أما بالنسبة لي شخصيا، فكانت هذه السنة صدمة بل محنة كادت تودي بي لولا أن أعانني الله عليها بالصبر والثبات.
كانت عودة الحياة الدستورية نتيجة لدعوة المرحوم أمين بك الرافعي إلى اجتماع البرلمان المنحل من تلقاء نفسه في السبت الثالث من شهر نوفمبر سنة 1925، وقد ساهمت في نجاح هذه الدعوة بصفتي عضوا في مجلس النواب المنحل وشقيقا لصاحب الدعوة، واجتمع البرلمان فعلا في فندق الكونتننتال يوم السبت 21 نوفمبر سنة 1925 برياسة سعد، وكان هذا الاجتماع أول خطوة نحو استئناف الحياة الدستورية وعودة الوحدة إلى الصفوف وائتلاف الأحزاب القائمة وقتئذ وهي الوفد والحزب الوطني وحزب الأحرار الدستوريين ، وتم الاتفاق بين الأحزاب الثلاثة على الدخول في المعركة الانتخابية التي أسفر عنها انعقاد المؤتمر الوطني متفاهمة غير متحاربة، متعاونة غير متنازعة. وكان ظني ألا أجد العناء الذي وجدته في انتخابات سنة 1924، أو انتخابات سنة 1925؛ فإنها في الحق قد أضنتني وأرهقتني، وكان من حقي أن أستريح في معركة سنة 1926؛ فإن الائتلاف قد أراح معظم الأعضاء البارزين من الأحزاب حتى فاز أكثرهم بالتزكية. وقبل أن يتم اجتماع البرلمان من تلقاء نفسه قابلت سعدا في منزله مع حافظ رمضان بك «باشا» والدكتور عبد الحميد سعيد، وعرضنا عليه أن يؤيد الفكرة ويصدر تعليماته إلى نواب الوفد وشيوخه بحضور الاجتماع، فتلقى الفكرة بالارتياح والتحبيذ وأحسن مقابلتنا وتبسط في الحديث والتفكه معنا، وانصرفنا مغتبطين مبتهجين، ولكن بعد اجتماع البرلمان وتصافي الأحزاب وتبادل الاجتماعات بينها، جاء دور توزيع المقاعد، ففوجئت بأن الوفد يعارض في ترك دائرة «مركز المنصورة» لي وأصر على أن تكون من دوائر الوفد أي على انتزاعها مني. (2) الوفد يصر على إقصائي
فحدثت أزمة بين الوفد والحزب الوطني بسبب هذا الموقف نحوي، ورأى الحزب أن في قبول هذا الوضع إذلالا له وخذلانا لعضو بارز من أعضائه انتخب مرتين عن هذه الدائرة وأدى واجبه ورفع صوت مبادئ الحزب في البرلمان. وفاتحني إخواني في أن ننقض الائتلاف ما دامت النيات قد بدت غير سليمة إلى هذا الحد، فلم أوافقهم على اقتراحهم، وأبيت أن تكون مسألتي سببا لنقض الائتلاف ولما يجف المداد الذي كتبت به وثيقته في اجتماع الكونتننتال، ورأيت من الأحرار الدستوريين مسايرة للوفد في إقصائي عن البرلمان، ونصحوا أقطاب الحزب الوطني بالتساهل في مسألتي؛ ولم يكونوا في حاجة إلى هذه النصيحة لأنني أنا نفسي قد نصحتهم بذلك من قبل. على أنه قد آلمني من الأحرار الدستوريين تهوينهم لشأني إلى هذا الحد، وقد كنت أحمل عنهم عبء المعارضة في مجلس النواب الأول، وكانوا يتخذون من مواقفي مادة لحملاتهم على الوفد، ثم بعد أن وفقنا بينهم وبين الوفد خذلوني إرضاء للوفد!
وقد سويت الأزمة تسوية شكلية بأن جعلت دائرة مركز المنصورة من الدوائر التي خصصت للوفد،
1
مع «استثناء» ثلاث دوائر منها؛ فقد اتفق على أنه «يجوز للحزب الوطني منافسة الوفد فيها.» ومن هذه الدوائر الثلاث دائرة مركز المنصورة، وكلمة «يجوز» وعبارة «استثناء» توحيان إلى الذهن أن كلا من هذه الدوائر الثلاث هي أصلا من الدوائر التي خصصت للوفد ولكن «يجوز» للحزب الوطني منافسة الوفد فيها. وقد رأيت أن هذه الصيغة تضعف مركزي في الانتخاب؛ لأن أقل ما أواجه به أن هذه الدائرة قد خصصت للوفد باتفاق الأحزاب وقد أجيز للحزب الوطني منافسته فيها، فهي بذلك من حق الوفد ومن حق مرشح الوفد ولكن من باب المجاملة أجيز لمرشح الحزب الوطني مزاحمة مرشح الوفد فيها.
وفهمت من ملابسات هذه الأزمة أن الوفد رغم الائتلاف لم ينس لي مواقفي في المعارضة في البرلمان، فأصر على إقصائي عن دار النيابة، وتم له ما أراد. وقد درست موقفي في الدائرة مع لفيف من أنصاري فيها، وبحثنا فيما يكون لهذا القرار من أثر في احتمال نجاحي أو سقوطي في الانتخاب، فرجح معظمهم سقوطي، وبخاصة لأن انتخابات هذه السنة (1926) كانت أول انتخابات تجرى على درجة واحدة، أي على نظام الانتخاب المباشر، ومن الصعب إقناع نحو عشرة آلاف ناخب بأني أكفأ وأفضل من مرشح الوفد؛ إذ كان لترشيح الوفد في ذاته أثر كبير في نفوس الجماهير في ذلك الحين، هذا إلى أن قرار الأحزاب المؤتلفة جعل هذه الدائرة من حق مرشح الوفد بصفة أصلية. وقد ظللت زهاء شهر تقريبا حائرا مترددا بين خوض المعركة أو الانسحاب منها، إلى أن جاء موعد إقفال باب الترشيح للانتخاب وكنت على ترددي إلى آخر لحظة.
وأخيرا رجحت عندي كفة الانسحاب عاملا بالمثل المشهور «بيدي لا بيد عمرو»، وكان هذا القرار من أشق الأمور على نفسي لأن معناه إقصائي عن دار النيابة وعن الحياة البرلمانية، وكم كان ألمي شديدا حين تصورت أن هذا الإقصاء هو المكافأة التي جوزيت بها على حسن قيامي بواجبي في البرلمان، بل المكافأة على إخلاصي وخدماتي للبلاد طيلة السنوات التي قضيتها في الجهاد الخالص لله والوطن! وفهمت أن المعارضة مكروهة في بلادنا، وأن تظاهر السياسيين والحكام بأنهم يعتبرونها ضرورية لاستقامة الحياة الدستورية هو كلام في كلام، وأنهم يبغون من البرلمان أن يكون أداة تحبيذ وتأييد لجميع تصرفاتهم سواء أكانت على حق أو على باطل، ومن يعارضهم ولو كان على الحق فالويل له مما يصنعون!
تألمت من هذا الوضع، وزاد في ألمي أني لم أجد من يواسيني في هذه المحنة ولا من يعطف علي إلا قلة من الناس حفظت لهم جميل مواساتهم لي في تلك الأوقات العصيبة، ورأيت - وهذا ما لم أكن أتوقعه - شماتة من بعض الناس، وخاصة من الطبقة الممتازة، وعلى الأخص ممن لم أسئ إلى أحد منهم قط، ولست أدري على وجه التحقيق ما هو سبب هذه الشماتة وما سرها! ولقد عددتها عيبا من عيوب المجتمع، ومن أهم العوائق في سبيل تقدم الأمة ونهوضها. ومن الحق أن أقول إني رأيت من الطبقات غير المتعلمة وغير الممتازة عكس هذا الشعور، رأيت منهم شعور التقدير لي والعطف علي، كنت أسمع هذا في أحاديثهم وأقرؤه في نظراتهم. فعجبت كيف يغلب الوفاء وتتجلى الفضائل في الطبقة غير المتعلمة دون الطبقة المثقفة المهذبة، ومن يومئذ ازددت إيمانا بالطبقات الجاهلة من الشعب؛ إذ رأيت فيها من الخير ما يعوز الطبقات الممتازة وشبه الممتازة.
ورأيت بعض أصدقائي الوفديين لا يقرون ما فعله الوفد معي، وكانوا يظهرون لي شعورهم؛ إذ يذكرون أني وقفت إلى جانبهم في أوقات الشدة أناضل عنهم وأختصم الأقوياء من أجلهم، ثم إذا عادت لهم الدولة جازوني على حسن صنيعي معهم جزاء سنمار، ولكن هكذا الحياة السياسية في بلادنا، وربما في غير بلادنا أيضا، فيها الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والحقد والحسد، والغدر والجحود، والدس والالتواء، والكذب والخداع، وما إلى ذلك ...
Unknown page