللاتي يقصدهن الشاعر في قوله:
صوني جمالك عنا إننا بشر
من التراب وهذا الحسن روحاني
أمرتني بالمسير قليلا إلى أن اكتنفنا الظلام تحت ظل شجرة كبيرة، وأمرتني بالوقوف، ولم يمض علينا أكثر من عشر دقائق حتى رأيت شابا يقترب منا متمهلا، وبيده سبحة كهرمان «واخد بالك» قال يعني خارج من تراويح إلى تراويح، وقفز بجانبها «ولا سأل عن محسوبك أو عبره» وبصوت الأمر أصدر إرادته الكريمة بالذهاب إلى الجزيرة، ووقفنا قليلا لتأدية واجب الزيارة للبار الصغير بجانب سميراميس، تبادلا فيها مقدمة الحديث على رنين الكأس، وسرنا بعدئذ على بركة الله، ورنت القبلة الأولى في أول تحويدة بعد الكوبري والليل هادئ ساكن، وسمعت تنهيدة خرجت من قلب ستي لخبطت كياني، وأردت أن أستعيد مركزي فأسرعت الخيل، وقال لي جنابه: على مهلك يا أسطى إحنا مش مستعجلين. - العارف لا يعرف يا بيه، بس الخيل جامدة شوية، ومش على بعضها، آه، فتهامسا وضحكا، ورنت القبلة الثانية، فقلت في نفسي: قسمتك يا بو محمود، واللي مكتوب على الجبين تسمعه الودان، وقضا أخف من قضا.
فدار الحديث، وللحديث شجون، فكان يلقبها بتوتو، وهي تناديه «بسوسو» ويستولي عليهما عفريت الحب والغرام، إلى أن يلمحا خفيرا أو شويشا، فينقلب الحديث توا إلى القطن والعزبة والناظر الجديد، ومركز الوزارة، وقانون التضمينات إلى أن يمر الخطر، فأسمع منها: هئ هئ، ويعودان لتوتو وحبوب، وأنا سايح «شفهيا» مستسلم بحكم المركز والوظيفة، متأكد أن أبي - رحمه الله - رأى أضعاف ما رأيت، ولكن ما باليد حيلة، المسألة وراثة.
وتنبها من حلمهما اللطيف نصف الليل، وأنا من شارع إلى آخر في الجزيرة والزمالك، وسمعتها تقول له: نرجع بقى أحسن بابا يرجع قبلي، يمكن يزعل.
فقلت في نفسي كأني أرد عليها: والله يا ستي لا يزعل ولا حاجة، يعني هو مش حاسس!
وبالاختصار، وقفنا في ميدان الأزهار، فانتقلت إلى عربة أخرى «كالعادة طبعا» فأوصلت البطل إلى مأواه، وقصدت منزلي توا؛ لأن السحور منتظر، وأبو محمود مسلم يصوم رمضان ويشوف فيه العجب، وكله «مقدر» يا زبايني الأفاضل، فإلى الملتقى قريبا.
حنفي أبو محمود
حول مذكراتي
كتب أديب في جريدة الكشكول بإمضاء «ابن جلا» يعجب بمذكراتي، ويفتح لي بابا جديدا للكلام، والظاهر أن «سيدنا» زبون من زبائني المدردحين المغرمين بالنقد، المتضايقين مما نحن فيه من «خلل» في الرءوس وفي الأجسام، قال حفظه الله:
أعجبتني مذكرات «الأسطى حنفي، عربجي نمرة ...» لأن حديثه عذب لا يمله القارئ، نفثات وشاها قلم خبير بعللنا الاجتماعية التي وقفتم أنفسكم وصحيفتكم الغراء لاستئصالها.
أري أنه لا يجدر بنا - ونحن الآن في صدر عصر حريتنا - أن نتجاهل ونتعامى عن ما يجري في أرضنا، ويسبح في أثرنا من أنواع المخازي وضروب العار، لقد فكت سيداتنا وأوانسنا من عقال الحشمة والوقار، وما جرأهن على ذلك سوى ... «دعني أصارحك القول، وزرني أرفع النقاب عن الحقيقة المرة المؤلمة» سوى المظاهرات.
ما شاء الله، خطوة كبرى أرجو أن لا تنتهي «بزحلقة» فلقد نالت امرأتنا استقلالها، فصارت لها جرائد تتوسط لها في الزواج؟ ولجنة وفد، وسنرى لنسائنا إن شاء الله برلمان ولجنة دستور؟ فهل لسادتنا السفوريين من مطلب آخر؟
هذا ما سيخبرني عنه «الحاج حنفي» لأنه - ولا شك - «داير» والأخبار ترد إليه أول بأول:
والليالي كما علمت حبالى
مثقلات يلدن كل عجيبة
لقد رأيت الفتية يجلسون على حجر «الستات» وبأيديهن الأعلام يلوحون بها في الفضاء أيام المظاهرات، وأظن - بل أؤكد - أن الحاج حنفي «ركب» في مركبته - عينات وارد الثورة.
وأرى من تتبع مذكرات «الحاج حنفي» أن هناك أشياء أخرى لا يود سردها، ولكنني أرجوه أن يكون صريحا «في موقفه» وأن «لا يتلجم» فيتحفنا بما رآه وعن له.
بقي شيء واحد أود أن أشكوه - للحاج حنفي - مستطلعا رأيه في علة اجتماعية كبيرة: ما رأيك - يا بو محمود - في صحف تتعيش الآن من النصب؟ تسب الناس لتبتز أموالهم دعاوة للنقد، النقد الصحيح هو أن ينتقد المنتقد عملا يستهجن أو يرى أنه يعود على المجموع أو الأمة بالستر، حتى إذا عاد المنتقد إلى صوابه وعمل عملا نافعا حبذه وشكره ... فهل يصح في مثل عصرنا الحاضر أن يستتر هؤلاء تحت رواء الصحافة البريء، ويبتزون أموال الناس «عيني عينك» أو على عينك يا تاجر.
ابن جلا
هذا هو ما كتبه الكاتب الأديب الذي يود أن يثير بيني وبين سيداتنا حربا لا قبل لي بها، ولا يمكنني أن أتحملها أبدا، أنا «خدامك ومحسوبك» «يابن جلا» فإلى الملتقى في المذكرة الآتية «بس إن عجبك».
حنفي
المذكرة الخامسة
أصبح العربجي أديبا يكتب «ولا حول ولا قوة إلا بالله» اتورطنا - واللي كان كان - لخمة لا نهاية لها، ومع هذا كله يعتقد بعض من أسيادنا - زباين الهنا - أني لست حوذيا، إنهم ينكرون علي ما متعني به ربي، ولماذا؟ لأني أنشر مذكراتي، فابتدأ يظن بعضهم أني أديب تنكر تحت هذا اللقب الذي لا أظن أنه يدخل في عداد الألقاب التي قال عنها الشاعر:
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
وإليك يا سيدي القارئ ما حصل، ركب معي يوم جمعة من كافيه ريش - محام تخرج حديثا، شاب أعرف عنه أنه من إخوان الصفا المدردحين «الذين حفظوا القانون لاتقاء الوقوع بين براثنه» ومعه موظف مسن من وزارة الأوقاف، كان يمثل في هذه المناقشة عقل الشيوخ الذين استحقوا معاشا كاملا منذ سنين، واستبقوه في وظيفته لا لكفاءة خارقة أو مقدرة هائلة، ولكن واسطته «جامدة» وله «ضهر».
ودار الحديث الذي كان تكملة لمناقشة سبقت على ما أظن، قال لموظف بتؤدة: والنبي يا ابني ده كلام فارغ، الدنيا خيرها قل وبقت ماشية بالمشقلب، بقى أنا أصدق إن «حنفي» ده عربجي! ده لازم يكون واحد لسانه طويل، وعاوز يكتب على كيفه، طيب وشرفك يا خوية أنا أعرف موظفين إذا كتب الواحد منهم إفادة بسيطة بسمل وحوقل وقرأ آيات الكرسي، وأبرزها حافلة بالغلط مزدانة بالتراكيب التي تشمئز منها نفس الأديب، ياما حيطان الدواوين بتداري. - كلام طيب، لكن مش بعيد أن يكون عربجي، وأصله تلميذ، وجار عليه الزمان، ففضل الصنعة على الوظيفة وعرف يعيش. - لكن ده مش كويس؛ لأنه حيقطع عيش إخوانه العربجية، أنا والله يا بني أفضل ركوب الأتوموبيلات «التاكس» أفضل؛ أقله الواحد يضمن سره، إن كان مع بربري ولا يوناني.
فقلت في نفسي: والله يا حنفي وجب بيع ميراث أبوك من عربات، وخيول صافنات قبل أن يصبح ثمنها زي التراب، وكفاية عليك ما رأته عنيك وسمعته أذناك.
وانتبهت على صيحة المحامي وهو يقول: اركن شمالك على الكونتننتال يا أسطى.
سرت بعد ذلك، وأنا متأكد أن الأغلبية تتهم غيري بكتابة المذكرات مع أني صارحتهم القول باسمي ومهنتي، ولا ينقص إلا أن أكتب لهم نمرتي، وهنا تقع المصيبة على رأسي أنا فقط، وينتج من ذلك أن رواية مضحكة تبدأ في كل شارع، وكل موقف ومع كل عربجي، فلا يركب الزبون إلا بعد أن يتحقق من نمرة العربية وشخصية العربجي ليأمن على سره من لسان أبو محمود الطويل.
على ذكر المظاهرات، لقد رأيت وشاهدت عيناه - أيها القارئ - فصولا وروايات تكاد تشبه حوادث ألف ليلة وليلة، فكنت أرى بعيني إشارات المواعيد بينه وبينها، والمظاهرة في «حموها» أو تبادل الابتسامات أثناء مرور جنازة شهيد من الشهداء.
كم حملت عربتي بين الهرج والمرج والصياح زبونا من المنادين «بالاستقلال التام» إلى ميعاد بينه وبين «وليفة وطنية»! فنسير إلى خارج البلد ليتشاكيا: الغرام، والنواح، والألم، والبعد على حساب القضية المحترمة، ويقضيان ساعة على المبدأ القائل: «ساعة لقلبك، وساعة لربك، وساعة للوطن.»
ويظهر أن هذا المبدأ كان منتشرا حتى بين الأدمغة الكبيرة، فقد ركب معي من أعرف عنه بروز الشخصية، لا تقام حفلة إلا وله فيها مجال، لا يتم مشروع إلا وله فيه كلمة، ركب معي من شبرد في أيام الشدة - أيام المظاهرات - وبينما أنا داخل شارع المناخ أنادي بأعلى صوتي «أوعى الملف» أوقفني سعادته بإشارة من إنسان على الرصيف.
قلت: إنسان! وسأصفه للقارئ؛ ليعلم حقيقته ... أمثال هذا الآدمي تراهم في أوجه المجالس، يلبسون أنظف وأليق الملابس، ساعاتهم ذهبية، وخواتمهم ماسية، جيوبهم دائما عامرة، كأن لهم ريع ينفقون منه ولا ريع، ينامون إلى منتصف النهار، ويسهرون الليل، إذا سألت عن الواحد، قيل لك: هذا خدام إخوانه، جدع ومهاود، خبير بالجنس اللطيف، وبالاختصار نسميه نحن «مفتاحجي» فبعد أن سلم صاحبنا على زبوني المحترم قال له: أما يا سيدنا البيه عندي لك حاجة النهاردة لكن «هدية». - مين يا ترى؟
همس في أذنه اسما، خيل لي أني سمعته، فقال صاحبنا: أنا مشغول جدا في الميعاد ده ؛ لأن جلسة هامة تستدعي وجودي، ومع كل يمكن أقدر آجي. - إذا اسمح لي «يا إكسلانس» إني أكلم فلان بك في هذا الموضوع؛ أحسن الفرصة تضيع. - أنا متشكر على كل حال يا أبو علي، طول عمرك «جلاب المليح».
وسرنا فأوصلت سيدنا البيك إلى ... وأنا لا أتعجب إلا من صاحبنا الوجيه «البيرا» الذي استوقفنا في طريقنا ... وكم في البلد من أمثاله، يتوسدون الراحة ويأكلونها «أتة محلولة» يتكلم معك حتى إذا مر بالحديث ذكر الشرف والأدب ومكارم الأخلاق، هب يتكلم بأفصح ما سمع آدمي، تراه يشكو الأزمة، ووقوف الحال مع أن تقلبات «أجعص بورصة في أمريكا» لا تأثير لها على بضاعتهم.
يرجع مرجوعنا يا سيدي القارئ إلى ميدان الأوبرا، أيام سافر الوفد لأول مرة، والقاهرة قد أخرجت من بيوتاتها مجموعات مختلفة من سيدات وعذارى وعيال وبنات وخلافه، وتصور محسوبك بعربتي في وسط هذا الخليط من أتوموبيلات وعربات ملاكي «ووردناري» ومعي عائلة مكونة من أربعة أنفار من الجنس اللطيف طبعا، والعلم المصري يرفرف علينا، ونحن نسير بكل بطئ بين الهتاف المتواصل والمظاهرات المختلفة.
وابتدأت الإشارات والابتسامات اللاسلكية بين شاب من الشبان الناهض، وإحدى زبائني، ورأيته وقد اقترب بسرعة البرق حتى صار بجانب عربتي، وانتهز فرصة مرور مظاهرة أخرى، وفي أثناء الهتاف الذي كان يصم الآذان كان «الشاطر محمد» ينادي مع الهاتفين بصوت عال، ويتكلم مع ست الحسن والجمال بصوت واطي بالشكل الآتي: ليحيا الاستقلال التام. - عاوز أكلمك، عاوز أشوفك. - لتحيا السيدة المصرية. - كلمني في التلفون. - ليحيا الوفد المصري. - نمرة التليفون كام؟
ويظهر أن الوالدة انتبهت أن هناك مظاهرة أخرى بجانبها؛ فانقطع تيار الحديث، ثم سمعت الآنسة تقول بكل بساطة لشقيقتها: الله! شوفي يا أبلة، نمرة العربجي زي نمرة تليفوننا بس بدال الخمسة ثلاثة.
وبهذه الطريقة نظر صاحبنا إلى نمرتي، وأبدل الخمسة ثلاثة بالطبع، وانتهت مهمته بعد أن كتب النمرة؛ لأنه يظهر عليه أنه «غبي» ما يقدرش يذكر نمرة، ونظر إلي بعينه الجميلة السوداء كأنه يشكرني بمناسبة نمرتي.
فقلت في نفسي: «الحق مش علي، الحق على المحافظة اللي جابتلي تهمة مش نمرة.»
ووصلنا إلى لوكاندة شبرد، فلمحت الأم على «التراس» بين خليط الواقفين طبيبا معروفا، فالتفتت إلى إحدى بناتها قائلة: مش الدكتور فلان ده اللي واقف جنب الراجل الإنجليزي؟ - والنبي يا نينة مش عارفة يمكن هو، لكن ده أحلى قوي. - وبرده يا بنتي الدكتور خطيته على نفسه شيك، والله هو.
وانتقلا من الحديث إلى الصياح والهتاف، وأنا لا أتعجب إلا من سرعة الانتقال من موضوع إلى آخر، من الهتاف إلى المواعيد، إلى الانتقاد على الخلق والعالم «إحنا ف إيه وإلا ف إيه؟»
وهل يصح أن تستلفت والدة نظر ابنتها إلى جمال إنسان أو قبحه؟ يعني هي ناقصة، موتونا يا عالم.
كان الله في عون الآباء والأزواج، في عون أرباب البيوت، في عون الرجال أصحاب الإحساس الذين شت منهم العقل بين المحافظ على السمعة والعرض من الشباك أو الأتوموبيل، من التليفون أو البوسطة، هذه هي الحقيقة، ولكنها تجرح وتلدع في سكون وهدوء بدون صوت أو فرقعة ككرباج محسوبكم.
الأسطى حنفي
المذكرة السادسة
يظن أسيادنا الأغنياء أن الأزمة لا تأثير لها إلا على طبقتهم، وليه؟ لأنهم - كما أظن ويفهم عقلي الصغير - يرون أننا بجانبهم حشرات صغيرة، تعيش بطبيعة الحال على وتيرة واحدة وحاجياتنا قليلة، وبالاختصار نحن عندهم أقل في التقدير من حيواناتهم.
ولكن وحق من خلقك! ما حد بيطرش الدم إلا محاسيبك يا سيدي القارئ، إذا اشتدت الأزمة وكشر الدهر عن نابه الأزرق، وابتدأ يستبدل أيام الصفا بليالي الغلب، نحن في هذه الحالة نستحق رحمة حقيقية؛ لأن فيما نقاسيه درس من دروس نكبات الإنسانية من الإنسانية.
ترك لي أبي - محسوبك الأسطى أحمد الإسكندراني - عدا الصنعة سبع عربات، وثمانية أزواج خيل، من وارد السلطة، وبواقي تركات وارد مزادات وحجوزات على أولاد العز والبحبحة، حينما تبتدئ الحالة تنتهي وتزنق المداينين عليهم «لحد هنا كويس» ولكن الحال أصبحت لا تحتمل، وابتدأت أكع من اللحم الحي بعد أن انتشرت في شوارع القاهرة هذه السيارات، من كبير كالبيوت المتحركة إلى صغير كعربات اليد، وسمحت لهم المحافظة «حفظها الله» أن تضع رأسنا بين المطرقة والسندال، واحتار الواحد منا بين أكل البهايم وأكل العيال.
حتى في شارع الموسكي - أجارك الله - بقت التوصيلة بقرش، وضعنا، وضاع معنا الصبان، وسوارس دربك، يرحم الجميع.
وجاءت وزارة المالية أخيرا فأضاعت الأمل الباقي لنا في أسيادنا الموظفين بخصم علاوة الحرب، وحليت الركنة في الموقف، وصار الموظف يفضل «لطشة الشمس» ظهرا في إحدى محطات الترام عن لطشة الأجرة من جيبه، وبالاختصار بقى الواحد منا ينده ويقول: «آجي يا بيه؟» ولا فيش بهوات.
فلهذه الأسباب بعت جميع ما أملك إلا عربة واحدة محافظة على «سمعة العائلة» وشرف الاسم، وحبا في صنعة نشأت بين أحضانها، ووجدت نفسي على كرسيها «كرسي لا فيه استعفاء ولا مجلس تأديب».
بل قل: إن هذه الوظيفة بحوادثها لذت لي بين محاضر بوليس خفافي، وأوامر من شفخانات الحكومة، وتلاقيح زباين، وتزانيق طلعت على راس محسوبك «اللي ما يسمى».
الله يعلم بعدد من وضعوا أرجلهم على سلم عربتي، آلاف وآلاف، ولكن بالرغم من ذلك هناك شخصيات يستحيل أن ينساها مثلي؛ لأنها بارزة في شكلها، معرفة من وصفها، لا يصح ذكر الاسم؛ لأن في وصفي لها ما يكفي عن تعريفها.
سأبتدئ بزبون سقع، ظهر حديثا في البلد وأثناء الحرب «جه منين؟ أصله إيه؟ مش لازم تعرف» إنه يسكن حلوان على ما أظن، فطالما أخذته من محطة باب اللوق وإليها في ساعات متأخرة من الليل وصباحا، بيه؟ أفندي؟ ربك يعلم، كل ما فيه أن شخصيته بارزة، فإذا رأيته مرة انطبعت صورته في مخيلتك فلا تنساه.
ضحكاته يسمعها القريب بوضوح والبعيد أيضا؛ لأن ضحكته التي يرسلها من حلقه لها قوة النحاس ورنينه، أما أحاديثه - حتى معي - فلا يمكن أن تتصور أتفه منها، وله أمثال يحفظها كثيرا، ما كنت أستعرضها أمام رفاقي وآل بيتي فكانوا يعجبون لصدورها من سعادته.
يتكلم من الإفرنسية جمل الاعتذار والتحية، يقابلك صباحا بنسوار، ومساء بنجور، وينسى أن لا يسمع في منزله إلا العوافي، ويا ميت مسا، ويكون العالم سعيرا فيقابلك بكل برود قائلا بالفرنسية: «إن البرد شديد» لا يقصد الغلط، وإنما ليدلك على علمه الفاضح.
له وجه أسمر فاتح، يزينه شاربان على الطريقة الألمانية، وبين شفتيه فم سيجار لا يفارق فمه بأي حال من الأحوال، في يقظته ومنامه، في حله وترحاله، أراد أن يحصل على جواز للسفر ذات يوم، فكتب كاتب التشبيه ما يأتي: أسمر بعيون نعسانة عسلية، وفي فمه سيجار، ودايما مكشر.
لم أره يوما إلا مدرعا بجرنال، يحجب ضوء الشمس عن سحنته الجميلة نهارا - وليلا - وتحت طربوشه شعر له لمعان الماس ومتانة الأسمنت المسلح، ويتبين أي مخلوق على عينيه الجميلتين آيات الغباوة المجسمة.
وزبوني هذا يعتقد أنه جميل جذاب إلى حد لا يتصوره إنسان، فإذا مر في طريق الأهرام مثلا داس القلوب ووطأ الأكباد، بل يؤكد أن من في العربات والسيارات من سيدات وخادمات يتنهدن إذا مر بهن كما يتنهد الخائف إذا مر به الخطر؛ لأن حب السيد الأديب جعلهن في خبال.
ويتكلم العربية الفصحى بالعافية - جمل لا يفهمها إلا هو - وقفت به يوما عند غناجة، ورجع بعدما ابتاع زجاجتين من الروائح الزكية، وقابله صديق له على الرصيف، ودار الحديث بينهما، قال الصديق: ديهده يا سيدنا البيه، إيه الروايح اللطيفة دي؟ - لا والله! ما هذه إلا من نفحات عطرياتك المتشوقة. - لا، لا، أنا بسأل عن القزايز دي، يعني واخدها لمين؟ - هذا ما كنت على وشك أن أفسره، فهذه - وأشار إلى الزجاجة الأولى مبتسما - للبنية اللي بتلبس أسود دايما في الكازينو، وسأكتب لها عليها بيت الشعر الآتي:
يا حبيبتي لا أخشى القتال وإنما
أخشى على عينيك وقت عياط
والأخرى للقطقوطة كيتي، وسأكتب عليها بيتا من الشعر مش فاكره دلوقت، وضحك تاركا صاحبه قفزا إلى عربتي قائلا: سوق يا أسطى على الجزيرة.
ونظرت فإذا بصديقه لا يزال فاتحا فاه كالمأخوذ، وانقضى الوقت في الجزيرة، وهو يكتب في أجندته نمر العربات والسيارات التي تمر بنا، والفاضي يعمل قاضي.
ثم نرجع فأقلبه - في سولت أو على رصيف سانت جمس، فيدفع الأجرة بكل سخاء، شأن الذي ربح كثيرا، رحم الله أيام الحرب والضرب، أيام كان رطل النحاس بوقة ذهب.
بعد هذه التوصيلة كنت أقصد إسطبلي لتستريح خيلي، وأنا إلى القهوة لتهدأ ثائرة مخي بعد وقت ضاع مع سعادته.
حنفي
المذكرة السابعة
طالع من العربخانة لا علي ولا بيه، العربية بتلعلط والخيل نظيفة، لا أنكر أن الجوز به جرح مشترك خفيف، ولكن هذا لا يستدعي حرماني من الحياة بأخذ الخيل إلى الشفخانة وتعطيل أعمالي، صحيح محسوبك مستور، وخير ربك كثير، وحاله رضا، لكن موت جوز أصايل بالطريقة المتبعة ظلم، أنا أستحمل، لكن غيري يعمل إيه؟ يموت جنب البهايم، وإلا بعد ما يكون معلم يصبح نفر يشتغل باليومية.
هكذا كان، فقد أخذوا مني الفرد اليمين؛ لأنه مجروح في وسطه والفرد الشمال؛ لأنه في رجله خراج، وبعد أيام ثلاثة وصلتني تذكرة النعي، واضطرتني الظروف لشراء جوز خيل جديد من النوع الإنكليزي وارد السلطة، رماني الله بهما في أواخر أيامي.
لا يخرج من الإسطبل إلا بالمهاودة والطبطبة، وناقص أقدم لهم شاي الساعة خامسة، بل الأكثر من ذلك إنه يهدأ إذا رميته بكلمة أو اثنين من هذه اللغة التي تعلمناها أيام الحرب للضرورة، وللتفاهم مع جنود الملك أراحنا الله من توصيلاتهم، وكره هذه البلاد في نظرهم، وحنن عليهم بالمراكب التي تحملهم وخيولهم إلى بلادهم.
لست أنسى أبدا على سبيل الفكاهة قول أحد الإخوان بعد شراء الجوز: والله يا خوفي يا حنفي لا يعملوا زي أصحابهم، يخشوا الإسطبل ما يخرجوش منه ولو بالطبل البلدي. نهايته، خرجت من الإسطبل بزيطة وزمبليطة ودربكة، وفي شارع الدواوين أوقفني أحد الخدم «المقلفطين»: استنى يا أسطى، حود يمينك واقف على تاني بيت. - حاضر يا سيدنا.
ونزلت العائلة، أم مدندشة يظهر عليها أنها أصغر بقليل من سنها الحقيقي - كجميع أمهات هذه الأيام - وثلاث بنات «ألسطة» - على الكسترة - التوليت من أبدع ما نظره آدمي، الشعور تباري بسوادها الأحداق، والثغور احمرارها مش من صنعة الخلاق، وسوق يا حنفي على العباسية، وتلاقيح العالم من كل صنف ، ونكت المنكتين ونظرات المبحلقين، وصلنا إلى فرح كبير في شارع العباسية.
ونزل الجماعة واحدة إثر الأخرى، الأم بتتقل كعادتها، والبنات هذه تشاور برأسها بهدوء، فيرد عليها صاحبنا مصلحا بدلته «السموكن» ثم رافعا طربوشه الأحمر القاني، وأولا وأخيرا ركنت أمام بيت الفرح مع إخواني العربجية، وسائقي الأتوموبيلات.
وحقا كان الفرح لوجيه كبير من الأغنياء، فقد رأيت كثيرين من لابسي الإسموكن والفراك، وازدحم المكان بكل ماركات السيارات، وابتدأ المغني يشنف الأسماع داخل المنزل الفسيح لأسيادنا، أما نحن فاقتنعنا بألحان الموسيقى تشنف أسماعنا من عربجية وسواقين وسريحة وباعة فول سوداني وشيكولاتة.
وسرقنا الوقت و«تسلطنت» معي نغمة المزيكة في دور «توبي يا حلوة توبي» فلم أتنبه إلا على «زغدة» خفيفة من بربري صغير لابس أبيض في أبيض، قفز على عربتي قائلا: دور يا أسطى.
فلهلبت الخيل قائلا: شي يا جوني، رنة النقدية أحلى من نغمة المزيكة.
ويمينك شمالك، وقفت أخيرا على بيت الفرح أيضا، ولكن من الخلف أمام باب صغير، نزلت منه بعد هنيهة شابة لا تتجاوز الثامنة عشر ربيعا، من النوع الذي إذا مر على رصيف صولت في الطريق إلى شيكوريل أحدث لجبا وشغبا وتغييرا في هيئة الجالسين، فمن متكلم ساعة لمحها «بلم» ومن سارح تجده قد انتبه ورماها «باللي فيه القسمة» جملة من تلك الجمل التي لو بلعها هو لما هضمتها معدته، نهايته، بنية أدعو لك أن لا تراها أيها القارئ، وأنت أدرى لماذا؟
نظرت إلي طويلا قبل أن تركب كأنها تتعجب من «بحلقة محسوبك» ثم التفتت إلى خادمها قائلة «اركب جنب الأسطى يا فرج» وقفز السوداني بجانبي، وما توسطنا الطريق الخالي بعد كركبة الفرح حتى طلع علينا شاب خفيف الروح والعقل، وفي لحظة كان بجانبها، فأردت أن أقف، ولكني حيثما سمعتها تقول: إخص عليك خضتني يا سوسو، حط إيدك على قلبي شوف بيدق إزاي؟
وأجابها قائلا: آه يا توتو آه، يا قسية، أمال أنا أعمل إيه في قلبي اللي أنت مقطعاه.
طوالي رحت لاهف الخيل كرباج وقلت: شي، دي فيها سوسو وتوتو، الحكاية معروفة.
وابتدأ صاحبنا ينوح ويبكي ويستعطف ويشتكي، ويمد يده فتمانعه، إلى أن قال: والله يا زوزو رايح أبعت نينة بعد جمعة تخطبك.
وكمان رن القسم الكاذب رنت القبلة الأولى، فغمزني فرج مبتسما وبانت لي أسنانه البيضاء، وجرت القبلة تنهيدة و«اتزفلطت» يده حوالي خصرها، فقلت في نفسي: صهين يا حنفي، يا بخت من جمع راسين على مخدة واحدة في الحلال - واخدلي بالك - ووصلنا إلى منزلها، وتحت ستار الليل نزلت ست هانم وفرج وراءها بعد أن التقط اللي فيه القسمة، وسرت قليلا، فأمرني بالوقوف قائلا: انزل يا أسطى اكسر الكبوت، ودور على الكازينو دي باري.
فدهشت حتى إن يدي وقعت على حديدة الكبوت كأنها سمرت. وقلت: دي الساعة بقت واحدة يا بيه، وإحنا حنفرح بك بعد جمعة، ما تاخدها من قصيرها وتروح أحسن، وبلاش خوتة مدام مارسيل الليلة. - أنت عبيط أوي يا أسطى، ودي دخلها إيه في اللي كنا فيه، أنت ما سمعتش إن لذة الهوى في التنقل؟ - لكن دنت اديت كلمة للست وكلام البهوات لازم يكون سجوريا. - وأنت بتدخل ليه فيما لا يعنيك يا مغفل، أما قليل الأدب، أنت بتسوق بإيدك، وودنك عندنا؟ أنت عربجي ولا بوليس سري؟ - مش القصد يا بيه، أنا والله ما خلاني آخد بالي إلا الاسم الأعظم وحلفاناتك، أما أنا مالي أنا عبد المأمور، الحق علي.
وركبته ملهلبه خيلي قائلا: شي على أم مارسيل كمان وأنا مالي. - أنت يظهر إنك مش عاوز تنهي الليلة دي على خير، أنت حتسكت ولا لأ؟
فالتفت إليه قائلا باحترام: أنت يا بيه زعلان علشان بقول إن كلامك لازم يكون سجوريا؟
فابتسم قائلا: سجوريا مش سجوريا أنت مالك؟ أما أنت مغفل! أنت فاكر إن فيه حاجة اسمها كلام شرف في الأيام دي؟ - لكن أنتم برده أسيادنا، أصل الشرف ومنبع الكلام السجوريا، اسمح لي يا بيه، أمال إحنا نعمل إيه بقى؟
وكأني أيقظت مرة ثانية بكلمتي هذه عرق الإحساس والشرف في جسمه، فلم يترك لي هذه المرة أما ولا جدا إلا لعنه.
ودخلنا شارع عماد الدين، فلمحنا صديق له على ما أظن، وأي صديق! إليك وصفه وطبقه على أمثاله، فهم كثيرون في هذا الحي.
الجسم عرض المتر، واللياقة 45 تفصيل، ورقبته مش باينة من أكتافه، وبالاختصار من نوع «الأسد المصري» «والنمر السوري» «والفيل الطلياني» وفي يده اليمنى عصا وزن عشرة كيلو، وما خفي داخل الجيوب كان أعظم.
هذا الصنف يخرج من أوجاره في المساء مع الوطاويط، لهم أسماء كثيرة منها: العتر والمشاريد والبلوكاريا والتهويشجية، مهنتهم سهر الليالي وتعكير الجو ومضايقة العالم وتشريف قسم الأزبكية كل ليلة لكتابة محضر الليلة.
بريالين يمكنك أن «تسلطه على أي مخلوق» وبريال آخر يضربك أنت في الليلة عينها، وأوقفت العربة بأمر سيدي البك، فقابله الآخر بلهفة قائلا: إيه التأخير ده يا سيدنا، ماري قاعدة شايلة عبد القادر ومبوزة، ومدام مارسيل بتقول إنك السبب، البت واقعة قوي يا شيخ، الله! مالك مبوز؟
فأخبره سيدنا بما حدث بيني وبينه، فزغدني الصديق بكعب عصاه قائلا: أنت لسانك طويل قوي يا أسطى، إذا كنت تحب أنا أقطعه، والا تحب تمشي بعكاز؟ أكسر لك دماغه يا بيه؟ يكونش نفسك تروح لبرسومة؟
هذا وأنا على كرسي كالصنم، خائف أن أنبس ببنت شفة؛ ربما ظنها حضرة الفتوة غير لائقة بمقامه، وهنا تبدأ المأساة، فأصاب بلخبطة في كياني لا قبل لي بها.
ووصلنا إلى الكازينو، ونزل صاحبنا، وكانت الساعة واحدة ونصف، وأعطاني الأجرة، فلم أنظر له بل وضعتها في جيبي بسكون، فرأيته يدخل بين الاحترامات الزائفة والتسليمات الكاذبة، ووراءه الحائط المتحركة، يسوق فريسته إلى حيث الكاسات المثلجة، والوجوه «المشقلبة» والرقص على جميع الألوان والحركات، والضحك الذي ليس وراءه إلا الأسى والمفجعات، والأنوار الساطعة التي تحجب عنك الحقيقة المؤلمة بنورها.
أما أنا فقد اكتفيت من ليلتي بما رأيت، مقتنعا بأن الشرف وكلام الشرف ابن الوقت والساعة، وقصدت منزلي حيث أنام على ضوء المسرجة الضعيف، قانعا - متعكم الله وإيانا - بفضيلتي الشرف والقناعة، وأروڤوار.
حنفي
المذكرة الثامنة
خرجت مبكرا بعربتي، وهواء الصباح العليل ينعش القلب ويرد إلى النفس جدتها.
الطرقات لا تزال خالية إلا من قليل من المارة، فقصدت ميدان السيدة زينب، وكما تركت الخيل تسير كما تريد، تركت لنفسي عنان الذكرى، ومرت علي حوادث الليلة الماضية، لا تظن أيها القارئ أنني رجعت متأخرا، فقد كانت البهدلة «التي شملتني مع الزبون والزبونة» تكفي لدخولي المنزل مبكرا، بل تجعلني أفضل استعفائي من هذه الصنعة التي أورثنيها أبي وجنى علي، كما قال أبو العلاء: وما جنيت على أحد. فما رسل الرخصة والنمرة إلى المحافظة بطريق البريد المسوكر، واتخذ قهوة «راجي عفو المرتجي جاد عل القهوجي» محلا مختارا للدردشة والكلام الفارغ.
وإليك ما حصل يا سيدي بدون مبالغة: ركب معي من قهوة لونا بارك وهواء العصر يلعب «بكرافتته» الحريرية الحلوة، وعلى ميدان المحطة، وأمام المستشفى القبطي في شارع عباس وقفنا، ونزل زبوني زين الشباب الناهض كأنه سيوضع في فترينة خياط، حلو مقطقط مدندش، كانا على ميعاد، فقد وافت بعد أن وصل قطر الزيتون بقليل، تظهر عليها آثار النعمة من شنطتها الذهبية إلى حذائها «المارون دوريه» وقد وضعت على رأسها نقابا أسود شفافا، يبين منه ملامح وجهها الجذاب. وبالاختصار كانت مثال الشابة الجميلة التي ينقصها في منزلها لسان متكلم يستولي على حواسها بلذة حديثه، فوجدته - على ما أظن - في فم صاحبنا. - على حدائق القبة يا أسطى. - حاضر يا بيه.
فسرت وسمعتها تقول: حدائق القبة إيه يا شيخ! يمكن حد يكون نازل بالأتوموبيل من معارفنا بالزيتون يشوفنا، قوله يرجع. فأوقفت الخيل توا انتظارا لأمر جديد، وحينئذ سمعته يقول: وقفت ليه يا عربجي؟ فيه حد قالك استنى؟ يظهر إنك بتسمع كويس، أما قليل الحيا! - وأنا مالي يا بيه، ما هي الهانم اللي خايفة من حدائق القبة، شيه.
وسرت وأنا أبتسم إذ سمعته يقول لها: يا ستي جناين القبة أحسن، لو رحنا الجيزة ولا الجزيرة حنمر من البلد كلها تقريبا، ولو شفنا حد تبقى مش كويسة.
ووافقته على رأيه، وسرنا في صمت وهدوء، وأذنت الشمس بالمغيب، وابتدأ ظلام الليل يطمن العاشقين، وما وطئت حوافر خيلي أرض حدائق القبة المقدسة، أرض الحب والغرام، حتى ابتدأت أسير متمهلا تنفيذا للوائح الحبيبة، واتباعا لسنة المغرمين، وقال صاحبنا: ارفعي البيجة واقلعي رأس الملايا علشان لو حد شافك ما يفتكرش أنك بنت عرب، ووافقته، ثم أمرني أن أركن فركنت، وأن أنزل فنزلت، وزال الكلفة وابتدأت الشكوى تجر العتاب، والألم يزيد نار الحب، والظلام يثير الوجد، وهواء المساء البليل يعصف بنفسيهما، فنسيا أنهما في طريق عمومي، فخرجا عن حدودهما، لا كثيرا - أيها القارئ - ولكن قليلا.
ولمحهما نفر البوليس، فتقدم غير هياب ولا وجل، وخرج عليهما بخفة اللص وشجاعة رجل الإدارة شاتما لاعنا قائلا: ديهده يا سيدنا الأفندي؟ هي حمام بلاميه؟ إيه جلة الأدب دي؟ فين ابن المركوب العربجي اللي معاكم؟
ووصلت أنا على قول زبوني: معلهش يا شاويش مفيش حاجة برده. - معلهش إزاي؟ أمال كانوا شنجوه ليه؟ والله إلا على القسم.
والتفت إلي بهدية من يده الثقيلة، نزلت على صدري فلبشته قائلا: أمال سايب الدنيا تهوي، وقاعد هناك والعربية داير فيها اليخني؟
فقال له البيه: اختشي يا شاويش عيب. - عيب! طيب اتفضل على القسم معايا، أشوف العيب على مين فينا، والسيدة أثناء ذلك كادت تفقد رشدها، وصاحبنا ملخوم، وتلعثم لسانه الذي كان طلقا منذ هنيهة، وبالاختصار قبل ما تتلم الناس اضطررت أن أتداخل، ووجدنا الحل النهائي للمسألة في ورقة ذات لون غير أبيض، أخرجها صاحبي من جيبه، وأوصلها إلى يد حارس الآداب العمومية بلطافة، فجاءت كبرشامة الكالمين، عقب هياج حاد هدأت بعدها أعصابه، فقال: لكن ده مش كويس أبدا، سوج بجى يا أسطى من هنا.
فسرت وأنا أقول في نفسي «ليحيا العدل»!
كل هذه الذكريات جالت في خاطري، وأنا في طريقي إلى الموقف، فلم أنتبه إلا على صوت يناديني قائلا: استنى يا بو محمود، ألا البيه مسافر على العزبة.
والبيك هذا أيها الزبون الأديب عمدة من العمد الملآنين، يربو سنه على الستين، وجيه وجاهة قروية خشنة، انتفع بأحلام سنة 1919، لم يهده الله إلى قراءة مقالات حسين بك هلال - لا تتبعوا أقطانكم إلا بمائتي ريال - فعرف كيف يستفيد، وامتلأت الخزانة على سعتها، واضطرته كثرة الخيرات أن يتزوج مرة ثانية فتزوج، وما أسهل الزواج لمثله، والمال مبرر لكل جريمة، والمسكينة من خريجات السنية منذ عام، لم تتجاوز الستة عشر عاما، قضى عليها جمالها الفضاح أن تذوي في غرة صباها «قتيلة الورق الفسدقي».
ولا أصف لك فصل الوداع الأخير، والحزن الذي استولى على نفسي ساعة رأيت «الكتكوتة» التي كنت أراها منذ سنتين تقفز أمامي إلى مدرستها، وهي ساهمة مفكرة حزينة، تركب عربتي إلى منفاها كما تظن، بالاختصار ركب الثلاثة: البيه والست معا، وقفز برعي خادمه الخصوصي، وسرنا على بركة الله بدون لخمة ولا خوتة؛ لأن العفش سبقنا على المحطة مبكرا.
وصلنا إلى بار اللواء، وميدان القتال الداخلي هادئ، لم يتبادل الفريقان بعد الحديث، وعند البنك الأهلي سمعته يقول: انتي يا ستي زعلانة ليه، هي البلد يعني اللي ما فيهاش شكوريل ولا سمعان أو هباب أزرج ما ينقعدش فيها؟ - ولا حنا هنا. يا ستي متردي، كلها يومين ونرجع والله، انتي زعلانة علشان الست الوالدة مش معانا؟ نبعت نيجبها؟ مش كده يا برعي؟
فأجابه برعي بدون أن يسمع قائلا: بريمو، سكندو، أهو كله وابور، ورايحين البلد رايحين.
فقهقه البيك قائلا: الله يجازيك يا برعي، إحنا ف إيه ولا ف إيه؟ أنا بجول على الست يا ولا يابن المرتوب.
ووصلنا أخيرا إلى المحطة ونزلوا، والبنية لا زالت كما هي عليه، وبرعي يسير كظلها، وأعطاني البك أجرتي، وهو يقول: دي مش عيشة، كأن الواحد واخدها اللومان.
ودخل وهو يتمتم بما لا يمكنني أن أسمعه، ولكني رأيت بعيني خيالي مسافرا رابعا يتبعه هو كظله، ذلك هو الشقاق الدائم بين الشباب الغض المتطلب حياة هادئة ناعمة توافقه، والسن المتقدم الذي لا يريد إلا حياة رجعية محضة، وبينما أفكر في حالته التي ستنتهي على يد القاضي الشرعي، وإذا بشاويش المحطة يناديني قائلا: اطلع يا برنجي.
فسرت قليلا، وأوقفني ضابط «قطقوط» بنجمة واحدة لسة طاظة، ركب معي، فخرجت من الميدان بعد أن نظرت إلى الشاويش نظرة المنتصر الفائز، وعلى مهلي كمان، لم ينبس ببنت شفة، مع أن الراكب لو كان ملكيا لشرفت قسم الأزبكية بعد خمس دقائق.
هذه حقيقة أيها الملكيون من حضرة الكاتب إلى معالي الوزير، وإن أعوزكم برهانا، فأنا مستعد، وذاكرتي متينة تحفظ، وإليكم المثل الآتي في مذكرتي الآتية.
محسوبكم حنفي
المذكرة التاسعة
الناس مقامات، والعالم درجات، وفي كل مكان وزمان لا يزال لهذه النظرية أكبر أثر، ففي شون القطن شتان ما بين السكلاريدس والأشموني مثلا، وفي البورصة لا يمكن أن تضع في مستوى واحد: الريال الأمريكي مع الفرنك الفرنسي، وفي الشارع لا يتأتى أن تحس بالاحترام من نفر البوليس إلا إذا كنت ممن ينطبق عليهم الدور القائل «يا بو الشريط الأحمر ياللي.»
تصور جنيها إنكليزيا، وكورونا نمساويا أمام عيني صراف؛ لترى مظاهر الاحترام للأول، وآيات الاحتقار للثاني، كذلك نفر بوليسنا تراه لا يتجمل، ولا يظهر بغير حقيقته إلا أمام النجوم اللامعة، والتيجان الساطعة، وهذا هو الجنيه الإنكليزي في نظره، أما ذلك الثوب الملكي مهما كان لابسه، فهو ينظر إليه بنصف عين؛ لأنه أقل قيمة حتى من الكورون النمساوي.
هذه نتيجة خبير، درس حول هؤلاء المحترمين القابضين بأيد من حديد على أعنة البلد في الطرق والشوارع، فتراه أمامك ما دامت الأحوال هادئة والسلم مستتبا، أما إذا نشبت معركة، ودار الضرب فيها على كل لون، فلا تعود تسمع وقتئذ صوت «مزيكة» حذائه فضلا عن صوته حتى انجلت المعركة، يظهر وقتئذ آمرا ناهيا «على إيه مش عارف.»
مضت أيام على حادثتي الماضية، ولا تزال آثار البهدلة عالقة بفكري، كلما مررت بشارع عباس قريبا من الطريق إلى حدائق القبة، وحدث ذات مساء أن أوقفني صاحب تاج من التيجان المحافظة بشارع محمد علي وركب، وأمرني أن أقصد سولت، ووصلنا، فأمر الخادم أن يجهز له «اثنى عشر «ميل فوي» وقليلا من الساندوتش والمارون جلاسيه» وأخذنا الربطة وسرنا إلى آخر شارع بولاق أمام الحديقة المختصة بالأطفال والسيدات، وفي منعطف هناك وقفنا بجانب باب صغير عليه يافطة، قرأت عليها «محل خياطة مدام ...» وصعد صاحبنا ثم نزل ومعه «تخت» والناس مقامات، ولا تليق بتاجه الساطع إلا ست - على رأيهم - مملكة، امرأة نصف ربيبة نعمة، وبنت مجد تليد على ما يرى الناظر.
ركبت، فمالت عربتي ذات اليسار ثم تبعها «محرر المحاضر» وعلى حدايق القبة وسوق يا حنفي.
لا يمكن أن تتصور فرحي أيها القارئ، فقد كنت أدعو الله أن نقابل صاحبنا بطل الليلة الفائتة «شاويش النقطة» حتى أشفي غليلي برؤيته على حالته الحقيقية، وبالاختصار سرنا بالعربة باسم القانون مسراها، وعلى بركة الشريط الأحمر مرساها.
وصلنا والحمد لله، وأمرني سيدي فركنت بعربتي في موقف الأمس، وما أشبه الليلة بالبارحة! أمرني فأنزلت المقعد الصغير، وفتح البوفيه، فانتحيت جانبا تاركا الحرية لمن لا يتركونها لنا.
وكأنا كنا على موعد مع بطل النقطة الشاويش «عبد العال» فخرج علي كما يخرج عزرائيل على المريض، ونظر إلي، فإذا بي صاحبه القديم، ورأيت في عينه بريقا لما جال في ذاكرته من آثار الورقة ذات الألوان المختلفة، وحسب الصيد سهلا، فنظر إلي وفي عينه كلفة، وفي يديه رعدة الغضب المفتعل قائلا: أنت برده ما حرمتش يا أسطى زفت تنط لي هنا؟ - يا سيدي وأنا مالي! أنا عبد المأمور. - بلا كلام فارغ، عبد المأمور ولا عبد الملاحظ، مين اللي هنا وياك ده؟ سايب الدنيا سيادتك ولا أنت سائل!
فنظرت إليه كما يرى المتفرج ممثلا على المسرح شاهده في دوره مرات عديدة، وعرف كيف يبتدأ وكيف ينتهي، ثم قلت له: «عندك عنين ورجلين، اتفضل شوف.»
فمشى ولصوت حذائه رنة حكومية تجعل القلب يخفق بالرغم عنه، وكان في سيره - وسلاحه على كتفه - كشبح القانون يسير لملاحقة المذنب يدب على الأرض مرحا، وصل إلى العربة فلمح طرف الشريط الأحمر فاهتز، ثم طل فاكتحلت عيناه بالتاج الساطع، فارتفعت يده وهو منحني، وسمعته يقول ورأسه لا تزال في طريقها إلى الأرض: أنا خدام جناب حضرتك، منتظر الأوامر.
فقلت في نفسي: أوامر إيه يا خويه؟ إحنا في القسم! ماله انقلب حاله؟
وفي الحال رفع رأسه، وانسحب باحترام وصفدن جريه صار وجها لوجه معي، فلعب شاربيه، وسرعان ما تبدلت نظرة الخوف والوجل «يزغره» غضب ومر علي وهو يقول: بقى كويس كده يا أسطى؟ بتضحك! طب والله يا بن الوطا منت معتب النجطة دي مع ملكي بعد النهارده إلا إن كان في النيابة.
ومشي مختفيا في الظلام، وأنا أضحك في نفسي، أبكي على هذه النفوس التي تملكت رقابنا بلا مبرر، هل يرضيكم هذا أيها الملكيين من حبيبة وغيره؟ أهل يرضيكم هذا والدنيا مساواة وحرية؟
وقد كان - أيها القارئ - فإنني وشرفك لم أجسر بعد ذلك أن أدخل حدود حدائق القبة إلا وأنا مسلح، وأنت أدرى بسلاحي «ملازم أول وطالع».
هذا كثير من قليل مما يفعله حراس القانون، والقانون يتألم، ولا من يسمع ولا من يرثي.
سيكون حديثي المقبل ألذ من هذا، فإلى الملتقى يا زبايني الأفاضل.
حنفي
المذكرة العاشرة
وحلت النكبة ونزلت المصيبة، قطع الجيب بمشرطه الحاد «ولطش» المحفظة واختفى، هكذا كان، وتعدى علي أنا أحد الإخوان الذين منحهم الله خفة اليد وسرعة الخاطر في أصابعهم «فطير من جيب محسوبكم الصولد».
كان ذلك في الترام، فعملها الشاطر محمد وبكل مهارة، حتى إني لم أشعر بشيء مطلقا، فنزلت في العتبة الخضراء، ووقفت أمام بائع الليمونادة، وأمرت بكأس من الليمون، وبعد أن شربت أردت أن أعطيه الثمن وإذا بيدي تخرج بيضاء من غير فلوس.
أخذ المبلغ وقطع الجاكتة، قطع الله «يديه» وترك بها أثرا لا يمحى من الجيب الممزوع، مع أني كنت ألبسها أيام الراحة والبطالة، مفتخرا أنها من صنع «ريبو» خياط الوجهاء وأبناء الطبقة العليا.
وتاريخ هذه الجاكتة عجيب، وصلت إلي بطريق الاستبدال لا بجاكتة أخرى، ولكن بمبلغ كان لي عنده، والهاء هنا للغائب، رمز البيك، صاحب العزة، صاحبها.
كان زبوني في أيام مجده وطنطنته، زبون العز والليالي «المقندلة».
هيصة كانت للرقبة، فأصبحت لا تصل إلى كعب الحذاء، توصيلات آخر الليل إلى الدقي «لرشف الأنفاس» وهو في عيبوبة السعة التي أفاق منها الآن على لا شيء ، وسبحان الحي الباقي.
كثيرا ما كان هواء الليل البارد ينعشه فيستفيق، وبلسانه الملووق يناديني قائلا: يا حنفي، محبوبتي في السما كيف الوصول إليها؟
فأرد عليه قائلا: وماله يا بيه شخشخ لها بالدهب تنزل برجليها.
فيقهقه ضاحكا، وأسير به إلى منزله، فيدفع الأجرة بسعة ورخاء، إلى أن تدهورت الأحوال، وبانت لبتها، فوصلنا إلى «يبقى لك» «ولك كام» وهات ريال يبقى لك ثلاثة جنيه، و«فوت علي بكرة». ولا أطول عليك فقد أخذت الجاكتة المجني عليها بدلا من مائة وعشرون قرشا، سعيت لها كسعي الحجاج بين الصفا والمروة، وأخيرا قبلت أخذها بعد المعاينة، ولم يكن يصعب علي إلا ذكر مجدها وعزها الماضي، فبعد أن كانت تجلس في صدر العربة آمرة ناهية، أصبحت علي مأمورة مهانة ذليلة.
وكانت من ضمن الأوراق التي ضاعت سطور كتبتها بمناسبة انتشار «الكوكو» بين شبابنا وشيوخنا وسيداتنا، حقائق رأيتها بعيني رأسي، كنت شاهدها الوحيد، كل هذا والمحافظة نايمة لا تشمر عن ذراعها المنمق بالشرائط الحمراء والنجوم الصفراء، تنتقم لنا من هؤلاء الذين يهددون الجيوب في كل وقت، يبيع لك المحفظة نهارا ويلطشها بما فيها ليلا.
تضع المحافظة صورهم بجانب قسم الموسكي، فتشرط الجيوب وسط الزحام، ويظن الناظر أنه يستفيد بحفظ ملامح الصورة مع أنهم أبرع من أي ممثل في تغيير الخلقة.
تراه بجانبك في قطار الترام صباحا «ابن بلد» مقلفط باللاسة الحرير، والجلابية السكروتة، والبلغة الفاسي، حتى إذا أتم مهمته، وسلت المحفظة بخفة البرق، تراه بعد الظهر أفندي لطيف ظريف، يناقشك في أي موضوع ليتحكك بك، ويقضي عليك بطريقته الأمريكية، ويمضي خير في سلامة، وسلامة في خير.
بالاختصار يهاجم هذا الجيش العرموم كل جيوب قطر الترام والسكك الحديدية، والمحلات التجارية وميادين القاهرة، ثم ينتزع من الجيب أعز ما فيه أمام أعين البوليس المفتوحة، وبإذن البوليس السري، ولا حنا هنا!
لا مؤاخذة، إذا أطلت الكلام في هذا الموضوع فالمخوزق يشتم ...
نعود إلى ما كتبته عن الكوكايين، عن البارود الأبيض الذي يهاجم أدمغة الشباب في هذا البلد المحتاج إلى أبنائه ، فيودي بهم ويقذفهم إلى دار المجانين حيث الفناء الأبدي.
سأحدثكم يا قراء حديث حنفي أبو محمود منذ كان الجرام بتلاتة تعريفة إلى أن أصبح اليوم بخمسين قرشا، لقد اغتنم أولئك الذئاب غفلة الحكومة؛ فاعتدوا على أبناء هذا القطر، وتوصلوا إلى سلبه أعز ما يمتلك، وهي قوته المفكرة بهذا المكيف الغريب.
لم يعتدوا فحسب، وإنما فرشوا طريقهم فضة ونصارا، وأصبح الواحد منهم بعد أن كان يقيس شوارع القاهرة مترا فمترا برجليه «ينجعص» في سيارته متناسيا ماضيه القريب الأسود، غير ذاكر أنه لص سارق.
إن القلم يرتعش في يدي يا قرائي المحترمين على ذكر كلمتي لص وسارق، فذكرى المبلغ قريبة، وقطع الجاكتة جديد لم يندمل، والجيب مش فاضي بس، ومقطوع كمان! وقاكم الله شر اليد الخفيفة، فمصائبها ثقيلة لا تحتمل، وخصوصا على مالية عربجي مسكين كمحسوبكم.
حنفي
المذكرة الحادية عشر
هل رأيت الزهرة كيف تزبل أوراقها، وتسقط فتموت؟ وهل شاهدت العاصفة في طريقها تقلب الأرض ظهرا لبطن، وتنال من باسقات الشجر، وتودي بجميل الزهور، وتنهي حياة يانع الثمر؟ ألم تر - ولو بريشة مصور - كيف يفترس الثعبان فريسته؟ يضيق عليها الخناق إلى أن تقع مستسلمة لكهرباء عينيه فتلاقي حتفها.
تلك النهايات مجتمعة أقل أثرا في نفسي، وأخف روعة في قلبي من الموت بالكوكايين.
الشباب الناضر، الخدود اللامعة، والعيون البراقة، القد المعتدل، والذكاء الفياض، النفس التي تسيل حنانا، والوجه الذي يستحي أن يراق ماؤه.
كل هذا يا سيدي القارئ ينقلب إلى شيخوخة في سن الثلاثين، ووجه بهاري اللون، وعيون غائرة، وعود قد أحنته الليالي السوداء، فأورثته البلاهة والفجر، وأبدلته الحياء بصفاقة، والحنان بقلب قد من حجر أو نحت من صخر، وما هو «القاسم المشترك الأعظم» في كل هذه المصائب؟ هو هدية أوروبا لنا، الكوكو يا سيادنا.
آه لو أتيح لي أن أستعمل بدلا من القلم كرباجي، إذا لقدر الله لوجوه كثيرة أن ينزل عليها مفرقعا في الهواء، تاركا أثرا أسود على خدود ليس للدم أثر فيها.
والآن أصف لكم كيف يموت شبابنا، وتضيع تلك القوة التي هي عمادنا في المستقبل! لو تعلمون إلى أي حد انتشر لهالكم الأمر! فقد أصبحت زجاجات الكوكو مع أغلبية شبابنا ألزم من رباط الرقبة من المنديل بل من زر الطربوش.
فتراه يهون عليه أن يسير بلا رباط في رقبته، بل يقطع زر طربوشه في وسط يجمع خمسين وستين رأسا بين مطربش ومعمم «مذكر ومؤنث» ليكون أضحوكة لرفيق له اشترط أن يعطيه «شمة» بشرط قطع الزر.
كم من مرة، وأقسم لكم بحق من بهدلني، في زمن أكثر رفاقي فيه أصحاب مراكز، تسمح لهم أن ينادوني قائلين: استنى يا أسطى، نزل الكبوت، دور على شبرا، فوت على الخياط، أقسم لكم بهذا أني كثيرا ما وقفت بزبائن لي على دخاخنية ومحلات ماني فاتورة وقهاوي تباع بها هذه المادة السامة جهارا نهارا - ادفع الثمن تاخد الجرام - والحكومة تسمع وترى، لكن العين بصيرة واليد قصيرة.
وكم حدثت أزمات «كالأزمات الوزارية مثلا» يكون العثور فيها على جرام أصعب من وجود رئيس وزارة، فنظل نبحث أنا ومن معي من الشباب الناهض، نطرق بيوتا نام سكانها وغفا أهلها، فيكون ثمن الجرام مضاعفا، إذ يضيف إليه حضرة البائع المحترم مبلغ بسيط هو بدل إقلاق الراحة. وينزل البيه قابضا بيده على بغيته، على الزجاجة البيضاء، وهو يقول: دلوقت الواحد يقدر يتنفس بسهولة، دنا دماغي كانت فاضية يا ناس.
فيجيبه زميله قائلا: متعي متع، ثم تفتح الزجاجة ويدور السم القاتل، فلا تسمع إلا حركة الشم وهم يبتلعون ذلك الموت البطيء، يدخل في فتحتي الأنف الضيقتين كما يتسرب الطاعون من موبوء إلى أهل بلد آمن مطمئن، جالبا معه الخراب فالدمار فالموت.
والله يا أسيادي لقد رأيت بعيني رأسي تجار الكوكايين في بيوت وعمارات، لا يسع الإنسان منا إلا أن يقف أمامها وقفة الاحترام والخشوع؛ لأنه يظن مثلا - وبعض الظن إثم - أن الغش والخداع اللذين حرمتها القوانين السماوية والوضعية لا يعيشان تحت هذه الأسقف الطاهرة الفاخرة، فإذا بي أعرف من بوابي هذه البيوت وخدمها أن أسيادهم يعيشون من تجارتهم بهذا الموت السريع ، ولا أنسى قول أحدهم ذاكرا أحد أسياده بكل احتقار قائلا: يلبس نضيف، ياكل نضيف، يركب نضيف، مناخيره في السما، لكن اسمه وسخ وإيده وسخ.
هؤلاء القوم - سواء كانوا أجانب قذفتنا بهم اليونان إيطاليا أو فرنسا، أو شرقيين رمتنا بهم سوريا أو سواحل الأناضول - تقابلهم مصر على الرحب والسعة، وتكرم وفادتهم، وتنزلهم منزلا أرحب مما تنزل به أبناءها، ثم يكون اعترافهم بهذا الجميل استيراد الحشيش، وفتح الخمامير، والمتاجرة بشر المكيفات الكوكو، وإضعاف عقول الشباب، وهكذا يكون الجزاء الحسن.
فإذا عجبت من تقلبات الدهر؛ فاعجب لشخص كان منذ سنين معدودات يتسكع بالقهاوي متسترا؛ مخافة أن يراه آدمي، فيشمئز من منظره القذر، وهو يعرض الجرام بثلاثة قروش صغيرة - رحم الله الأمس - أما اليوم فلعنة الله عليه، لقد أرانا أمثاله في ملابسهم النظيفة، ونفوسهم القذرة أصناما لا يتكلم الواحد منهم إلا بالرجاء والالتماس! ولماذا؟ لأنهم أصبحوا أغنياء من دم هذا الشباب المسكين الذي يشتري موته مقسطا الجرام بنصف جنيه.
تصور معي - أيها القارئ - مدينة القاهرة، وقد أرخى الليل سدوله، ودقت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، وتحكم الكيف في أدمغة من كانوا معي، فصاحوا جميعا في طلب الكوكايين، وصدر الأمر إلي أن أيمم شارع قصر النيل، ووصلنا، وهناك أمام الأجزخانة وقفت بعربتي، وهي كبرج بابل، بجانبي وجيه نظيف لطيف، قيل لي: إنه موظف بالمالية، وبالعربة خمسة آخرون: موظف وصاحب أملاك، وأونطجي، وفتوة، ومحضر في محكمة مصر.
كنا بالاختصار كالسردين والفانوس الأحمر، يادوبك ينير لنا الرصيف، ونحن ننتظر الموظف «النوباتجي» والغفير يوقظه ليعطينا طلبتنا.
وتعب الغفير من النقر على النافذة الصغيرة، وموظف الأجزخانة نائم، فقال صاحب الملك: خبط يا خفير خبط، أنا أبيع أطياني على شمة، دماغي فاضية يا هوه!
وقال الفتوه: وحيات راس أبوك إن ما فتحت لافتح لك مخه.
وقال المحضر: أنت حتفتح ولا آجي أحجز عليك بكرة؟
وقال الموظف: ماهيتي راحت في الحتة دي، حقي برقبتي يا عم.
وقال الأونطجي بهدوئه المعهود: هدوا أخلاقكم يا سيادنا، دلوقت يفتح ونشم.
وسألني من كان بجانبي قائلا : ما معكش شمة يا أسطى لغاية ما يفتح؟
فتبسمت، ونظرت إليه ثم قلت: شمة إيه يا بيه، إحنا لاقيين ناكل لما نشم!
وأخيرا أخذنا الجرامين من الغفير، من يده الكريمة، وأمام الشرطي، والبيع مستمر بهذه الطريقة ليلا ونهارا بطريقة منتظمة، وفي أعظم أحياء القاهرة، وأين المحافظة؟ أين الحكمدار؟ أين قسم عابدين؟
يقينا إنه ليخيل إلي بعد تكرار هذه الزيارات الليلية أن شرطي النقطة وغفير «الدرك» يتلقى كلاهما الأمر «ممن له الأمر» بعدم التعرض لهذا المكان الموبوء؛ لأنه مقدس.
لقد كانت المحاورة لذيذة، والشارع ساكن، لا تسمع فيه إلا مزيكة جندي البوليس بعيدا عنا، لا يشرف إلا إذا سارت المركبة؛ ليرى فاتورة البيع، كمراقب لا متطلع.
هذا قليل من كثير من حوادث ذلك الداء القتال الذي نقلته إلينا مدنية أوروبا، ولو اتخذت المحافظة طرقا جدية لمعاقبة أولئك الذين أسميهم «بياعين الموت» لتمكنت من الضرب على أيدي هؤلاء القتلة الذين هم بمثابة عشماوي لهذه الأمة المسكينة.
لقد كان عيسى يا قسم عابدين نبيا يحيي الموتى، أما عيسى اليوم فيميت الأحياء، والحدق يفهم، والزعل ممنوع، ورزقي ورزقكم على الله، وأنا لا أزال العبد الخاضع.
حنفي
المذكرة الثانية عشر
محسوبك حنفي - أيها القارئ - وضع إمضائه الكريمة على أوراق كثيرة، فمقالاتي كل أسبوع «مثلا» وأقوالي في محاضر المخالفات، والدربكة والضرب في أقسام البوليس، وطلبات التوظيف التي كنت أقدمها للوزارات قبل أن أتربع على دست عربتي، وخطاباتي الخصوصية «غرامية كانت أو جدية» والأخيرة هذه تنطوي تحتها تجديد السلفيات أو المطالبة بحقوق قديمة، كل هذه الأوراق أضع إمضائي عليها، ولكني لم أكن أحلم يوما من الأيام أن أضع إمضائي على كمبيالة كشاهد، وأن أتقاضى على هذه المهمة أجرة العربة نصف جنيه «لفة الجزيرة» مع ركنة صغيرة، وورقة من ذات الخمسة جنيهات كأتعاب؛ لوضعي إمضائي الكريمة «كشاهد».
لم أكن شاهد ملك - أيها القراء - بل كنت «شاهد المرابي» والخواجا فيتا رجل الله أعلم بما ينطوي تحت طيبته الظاهرية، وديع إلى النهاية، يسمع حلو الكلام كما يسمع مرة بإحساس واحد ، بكرش متوسط، لا يعلم إلا الله عدد الضحايا التي ضاعت في سبيل العناية به، يتحلى بخاتم ألماسي كبير، ودبوس لرباط الرقبة بزمردة جميلة، وسلسلة وساعة ذهبية دقاقة، وكل هذه الحلي لم يشترها الخواجة فيتا من جواهرجي، وإنما امتلكها بطريق الرهن، كانت في يد غيره، فانتقلت إلى يده البيضاء، البعض «بربع الثمن» والباقي فوايظ، وعلى عينيه نظارة ذهبية تساعده على النظر، لقد ضعفت تلك العيون الجميلة من كثرة «التحقيق» في الإمضاءات والتحقق من الفائدة، وكتابة الخطابات والإنذات.
معارفه وزبائنه أكثرهم مستحقين في أوقاف، يتقاضون مالهم من يد الخواجة فيتا، وله توكيل يبرزه في وزارة الأوقاف كل شهر؛ يصل به إلى غرضه، ويتمكن من أخذ ماله ونص.
ركب معي من السكاكيني ذات صباح، ومعه شاب في سن الخامسة والأربعين، أعرفه اسما بصالح أفندي، وأعرف عنه أنه «سمير أنس وخدام إخوان»، وخط الشيب فوديه، ولكن قلبه لا يزال شابا، صنعته في هذه الحياة جودة الحديث وحدة اللسان وتفهيم من يقع في يده من الشباب «الواقع» قدرته على إنجاز أي عمل، وهكذا يحيط نفسه بسياج يخاله الإنسان منيعا، فإذا تخطاه رأى بدل الحصن المنيع سهلا تخطته الركاب، وجعلته الأيام موطئا للأقدام.
ووصلنا إلى سبلندد بار فأمر الخواجة «أركان حربه» فنزل باحثا عن «حسن بك» وأبو علي هذا هو المجني عليه قانونا «داخل الدائرة المرنة يا حبيبي».
وجيء به، أقول جيء به؛ لأنه لا يملك حتى قوة الإرادة في السير من كرسيه إلى العربة، وركب في الوسط، وأمرني الأب فيتا فمررنا على الكافيه دي لابيه، ونزل هو يبحث قليلا ثم عاد قائلا: نفوت على الكافيه ريش، ناخد معانا الخواجة فيكتور.
فرد عليه أبو صلاح قائلا: علشان إيه؟ - بس لئن عبد الفتاح مش موجود هنا، علشان نمضي مع حسن بك يا سيدنا.
تصور، ماذا كان جواب أبو صلاح؟ تصور أن يدي فلت منهما السرع إذ سمعته يقول: ما فيش لزوم يا خواجة فيتا، معانا الأسطى حنفي، منا وعلينا، راجل يقرأ ويكتب على ذوقك، مش كده يا بو محمود؟
فالتفت إليه قائلا: محسوبكم يا سي صالح بك، في الخدمة دائما.
غمزني بطرف عينه، فعلمت أن وراء الأكمة ما وراءها، وأني دخلت في «الكومينيزون» قضاء وقدرا، أمروني بأن أقصد الجزيرة، فسرت والاتفاقية تدور بينهم وبين حسن بك، بين القوة والضعف، بين منجل الموت والشباب المتهالك على شبكة الصائد الماهر، ومع ذلك يسير في طريقه المحفوف بالمكاره والأشواك، والذي لا نهاية له الآن يكون في أواخر أيامه خليفة لأمثال صالح أفندي، هذا إذا قدر له أن يعيش وينجو من خمرة قاتلة وكوكايين فتاك وحشيش سام ووسط لا تعيش فيه الحشرة فضلا عن الآدمي.
نرجع لحديث المال فهو ألذ، المائة بخمسة وسبعين، فائدة قليلة جدا؛ لأن الجنيه أصبح أندر من الكبريت الأحمر، يستلم من الماية سبعون جنيها، والباقي بضاعة من الخواجة.
من هذه البضاعة تمثال بنصف القيمة؛ لأن الخواجة كما سمعته يقول: يرى من حسن بك ميلا للفنون الجميلة. وتحت ظل شجر الجزيرة الظليل عقد الاتفاق، ومهرت الكمبيالة باسمي من مداد قلم مسيو فيتا الذهبي، وأنا أنظر إلى أغصان الأشجار أناجيها قائلا: أيتها الأغصان الخضراء التي رأت كثيرا ومر عليها أكثر، ليست عربتي من النوع الذي تعودتيه، لا همس بيننا، فنحن أكثر من اثنين، لقد تعودت رؤية العشاق تستظل بك من حر الشمس وندى الليل، وسماع طرقعة «القبلات» وطويل التنهدات، ووابل العبرات.
وكم مر بنا في ذلك الوقت، ونحن وقوف كثيرون وكثيرات، وأنا أراهن بعربتي أن الحقيقة لم تمر على رأس واحد منهم، فعقد قرض هكذا، وفي الجزيرة بعيدا عن الناس، والساعة الحادية عشر بعيد عن دائرة الحدس والتخمين.
وانتهى الفصل الأول من الرواية، وأمرني الخواجة فيتا أن أقصد الكافيه ريش لتناول «الإبرتيف» تناولوه سائغا لذيذا، وأثناء ذلك لعب الأب فيتا مع الشاطر حسن ثلاثة «برتيتات» طاولة، لطش فيها من السبعين خمسة عشر جنيها، وأخذ صالح أفندي خمسة نظير أتعابه وقيامه مبكرا، وكان الله يحب المحسنين، ووصلنا إلى النتيجة أن الخمسين بماية وسبعين، خفيف خفيف.
وقاموا جميعا بعد ذلك : حسن بك، وأبو صلاح إلى منزل صاحبة جميلة، والخواجة فيتا إلى معقله بالسكاكيني.
الحادثة جميلة يا زبايني وزبوناتي، والأجمل من ذلك أننا نسير بسرعة في ذلك المنحدر، ونحن لا نشعر بعظيم الخطر الذي سنقابله.
ولكن على فكرة، أنا اللي علي عملته، أمضيت وقبضت، وذلك بدون أن أحسب حساب الدفع في المستقبل.
أدام الله عليكم نعمة المعيشة بلا دين - أيها القراء - وبلا فايظ.
حنفي
المذكرة الثالثة عشر
ابتدأ الليل يرخي سدوله على القاهرة، وأنا في طريقي من الجيزة آتيا من سكة الأهرام، ومع من؟ ستعرف بعد قليل، ولعلعت في الفضاء وقتئذ أصوات شاويشية قلم المرور، تلقي الأوامر - ولع فانوس ورا - اليمين مطفي ليه؟ اركن يمينك، وولع النور يا عربجي.
ودخلنا شارع سليمان باشا، وسطعت أنوار الكلوبات، ومررنا على كافيه ريش، وليس بها كرسي لجالس، وبالاختصار كأنما صدر الأمر لجنود الليل من شيطانهم الخفي بابتداء المعركة الليلية بمهمتها وأدواتها.
لقد كنت راجعا من طريق الأهرام - كما قلت لك - بعد فسحة طويلة، ومعي بعربتي «فرد» ولكنه بمقام ألف، سيدة يظهر عليها النبل، كما يتبين من خلف نقابها آية الجمال، معها ولديها طفل وطفلة «فوق روس بعض» ترى وجهها الأبيض من خلف ملاءة وقفاز وشراب وحذاء أسود، كما يتجلى لك البدر بين السحب، أوقفتني أمام محطة المترو، وتأملتها طويلا قبل أن تركب، وأنا أرفع الكبوت.
لقد رفعته في ثلاث دقائق أو أكثر أيها القارئ، يدي ترفعه وعيناي إليها تنظر إلى هذا التركيب الذي لا يمكن أن تخرجه إلا أجزخانة المولى القدير، وبالاختصار كما كعبلتني ولفتت نظري، فإنها جعلت عربتي في سكة الأهرام كمقام أحد الأولياء، يكثر اللف والدوران حواليه للتبرك والمشاهدة.
كم من عربة وكم من سيارة مرت بنا، ثم رجعت فمرت ورقبة من فيها تكاد تنخلع من اللفتات! وأسيادنا الشبان لا يرجعهم حتى وجود الطفلين، ووجودهما يدعو على الأقل إلى غض النظر «لكن من يقرأ ومن يسمع؟» وبما أني لاحظت أن صاحب المقام تقيل، لا يهتم لهذه المناورات، أصبحت أنظر لهؤلاء الممثلين وأضحك عليهم ، وأشعر أن آدابي كعربجي أرقى من آدابهم كأسياد وأصحاب عربات، ولله في خلقه شئون، بل إني عملت أكثر من ذلك، ظللت صامتا كتمثال إبراهيم باشا لا يأبه لمن يمرون به ويدورون حواليه.
وبالاختصار كانت مظاهرة في طريق الهرم، لكنها لا تدخل تحت سلطة قانون التجمهر.
وقصدنا البلد كطابور الكشافة أنا في أوله، وأمرتني أن أقف أمام محطة المترو، ونزلت بكل هدوء وأدب بعد أن دفعت الأجرة القانونية وزيادة، ووقفت تنتظر الترام، وإذا ببقية «التلامة» وقلة «الأدب» التي تبعتنا تظهر على المرسح، فنزل شابان من سيارة، وثلاثة آخرون من عربة.
تقدم أجرؤهم إليها، وهي على رصيف المترو، وبجانبها طفلاها، وأنا واقف من بعيد «كشاهد عيان» وشجع الدنيء على كلامه معها جمالها وسكوتها، فقال لها ما لم أسمعه، ولكني رأيت يدها البضة ترتفع بقوة وتلطمه على خده «المحلوق الناعم المنتوف» وبصوت عال سمعتها تقول: حقيقة عديم التربية - أنت مالكش أم ولا أخوات، أما طاعون - إيه السفالة دي!
والتفت جمهور من الواقفين ليروا السبب الذي دفع سيدة ذات نقاب أن تلطم رجلا، فرأوا السيدة وطربوش المجني عليه فقط، أما البيك المكمل - الذي توفي أبوه صغيرا، وتركه لنينة المهملة، فأخرجته من مدرستها - فقد «فط» زاغ، ذاب كفص الملح.
وأما باقي الرفاق فقد أطلقوا للسيارة عنانها فسارت تسابق الريح، وأنا أؤكد أن كونستابل قلم المرور «شكهم» مخالفة لصراع في داخل المدينة ...
أما من كانوا مع البطل في عربته، فقد رأيت أولهم يدخل التلغراف بسرعة كأنه في مهمة وأكثر، ويخرج بعد ذلك بإيصال في يده، لمن أرسل التلغراف؟ هذا ما لا أدر به.
ولمحت الثاني يدخل أجزخانة «ويزر» بهدوء، ويخرج بعد قليل بربطة كبيرة لا أعلم ما بها، ثم يسأل بعض المارة عن سبب «الدوشة» التي كانت في محطة المترو.
أيتها الصفاقة، أهؤلاء أبطالك؟ أنعم وأكرم! ووالله إذا كان العامة عندنا يرمون البارد المنحط القليل الأدب بأنه «لوح» فأمثال هذا كما يقولون: «مغلق خشب برمته.»
ومرت علي هنيهة، وأنا في تأملاتي سارح فيما حصل، أغمض عيني لأرى وجوه أولئك الأفاضل حينما يجتمعون وفي وسطهم «المضروب» على وجهه الجميل، ما الذي سيحدث؟ أيكون هذا درسا قاسيا للمستقبل؟ أم يمر على تلك النفوس المتحجرة بلا فائدة؟ ما أتعس هذه الأمة بشبابها!
وقطع علي تصوراتي هذه صوت رنان يقول: «أنت فاضي؟» وركب سعادة البيه الذي كان يشغل مركزا قضائيا كبيرا «وأين هو الآن؟ مقدرش أقول، فتلك أسرار المهنة» ومعه شاب ألمعي جاوز سن القرعة بسنتين، يلبس نظارة ذهبية جميلة، تزين عيونا كحلت منذ خلقها بسواد، وخدوده الحمراء، وصوته الناعم، وشعره الأسود الجميل، وشاربه الحديث السن، ينبئك أن قد صدق الشاعر حيث قال:
ومن أقام بأرض وهي مجدبة
فكيف يرحل عنها والربيع أتى
وسرت يميني، كما قال البيك قاصدا الزمالك، ووالله ما تبادر إلى ذهني - أيها القارئ - أني أسير إلى نزهة ليلية، فقد ظننت أننا قاصدين منزلا هناك في دعوة أو مأدبة.
ما دار في العربة من حديث وحوادث، أخجل والله من سردها، فكثيرا ما «زغزغ» البيه الكبير سيدي الصغير، وتعدى الحديث إلى الهمس، إلى مد اليد، إلى قول الفتى لصاحبنا: يا شيخ اختشي، العربجي بعدين يلحظ. يا عيني عليك يا حنفي!
وأخيرا انتهينا على خير، واقترح عليه العشاء في مطعم على شرط أن يكون هادئا بعيدا عن ضوضاء الانتقاد وعيون اللوام والعذال، فقصدت مطعم «سلستينو» بالتوفيقية، ودفع الكبير أجرتي بكرم وجود، وكان ما حدث لي الآن مكملا لما كنت أقوله في نفسي «من تعاسة هذه الأمة بشبابها» فكملت حديثي قائلا، والشيوخ أيضا يا سادة.
فشهاب الدين ... من أخيه. «أكل العيش يحب» ولكن خبطتين في الرأس توجع، وفيما رأيته من الحوادث ما يكفي لصد النفس عن العمل، «ربك يتوب علينا وعليك» وكما ستر ما مضى يستر ما بقي، فإلى الملتقى يا زبائني.
حنفي
المذكرة الرابعة عشر
إني أستشهد بكم أيها القراء جميعا بأني كنت دائما بعيدا عن السياسة، وسأظل كذلك، مالي أنا ومال البحر الذي «دوخت» أمواجه «أحسن صبوة»؟
نعم، طالما سمعت من المعجب المطرب أولا يوم كانت الأمة كتلة واحدة، أعجب باتحادها العالم، ورددت صحف أوروبا أخبار الخيبة التي قوبلت بها لجنة ملنرو، كيف تصامت آذان هذه الأمة إزاء نداء الأعضاء العالي؟
وثانيا يوم ابتدأنا نسمع اللهجة الجديدة، أوائل بشائر الخيبة، هذا سعدي، وذلك عدلي، وحضرته ثروتي، وتدفقت الأمواج السياسية من هذه الفتحات، فأصابت من مقاتلنا ما أصابت، ونلنا من أنفسنا أكثر مما نال الأعداء منا.
وثالثا ورابعا وخامسا - أيها القارئ - «قلبي معبعب» وشرفك، وما سمعته يضيق به صدري، ولا ينطق به لساني خوفا مما هددنا به أستاذنا فكري أنه ربما كانت التوصيلة إلى الواحات.
بالرغم من هذا كله، ومع أني عولت على الكتابة بعيدا عن السياسة، لا زال هناك من يعاكسني على صفحات الكشكول، ومن هؤلاء الأديب ابن راشد، يكتب ويغمز ويلمز، وأخيرا يختم مقالته قائلا: «وما رأيك يا حنفي؟»
لا أنا مفتي ولا قاضي شرعي، مالك ومالي يا ابن راشد؟ ليه المعاكسة يا حبيبي؟ يا زبوني يا نور عنية؟ السياسة يا سيدي مسألة تلف أكبر «عترة» وكم شخملت «قرومة» ومحسوبك حنفي سترها ربك معه في الترعة اللي بيعوم فيها، فلو نزل بحرها قول الله يرحمه ويحسن إليه، أم تريد أن تسمع بأذنيك «ليحيا الأسطى حنفي، وليسقط الأسطى حنفي» أيسرك بهدلة أخيك المؤمن؟
سعد باشا سيدنا ورئيسنا، وعدلي باشا تاج رئيسنا، ولكن كل ما نطلبه أن تنتهي الحالة التي نحن فيها الآن، الحالة التي لا ترضي أحدا و«زهق منها الجميع» على يد أحدهما أو كلاهما.
تريد أن أتكلم؟ فاسمع رأيي، رأي العربحي الذي لا يعرف «أونطة» السياسة وخوازيقها، إذا وجد في خط من الأخطاط «البغالة مثلا» فتوتين يعاكس كل منهما الآخر، كان من السهل جدا على خط آخر «الحطابة مثلا» التغلب عليهما متفرقين، وطالما كان الاتحاد ناشرا رايته، والمركب بها رئيس واحد - ينصاع لرأي الأغلبية - فلا يمكن لأكبر «صبوة» مهما كانت «مشاديده» أن يتغلب عليها أبدا ...
هذا هو رأيي السياسي لا أقل ولا أكثر، أما من جهة مصائبنا الأخلاقية، وعللنا الاجتماعية فأنا محسوبك، تسألني عن أولئك الذين تراهم «يتشعبطون» في الترام وأين؟ أمام باب الحريم «كلوح اللطزان لا أقل ولا أكثر».
يبرم شنبه تارة، ويلعب حواجبه تارة أخرى، ويلف سلسلة ساعته الدوبليه على أصابعه ثم يتنهد ويعدل طربوشه، وبالاختصار ناقص يطبلوله يرقص.
ثم يجيء الكومساري فيسأله التذكرة، فإما أن يقول له أبونيه وهو كاذب، أو يشاور له برأسه أنه نازل في «القريب العاجل» كأن الترام - سبيل أم عباس أو ملجأ أبناء السبيل.
مثل هذا النوع يركب معي كثيرا، ولكنه لا يكون منفردا، فإن كان مع آخر فتأكد أنه راكب أونطة على حساب الغير؛ لأنه «جربوع» أما إذا كان مع سيدة يشتبه فيها فاعلم - وقاك الله شر «أزفت المهن» - أنه ذاهب بها إلى حيث يتناول أجرة على حق الاتفاق.
مسكين لم تفلح معه تربية أهله وذويه، ولا بهدلة الأيام فيه، وعلى ذكر المظاهرات وأيامها الحلوة وما ذكرت من سيرة أولئك الأجلاف الذين لا ينبحون أصواتهم إلا عندما تمر بهم عربات السيدات، فيا سيدي على دمه، وخلقته، وشكله البايخ حينما «يلقح» ظله الثقيل علي عربة بدون أن يعرف من فيها مناديا بأنكر الأصوات «لتحيا الحرية» «لتعيش السيدة المصرية» ثم يردفها بصوته المسموع مهما اجتهد أن يخفيه قائلا: «بنجور يا هانم!»
أتعلم ماذا يكون الجواب؟ لقد سمعته بأذني، وأقسم لك بحرمة رب كريم تواب، ومكانة رئيس الوزارة، وأسيادنا النواب بالبرلمان الذي ستسمع فيه مستغرب الحديث وغريب الكلام، بالاستقلال الذي سنصل إليه قبل اليقظة في المنام. «يا باي جتك داهية» «دا جالنا منين كمان ده» هذا ما سمعته، وأنا على كرسي، وهو بجانبها متصامم، لا ينقصه إلا شلل اللسان ليكون معرضا للعلل، تراه في الحال بعد قليل انسحب إلى عربة أخرى؛ لأنه علم أن المراس صعب، وأن السيدات ممن يحافظن على أنفسهن تلقاء سماجته.
أما إذا وافق الظل الظل، واتفقت الأرواح، وحل كلامه أرضا سهلة، فتراه بعد «بنجور الأولى» يتقدم ببنجور ثانية، فإذا رأى في العيون ميلا للرد، وفي اللسان لجلجة الخجل مد يده قائلا: يا ستي بنجور. - هئ هئ طيب بنجور.
التفت إليه بنظرة بسيطة، وتتلاقى عيني وعينه، فيلتفت إليهن قائلا بلهجة جدية: هكذا فليكن حب الوطن، هكذا نعشق الحرية، فلتحيا السيدة المصرية، وهو فيه معنى لمظاهرة إلا إذا كان فيها سيدات، وبالأخص أنتم. - مرسي، كتر خيرك، إلا جنازة الشهداء النهارده أو بكرة؟ - لا بكرة، تحبوا تتفرجوا؟
فترد عليه الأخرى قائلة: أيوا بالطبع من العربية في ميدان الأوبرا، مش كده يا أبلة؟
فيجيبها حضرته بكل برود، وبدون أن يلاحظ وجودي «ويستذوق»: عربية إيه؟ ليه قلة الراحة؟ أنا عندي عيادة حكيم صاحبي، اتفضلوا هناك تتفرجوا على كيفكم، وتقدروا تشربوا كباية مية نضيفة على الأقل. - طيب وهي الجنازة إمتى؟ - بكرة، وأنا أنتظركم في ميدان الأزهار الساعة ... موافقين؟ - رأيك إيه يا أختي؟ فاضية بكرة ولا لأ هئ هئ؟
فتجيبها الأخرى: بتضحكي على إيه! أيوه فاضية.
وهكذا تسدل الستار على ميعاد يفتخر بالحصول عليه بين إخوانه، كأنما حل مشكلة علمية أو نال شهادة دراسية، أو اخترع ما يفيد العلم، هذه الجبلات التي تنادي ليحيا الاستقلال التام، وهي تستحق الموت الزؤام، لا يمكن الخلاص منها بسهولة، فهي في منزلة الجرب والسل والسرطان في الطب، وفي مكان إنكلترا في مسائل الاحتلال والحماية والاستعمار في الدول.
اللهم احفظنا وإياكم من كابوس الرذالة وقلة التربية والأدب، وامنح كل كاتب في هذه البلد قوة يدق بها على رءوس أولئك الخارقين لحرمة الشريعة والقانون ليرجعهم إلى حظيرة النظام. وفي الوقت نفسه أدعو الله أن يهدي الجنس اللطيف، ويمنحه الرزانة والثبات؛ لأن الفرد منا مهما كان مؤدبا عاقلا تزينه آداب الدين والدنيا، فإن لفتة من لفتاتكن تخرجه عن دائرة الحشمة والوقار.
منحكن الله مع الحياء زينة الأدب، وأتم نعمته علينا برعاية دين ينهى عن الخبيث، ويحبب الطيب، وأبقاكم جميعا في خير يا زبائن.
المخلص حنفي
المذكرة الخامسة عشر
الموت نقاد على كفه «عربات» يختار منها «الجياد»
إن الموت الذي عاجل كبار الرجال ومشاهير القادة والكتاب قبل أن تنضج مجهوداتهم «واخد بالك» قد محى بيده الحقيقة فقضى على مجهودي قبل أن أتمه .
نجوتم من يدي يا سادتي من زبائن وزبونات، وطويت مذكراتي، وهي الحافلة بالحوادث والعظات، وحال بينهم وبيني قضاء وقدر، حال بينهم وبيني عجل يطوي الأجل وبأجرة أيضا، وإلى القراء ما حدث: قدر فكان، ومكتوب على الجبين تراه العيون، ونزلت بي الكارثة التي تهدد الجميع ستصيبهم واحدا فواحد، ما دامت البقية الباقية من أوتوموبيلات السلطة العسكرية تسير بلا وعي على مبدأ لا أتوموبيل إلا أنا، والحكومة تاركة الحبل على الغارب وحضرات السواقين يلعبون بالنار، ويتسابقون كأنهم في مضمار، لا يأبهون لآدمي أو جماد وأصحاب الامتياز لا يهمهم إلا ملأ الجيب، وعلى الله التساهيل.
شوارع أصبحت كلها «مطبات»؛ لأن الحمل الذي يسير عليها ثقيل لا يحتمل، والتنظيم «مش ملاحق» يصلح، وحوادث الاصطدام ضايقت حتى عزرائيل فلخمته.
لقد رأيت بعيني رأس يوما من الأيام يلمس الترام فيوقفه ثم يخرج من حدود الشارع إلى رصيف قهوة بعابدين فيصدم بالعامود الحامل لأسلاك الترام، وأخيرا يقف، وكل هذا أين؟ أمام قسم عابدين!
الله وحده يعلم عدد الضحايا، ومجهود الإسعاف وقصر العيني إذا وقع سلك الترام، فنسف وحرق في ثوان أرواحا وأبدانا.
وها أنا أكتب إليكم هذه المذكرة التي ربما كانت الأخيرة، وأنا على سريري بقصر العيني، وقد بتر لي ثلاث أصابع من يدي اليمنى، وعملت لي عملية في رجلي، مع أن آخر ما أذكره قبل أن غبت عن الوجود قول أحدهم لي وأنا بين الانتباه والإغماء «شد حيلك يا بو محمود، سليمة».
ولست أدري كيف تكون المسألة سليمة، وقد قتل في «تكاتيكها» جوز خيل، وتهشمت العربة، وبترت أصابعي، وعملت لي عملية في رجلي، بل ماذا كان يوده القائل أن يحدث لتكون المسألة غير سليمة.
وهذه هي الحادثة بدون تهويش ولا تهويل كما كتبت في المحضر، وكما عرفها موكلي محامي العمال الأستاذ كامل بك حسين ليطالب لي بتعويض عما أصابني من الضرر والتكسير «والخضايض».
حدث يوم الجمعة أنني أوصلت بدرا من بدور النحس، فأصابني رشاش نحسه المدرار، وكان ذلك في أنحس ساعة من أنحس يوم جمعة مع أنحس زبون.
ركب معي من وصلت إلى محطة حلوان، فبانت لي بوادر نحسه في الطريق، إذ كبت الخيل وكدنا نضيع أمام ملف البنك الأهلي مع أتوموبيل «أيضا» ووصلنا أخيرا، فأعطاني الأجرة وأنا أتأمل شاربيه وكيف فتلا، وإلى الطربوش وكيف استوى على ذلك الرأس النحاسي فوق شعره الحجري اللامع، لم تلامس كفي كفه؛ لأن جو البيك البارد جعله يلبس «قفازا» في هذا الصباح بالرغم من شدة الحر، والله أعلم ماذا كان ملاقيني أكثر من ذلك إذا كنت لامست يده!
تركته وما كدت أظهر في الملف الذي يلتقي بشارع الدواوين حيث محطة الترام حتى داهمني «بدون إنذار ولا نفير وبسرعة مدهشة» أنا وعربتي والجوز الخيل ذلك البيت المتحرك الثقيل الظل، الذي يثير التراب، ويفسد الطريق على المارة، ويهدد المنازل «اللي بتشاور عقلها بهدد مستعجل» وإذا اصطدم بأي متحرك أو ثابت طواه تحت عجله الذي لا يرحم، ويذكرنا بدوشته ورذالة شكله شبح السلطة بأوامرها ونواهيها.
ولما تلاقينا - كما قال الشاعر - كانت النتيجة أن الجوز الأصايل ماتا على الأثر، فتهشمت العربة، فأصبحت «عربة يد».
وتشوه جسد محسوبكم، فلم أستفق إلا وأنا على سريري نمرة 5 بقصر العيني، يعتني بي دكاترة، أعرف منهم كثيرين، كنت حوذيهم قبل أن يشتروا سياراتهم الفخمة «رحم الله أيام العز» وكان الجراح الواقف بجانبي يشرح لبعض إخوانه سهولة بتر العضو إذا مرت عليه داهية كالتي مرت علي، فإنها كما قال تهرس اللحم وتفشش العظم ولا تترك للجراح إلا مهمة التخليص.
وها أنا على سريري «بين يدي الله» أنادي المحافظة، وأظن أن نداء المرضى والمصابين والذين على أبواب الأبدية جديرة بأن يصغى لها، فتعتبرها على الأقل كالصاعدين على المشنقة.
يا رجال الإدارة: إن الطرق التي تسير فيها هذه السيارات أصبحت لا يحتمل السير فيها خوفا على الصحة، إن صح أن لا خوف على الحياة مثلا، إن سائقي هذه العربات يلعبون بالنار وبأرواح الناس، فترى الواحد منهم يسير وقطر الترام بجانبه، والآخر مواجهه وهو لا يهتم أبدا، فيسير كأنه في حلبة سباق ، مع أن غلطة بسيطة في هذا المقام تجعل الصحف تنشر ببنط 40 العنوان الآتي: «الكارثة الكبرى - تهشيم أتوموبيل وقطار الترام - موت عشرين وجرح الباقي.»
ولكن أين النظر البعيد الذي يجعل هذا الجاهل يرى نتيجة جنونه وتهاونه بأرواح العباد؟ يا صاحب المعالي، يا وزير الداخلية، يا سعادة المحافظ، وأخيرا يا سيدنا الحكمدار، إن الفجائع التي تحصل يوم فيها الكفاية لإيقاف هذه الزلازل عند حدها.
دعوها تسير خارج البلد تسهيلا للمواصلات، وتقليلا للحادثات، وحفظا لأرض الطرقات، وتفريجا عن المنكوبين أمثالي أصحاب العربات.
هذه المذكرة ربما كانت الأخيرة - أيها القارئ - وقد كتبها صديق لي أمليته إياها فيحسن بي، وقد كان لساني طويلا في بعض الأحايين أن أتقدم - لا عن خوف وإنكار لما كتبت - ولكن رجاء نسيان الماضي فقط، إلى جميع من أصابهم رشاش القلم «الغير مأجور» على صفحات الكشكول، إلى سادتي وسيداتي أبطال المظاهرات، الصارخين والصارخات، المصونين والمصونات، إلى أسيادي بالرغم مني رجال الإدارة من أصغر نفر إلى أجعص ... إلى سمي النبي عيسى، صاحب الاختراع العجيب لبيع النشوق الأبيض والمورد الأكبر لمستشفى المجاذيب، أن يعتبروا ما كتب «خطرفة» مجنون، ولكن على شرط، أن يعتقدوا بقول القائل: «ما أكثر كلمات الحق في أفواه المجانين» ... بل لهم أن يعتبروا صراحتي هذه كمرض وقاهم الله شره، فلا قبل لهم به.
هذه يا أسياد حنفي، ويا صاحب الكشكول الحادثة الختامية لحوذيكم المخلص في خدمتكم، لا أطلب منكم إلا الدعوات الصالحات لأخرج، ولو «على عكاز» من مستشفى قصر العيني، فأنا الآن بين شقي مقص الفناء «كما يقول حافظ بك إبراهيم» فإن مد الله في الأجل فسأظل في خدمة القراء أذكرهم بشخصي من وقت لآخر على صفحات الكشكول، وإن طوى الله كتابي فسيعرفون ذلك على هذه الصفحات أيضا فيترحموا على العربجي المسكين محسوبهم في الدنيا والآخرة.
حنفي أبو محمود
الكشكول
نحن نأسف كل الأسف لما حل ببطل الحوذيين الأسطى حنفي، ونبتهل إلى الله أن يمن عليه بالشفاء العاجل، وأن يعاود كتابة مذكراته، فيخدم القراء بقلمه لا بكرباجه.
إن نطاق الصحف يتسع لكاتب قدير كالأسطى حنفي، يكتب في الأخلاق وفي الآداب، ويريح الجمهور من السياسة التي بدأ يمجها الذوق؛ لأنها أصبحت شغل الجميع، وإن كان لا يحسن ممارستها أحد.
لقد كان التحرير يحسد الكرباج على الأسطى حنفي، ولا بد أن يكون ما حدث له نتيجة حسد كل الحوذيين له وحقدهم عليه، شفاه الله وقدره على مزاولة التحرير للاستفادة من مذكراته وآرائه الناضجة.
المذكرة السادسة عشر
لقد نفدت من الموت بأعجوبة، كما يقول كبار الكتاب، أو أن يد الموت فرقت بنط، كما يقول أسيادنا اللعيبة، وعلى هذا تأجلت مهمة «عزرائيل» إلى مصادمة أخرى مع إحدى تلك البيوت المتحركة التي تجوب طرق العاصمة بسرعة المفتخر، وحينئذ إذا صح أن مصرعي سيكون بهذا الشكل، تصعد الروح إلى خالقها مدهوسة مفرومة مدشدشة، وبالاختصار جاهزة.
لنمت جميعا وليحيا السيد يسن والصبان وإخوانه وشركاهم. «لمني» عمال جمعية الإسعاف الذين حضروا بسرعة البرق، كأنهم كانوا على موعد، أو أن السواق اتفق معهم وباشروا مهمتهم كما قيل لي؛ لأني كنت في عالم آخر، ولا أطول عليك أيها القارئ، فقد نقلت من هناك إلى قسم عابدين، ومن القسم إلى قصر العيني، وهو مفترق الطرق، فأما من هناك إلى سيدك زينهم، وربك يرحم الجميع، أو تريد العناية أن أخرج حيا، وهو ما حصل ولله الحمد.
ستصل إليك هذه المذكرة يا بو داود مع أخينا التمرجي؛ لأنهم منعوني من الخروج بالرغم من أن الجرح ابتدأ «يلم» وربك يبارك في عمر علي بك إبراهيم وإخوانه زي «اللهاليب» في الشغل، والمشرط في إيديهم طالع نازل، وها أنا أروي لك ما حصل بعد ما دخلت.
لقد «ملصوني» من ملابسي، ودخلت في ثلاث قطع جديدة لم يعهدها جسمي من قبل، جلابية وقميص ولباس، وعلى رأسي طاقية مكتوب عليها بحروف سوداء
D. P. H.
يعني مصلحة الصحة العمومية.
لم أنتبه إلا وأنا في السلم محمولا على محفة بين اثنين من التمرجية، لقد كان المنظر مضحكا، ولكن أين القابلية للضحك في مثل هذا الموقف؟
تصور - أيها القارئ - أن التمرجي الأول وهو يصعد إلى السلم تبرم من الآخر الذي كان يحملني من الجهة الأخرى، وحدثت المناقشة الآتية وأنا بينهما لا يمكنني حتى النطق.
قال الأول: أنت مش حتبطل الدلع ده يا مرسي، ما تشيل زي الناس! - يا شيخ خليك راجل، أمال أنا بلعب! - بقى اسمع، أنا مش رايق لك النهاردة، وديني أستغنى عن وظيفتي وألخبط خلقتك. - خلقة مين يا واد؟ - خلقتك وخلقة أبوك كمان. - طيب، امشي بقى أحسن والله ما اضربك إلا بالعيان أجيب خبرك. - تضرب مين يا واد؟
وأنا في هذه الأثناء «مشعلق» وجل خوفي أن يتركني واحد منهم فأنزل أهوي على السلالم، بالاختصار انتهت الخناقة كالعادة، كما تنتهي أغلب خناقاتنا المصرية «دردشة فقط».
وعلمت فيما بعد أنهم لم يجدوا لي سريرا، فبسطوا لي بطانية على الأرض، وأطلقوا علي اسم مريض نمرة 5 ونصف؛ وذلك لأني كنت بين السريرين 5 و6، وهاجمتني الخيالات ليلا وانتابتني الهواجس والأحلام، فصحوت نصف الليل، وإذا بالمرضى كلهم جلوس على أسرتهم، وأنا أنادي بصوت عال قائلا: «يمينك شمالك، ورده أوعى الملف يا جدع.» وبالاختصار طلع النهار، وشرف أسيادنا الدكاترة، وعدوك يا سيدي على تلامذة مدرسة الطب «جعانين علم» فإنهم هاجموني وابتدءوا «يقلبوا» في جسمي، فأسمع منهم من يقول: «دي حالة خطرة، يجب عمل العملية حالا.» والثاني يقول: «يجب بتر الذراع كله.» فيرد عليه واحد من إخوانه قائلا: «أما جرح الرجل ده بسيط، شوف جرح غيره.» كأنني معرض جروح! وأنا في هذه الأثناء مستسلم كطرد بوستة، وأخيرا تقررت عملية بتر الأصابع، ونقلت إلى سرير العمليات، وابتدأت أستنشق الكلوروفورم، ورأيت بين الأشباح التي رأيتها الدكتور محجوب يهز رأسه بهيأة المتأثر، وأحمد بك الشيخ يلوح لي بعمامته كما يلوح الإنكليز بالكاسكيت، وهو يقول: «آدي نتيجة طول اللسان والمعايبة على الناس اللي ما لهمش مبدأ واحد، يا قليل الحيا، لا رئيس إلا ما تقضيه الأحوال.»
بل رأيت بعيني الأستاذ «عيسى» ماسكا بيده زجاجة صغيرة بها مسحوق أبيض، لست أدري أكان «كاربونات الصودا» أم «ملحا إنجليزيا» أو - أستغفر الله - كوكايين، وهو يبتسم لي بشماتة مناديا : «كانت بثلاثة قروش، بقت بخمسين «إحنا المتعهدين يا هوه» لا تقف أمام إرادتنا حكومة ولا غيره يا عالم، بفلوسك تاخد اللي أنت عاوزه.»
وصحوت بعد ذلك بي اسمي نمرة 4 وبجانبي على اليمين جدع محروق، كله مربط والقطن باظظ من كل حتة في جسمه، وطول الليل - أيها القارئ - «وعيني لم تدوق النوم» لأنه كان كمزيكة حسب الله، آه أوه إيه أواه، وعلى اليسار مريض بالدوستاريا عملت له عملية في المستقيم، ويا سيدي على مصارينه التي كانت تغني على المزيكة التي بجانبي على اليمين بطريقة خيل لي بها أني بأعلا تياترو الكورسال.
إني قبل أن أختم مذكراتي، لا أنسى أن أتقدم شاكرا مقبلا يد علي بك إبراهيم الخفيفة هو وإخوانه «وصبيانه» تلامذة مدرسة الطب على عنايتهم بالعلم والطب، وأخذهم بيده إلى هذا المستوى الذي هو فيه.
وهناك دكاترة «إنكليز» لا يدهشك منهم إلا معرفة اللغة العربية، فأكاد أنسى مثلا أن الدكتور مادن من ليفربول، وأنه ربما كان من «الصنادقية».
وعلى هذا خرجنا من «الأشلة» كما كانت تقول «الحرمة» لجماعات المهنئين بخروج حنفي سليما، ولكن على المعاش، وعلى رأي أحد إخواننا العتر حينما قالي: «روق يا بو محمود، الحمد لله اللي جت على كده، يا ما السلطة كفنت ودفنت، فداك ستين صباع يا عم، إذا كانت الحكومة عايزة كده خلينا ندهس، دي رخصتهم سواقة ودهس.»
وودعت قصر العيني وداعا حارا، ودعت أكل المرضى اللي «ضناني» وخرجت بالطبل والزمر، وقامت «الولية» بالواجب فاستقبلنا في منزلنا الحقير الحبايب والجيران، وجيران الجيران، وحليت «الصهبة» ولعلعت في فضاء التعالية المواويل الحمر، وانفرد الحاج برعي قائلا: «حن الحديد لجل حالي وأنت لم حنيت.»
فنظر إلي أحد إخواننا المعلمين قائلا: «ده بيقول على الكوتش بتاع الأوتوموبيل اللي دهسك يا بو محمود.»
وانتهت الليلة على خير كما انتهت حياتي العملية، وأصبحت الآن في المعاش، عربجي قديم كهنة، يلذ له أن يجلس بين إخوانه، ويحدثهم بما وقع له أيام كان في الخدمة على نغمة تعميرة التنباك، وطعم القهوة السادة ، مد الله في آجالكم أيها القراء وأماتكم مستورين، وبأي طريقة إلا تلك التي كنت على وشك أن أضيع بين براثنها.
وأنا في الخدمة وخارجها، محسوبكم.
حنفي أبو محمود
فين أنت يا حنفي
وبالرغم من أن حياتي العملية قد انتهت بسلام، لم يشأ الأديب ابن راشد إلا أن يظهر أسفه على ما حل بي، مظهرا حنوه علي، أثابه الله بأحسن ما أرجوه له من خير، قال - حفظه الله:
فين أنت يا حنفي
أسفت لما حل بك - عافاك الله - ووالله ما كانت الأنامل التي عرفت كيف تسير القلم لتسمعنا أزيزه على صفحة القرطاس أنات المروءة والعفاف والوطنية الصادقة من العابثين بها - ما كانت تلك الأنامل لتجازي من القدر بقطعها - صعب علي أن أتصور تلك النفس الكريمة تئن تحت يد الجراح، ولكنه القدر ولا قوة إلا بالله - وحرام علينا أن نسمع بعد اليوم «من النكات السقع» ما يضحك له الإنسان «مجاملة» «ويخرج من الموضوع بغير فائدة لا فيش ولا عليش» فكم من دعي وأديب منزو «وكاتب مش كاتب» «يخبط» النكتة تلو الأخرى - ولا مغزى ولا طائل - وأنت أدرى الناس - مد الله في أجلك - أن من كان يصيغ الحكمة في قالب النكتة - ليشوق إليها المطلع - قليل - وقليل ما هم أولئك النفر، وأنت منهم - فلا غرابة أن حزن قراء الكشكول عند غياب «أبو محمود» وحديثه.
كنت أشكو إليك - وكم من مرة شكوت تحت «أسماء مستعارة» على صفحة الكشكول - من أعمال أوانسنا وشباننا، فكان في ردك ما يشفي صدري ويثلجه - ولو كنت تشاركني العبرة على ما صارت إليه حالتنا الأخلاقية لكفى، فلمن أشكو اليوم وأنت طريح فراش في قصر العيني؟!
سوف تعود إلى الكتابة إن شاء الله تعالى، فالأيدي التي صافحها الألم وحركها الشعور الشريف «الغيرة على الآداب» لا يطرق اليأس أبواب قلوبها وإن قطعت - لا حرم الله الكشكول وقراءه منك ولا منه - «وليحيا الكشكول ولا كاتب إلا أنت» وردك الله إلينا يا أبا القلم ويا أبو ...
ابن راشد
وفي الختام
الحمد لله آلاف المرات على ما وصلت إليه، وصح المثل القائل «آخر خدمة الغز علقة» والغز هنا يا سيدي القارئ هو الجمهور، ولله درك أيها الأستاذ فكري بك أباظة حيث قلت لي في مقدمتك: «إن من يتعرض لخدمة الجمهور يجب أن يدوسه الجمهور» قول جدير بالاعتبار والنظر، فوشرفك لم يسأل علي من زبائني الأخصاء اللذين كانوا يستخدمونني وعربتي وخيلي في سبيل مآربهم وغاياتهم أحد، بل الأدهى أنني كثيرا ما رأيت الواحد منهم يتعامى عني، كأني أصبحت «مرضا أو أنه ينظر إلي نظرته إلى سائل سيطلب منه المعونة» مع أن محسوبك متيسر، والأشيا معدن، وحالته رضا، منحني الله النعمة السابقة التي ورثتها نفسا تفضل الموت على سؤال من لا يفهم معنى لكلمتي البر والإنسانية.
نهايته، لقد بعت الأنقاض «أنقاض العربية» وأجرت «الإسطبل» وأضفت ذلك إلى ما عندي، فكان فيه الكفاية وأكثر، وخرجت من هذه المعمعة كلها بفكرة لا يمكن أن تفارق مخيلتي أبدا، تلك هي مداومة تعليم «ابني» وإبعاده قدر الطاقة عن كرسي الصنعة، فهي محتقرة في هذا البلد، ومن يدري! فربما وصل يوما من الأيام إلى درجة أن ينادى عليه بلقب «يا متر» أو «يا دكتور» أو يا حضرة الباشمهندس، ووقتئذ يمكنه بعمله وآدابه وإنسانيته أن ينسى من يعرفه أنه نجل «الأسطى حنفي».
كم في البلد - أيها القارئ - من كراسي تحمل فوقها من ينتهي نسبه إلى «معلم عربيات» أو خفير أو «سقاء» أو «بلانة» مثلا، وقد كفى التعليم والكفاءة لاعتلائه منصب الإدارة أو القضاء أو الوزارة، وحينئذ لا تسمع إلا «سافر صاحب المعالي، حضر صاحب المعالي، مرض صاحب المعالي، شفى الله صاحب المعالي» وتنوسيت مسألة الأصل إلى أن تبدر منه بادرة شر أو غلطة تدفعه إلى هاوية السقوط، وحينئذ يتناسى الجمهور كل خير تناوله من يمين هذا المسكين، ولا تسمع إلا قول هذا «الأصل تمام يا سيدي، ده أبوه غفير» وقول الآخر «معذور أصله دون، وأبوه سافل» ... إلى آخره.
ولكني رغما عن كل هذا سأستمر في تعليم ولي عهدي؛ لأضيف لهذه الأمة التي أنا مدين لها بحياتي فرعا طيبا جديدا، فهي في احتياج هائل إلى العلم تداوي به مرضها. «يرجع مرجوعنا» أيها السادة القراء إلى كلمتي الختامية، وهي جديرة بالاحترام من الجانبين، فريق الزبائن أولا، وزملائي العربجية ثانيا.
يا أسيادي ويا زبائني: يقول المثل البلدي الصريح «من فات قديمه تاه» ونحن هذا القديم، نحن بعرباتنا التي اتخذتموها مأوى لكم في لهوكم وجدكم، نحن بخيولنا التي رمحت بكم القاهرة والإسكندرية وجميع مدن القطر شارعا فشارعا، وطالما انتظرت في حر الشمس وبرد الليل لا تشكو ولا تتذمر، قانعة هي ومحسوبكم بالأمل في رضاكم، لا يهمها ما يحدث داخل العربة إن كان همسا أو «زعيقا» إن كانت المناقشة غرامية أم سياسية، إذا كان الحديث هزليا أم جديا، مهما حدث كنا نتعامى ونحتمل، وكل هذا في سبيل رضاكم لتكونوا معنا لا علينا إذا حلت المصيبة ونزلت النازلة.
أما «جديدكم» يا زبائني القدماء فهي تلك «السيارات التاكس» التي تجوب الطرقات بسرعة البرق، وغلطة واحدة تكفي لتشييع ثلاث أصوات: الراكب والسائق والسائر.
نحن نرضى بقليله، أما هناك فمع السرعة الهائلة التي تجعل الوقت يمر بغير معنى «عداد» لضبط الحساب على معدل الثلثماية متر بقرش صاغ، هذا فضلا عن غطرسة السائق الذي ينظر إليك كما ينظر إلى نفسه، وأخيرا وهي النقطة المهمة في الموضوع أيها الحبيبة قرب مكان السائق حيث لا يتيسر الحديث إلا بصعوبة، فضلا عن ال ...
وعلى هذا إذا غلط أحدكم، وركب عربة فليضع بين أصابعه قليلا من عصير «الرحمة» لتحنو على العربجي المسكين، الممثل لأغلبية الشعب المصري الساحقة وهم الفقراء، الحنو والبر والإنسانية من صفات الكرام، كونوا آدميين قبل كل شيء.
أما زملائي العربجية، رفايق الهنا و«التقصيع» وضرب الزفف، وإخوان المحاضر والتهم والمحاكم، فأحييكم بكل احترام، كما يحيي الموظف إخوان مكتبه بعد سن الستين، سن المعاش.
أرجوهم قبل كل شيء أن يتعففوا مع ما يقاسونه من ألم ومصائب، كما أتألم وأتضايق حينما أسمع أحدهم يرى زبونا مارا ويقول له: «آجي يا بيه؟» آجي «ولا لأ؟» «آجي أوصلك؟» ثم لا يجد ردا على جوابه حتى ولا قولة: «ما نستغناش يا أسطى.»
لكل إنسان كرامة يحافظ عليها، فلم لا يكون لنا نحن أيضا كرامة ندافع عنها ولا نمتهنها، دعوا الزبائن يتمتعون بحريتهم، إن أرادوا الركوب معكم فعلى الرحب والسعة، وإلا فكل على هواه.
لماذا لا تتعاونون جميعا على إحياء هذه الصنعة التي تكاد تموت بإهمالكم، وأمام هذا السيل الجارف من ماركات «الفيات والرولس رويس والرينو»؟ أتعرفون الطريق إلى ذلك؟
نظفوا عرباتكم، وأطعموا خيولكم «وكلوهم شعير مش كرابيج» أما مع الزبائن فصهينوا في الوقت اللازم، وتشددوا حينما تستدعي الحالة ذلك، لا تدعوا صغيرة ولا كبيرة تمر دون أن تعرفوها، فإن صنعتنا تطلب أكثر من ذلك «القاهرة حلة، وأنتم مغرفتها» لا يجب أبدا أن يكون جواب واحد منا لزبون «معرفش» نحن كتالوج البلد المتحرك العارف بأسماء شوارعها وحواريها، قهاويها، ومطاعمها، مطابعها، وإدارات صحفها، وبيوت الوجهاء خصوصا يا زملائي، إن الأجرة يمكن أخذها مضاعفة إذا أخذت الباشا مثلا أو سعادة البيه من النيوبار إلى منزله بدون أن يدلك هو على مقره، وقتئذ يصح «البلف» والأونطة، وتخرج من المعركة فائزا منتصرا.
إلى هنا يقف القلم متعبا، فالجرح لا يزال جديدا يضايقني.
سلام عليكم زبائني وزبوناتي الناهضات، من مخلص لكم ولصنعته، يذكر أيامكم ولياليكم بكل طيب وخير، أنا في المعاش ولله الحمد، مركزي معروف، هو القهوة الموجودة بميدان للست الباتعة أمام القسم، من أراد منكم سعة في الحديث، ومعلومات لا يصح ذكرها في مذكرات كهذه، ستتداولها أيدي سيدات وآنسات، فليشرفني بشرب فنجال قهوة «بيشة» على حسابي، وحينئذ يحلو الحديث، أبقاكم الله متمتعين جميعا بالصحة والرفاهية «وروقان البال» وهو الأهم، بل هو ما يتمتع به الآن محسوبكم.
حنفي أبو محمود
Unknown page