وبعد انقضاء ثلاث سنوات على هذا التقرير أعادت الوزارة النظر في كتابي، وألفت لجنة أخرى لفحصه فنقضت تقرير اللجنة السابقة، وطلبت الوزارة مني أن أوافيها بالنزر اليسير منه على غرار الأجزاء السابقة. (13) بدء الإقبال على كتبي (سنة 1943)
في أوائل سنة 1943 طلبت مني مكتبة «النهضة المصرية» بيانا بعدد ما كنت اختزنته من كتبي وقتئذ، فلما أطلعتها على هذا البيان أعربت لي عن رغبتها في شراء هذا المخزون كله دفعة واحدة، وأن تدفع لي الثمن فورا مخصوما منه نسبة أكثر من النسبة التي كنت أحاسب عليها المكاتب، فرأيت العرض مغريا حقا لأن حصيلة الثمن بلغت 1428 جنيها صارت بعد خصم أربعين في المائة «883 جنيها»، فقبلت الصفقة مغتبطا، وأدركت في هذا اليوم أن كتبي قد لاقت شيئا من الإقبال الذي كنت أنتظره منذ أكثر من خمس عشرة سنة.
كان ذلك في خلال الحرب العالمية الثانية، وقد عزوت هذا الإقبال المفاجئ إلى المكانة التي نالتها كتبي التي أصدرتها إلى ذلك الحين عند ذوي العلم والخبرة؛ فقد كانوا يتحدثون عنها حديثا طيبا، وكان كل كتاب يصدر منها يبعث الحياة في الكتب السابقة، أضف إلى ذلك ثناء أساتذة التاريخ على هذه المجموعة في خلال دروسهم للطلبة فأوجد هذا الثناء دعاية طيبة لها. وهناك عامل هام له أثره في هذا الصدد، وهو تقدم الوعي القومي والثقافي في الجمهور، وكان نشوب الحرب العالمية الثانية قد زاد في تفتح الأذهان لمركز مصر وأهميتها ومصيرها في هذه الحرب الطاحنة، وبعث الروح الوطنية في النفوس، تلك الروح الملهمة لكل تقدم سياسي أو علمي أو أخلاقي، فازداد اهتمام الناس بمعرفة تاريخ بلادهم.
وأخذت من ذلك الحين أعيد طبع كتبي، فظهرت الطبعة الثانية من الجزء الأول من تاريخ الحركة القومية سنة 1944، والطبعة الثالثة سنة 1948، وظهرت الطبعة الثانية من الجزء الثاني سنة 1948 أيضا، والطبعة الثالثة من «عصر محمد علي» سنة 1947، والطبعة الثالثة سنة 1951، وأعدت طبع كتاب «عصر إسماعيل» و«الثورة العرابية» سنة 1949، و«مصر والسودان» سنة 1948، و«مصطفى كامل» سنة 1945، ثم سنة 1950 «الطبعة الثالثة»، وكتاب «محمد فريد» سنة 1948.
على أنه يلزمني أن أعترف بأن التزامي الجانب القومي في كتبي قد أضر بها فيما يتعلق برواجها، وبخاصة كتاب «ثورة سنة 1919» و«في أعقاب الثورة»؛ فإن الهيئات الحكومية، ومنها وزارة المعارف، وزارة الثقافة والتعليم، قد أعرضت عن تشجيع هذه الكتب. وليس يخفى أن إقبال الهيئات الحكومية، وبخاصة وزارة الثقافة والتعليم، له دخل كبير في رواج الكتب، بحيث أستطيع القول إن كتبي قد لقيت الإقبال ولكن لم تنل حظها من الرواج.
حقا إن الجانب القومي كان يجب أن يفتح أمامها آفاقا من الرواج، ولكن ماذا تراني أقول؟ إن الشعب الذي وضعت من أجله هذه الكتب قد ضن عليها بالرواج، وإن لم يضن عليها بالثناء والإعجاب، وإني شاكر له على كل حال. إن الناس يتحدثون عن كتبي، ويمتدحون الروح الوطنية التي أملت علي هذه المجموعة، ويكتفون في الغالب بهذا التعضيد الأدبي، وما بمثل هذه المعاونة تروج الكتب وتنتشر الأفكار وتعم الثقافة.
ولكن علينا أن نبذر الغرس الصالح في حقل النهضة القومية دون أن نتأثر من بطء النتائج، ويجب أن نظل عاملين على رفع معنويات هذا الشعب، وأن نجعل هذا الهدف منهجنا في كفاحنا وتفكيرنا وأقوالنا وأفعالنا، وإذا لم يصادف نداؤنا لدى الشعب الصدى الذي نرجوه، ولم يينع بعد الزرع الذي نتعهده، فلنصبر ولا نجزع، ولنثابر ولا نتراجع، ولا نسأم من تعداد الأيام والسنين، فما قيمة الأيام والسنين في أعمار الأمم والشعوب؟!
الأمير عمر طوسون
من أبرز أمراء الأسرة العلوية وأنبههم شأنا وأعرقهم وطنية، المغفور له الأمير عمر طوسون. كان رحمه الله كبير النفس عظيم الخلق، عالما واسع الاطلاع محبا للعلم والأدب، مؤرخا محققا، حجة في تاريخ مصر الحديث والقديم، وكان إلى جانب علمه وفضله شديد الوطنية، وتبدو وطنيته من خصومته المستمرة للاحتلال وسياسته، لا يبالي الجهر بها في كل مناسبة، وقد سجلها في مؤلفاته وبحوثه وأحاديثه ومقالاته. وكان الاحتلال وعماله وصنائعه يعرفون عنه هذه الميول، وهو من ناحيته يصارحهم بها ولا يكتم عنهم شيئا منها، وقد استهدف من أجل ذلك لغضبهم غير مرة، وخاصة أثناء الحرب العالمية الأولى؛ إذ كان بأوروبا صيف سنة 1914، فلما أراد العودة إلى مصر بعد إعلان الحرب عارضت السلطة العسكرية البريطانية في عودته، وظل وقتا طويلا تحت الملاحظة في مرسيليا إلى أن توسط له السلطان حسين كامل لدى السلطات البريطانية فأذنت له بالعودة إلى مصر.
اتصلت به منذ عودته أثناء الحرب العالمية الأولى، وكنت ألقى منه تقديرا كبيرا، وحينما كان يزور تفتيشه في «دميرة» القريب من المنصورة كنت أنتهز هذه الفرصة فأذهب صحبة لفيف من إخواني لزيارته في قصره الريفي هناك، فكان يسر كثيرا لهذه الزيارات ويفيض في أحاديثه الوطنية التي زادتني تقديرا له. وكانت زياراتي له في دميرة مما ضاعف صلتي به، وأعرب لي عن رغبته في أن أزوره بالإسكندرية كلما ذهبت إليها، وقد بررت بوعدي فكنت كلما ذهبت إليها أقابله في دائرته وألقى منه احتراما وحسن مقابلة يزيدانني تعلقا به. وقد لاحظ مرة أني ذهبت إلى الإسكندرية دون أن أقابله، فأرسل لي من يعرب لي عن ملاحظته في ذلك، فشكرت له هذه الملاحظة واعتبرتها تقديرا وتكريما لي، واعتذرت بأن الوقت الذي قضيته بالإسكندرية في هذا اليوم لم يسمح لي بهذه المقابلة، ومن يومئذ حرصت على أن أزوره كلما ذهبت إليها.
Unknown page